البيت الروسي بالإسكندرية يحتفل برحلة ابن فضلان بعد 11 قرنا

02:45 مساءً السبت 16 يوليو 2022
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

في الثاني عشر من مايو 2022، مر أحد عشر قرنا على وصول أحمد بن فضلان، على رأس وفد رسمي من الخليفة العباسي المقتدر بالله، إلى بلاد البلغار، أو الصقالبة، في أراضي جمهورية تتارستان الحالية؛ إحدى جمهوريات الاتحاد الفيدرالي الروسي. بدأت الرحلة الشاقة من مدينة بغداد صباح الخميس 21 يونيو 921م، واستغرقت 11 شهرًا، ليصل ابن فضلان ومن معه يوم الأحد 12 مايو 922م.

مساء الخميس 14 يوليو دُعيت إلى اللقاء الشهري للنادي الإعلامي، في البيت الروسي بالإسكندرية، برئاسة القنصل بافيل كيديسوك، وإدارة د. هدى الساعاتي، لأتحدث عن رحلة أحمد بن فضلان بهذه المناسبة.

في البداية شكرتُ السيدة رئيسة صفي الله، وهي المستشارة لوزارة الثقافة التترية، والمصورة الفنانة، شكرتها وقلت إذا كان الدكتور سامي الدهان محقق رسالة ابن فضلان قدم لي عالم الرحالة العربي على الورق، فإن السيدة رئيسة خانوم أدخلتني إلى ذلك العام على أرض الواقع.

لم أفوّت الفرصة في رحلتي الأحدث إلى مدينة قازان، العاصمة التترية، دون أن أعاود زيارة البقعة التي وصل إليها الرحالة العربي الذي قدم نص سفرته في رسالة مطولة ألهمت الكثيرين، حتى وصلت دور السينما وشاشة التلفزيون. هنا أنشيء المتحف الوطني بمدينة بولغار على نهر الفولجا، ليخلد تلك الرحلة.

لدى دخولي المتحف، لفتت نظري خريطة كبيرة داخل إطار من الزجاج،أعلى قاعة الاستقبال، في المتحف على الضفة اليسرى لنهر الڤولجا. هنا كان يقوم ميناء تاريخي، ولكن المكان كله تهيأ عبر السنوات الأخيرة ليصبح مقصدا تاريخيا وسياحيا، لن تغفل العين التنقيبات هنا وهناك، ولن تخطيء رؤية مبان جديدة بجوار مبان تاريخية.

المدينة اليوم هي المركز الاداري لمنطقة سباسك وأصغر مدنها، وتبعد عن العاصمة قازان مسافة 140 كيلومترا، ومساحتها تعادل 116 كيلومترا مربعا وتعداد سكانها تجاوز 9 آلاف نسمة. تقع على مرأى البصر أنقاض مدينة بلغار التاريخية القديمة عاصمة دولة بلغار الڤولجا. أما مدينة بلغار الحالية فتأسست عام 1781 وكانت تسمى آنذاك بلدة “سباسك” ومنذ عام 1935 وحتى عام 1991 كان يطلق عليها اسم كويبيشيف. اليوم ومع استعادة الهوية الإسلامية أصبحت بلغار مثل العاصمة التاريخية التي أنشئت في القرن الـعاشر حيث جاء ذكرها في المدونات التاريخية التي كتبها الرحالة.

في عام 922 ميلادية وصلتها من بغداد قافلة ابن فضلان، في الخريطة نرى مدن الخلافة الإسلامية في بغداد وما حولها تسمى عربستان، وفيها يبدو اتجاه القافلة إلى الشرق في بخارى (أوزبكستان حاليا) قبل أن تعاود رحلتها إلى الشمال الغربي.  كان السر وراء مسار الرحلة غير المباشر هو أن الخليفة العباسي الذي سأله ملك الصقالبة مالا مباركا يبني به مسجدا، لم يمنح هذا المال لوفده، وطلب من ابن فضلان يمر على إمارات تتبع الخلافة الإسلامية لتحصيل ما عليها لدار الخلافة. والواقع أن الخلافة الإسلامية  آنذاك تهاوت قبضتها حتى أن الأقاليم التابعة لها رفضت  أن تمنح ابن فضلان ما تأخر دفعه لبغداد، لكن ابن فضلان اتخذ قرارا شجاعا على مسؤوليته،بأن قرر استكمال الرحلة، على أن يشرح للملك ما جرى.

المتحف مقام على شكل قبة مستقلة البناء، وهو مستوحى من عمارة قديمة موثقة الشكل، ومستلهمة في أعمال فنية تشكيلية وليثوغرافية. إنه إعادة إحياء لأول عمارة بقيت آثارها شاهدة. ويبدو أن القباب (الوبرية أو الخشبية وتلك الحجرية) كانت معروفة، يقول ابن فضلان في رحلته: “فلما رآنا نزل فخرّ ساجدًا شكرًا لله، جلّ وعزّ، وكان في كمّه دراهم فنثرها علينا، ونصب لنا قبابًا فنزلناها. وقرأت عليهم كتاب أمير المؤمنين، والترجمان يترجم حرفًا حرفًا، فلما انتهيت كبروا جميعًا تكبيرة ارتجت لها الأرض.”

في مدينة بلغار واحتفالا بالذكرى1123 لاعتناق المدينة الاسلام، افتتح “أك ميتشيت” أي المسجد الأبيض، وتمت اقامته في المكان الذي اعتنق فيه بلغار الڤولجا الإسلام في ذلك العام ( 922 م). وحسب الرئيس التتاري السابق منتيمير شايمييف، فإن المسجد مستوحى من عمارة المسجد النبوي في المدينة المنورة. نال شايمييف جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، وحاورته بعد أن ترك الرئاسة وأصبح راعيا لعمليات الترميم وإحياء منطقة البلغار الأثرية.

أمام المسجد الأبيض، بلغار الفولجا

زوار المتحف سيلتقطون أيضا صورًا للمصحف النادر والعملاق بطول المترين، وعرض 152سم، وسُمك 69ر6 بوصات، وقد طبع النسخة السلوفينيان ندجان براتاسيفيتش، وأندريه سيرناتيتش، والإيطالي ماورو لوسي، وقدم إلى المؤسسة الجمهورية لإحياء الآثار التاريخية والثقافية في جمهورية تتارستان، روسيا الاتحادية، وإلى مسجد قول شريف في قازان، في 17 نوفمبر 2011.

 في أحدث عمل موسوعي لمجلة المورد بعنوان”ابن فضلان في دوائر المعارف والموسوعات العربية والأجنبية”، رصد المحرون في أول مادة ببليوجرافية عن أحمد بن فضلان، 384 مصدرا ومرجعا، منها 300 مصدر ومرجع بالعربية،  بواقع 107 كتاب ومخطوطة، 10 رسائل جامعية،  183 دراسة وبحثا ومقالة منشورة، فضلا عن 84 مصدرا ومرجعا بلغات أجنبية.

أعود بكم إلى المتحف مجددا، ويقدم لنا صورة نموذج لمباني ذلك العصر، وبعض اللقى الأثرية، وكذلك تماثيل نصفية لوجوه الأجناس البشرية التي عاشت في المنطقة. فضلا عن المخطوطات، وبعض الشمائل، وهي معلقات مرسومة ومخطوطة، تجمع بين نصوص قرآنية وأحاديث وعمارة إسلامية، وزخارف، وهو فن لم يندثر في تتارستان ولا يخلو مكان عام أو خاص من لوحة تبرز فن الشمائل.

الجدارية بين رحلتين إلى متحف ابن فضلان

إلا أن أهم قطعة، في رأيي، رغم أنها لوحة عصرية، هي الجدارية التي يقف فيها أحمد ابن فضلان ليقرأ رسالة الخليفة على ملك البلغار ألموش بن يلطوار. ستبدو لنا خيمتان شيدتا للاستقبال، ذواتا قبتين، مثلما تبدو الحدود الصخرية لنهر الفولجا، وأشكال للقوارير والصحاف، والأبواق التي ترسل التحية، بينما يرتدي الضيف الهام ممشوق القوام ثيابا بيضاء، ويحمل وفده نسخة من القرآن الكريم. خلعت قناعي ووقفت للتصوير أمام اللوحة العصرية التي تستعيد لحظة تاريخية مر عليها 11 قرنا.

ومثلما سعدت في البداية بتقديم مديرة الندوة، ففي الختام سعدت أيضا بكلمة الشكر التي وجهها القنصل الروسي، ورحب فيها بزوار البيت الروسي طوال أيام الأسبوع لحضور فعالياته. ثم  قمنا جميعا لالتقاط الصور التذكارية، وأهديت الحضور نسخة من كتابي (نهر على سفر) وعددا من مجلة (العربي) يضم استطلاعي المصور عن تلك الرحلة الاستثنائية.

يعود الفضل في توثيق الفعالية بالصورة والفيديو إلى زوجتي المخرجة القديرة فاطمة الزهراء حسن، وابنتاي هدى وفدوى الفنانتان الناشئتان، وأسعدني الحوار الذي جرى حول أدب الرحلة، بعد محاضرتي، كما أبهجني الكاتب الباحث والفنان عاطف عصمت الصبروتي بإهدائه لي عمله “ معجم “شوقُ المُستهام إلى معرفة من كتبوا للصَبيّة والغلام” وثّق فيها القصائد التي كتبتُها للناشئة، بين أسماء أعلام هذا الفن الشعري من الأدباء العرب.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات