الفولْكلور اللُّبناني في أعمال الأخوين رحباني | الحلقة الخامسة

12:57 مساءً الجمعة 10 يونيو 2022
مصطفى مصطفى جحا

مصطفى مصطفى جحا

ليسانس العلوم الاجتماعية، جامعة دالارنا السويدية. بالدراسات العليا لإدارة المؤسسات التربوية والتعليمية في جامعة اوبسالا السويدية، يدير مدارس ومعاهد رسمية لتعليم الكبار في السويد.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

 (العائلة: النظام الأمومي، الأم والأب والجدة والجد)

مدخل إلى النّظام الأموميّ:

قبل أن نبدأ بصورة الأم في أعمال (الأخوين رحباني)، وهي الصُّورة التي لا يرهقك البحث عنها، فهي مبثوثة في كل أغنية وحوار، نلحظ في أعمالهما ذلك الانتماء الأموميّ الواضح الذي يزيد عن الأبويِّ، رغم تأثير الأب عليهما عندما يحلّقان معًا في أجواء الشّخصيَّات الرّئيسة والثَّانوية في أعمالهما.

ولعلّ ما يؤكد نظريتنا الأموميَّة، وجود “الخال”،  وجودًا فعّالًا وجذّابًا في آن، فهما لا يطرحانه كشخصية جدّية تمثل المرجع الأسري الأكبر لأولاد الأخت، أو شخصية تربوية فوقية تنثر نصائحها هنا وهناك، بل يطرحانه كشخصٍ مرح، “مختَرِع”، محتال، قاصّ، حكّاء، يخلط الصَّحيح بـ”المش صحيح” ورغم ذلك، يستحق الإعجاب من قبل  أولاد الأخت، سواء في شخصية [المختار في (مسرحية بياع الخواتم: 1999) الذي  يخترع (خبريِّة راجح)، ويصر أنها ليست (كذبة)، ثم يعترف بالحقيقة:  

ما فيشْ راجحْ\كبري عقلِكْ

خالِكْ، يا ريما، اللِّي اخترعْ راجحْ

وإذ تفاجأ (ريما) بالحقيقة، ولكنها لا تنفر من خالها؛ بل على العكس، يزيد إعجابها به، وبـ”خبرياته”، أو “حكاياته” التي “تضيء قناديل الضّيعة”،  والتي تبدع في وصفِها ووصفه إبداعًا فاقَ إبداعَهُ شخصية (راجح): 

حكاياتَك، يا خالي، شِعْرْ ودَهَبْ غالي

       مِدْري مِنْ وَيْنْ بتجمعْهُنْ

بالمِشْ صحيح بْتِشْقَعْهُنْ

بتضوّي قناديلْ الضَّيْعَهْ

بالقصة، بالكلمِهْ البدعَهْ

وبتخلِّينا نتنزّهْ بين الكذبِهْ وبين الشِّعْرْ

نقطِّفْ زَهْرْ. [بياع الخواتم 1964: المسرحية]

ويُنزل (الأخوان رحباني) الخال أيضًا من عليائه الأسري  كبديل للأب، ويصورانه أيضًا في صورتين “مرحتين” كما في (مصالحة)، من كلمات وألحان الأخوين رحباني، وغناء (فيروز)، و(وديع الصّافي) و(نصري شمس الدّين)، إذ يقابل دعْمَ (حَنِّهْ) خالها وتأييده إلى درجة التَّحدّث باسْمه من دون علمِهِ، بل بمبادرة فردية اختصرتها بقولها:

عَ بالي نفِّذْ الطَّالعْ عَ بالي”

 لحلِّ مشكلة عويصة دامت عشرين سنة بدعم أولادِ أخت (بو صالح) خالهم بحجة أنه ينسى ردًّا على دعم خال (حَنِّة)، فإذا بنا أمام مواجهة “خَالَيْن مدعومَيْنِ” من ذرّية أختيهما، محتاجَيْن إلى هذا الدّعم، على عكس الصّورة النّمطية التي يقدمها الأدب والفنّ عادةً، ما يبث أجواء مرحة، لا تخلو من المفارقات، وتقلب الأدوار رأسًا على عقب، فيحلّ الصِّغار مشاكل الكبار، ويثق المشاهِد بالجيل الجديد أكثر من ثقته بالجيل الأكبر الذي لم يستطع حل مشكلة سهلةٍ طالَت وبنَت جدارًا عاليًا بين “الخالَيْن” ما لبث أن هُدِم بهمة شبابية فردية، نسائية.

فإذا وقفَ جنديا أحد “الخالَيْن” موقف دفاع عنه:  

خالي بينسى، نحنا منجي حتّى نردّو

إنتَ بتجيب بنتْ إختَكْ تَ تغنّوا تنينتكُن ضدّو.

يكرّس “الخال” مهمة الدَّعم الأموميّ عندما يقول:

فوّقوني يا خالي، فوّقوني!

وبعد هذه الرحلة القصيرة في عالم الأمومية، يكرس (الأخوان رحباني) انحيازهما هذا باستدعاء شخصية “الجدّ” الذي طالما كان الجد للأم، وكيف إذا ما عرفنا تأثير  جدتهما لأمهما على توجيه نمط تفكيرهما الخيالي من خلال حكاياتها؟ 

  • الأم

الأمُّ، أول من يُهمَس لها بحكاية الحبِّ الأولى كما في (يا امّي ما بعرفْ)، من كلمات وألحان (الأخوين رحباني)، وغناء (فيروز). والأم هنا، في الأغنية، هي: البيت والدَّرب إليه هو الدَّربُ إليها؛

 فهي الأمان من كل خوف، من كل فزع، من كل تجربة جديدة. وهي، في الوقت نفسه، جعبة الفرح والأسرار التي لا أحد يعرف عنها شيئًا إلّاها:

وغابِتْ الشَّمسْ، وخِفْتْ واحتدَّيْت\وما عدْت عَ دربٍ الْـ لِنا استهدَيْتْ\ما وعيتْ كيف ركضِتْ صَوْبْ البَيْتْ\قلبي يدقّْ وكنت فزعانِهْ\يا امِّي ما بعرف كيف ما بعرف كيفْ!

  مبارحْ بَعَتلي محرمِهْ هديِّهْ\سرّْ وعطرْ أبيضْ وغنّيِّهْ\ومتل اللي زاغوا هَيْكْ عينيّي\وحسّيْتْ شي بالبال بكّاني\يا امِّي ما بعرف كيفْ ما بعرف كيفْ!

وفي أغنية (وعدي إلَكْ) من مسرحية (أيام فخر الدّين: 1967)، كلمات وألحان (الأخوين رحباني) وغناء (فيروز)، الأم موجودة “تنتظر قرب الباب”، كما أنها موجودة “تنتظر عودة الابنة لترتّبا البيت في أجواء تقليدية حميمة:

يا إِمي لا تنطري قدّامْ البوابِهْ\مَعِكْ بترتيبْ الدّارْ لا تحسبي حسابي

وفي أغنية (إِمِّي نامتْ عَ بكيرْ) من كلمات وألحان (الأخوين رحباني)، ومسرحية (بياع الخواتم: 1999)،  أجواء العائلة: الأم والأب، ولكل منهما دوره؛ فالأب يغلقُ البوَّابة “حمايةً للعائلة” وإن تحت عنوان “الاستعداد للنّوم” بعد أن نامت الأم بالفعل، بينما تغفر أجواء (عيد العزّابي) للصّبية الهاربة من الشّباك الذي نسيته مفتوحًا خرْقَ الحماية التي اعتقد الأب أنه أمَّنَها من خلال إغلاق البوابة: 

إمــــــِّي نامت عَ بكيرْ\وسكَّر بيي البوابــِهْ\وأنا هربْتْ من الشّباكْ\وجيتْ لعيد العزابِهْ.

وفي هذا العيد، يلتقي الصَّبايا والشَّبَاب النَّاوون على الزَّواج، ولا شيء غير الزّواج. وهنا نلحظ الأجواء التّقليدية التي تهدد الشّباب، لا الصَّبايا؛ فالصّبايا، حسب العادات والتَّقاليد اللُّبنانية، ينتظرن الحب ويُخْلِصنَ له، لكن بعض الشّباب يحيدون عن درب تكوين العائلة إلى درب التّسلية، بيد أن هذا الدّربَ مقفَل، مزروع بالأشواك، وبالنّواطير “نواطير التَّلْج” القادرين على اكتشاف ما لا تَكتشفه الصّبايا المقبلات على تأسيس عائلة بكل صدق وشغف. ونلحظ أن الصَّبية تدعو أمها وأباها بـ”أهلي”، وتكرر بقلق:

يا دلِّي وينْ بَدّي روحْ\وينْ بَدي روحْ يا دلِّي\اِنْ عرفو أهلي بغيابي؟ 

ثم تخص أحد طرفي “أهلها”، وهي الأم، بدقة التّفتيش؛ فهي قادرة على معرفة هرب ابنتها من الشّوك العالق بـ”تيابها”، بينما يبدو أن الأب غير معني بهذا التَّدقيق، فقد “أغلق البوابة”، وكل شيء على ما يرام:

يا وردْ العايقْ بالطُّولْ\بتضَّلْ بحالَكْ مشغولْ\شوكَكْ بتيابي علــَّــقْ\هَلَّقْ لإمي شـــو بقولْ\شو بقول لإمي هلــقْ\علـــــَّقْ شوكَكْ بتيابي

وفي تكريم الأم وكل أم، كتب (رشيد أيوب) أجمل قصائده التي اختارها (الأخوان رحباني) ولحّناها، وغنتها (فيروز).

رشيد أيوب

و(رشيد أيوب 1889-1941) شاعرٌ مَهجَريٌّ لبناني، وأحد الأعضاء المؤسسين للرَّابطة القلمية في (نيويورك)، وقد وجد (رشيد أيوب) ضالته في نيويورك، حيث التقى عددًا من خيرة أدباء المهجر، وأسس معهم عام 1920م،  جماعة (الرَّابطة القلمية) الشّهيرة برئاسة (جبران خليل جبران) وعضوية: (ميخائيل نعيمة)، (وليم كاتسفليس)، (إيليا أبي ماضي)، (نسيب عريضة)، (عبد المسيح حداد)، (ندرة حداد)، (وديع باحوط)، (إلياس عطا الله)، و(رشيد أيوب). دواوينه: (الأيوبيات)، و(أغاني الدرويش)، و(هي الدنيا). ويتسم شعرُه في مُجمله بفنيَّة عالية، ونزعة حكائيَّة، وسلاسة لفظية مع تدفُّق شعوريٍّ تبرز فيه دواخله الحزينة وعشقه للطَّبيعة، وكذلك معاناته في الغربة وحنينه الدَّائم إلى الوطن، وسخطه على الظُّلم والحرب، وتطلُّعه إلى العدل والسلام.

تقول قصيدة: (ربِّ سألتُك باسمهنَّ)

ربِّ سألتُكَ باسمِهِنَّ\أنْ تفرِشَ الدُّنيا لهُنَّ\

بالوردِ إن سمحَتْ يداكَ \وبالبنفسج ِ بعدَهُنَّ\

حبُّ الحياةِ بمنّتينِ\وحبُّهُنَّ بغيرِ مِنّهْ\

نمشي على أجفانهِنَّ \ونهتدي بقلوبِهِنَّ\

فردوسُهنَّ وبؤسُهُنَّ \ببسمةٍ منا وأنَّهْ\س

سُمَّارُنا في غربةِ الدنيا\وصفوةُ كل جَّنهْ\

ربِّ سألتكَ رحمةً\وجْهَ السَّماءِ ووجهَهُن\

فامسحْ بأُنْمُلِكَ الجراحْ \وَرُدَّ أطرافَ الأسنَّهْ\

لتطلَّ شمسُك في الصَّباحْ\وكلُّ أمٍّ مطمئنَّهْ\

وغنت فيروز من اختيار (الأخوين رحباني) وتلحينهما قصيدة (سعيد عقل) الشهيرة (أمي يا ملاكي):


أُمِّيَ يا ملاكي، يا حُبِّيَ الباقي إلى الأبدْ

ولا تزل يداكِ، أُرجوحتي ولا أزلْ ولدْ 

يرنو إليَّ شهرُ، وينطوي ربيعْ

أمّي وأنتِ زهرُ، في عطرِهِ أضيعْ

وإذْ أقول أمّي، أُفتنُ بِي، أطيبْ

يرفُّ فوق همّي، جناحُ عندليبْ 

أمّيَ نَبْض قلبي، نِدايَ إنْ وَجِعْتْ

وقُبلتي وحبّي، أمّي إنْ وَلِعْتْ

عيناكِ ما عيناكِ، أجملُ ما كوكبَ في الجَلَدْ

أمّي يا ملاكي، يا حُبِّيَ الباقي إلى الأبَدْ

(ب) الأب

ورد (الأب) في كثير من أعمال (الأخوين رحباني)، ولا غرابة؛ إذ يلعب الأب في حياتهما الشّخصية، وعلى امتداد الطُّفولة دورًا مهمًّا، فنراه في شخصيات هنا وهناك، وإن لم يتقمص دائمًا دور الأب في هذه الأعمال، إذ تعددت أدوراه.

وتعود بنا شخصية أبيهما إلى  بلدة (إنطلياس) التي تشكّل، بغابات أشجار الدّلب والحمضيات والصّفصاف المعمّرة وبأراضيها الخصبة وببيوتها القرميدية اللّبنانية القروية التّقليدية وبمعالمها الثرية المهمة وينابيعِها، امتدادًا شماليًّا للعاصمة (بيروت). تود بنا إلى  مقهى (فوّار إنطلياس)، حيث حوَّلَ (حنَّا: والدُ الأخوين رحباني) بناء مهجورًا إلى مقهى يقدم فيه المأكولات والمشروبات والمرطبات.

وكان (حنا الرّحباني) (قبضاي)، بما تعنيه الكلمة من معانٍ إيجابية تجسّد الشهامة وعزة النّفس والوقوف مع المظلومين ضد الظّالمين، واستخدام “القبضة والخيزرانة” إن كان الخصم عاديًّا، و”الدّهاء والحنكة” إن كان ذا نفوذٍ أو “ابن حكومة”، فلا غرابة أن تكون شخصية (القبضاي) حاضرة في أعمال (الأخوين رحباني). [د. نبيل أبو مراد، ص: 15-17، بتصرف]

وقد تحدثَ (منصور الرّحباني) عن تأثير أبيه على شخصيات أعمالهما في كتاب (هنري زغيب): (طريق النّحل)، وضرب مثلًا (مسرحية لولو: 1974)، و(أبو أحمد) في (سَفَرْ بَرْلِكْ: Seferberlik ). [هنري زغيب: الأخوين رحباني، طريق النّحل]

وذكر ابناه أن (أبو عاصي) القبضاي الهارب من وجه السّلطات العُثْمانيّة والمحكوم عليه بالإعدام عدة مرات، طاب له المقام في (مقهى إنطلياس)، وطاب له استضافة القبضايات إلى جانب بعض الفنانين والعازفين، ما جذب ابنيه اللَّذين كانا يصغيان إلى جلسات الطّرب، حتى تنبأ أهل الضّيعة لـ(منصور) أن يكون (قاطع طريق)، أي (قبضاي) كأبيه، وكقبضايات حكايات جدته لأمه التي كرّسَتْ إيجابية القبضايات في حكاياتها، فقال  كما روى في مقابلة شخصية معه صيف 1986 في بيته: “سأكون قاطع طريق”!

وشخصية القبضاي، من دون إطلاق التّسمية، تظهر في صفات المهرّب (ملهب: أنطوان كرباج) في مسرحية (يعيشْ يعيشْ 1970)، والذي كان يهرّب “لمنفعة النَّاس”، والذي عقد صداقة مع (برهوم)، الأمبراطور المخلوع الهارب اللّاجئ تحت عباءة قصة مزيفة تقول إنه مطلوب للشّرطة “بسبب ضربه زوجته وحماته” إلى دكان قريب من الحدود يملكه  (بو ديب: نصري شمس الدّين)، جدّ (هيفا) لأمها، وتديره (هيفا: فيروز) حفيدته، ويتناولان الأوضاع الرّاهنة..

والأب هو ذاته الزّوج القلق على مستقبل أبنائه، العامل على تأمين حياة رغيدة تبدأ منذ مرحلة الطّفولة وتستمر إلى مرحلة الشبّاب، فالانفصال، ويشمل عمله كل ما تحتاجه الأسرة كي تكون سعيدة.

إن الحوار بين (الأمبراطور) المتخفي بشخصية (برهوم) الهارب من وجه العدالة لأنه، كما ادّعى عندما هرب إلى دكان (بو ديب: نصري شمس الدين) وحفيدته (هَيْفا: فيروز)، قد ضرب “مرتو وحماتو”، في مسرحية (يعيش يعيش) التي عرضَتْ في البيكاديللي: 1970، هو حوار يتناول شؤون العائلة وشجونها، ويُطرح، على لسان (مِلْهِب: أنطوان كرباج) المهرّب الذي ينشط عمله على الحدود، حيث دكانة (بو ديب وهيفا)، مفهوم الأسرة في أبهى فلسفة وأبسطها في الوقت نفسه. وهو بناء حواري، منطقي، لا يحرم متلقي العمل   متعةَ التنزُّه في حكايةٍ مزينة بلقطاتٍ سوريالية متناثرة ضمن سياق النَّسيج الدّرامي.

(بَرْهوم): وْلـَيـْش اخـْتـَرْت هالشـَّغـْلـِة؟

ملهب: هـِيـِّي اخـْتارِتـْني، حـَمـَّلتـْني بارودِة وْقــالـِتـْلي: امـْشي. كان في يـَومـْها رْجالْ قاعـْدين بالشـَّمْس وْناطـْريـن. وْكان في اْوْلاد عـَمْ يلـْعـَبـُوا بالـِحـْجار وتـْيابـُن مـْخـَزّقـَة، وْكان في عينـَيْن، نسـْوان. كِلـُّنْ شـَدُّو فيـِّي، صِرْنا أهـْل جـْرود، وْصار عنـَّا ضـَيـْعة لـَحالـْنا واْوْلاد ونسـْوان ينـْطرونا ويـْصـَلـُّولـْنا. واللـِّي في ناس بينطروه وبيصـَلـُّولُهْ، مابيكون عم يعمِلْ شي عاطلْ!

(بَرْهوم): في كتير بيعيشـُو مِن هالشـَّغلــِة؟

ملهب: ضـَيـْعـْتي كِلها. لـَو بتـْشوفْ بـْهالطـّواقي الزّغيرِة شو في وجوهْ، خـَلـْف هالحيطان السـّميـْكـِة شو في بـْواريد. بـَدُّنْ ياكـْلـُوا، بـَدُّنْ يـْعيشـُوا، بـَدُّنْ يبـْعـَتـُوا وْلادُنْ عَ المـَدِرْسـِة أحلى ما يطـْلـَعـُو متـْلـنا!

(بَرْهوم): رأيي إنـُّو الـِحـْكومـِة مجـْبورة تـْعـَلـِّمـْـلـُن وْلادُنْ.

ملهب بسخرية: الـِوْلاد بـَدُّنْ يكـْبـَــروا، ما بـْيِقدْرو ينـْطرو تَ يـْصيرْ في حـْكومة!

والشَّاويش في (يعيش يعيش) أيضًا أبٌ، ويفكر بأولاده:

ففي مسرحية (يعيش يعيش)، يفكر الشّاويش، أول ما يفكر بأولاده، بعلمهم، وبحياة جميلة يمكن أن يعيشوها لو ربحوا الجائزة المالية المعروضة لمن يجد الإمبراطور الهارب:

الشاويش:     وْمشْ أنا الأمبراطور!

              لو إطـْلـَعْ أنا كِنـْت بقـْبـُض عَ حالي وبـْسـَلـِّمْ حالي

              بـْيـِقـْبـَضو الجايزة وْلادي

              بـْيـِتـْعـَلـَّمـُو وْبـِيـْعـيشـُو.

وفي (حكاية الإسوارة)، كتابة وألحان (الأخوين رحباني)، غناء (فيروز) وتمثيل: (علياء نمري):

يسأل الأبُ الأمَّ:

والبنت وخيِّها، رِجعوا؟

رِجعوا، يَحِنِّي عم يدرسوا.

بُكرا بيتعلَّموا وبيتركونا.

بدَّا طريقُنْ تبعِّدُنْ عنّا، وما فينا نوقّفُنْ. وبدُّنْ يكبروا، ويعيشوا، ويفتشوا، ويحبوا!

بدُّنْ يحبوا، يحبوا غيرنا، ويتركوا البيتْ!

أنا وإنتَ مَسْوِيِّهْ من المسويَّات تركنا بيتينْ كانوا يحبونا.

صحيح، الله معُنْ. رَحْ إِحدُل السّطح تَ نحميهنْ من العاصفة ويصيروا يقدروا يفتشوا عن الحبّْ، ويوقفوا بالزّمان سجرتين. خلّيهُن يروحوا صَوْب البوابْ يلي ناطرينُنْ عَلَيَّا (رفقاتُنْ).

والأبُ،  كما في (مسرحية فخر الدّين)، البطَلُ المفتَخَر به، فقد غُنّيَتْ بطولتُه على لسان الابنة (فيروز) في أغنية (بيي راح مع هالعسكر) من كلمات وألحان (الأخوين رحباني)، وغني معه الوطن الذي ينتظر أن يدافعَ عنه أبناؤه، ومنهم والدُ (فيروز) الفخورة بأبيها. ولم لا، ووالدها حامي الحمى، قاطعٌ سيفه، واسعٌ ملعب خيله، منصوبةٌ أقواس الزّينة انتظارًا لعزّه، مرشوشٌ عنبر الصَّبايا على الأب المقاتِل وكل أب وكل ابن يدافع عن بلاده:

بَيِّي راحْ..مع هالعسكرْ

حِمِلْ سلاحْ.. راحْ وبكَّرْ

بَيِّي علّا.. بَيِّي عَمَّرْ

حاربْ وانْتَصر بِعَنْجَرْ

خدتلَّكْ زوّادِهْ.. عالكرمْ الْـ بالوادي

قلتلَّكْ خبّرني حكايِةْ، حكيتلّي عَ بلادي

شفت جبال الْـ عم تتمَخْطَرْ.. ومزارع تخضرّْ وتكبرْ 

ولمّا طلعْنا سْوِيِّة.. عالضَّيْعَةْ الجرديِّةْ

قلتلّكْ هالسفرةْ حلوةْ بسّ بعيدِةْ عليّي

قلتلّي في سفرةْ أكبرِ.. بدنا نتعب فيها أكترْ

يا بو السَّيْف القاطِعْ.. ملعبْ خَيْلَك واسعْ

وقواس الزينِةْ منصوبِةْ لعزّك إنتَ وراجعْ

والصَّبايا ترشّْ العنبرْ.. وبلادي عَ إيدَكْ تعمَرْ

وتقودنا الأغنية السّابقة إلى أغنية (شَلْحِةْ الحرير) من كلمات وألحان (الأخوين رحباني)، من فيلم: (عودة العسكر)1962 لتذكرنا بصناعة الحرير التي يشتهر اللُّبنانيون بها منذ الزّمن القديم. وقد وضعاها في أجواء من الرُّومانسية البطولية، إذ حاكَتْ (شلحات الحرير) الأمهاتُ والبنيّاتُ الصَّبايا المنتظِرات عودة الآباء والأبناء والإخوة من الحرب لتقديمها لهم عربونَ شُكر لحمايتهم الوطن وأرزه:

شَلْحِة الحريرْ مِن إيدْ الصَّبِيِّهْ\شَلْحِة الحريرْ يا جوانحْ غنّيِّهْ

يا حكايةْ جبلْنا وهدايا مغازِلْنا\كل بطلْ من جيشْنا من جيش الحريِّهْ

شَلْحِة الحريرْ يا مشغولِةْ\وحدّْ مواقد نارنا مغزولِهْ

مِنْ شوقْ الإِمَّاتْ وسهر البنيَّاتْ\ ومن ضحكاتْ ولادنا بشي غفوة هنيِّهْ

خلينا نعجلْ هلق بيطلُّوا\وتفيي بيارقهن عالجبل كلُّو

نحنا خلَّصْنا الشَّلحات الحلوِهْ\ لكل بطل شَلحة من إيد الحلوِهْ

وفي الأجواء البطولية ذاتها، لا ننسى في (جبال الصَّوان)، المسرحية التي قُدّمَت عام 1969 على مدرج هيكل جوبيتر بعلبك سنة 1969 ضمن مهرجانات بعلبك الدّولية. وفيها كبرَتْ (غربة: فيروز) ابنة (مِدْلِجْ) الذي قُتل وهو يدافع عن بلاده، وعادت إلى مقاومة (فاتك) المتسلط الذي هزَم والدَها، واستولى على (جبال الصّوَّان) وحكمها بالحديد والنَّار.
وفي غمرة الاستعدادات القائمة من أجل التَّصدي لـ(فاتك)، أطلق (الرَّحبانيان) بصوت (غربة: فيروز) صرخة إيمان بصوت الابنة التي قتل الظّلم والدها فأرادت القضاء عليه، في إشارة إلى العدالة الشّعرية التي تُختَتَم بها عادة الحكايات الشّعبية:

ساعدني يا نبعْ الينابيعْ، يا سيِّدَ العطايا

النَّاس الموعودين ضيَّعهم الضَّبابْ، وعيون المقهورين سهرانة عَ البوابْ.

من غيرك أنا وحيدة.
خدني بإيدي.

وتتحرك مكونات الطَّبيعة وتتضامن مع المضطهدين وتعينهم، وإذا بابنة المقتول  تقول: 

غربة: شو بدّك تقتل تَ تقتل؟ ما بقا تخلص القصة. ورا كل صخرة، تحت كل شجرة

بْفيـِّة كل بيت عمْ يخلق ولد لـَ (مِدْلـِج).

وتُقتَل (غربة) على البوابة، في المكان الذي قُتل فيه أبوها وجدُّها قبلَه، ولا يكون أمام (فاتك) إلا الاعتراف بأن الجبال هي (جبال غربة، جبال مدلج، جبال الصّوان)، ويهرب بجيوشِه.

على أنَّ الأخوين رحباني لم يرسما صورة الأب المثاليَّة دائمًا، بل نزلا إلى أرض الواقع، إلى السَّاحات، إلى الشَّعب، والأب واحد من الشَّعب، فقير يطمح إلى الغنى، محتال ٌكما كثير من أفراد الشّعب المتحيِّنين “فرصة” تنتشلهم من بؤسه، حتى لو اضطروا إلى استخدام الحيلة والكذب. وبما أن كبار المسؤولين يحتالون، فهل نتوقع من الشَّعب المسحوق ألا يفعل؟

في مسرحية (يعيشْ يعيشْ: 1970)، ثمة حوار بين (هدى) وأبيها (شبلي: فيلمون وهبي)، وهو مقامر همّه الوحيد أن يفوز حصانه في السّبق. والحوار بينهما حوار تبادل نصائح، فالابنة

تنصحه، وهو يرفض، وتبدو محاولات إقناعه “المنطقية” غير مقبولة، ولعلّ رفضها بسبب أنها تأتيه من ابنته التي ما زال ينظر إليها أنها “زغيـْرِة زغيـْرِة“. فبعد صدور نتائج السَّحب التي لم يحالفه الحظ فيها، تخاطبه ابنته “باسمه: شبلي”:

هدى:         ياشبـْلي، بـلا سـَبـَقْ، بـلا يانصيبْ.

              اشـْتـغـِلـَّكْ شـَغـْلـِةْ!

              بـْتـَعـْرِفْ حالـَكْ مدْخولـَكْ هالـْقـَدّْ، مصـْروفـَكْ هالقـَدّْ!

شبلي:        يا بنـْتي، إذا تـْحـَدَّد المـَدْخـولْ، الأمـَل بـْيـِتـْحـَدَّدْ

              وْمابـْعود إقـْدُرْ إحـْلـَم إنـِّي إشـْتـِري طيـَّارة.

              سافـِرْ عـَلى (كان)،

              إتـْشـَمـَّسْ بـِهونولـُولو. وإتـْسـَبـَّح باليابان.

هدى:         ماإلـَكْ حـَقّ تـِحـْلـَمْ هالـْقـَدّ، في واقعْ، في حـْسابْ!

شبلي:        أنـا زَلـْمـِة الغامـِض اللـِّي فـَوق الـِحـْساب.

هدى:         وْشو هـُوِّي الغامـِض اللـِّي فـَوق الـِحـْساب؟

شبلي:        يـا بـَيـِّي يـابـَيـِّي.

              هايـْدا اللـِّي بـْيـَعـْطي وْماحـَدا بـْيـَعْرف

              بيـْكـون الواحـِدْ شـَهـْرِيتـُو خـَمـِسـْميـِّة لـِرَة.

وْعنـْدو تـْلاتْ بنايات. من وَيـْن؟     الغامـِض عـَمْ يـِبـْعتـْلـُو!

خمـْسـِة وْ خمسـِة؟

هدى:         عـَشـْرَة

شبلي:        إيْ عـَشـْرَة. في ناس بيدبـّروها مع الغامض بـْتـَعـْمـٌل ألـْف!

يا بنـْتي بعـْدِكْ زغيـْرِة زغيـْرِة. الغامض بـْهالـْبـَلـَدْ عَمْ يلـْعـَب بالغـِمـَّيـْضـَة.

بـْتـِسْمَحيلي بـْهالجـَريدِة؟

       وفي مسرحية (هالة والملك: 1967)، وردَت (ساحة سيلينا) في حوار (فيروز: هالة) مع أبيها (إيلي شويري: هَبّْ الرّيحْ):

هَبّْ الرّيحْ:

جايينْ على ساحة سيلينا\جايينْ والعيد بيسللينا

على أمل البيعْ جينا\سايِقْنا الطَّفَرْ وجينا

لولا ما بدنا نبيعْ\ما كنا تعبنا وجينا.

وبعد حوار بينهما تبدو فيه (الابنة) كئيبة، تحاول تفسير كآبتها بمشاعر لها علاقة (بالسّاحة):

هالة:

مدري شو بِني\كَنُّو عمري سنِهْ

مِدري أنا مستوحشِي\مِدري أنا حزينِهْ

أول مرة بوقَفْ فيها\بساحةْ المدينِهْ

ولما وصَلْتْ لهَوْنْ اشتِقتْ\عَ إمّي تحاكيني

عَ إخوتي وعَ ضيعتنا\وعَ فَيِّة التِّينِهْ

هَبّْ الرّيحْ:

هلَّقْ لما بِيِبْدا العيدْ\بتاخدِكْ الزّينِهْ

بتنسي المِشْوار البعيدْ\والرّحلِهْ الحزينِهْ

بتبيعي الوجوه\بسعر يكونْ منيحْ

وبتجيبي المَصَاري\لَبَيِّكْ هَبّْ الرّيحْ  [هالة والملك: 1967]

       ويبدو أن الأب “يحب المصاري”؛ ففي عرض (أحمد الحنّان)، من صفحة (الفن اللُّبناني)، يعرض “العوالم المتخيلة” في هذا العمل (التّراجيكوميدي) في ساحة مدينة (سيلينا)، متحدثًا عن “نبوءة عَرَّاف” تقول بأن أميرةً ستحضر العيد، وستكون عروس (الملك داجور) المقبِلة، وستزدهر المملكة، مما يؤدي إلى قطع الاحتفال بمنتصفه ويطلب (الملك) من الجميع خلع الأقنعة؛ فتتجه الأنظار إلى الغريبة (هالة) على أنها الأميرة المرتقَبة، لكنها تعلن:

أنا مش أميرةْ، ولا بيي أميرْ

أنا بياعةْ، وبيي فقيرْ

“وإذ تستنجد بوالدها الذي يتنكر لها حرصًا منه على فرصة نادرة جدًّا تودع فيها حياة الفقر والحاجة، يبررُ (الأب)” تنكُّرَه لها بقوله:

ياهالة صار وصار، وافتكروكِ أميرةْ،

بدك تصيري عروسْ للملك، بِعْتِكْ للسَّعادة.

و”لكنها تصر على رفض الفكرة، فيما يعلن الملك إقامة الاحتفالات لمدة أربعين يوم وتصر على النَّوم في السَّاحة بدل استضافتها في القصر”، [أحمد الحنان: صفحة الفن اللُّبناني]

وينتصر صدق (هالة)، وينتصر الحبّ الذي تنتظره رغم عدم وجوده في حياتها، إذ ترى أن:

النَّطْرَة طاقَةْ عَ الحبّْ

مابدي إِخسر النَّطْرَةْ

ولا سَكِّر طاقة الحبّْ

أنا ناطرَةْ!

  • الجدة: صَوْت حامل شَمْسْ ومَيّْ:

في مقابلة شخصية مع (منصور الرّحباني) جرت في صيف 1986 في منزله، كما جاء في هامش كتاب الدكتور (نبيل أبو مراد)، يقول عن جدته:

“جدتي لأمي كانت امرأة أُمِّية من بلدة عينطورة المتن. وكانت تحفظ في ذاكرتها حكايات قديمة كثيرة، حكايات القبضايات والمكارية والجن والرصد، كانت تقصها علينا عند المساء بالإضافة إلى أنها كانت تنظم الشّعر العامّي (الزّجَل) ارتجالًا، وقد حاولت أن تعلمنا (القرّاديات) التي تقولها وتعودنا على الارتجال. [نبيل أبو مراد: الأخوان رحباني، ص17]

ونتذكر مع (أنيس فريحة) أجواء الضّيعة الخرافية:

“ننتقلُ إلى الإيمانِ بالخرافاتِ فيقولُ: اخترْتُ لكَ قريتي لأنّ ابنَ قريتي يؤمنُ بعدُ بالسّحرِ، ويُوخذُ بعدُ بالشّعوذةِ. فبالسّحرِ يشفي، وبالسّحرِ يؤذي، بالسّحرِ يكسبُ، وبالسّحرِ يعملُ المعجزاتِ. السّحرُ في قريتي لم يمتْ بعدُ… ليسَ في قريتي لاهوتٌ بل خرافاتٌ وأساطيرُ، ليسَ هنالك علمٌ بل رُقى وتعاويذُ. ليسَ هناكَ تاريخٌ بل أخبارُ الجنِّ والعفريتِ”. [أنيس فريحة: اسمع يا رضا، اخترت لك ضيعتي]

فلا غرابة إن استهوت كلمات (جبران خليل جبران) في أغنية (سكن اللّيلُ) التي لحّنها (محمد عبد الوهاب) (الأخوين رحباني)، ولم لا، وهي، إلى كونها قصة عاشقين مختبئين عن أعين المراقبين، فيها من الجن ما فيها، ففيها كهف مسحور تسكنه عروس الجن، وفيها مليك الجن العاشق:

 لا تخافي، فَعَرُوسُ الجِنِّ في كَهْفِها المَسحورْ

هَجَعَتْ سَكْرَى كادتْ تَخْتَفي،  عن عُيُونِ الحُوْرْ

وَمَلِيكُ الجِنِّ إِنْ مَرَّ يَرُوحْ، والهوى يَثْنِيهْ

فَهْوَ مِثْلِي عاشقٌ كيفَ يَبُوحْ، بالذي يُضْنِيهْ

وقد وثّق (الأخوان رحباني) وظيفة الجدة التي لا تُنسى، مع ما يُقَدَّمُ مع الحكايات من زبيب وجوز ورندحة أشعار، في أغنية (بيتِكْ يا ستي الختيارة) [الاختيار: كلمة سريانية، عربيُّها المُسِنّ] ، من كلماتهما وألحانهما وغناء (فيروز):

تبقى تقعِّدني وتحكيلي حكايات الجنِّ الحِلْوِهْ.

ويؤكدان في أغنية (ستي يا ستي) التي كتب كلماتها (الأخوان رحباني) ولحّناها، وغنتها (فيروز) في (مَيْسْ الرّيم 1975)على لسان (زَيّون) تخاطب جدتها، مؤكدة على علاقة الجدة بالحكايات وأجواء الشّتاء التي، لولا صوت الجدة، لكان طويلًا، مقلقًا، كئيبًا، ومخيفًا:

بِذْكُرْ اللّيالي الطَّويلي\وأنا طِفْلِهْ بالزَّمانْ

وقِصَصْ الشّتي يحكيلي\صَوْتِكْ اللّي كلُّو أمَانْ

ورغم أن (زيّون) لم تُشِر إلى حكايات الجنّ، فإن متأمل مسرحيات وأغاني (الأخوين رحباني)، يمكن أن يستنبط الأجواء الخيالية التي تدور حولها حكايات “الجن الحلوِهْ” التي تحكيها “السّتّ”، وحكايات (عاصي) التي كان يحكيها لـ(منصور) في ليالي الطّفولة، كأجواء (جِسْر القَمَر: 1962) التي تحكي قصة بنت مسحورة تركت على جسر القمر، لا يخلّصها إلا الحب. وإذ تطلب الفتاة نجدة (شيخ المشايخ)، تظهر الأجواء الوهمية الغرائبية الميثولوجية: (البنت المرصودة، الكنز، السّحر، ضرّيب المَنْدَل، الشّيطان مَيْمون، ملك الجان):

أخدني القمَرْ 

بليلة قمَرْ 

ع جسرْ القَمَرْ

ولن ندخل في صراع (ضيعة القاطع) و(ضيعة الجسر)، بل في أجواء الأغاني (القمر بيضوي عالنَّاس)، (حبيبي قال انطريني)، (سنة عن سنة)، (على دلعونا)، (ديروا المي)، إضافة إلى (جايبلي سلام) كلمات (الأخوين رحباني)، وألحان (فيلمون وهبي). وقد جسد الشَّخصيات: (فيروز: دور الصَّبية المسحورة)، (نصري شمس الدِّين: شيخ المشايخ)، (فيلمون وهبي: سبع)،  (منصور رحباني: مخول)، (وليم حسواني: عبده)،  (إيلي شويري: شبلي)،  (سهام شماس: وردة)، و(إلهام رحباني) و(جوزيف ناصيف). المهم أن زبدة المسرحية في:

ياشيخ المْشَايخْ، رحْ قلَّك هالكلمِهْ 

صَوْت المعول أحلى من رنين السَّيف 

والرّضا أحلى من الزَّعل 

والسَّلام كنز الكنوز.

وتذكرنا الشّخصيات التي أوجدها (الأخوان رحباني) بشخصيات جدتهما التي تحدثا عنها، وبشخصيات (عاصي) الخيالية.

ومن الشّخصيات الغريبة، (نواطير التَّلْج) في فيلم (بياع الخواتم: 1964)، وهي شخصيات أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، لأن النَّواطير “يقرأون الخفايا”، و”يضيئون النَّوايا”، ويكتشفون الكاذبين من الشَّبَاب الذين لا يرغبون حقًّا في الزواج، بل يرغبون في التّسلية فالهروب من المسؤولية التي وُلِدَ لأجلها (عيد العزّابي)، وهي تكوين أسرة. ولا مجال للمشارك الهارب من شروط العيد والمشارِك فيه من أجل التّسلية إلا العقاب، بل العقاب الشَّديد: سوف يؤخَذ إلى جبل بعيد في “برّيَّة” بعيدة عن الضّيعة، وسوف يُحبَس في (علّيّة)، والعُلِّيَّةُ: غرفة صغيرة في الطّبقة الثانية من الدّار وما فوقها، وجمعُها (علاليّ)، وهذه (العلّيّة) مظلمة، باردة، لا نور فيها ولا نار:

جايينْ نواطير التَّلْج\اللّي بْيِقروا الخفايا

جايين نواطير التَّلْجْ\تَ يضوُّا النَّوايا

واللّي مزغزغ النِّيِّهْ\وعم يضحك ع صبيِّهْ

بياخدوه نواطير التلجْ\عَ جبل ببريِّهْ

وبيحبسوه بعليِّهْ\ما فيها غير عتمِهْ وتلجْ

أما ما يتعلق بالجدّة، غير استعارة الخيال واختراع حكايات كحكاياتها، فهي موجودة في الأغاني بشخصيتها الواقعية: مليئة بالحب والحنان، محافظة على الفولكلور، تعبق رائحة قهوتها في بيتها “الختيار” مثلها، ففي (بيتك يا ستي الختيارة)، من كلمات وألحان (الأخوين رحباني)، وغناء (فيروز)، بيتُ (ستي) الختيارة التي ليست (ستي)، يذكرني ببيت (ستي) إلى حدّ البكاء، فبعد وصف التفاصيل الواقعية: “الفرشات، الديوان العتيق، الحيطان”، و”اليُوك”: وهي “لفظة تركية تعني: الخزانة الكبيرة التي تشغل جانب البيت وتوضع فيها حشايا الفرش ونحوها، وفصيحها: الثّميلة” [أديب القسيس: القرية اللُّبنانية في مؤلفات شكري الخوري وأنطون خياط، لبنان، مؤسسة دكاش للطباعة، ط1: 2001، ص: 64]، تتذكر الحفيدة “حكايات الجن الحلوة، والزّبيب،  والجوز، وركوة القهوة، ورَندَحة الأشعار”، فيغلبها الشّوق، وتعبر عنه صراحة: “مشتاقة لأخبارها”، و“تشولحْ لها بإيدها”، ولكنها تغالب شوقها بافتراض مريح، يشبه افتراضاتنا التي تخرج تفاصيلها من أيدنا، فنلجأ إليها مجمِّلين الواقع غير المرئي، ومستبدلين شخصياتنا بشخصيات تشبهنا في ذلك العالم الذي لا نستطيع لمسه لمس اليد، فنؤكد أن من رحل سعيد، وأن لديه “هناك” “ع تلال الشّمس” شبيهنا، أو بديلنا، تتصرف معه كما كانت تتصرف معنا، حتى تكاد رائحة القهوة تأتي إلينا، وحتى نكاد نسمع الحكايات ذاتها ولكن هذا لا يعني أن السَّاكنة “ع تلال الشمس” قد نسيتْ حفيدتها، بل لعلها بكت مثلها كما بكت الحفيدة:

بيتِك يا ستِّي الختيارة بيذكرني ببيت ستِّي

تبقى ترَنْدِحلي أشعارها والدِّنيي عمْ بتشتي

يُوكْ وفرشاتْ وديوانْ عِتْقْ البابْ وهالحيطانْ

دارِكْ مثل دارها يا ستي الختيارَهْ

تبقى تقعِّدني وتحكيلي حكايات الجنِّ الحِلْوِهْ

وزبيبْ وجوز تخبيلي وأعملا ركوةْ قهوِهْ

ستي اليوم بعيدة وبشولحلا بإيدي

مشتاقة لاخبارا يا ستي الختيارَهْ

يمكن عم تسقي جنينتْها عَ تلالْ الشَّمسْ وتحكي

لصبيِّةْ غيري حكايتها وعم تتذكرني وتبكي

ولمّنْ حاكيتيني بكيتْ وذكرتيني

بستي والدّوارة يا ستي الختيارَهْ

والشّوق إلى الجدة لا ينضب، مهما بعد، أينما بعدت، ففي (ستّي يا ستّي) التي كتب كلماتها (الأخوان رحباني) ولحّناها، وغنتها (فيروز) في (مَيْسْ الرّيم 1975)، تختلط الطّبيعة (الكرم، التّفاح، الشّمس، الماء، التّين والزيتون، الطّيّون):

سِتّي يا سِتِّي\اشتقتْ لكْ يا سِتِّي

عَلّي صوتِكْ\صوتِكْ بعيدْ

جايي من الكَرْمْ\جايي من التّفّاحْ

صوتِكْ حامِلْ شمسْ ومَيّْ\لَوْن التّينْ والزَّيتونْ\إيهْ

وريحةْ الطّيُّونْ يا سِتِّي

إي يا ستي\ما حدا ينطرني

لا تأجلوا العرسْ\يمكن طَوِّلْ

وشو هم الفسطانْ\قولي للعروسْ\إنتِ الزينِهْ وانتِ العرسْ

وما بقا بكّيرْ يا ستّي

بِذْكُرْ اللّيالي الطَّويلي\وأنا طِفْلِهْ بالزَّمانْ

وقِصَصْ الشّتي يحكيلي\صَوْتِكْ اللّي كلُّو أمَانْ

إي يا سِتِّي\شو بقِلِّكْ يا سِتِّي

إنتو بقلبي\وقولوا زَيُّونْ\جايِهْ ومَانّا جايِهْ

هَوْنْ ومانَّاشْ هَوْن\عم بتغني للعروسْ وللعريس بالسّاحاتْ

ومن خلف الطّرقاتْ يا سِتّي

وهكذا، يكبر الشّوق إلى الجالسة “فوق”، “عَ تلالْ الشّمس” البعيدة، إلى “الصّوت الحامل “شمس ومَيْ”، “لون التّين والزّيتون”، و”ريحة الطّيون”، فتغني (فيروز) في (تراب عينطورهْ):

ستّي من فَوْقْ\لو فيي زورا

راحِتْ ع العيدْ\والعيد بعيدْ

علمًا أن (جبران مسعود)، يستخدم في أدبه العامّية، وخاصة حين يتكلم عن طفولته وجدته كما في قصة (جدتي): “في الجزدان قروش، مش هيك؟\هودي المصريَّات خبَّيْتْهن من زمان\روح عني ولا! بطَّلْت حبَّك\ معليش كَابني\روِّقْ بالك\ما فيش ولا طلْعَة إلا قبالها نزلة”. وإذ لا تموت جدة القاصّ (جبران مسعود)، كما لا تموتُ معظمُ الجدّات؛ تظلّ “ملاكًا حارسًا على قلَمه”، يخبرُها- وإن غابَتْ” بما يكتبُ، فترقص طربًا حينًا وتضحكُ ضحكتَها المكبوتةَ آخَر، وتقولُ له في حنان وفخر، باللّهجة العامّية التي لا يمكن للذّكريات أن تنقلها بأناقة الفصحى:

“يا شيطان، علَّمناك عالشّحادة، سبَقْتنا عَ البواب!”.

وينقل (جبران مسعود)، الباحث، لا القاصّ، عن (أنيس مقدسي)  في (الاتّجاهات الأدبية في العالم العربي الحديث، الجزء الثاني قوله:

“على أن للشِّعر القروي في لبنان صيغة خاصة يمتزج فيها الوصف بشيء من الاعتزاز الوطني، فاللُّبناني فخور بجبله وبالحياة  المرحة فيه”.

[أنيس مقدسي: الاتّجاهات الأدبية في العالم العربي الحديث، ج2، ص118].

وقد عبّر الأدباء الشّعبيون (الفولكلوريون) عن حبهم لقراهم بأعمال لم تخلّف ناحية من حياتها إلا خاضتها، فانتشر أدب الضّيعة، وانتشرت تفاصيل (الفولكلور) اللُّبناني الذي ساهم، وما زال، برسم الأجواء الطّبيعية التي تجعل كل لبناني غادر لدرس أو عملٍ، يفكر بالعودة لا بالهجرة النّهائية، فلبنان، في الأغاني والمسرح والأدب الفصيح والعامّي، فيه من أجواء (الفولكلور) ما يكفل تقديم السّعادة لكل عائد، ولو امتزجت هذه السّعادة بالخيال، حتى كأنك تشمّ رائحة عطر التّراب الذي أخبرَك عنه (ميخائيل نعيمة) في قصة (ساعة الكوكو) حين قال: “إن في التّراب لَعطرًا لا تعرفه حوانيت العطّارين”، فيملأ عبقه رئتيك، حتى لو كنتَ من أبناء المدارس الأدبية المغرقة في الواقعية. وتغني مع كلمات وألحان (الأخوين رحباني) بصوت (فيروز) في أغنية (خِدني):

اشلحْني على تْراباتْ ضيْعِتْنا!

ولا ننسى دور الأعمال النّقدية التي جمعَت (الفولكلور)، وصنّفته، وشرحَت تفاصيله، بحيث يمكن لأي دارس أكاديمي أن يجد من سبقَه إلى البحث، فيعمل على إكمال ما بدأ به عشّاق الوطن، ومدّ الجذور بنسغ الحياة.

(ث) الجد:

وكما للجدة في أعمال (الأخوين رحباني) وجود أساس، يكرس وجود كبار السّن في العائلة اللبنانية، كذلك وجود الجد.

فلنأخذ أمثلة عن الجد من أعمال (الرحبانيين):

في (جبال الصَّوان)، المسرحية التي قُدّمَت على مدرج هيكل جوبيتر بعلبك سنة 1969 ضمن مهرجانات بعلبك الدّولية. تقرر (غربة: فيروز) ابنة (مِدْلِجْ) الذي قُتل وهو يدافع عن بلاده، مقاومة (فاتك) المتسلط الذي هزَم والدَها، واستولى على (جبال الصّوَّان) وحكمها بالحديد والنَّار.

ويبدو أن البطولة لم تقتصر على (غربة) و(مدلج) والدها الذي صار، كما في نهاية المسرحية، أفراد الشّعب كلهم أولاده بعد مقتل ابنته، وهنا لا بد من العودة إلى التَّاريخ البطولي للعائلة؛ فالجدّ (كاسِرْ) الذي كانَ، على قول أحد قادة (فاتك) وهو يخاطبها داعيًا إليها إلى الكف عن هذا الخط الذي “يُقتَل عَ البوّابة” كلُّ من يسلكه:

أحد قادة (فاتك): جِدِّكْ اسمه (الكاسر)، كان ضربة سيفه تقدّْ الصَّخْرْ، وانتهى عَ البّوابة!

أي: مقتولًا.

ولكن (غربة) لم تخف، كما لم يخَفْ قبلَها أبوها وجدها، وقُتِلَتْ عَ البوّابة، ولكنها حررت بلادَها، مؤمنة بقول أبيها:

(غربة): قال بيي قبل ما يموتْ: “الحقّ ما بيموتْ”. أنا حبة القمح، جايي انزرعْ بأرضي، بصدور النّاس اللي هون، وبكرا زرعنا بيطلعْ.

وسُلّمَت البطولة من الجد إلى الحفيدة، وسُلِّمَ معها مصير السُّلالةِ نفسُهُ.

وفي مسرحية (لولو)، لـ(لأخوين رحباني) التي أنتجت عام1974، والتي تدور قصتها حول فتاة اسمها (لولو) اتُّهمت ظلمًا بجريمة قتل لم ترتكبها ويحكم عليها بالسِّجن المؤبد. وبعد مرور 15 سنة يتضح بأنها بريئة، فتقرر تلقين الجميع درسًا في الرُّعب والانتقام لسنوات عمرها في السِّجن؛ فتتحالف مع “القبضايات” وأصحاب السَّوابق من المجرمين. ويشعر الجميع بالرُّعب، ولاسيما أولئك الذين شهدوا ضدها، فيحاولون إدخالها لمستشفى الأمراض العقلية بذريعة أنها مجنونة. وعندما يفشلون، يقررون قتلها عن طريق (رعد الهبيلة) المختل عقليًّا.

وللجدّ أهمية في مسرحية (لولو)، فـ(جرجي)، “البويجي” الذي اختفى واعتقد النّاس أنها قتلَتْه، فيُعْلن بسعادةٍ شهيدًا قليل الشّأنِ، افتدى كبار القوم وخلّصَهم من رعب التّصفية التي وعدتهم بها (لولو)، عادَ حاملًا بعضَ المال للفتاةِ من “جدِّها، الذي سيزورها خلال اليومين القادمين”، فأعدَّتْ حفلة عشاء على شَرَف جدِّها، ودعَت الجميع إليها، فقرر الجميع أن يحضر، آملين أن تستثني (لولو) مَن يلبي الدَّعوة من التّصفية الموعودة، وغنّت أغنيتها الشَّهيرة مرحبةً به، ورحّبَ معها الجميع:

على شرفْ جِدِّي صار عمرُهْ تمانينْ
خلو اللَّيل سنينْ، ناطورْ السّنينْ
جدِّي يا جدَّي يا شَيْخْ الشَّبابْ
طريقَكْ التَّلج وبيتك الضَّبابْ
جدي يا جدي يا شيخ الشَّبابْ
طريقك التَّلج وبيتك الضَّبابْ
الذَّهبْ بجيابه، الكَرَم ساكن بإيديهْ
وولادُهْ سبعة كلْ واحد ببلادْ
ناطرهُنْ ناطرهُنْ تَ يرجعوا من غيابْ

المجموعة ترحّب:
أهلا وسهلا نورتْ الدَّارْ\والشَّمعْ الأحمر يضحك للنَّارْ
يا ليلْ ودارْ\يا حلمْ وصارْ\إيفيفا إيفيفا إيفيفا إيفيفا

 لكن زوجة القاضي بالتَّعاون مع (نايف)، دفعا بـ(رعد الهبيلةْ) إلى قتل (لولو)، إذ أقنعاه أنه “نابليون”، وأعطياه طاقية وسيفًا ليتناسب وهيئةَ “الإمبراطور” الجديدة، وأوضحا له طريقة قتل (لولو).

لكنها، بخدعة منها، تمكَّنَت من أن تخيفه، وأن تقوده إلى أن يعترف بأن (نايف) هو الذي حرضه على هذا الفعل، فانقلب المدعوون على بعضهم، وكالوا لبعضهم الشَّتائم، واتهموا بعضهم، وتبادلوا فضح الأسرار.

وفي النِّهاية، يبدو دور (الجدّ) هو الملجأ الأخير من هذا الظّلم؛ إذ تنسحب (لولو) إلى ضيعة (جدِّها) الذي يمثل “النُّبل والفطرة والأصالة” [كما يقول أحمد حنّان في دراسته المسرحية]، تاركة المدينة في هذه الحالة من الفوضى والنِّزاع، مختصرة وجعها:

“خلصِتْ الحفلِهْ، خِدني لعندَكْ ياجدِّي

المجنونْ إِلُهْ حقّْ يحاكِم العالَمْ

الطّيارات رماديِّةْ متل التِّرْغَلّ

انفجار القنابلْ فضي بلونْ الشَّمسْ

ناس بالخنادقْ، ناس بالباراتْ

العدالِةْ كرتون، الحريِّةْ كذبْ، صارْ الحبسْ كبيرْ

وكل حكم بالأرض باطلْ

حَلُّو يطلع الضَّوْ!

ولنأخذ نموذجًا من مسرحية (يعيش يعيش) التي قدمت في (البيكاديللي) سنة 1970، وهي شخصية (بو ديب) الذي يعمل مع ابنة ابنته (هيفا) في دكان حدودية يلجأ إليها الأمبراطور الهارب بسبب انقلاب، ويكتشف أمورًا لم يسمع بها عندما كان على عرشه رجلًا كأنه، كما تقول (هيفا): “في متحف”.

والجد هنا، نشيط على كافة الصُّعد: فهو: صياد، في جعبته كثير من حكايات الصّيد التي لا تخلو من التَّزويق المعتاد والتي ترى حفيدته أنه “يَزيد خبرياته”، كما يقول السّهّيرة في الدكان وتوافقهم الرّأي، فيطلب منها أن تحدّ من زياداته عندما يتكلم، بـ”إشارة منها”، فتوافق، ونراه في المسرحية يطيع الإشارة التي تصدر عنها بنداء حازم: “جِدّي”!

من غير أن تعني حكاياته  البطولية إهمالًا للدّكان التي نرى أنها صارت الأساس في تقرير مصير الأمبراطور والأمبراطورية أيضًا. فهو يقوم بواجبه نحو الدّكان، مصدر رزقه، كاملًا:

(بو ديب): قـِلـْت لـْحــــالي،  بـْجـيـبْ لـَلـدِّكـَّـــان، صَنـْدوقين خضـْرَة، وْشي كـِـيـس زْوان.

       ويرحّب بزبائن الدّكان، ويعرفهم واحدًا وحدًا، ويحضّر لهم (الأركيلة)، ويشارك في الأحاديث الدائرة، وإن كان يتهرب منها أحيانًا سعيًا وراء هوايته المفضلة: (الصَّيد)، تاركًا السِّياسة تحت عنوان: “فخّار يكسِّر بعضو”.

مبالغات أناس من أمثال (بو ديب) ظاهرة طبيعية خاصةً لدى بسطاء النَّاس، حتى لتكاد مبالغاتهم، لولا أن تُحَدَّ وتُعامَل بمحبة من قبل المقريبن إليهم، فتوصف كما وصفتها حفيدته”بـْيـِكـْذب شـْوَيّ”، أن تصل إلى مرتبة الأعجوبة التي هدفها، في الأعمال الأدبية، لا التّرفيه فحسب، بل التأثير على الحكاية وأخذها إلى أماكن يُراد لها أن تؤخذ إليها إذ تلقي الضوء على كثير من قضايا مجتمعاتنا على كافة الصّعد. ولا يكتفي (الجد) بأن تجاربه، حتى في التَّهريب على غرار (ملهب)، تجارب ناجحة وعريقة، وإن حدّت منها “إشارة” ابنة بنته، بل يدلو بدلوه أيضًا في قضايا التعنيف الأسري، فإذا بنا أمام مشهد كوميدي يتحدث فيه عن المرأة وكيف يجب أن تعامَل بصرامة “كالسّجادة التي تحتاج إلى نفض بين الفينة والفينة”، كما كان يفعل مع زوجته لو لم تكشف حفيدته الحقيقة من خلال سؤال فلسفي حشرته فيه في الزاوية، فإذا به يتحجم هذه المرة أيضًا، ويصبح ضرب الزّوجة مثل “صيد التمساح وغيره”.  

على أن (هيفا) معجبة بجدّها رغم كل شيء، تمامًا كما كانت معجبة به في مسرحية (لولو)، معجبة إلى درجة اقتراحه أمبراطورًا بدل الأمبراطور الهارب، ولها أسبابها المنطقية: 

(بَرْهوم):        بـْشوفـِكْ مابـْيـِعـِجـْبـِكْ حدا!     إنتِ إذا كـَلـَّفوكِ، مين بـْتـِخـْتاري للحـِكـِم؟

(هَيْفَا):        بـْتـِضـْحـَكْ إذا بـْقـِلـَّكْ:  بـِخـْتار جدِّي!

(بَرْهوم):        (بو ديب)؟

(هَيْفَا):        إيه. جدي (بو ديب). بسّْ لـَو ما كان بـْيـِكـْذب شـْوَيّ!

(بَرْهوم):        لـَيشْ بـْتخـْتاريه؟

(هَيْفَا):        جدِّي عايشْ بالطـَّبيعة. تـْصاحـَب هـُوِّي والطـَّبيعةْ.

              هـاوْديكْ بـْيقـْروا الإشـْيا بالكتـُبْ،  بتـْضـَّلْ بـْعـَقـْلـُنْ كـُتـُبْ.

              جدي بـْيعرف كيف الـِبـْدار بـْيطـْـلـَع مـْن الأرض،

              جدي بـْيعرف كيف أيـَّام الطـيور وْمواسم السـَّفـَـر،

              جدي بـْيعرف لما التـَّلـْج بـْيضـْرُب اللـَّوز كيف بـْيـِبـْكـُوا صـْحاب اللـَّوزْ 

مصطفى مصطفى جحا

10\6\22

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات