مدن الحرير ودروبه| وان المحروسة | مدينة السِلم والحرب على طريق الحرير

07:48 مساءً الأربعاء 10 أغسطس 2022
سوزان عابد

سوزان عابد

باحثة من مصر، مهتمة بمدن طريق الحرير

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

في مفترق طرق بين مدنٍ وضواحي آثرة ومبانٍ مبهرة، لها مكانتها على طريق الحرير ودروبه المتوغلة في شبه جزيزة الأناضول.. جذبني إليها وريقات صغيرة، وكأنها تذكرة مرور تمنحك جولة ذهبية  وتمكنك من العبور ببوابة سحرية، تُفضي إلى مدينة صغيرة؛ تخدعك لأول وهلة بالهدوء والخضرة والجبال والمياه.. أنها مدينة «وان» المنطوقة «فان» Van.. ساحرة صغيرة تقع في أقصى شرق الأناضول، وتطل على بحيرة زرقاء تحمل اسمها «بحيرة وان». وتقع اليوم في حدود دولة تركيا في أقصى الشرق مع الحدود الإيرانية في منطقة جغرافية وعرة نسبيًّا. وتُعرف المدينة بالتركية بـ «وان إيلي van ili»، ويجاورها في الأناضول مدن كبرى لها صيت؛ منها بورصة، وطرابزون، وأنقرة، وقونية، وسيواس، وارضروم… وغيرها من المدن التي لعبت دور محوري في تاريخ المنطقة وفي طريق الحرير ودروبه.. لكن لـ «وان» قصة أخرى.

ففي فترات التوتر والنزاعات لفرض السيطرة السياسية على طرق التجارة الدولية، وتحديدًا طريق الحرير البري بفروعه ودروبه المتشعبة في بلدان عدة؛ تنازعت القوى السياسية على مناطق استراتيجية بعينها، تلعب دور حلقة الوصل والفصل على الطرق التجارية. ومن هذه المناطق كانت منطقة الأناضول التي تصل آسيا بأوروبا عن طريق البحر الأسود، وتصل آسيا بإفريقيا بإطلالها على البحر المتوسط، ونقطة مرورية مهمة  للواردين من بحر قزوين.. ولهذا حرصت الإمبراطوريات الكبرى على أن تكون منطقة الأناضول في قبضتها وبالتالي تتحكم في طرق التجارة الدولية في وقت السلم والحرب.. ومن زُمرة هذه المدن؛ «وان».

أحيانًا يُهدينا القدر فرصة للتعمق في مجتمعات يفصلنا عنها مئات السنين.. فوريقات قليلة قد تكشف كثيرٌ مما نجهل، أو لم يُدوَّن في كتابات المؤرخين ومتونهم.. تلك الفرصة هي ما قدمته لنا حُجة وقف «موقوفات كنيسة ليم» والموقوفة بـ «مقتضى الشرع النبوي الشريف» من توابع مدينة «وان المحمية». ففي مطلع القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي؛ وتحديدًا في صباح الخامس عشر من شهر شعبان سنة 704ه (1304م) شهد شهود عدول بصحة وشرعية الموقوفات التي أوقفها الجاثليق «زكريا كتاغكوس بن سيفدين بن كورجي» على مصالح «كنيسة ليم»، الكائنة بلواي آموك، بمدينة وان. وكأنه إشهاد لنا على فصل مهم في تاريخ المدينة وتخومها. وريقات ممهورة، ومكتوبة بخط اليد باللغة العربية، يرجع تاريخها لزمن دولة المغول التي أسسها هولاكو خان وحكمت شمال فارس وبغداد، ودخلت مدن كثيرة من شرق الأناضول وجنوب أرمينيا في تبعيتها.. ومن هنا كانت البداية مع «وان».

جاءت نصوص الوقفية متوافقة كثيرًا مع صيغة حجج الوقفيات الخاصة بالمنشآت الدينية الإسلامية التي وصلتنا من فارس والعراق وآسيا الوسطى في ذلك الوقت.. والتي عادة ما تبدأ بديباجة مشمولة بالدعوات والتبريكات. وتحديد هوية القاضي والكتبة والشهود، وبيان اسم الواقف وإثبات أهليته وجواز الوقف والتي تتمثل في أن يكون الواقف شخص كامل الرشد والعقل، والتحقق من ملكيته للموقوفات، ثم بيان وتحديد الموقوفات تحديدًا دقيقًا بالحدود من الجهات الأربعة، ثم تأتي الشروط التي شرطها الواقف سواء بتعيين متولي ومشرف وناظر للوقف من ذريته أو شخصًا آخر.. والجزء الأكثر أهمية هو مصارف الوقف والتي جاءت هنا في حُجة موقوفات زكريا كتاغكوس على النحو التالي:

«…. على مصالح كنيسة ليم المذكورة وقفًا صحيحًا شرعيًا وحبسه تحبيسًا صريحًا سمعيًا موبدًا دايما سرمدًا الا ياتي عليه زمان الابده والاوان الا اكده لا يباع ولا يرهن ولا يوهب ولا يورث ولا يؤجر اكثر من ثلث سنين ولا يصرف الوقفية بنوع تزوير ولا تغير بوجه تغير بل هو قايم على اصله معروف الى اهله الى ان يرث الله الارض ومن عليها وهو خير الوارثين… على ان يبنا من ريوعه واجوده بعمارت الموقوفات ثم بعمارة كنيسة مذكور من اصلاح سقوفه وحيطانه وتطين سطوحه وجدرانه ونشر فرشه وزلاليه واباريقه وكيزانه وساير آلاته المحتاج اليها ليبقى معمورا مسكونًا ثم ما فضل عن ذلك يرتب منه للصادرين والواردين من الفقراء والمساكين موايدهم في كل يوم مرتين مرة بالطعام المطبوخ باللحم وغيره كما هو المعهود في المدينه فى صحوته ومره بعد العصر ثم ما فضل عن ذلك يصرف الى ثمن شرى عقار اخر حمه حكم ساير الموقوفات… وقد شرط الواقف المذكور… فمن طعن في هذا الوقف او رام تغيره وتبديله فقد خالف نص القران فمن بدله بعد ما سمعه فإنما اثمه على الذين يبدلونه ان الله سميع عليم وباء بسخط من الله تعالى وغضبه وحشر مع فرعون وهامان وجنودهما وعليه لعنه الله اللاعنين من الملايكة والناس اجمعين… شهدت البينة العادله وعلى اقرار الواقف بجميع ما ذكر فى الكتاب من اوله واخره فى منتصف شعبان المبارك سنه اربع وسبعماية».. ومنذ ذلك الوقت  صبأأ

أصبحت كنيسة ليم تؤدي دورها الديني والاجتماعي والتنويري لعدة قرون تالية، وكانت مكتبتها ومخطوطاتها منارة ثقافية مميزة.. ولكن إلى حين!

وقد تعرضت «وان» وجزيرة ليم لتحولات سياسية وديموغرافية عديدة، فبعد سقوط دولة المغول الإيلخانيين استطاع الأمير تيمور (تميورلنك) فرض سيطرته على المدينة. وفي القرن السادس عشر الميلادي انتقل الصراع من ورثة التيموريين وهم الصفويين في فارس، مع منافسهم اللدود – العثمانيين – وقد نجح العثمانيون في حسم الأمر بفرض نفوذهم على «وان» ومدن الأناضول.

استمرت «وان» وكنيسة ليم تؤدي المهمام المنوطة بها عدة قرون، إلا أن تقلبات الزمن لم تستثني «وان» من غدرها؛ فكان اندلاع الحرب العالمية الأولى، والصراع الروسي/ العثماني؛ نقطة فاصلة في تاريخ مدينة «وان» وسكانها من الأرمن. فعلى إثر دخول الدولة العثمانية في الحرب، وانهزامها في كثير من المعارك أمام الروس، أصبحت «وان» وكنيسة ليم وقودًا لنيران الحرب، إذ حملهم القادة العثمانيين النصيب الأكبر من أسباب هزيمتهم. الأمر الذي ألقه بظلاله على «وان» وأهلها فكان الانتقام والنهب والقتل والتهجير هو مصير الأرمن وأهل «وان». ثم وقعت المدينة تحت سيطرة روسيا ما يزيد عن عامين.. ومن ثم كان تضييق الخناق على الأرمن وحملات الترحيل والإبادة التي تعرضت لها «وان»   سبب في تغيير هوية المدينة وتركيبها السكاني. ففي الوقت الذي كان الأرمن المسيحيون هم الغالبية العظمى لسكان «وان» في القرن الرابع عشر الميلادي،  تقلصت نسبتهم إلى النصف في عهد العثمانيين. ومؤخرًا أصبح الأكراد هم الغالبية، وبالتالي فاللغة الكردية هي اللغة الأولى في «وان»، يليها التركية.. أما «وان» اليوم فهي مدينة هادئة تمتاز بخضرتها وبحيرتها الزرقاء وجبالها الشاهقة وجهة سياحية مميزة.. فإذا أتتك الفرصة لزيارتها؛ تذكر أنها مدينة للسلم والتعايش، والحرب أيضًا.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات