النموذج المعرفي بين توماس كون والمسيري وماكس فيبر: مفارقات وتقاطعات

08:07 مساءً الأربعاء 7 نوفمبر 2012
أمير الغندور

أمير الغندور

كاتب من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print


 

يمكن إحالة مصطلح النموذج المعرفي إلى أصله الأجنبي .. علشان نفهمه بشكل أفضل .. حيث نجد أن “النموذج” .. هو تعريب بتصرف لعدة مفاهيم وكلمات أجنبية هي:

Paradigm – Mode of Thinking – Mentality

البارادايغم أو الموديل أو الذهنية أو العقلية أو المينتاليتي زي ما بيقولوا ..

ما يعني أن “النموذج المعرفي” .. هو نمط التفكير ..

وقد نجد له تشابهات كثيرة أيضا مع ما وصفه د. عابد الجابري بالعقل المكون والمنتج للمعرفة ..

ويعود اشتهار مصطلح النموذج المعرفي وتداوله في مجال الفكر والفلسفة .. إلى “توماس كون” .. صاحب الكتاب الشهير: “بنية الثورات العلمية” ..

توماس كون

ولما ركز “توماس كون” على مصطلح النموذج المعرفي .. كان يقصد به الاشتغال داخل مجال محدد .. وهو مجال النظريات العلمية .. منذ أقليدس .. ثم كوبرنيكوس وكبلر وجاليليو .. ثم نيوتن .. ثم أينشتاين .. ألخ.

لأن توماس كون .. شاف إن العلماء دول .. ابتكروا نظريات .. كانت منطلقة من فرضيات أساسية مختلفة ومن رؤية للعالم مختلفة ..

ففكرة النموذج المعرفي أو البارادايغم .. جاية من إن الناس زمان كان عندهم بارادايغم محدد قائم بيقول .. إن الأرض مسطحة .. مش كروية .. وإن الشمس بتدور حوالين الأرض .. واستمر الباراديغم ده .. قائم وسائد عند أقليدس وأرسطو .. وبعدهما في العصور الوسطى ..

وبعدين البارادايغم ده سقط .. وظهر بارادايغم جديد عند كوبرنيكوس وجاليليو .. بيقول إن الأرض هي اللي بتلف حوالين الشمس .. وإن الأرض كروية .. وإن زيها زي أي كوكب في المجموعة الشمسية ..

ومن هنا يمكن أن نقول إن البارادايغم .. “يعبر عن موقف صاحبه الابستمولوجى” تحديدا ..

لكن هذا .. بشرط أن نكون .. كما كان “توماس كون” .. نقصد به الاشتغال في مجال النظريات العلمية تحديدا ..

لأن أصل ابتكار توماس كون لمفهوم البارادايغم أو “النموذج المعرفي” .. هو إنه كان عاوز يبتكر “نموذج تفسيري” يقدر من خلاله إنه يفسر الاختلافات بين النظريات “العلمية” .. تحديدا .. كما في الاختلافات بين نموذج أرسطو وبين نموذج كوبرنيكوس .. أعلاه ..

لكن ما حدث .. وما نحن بصدده حاليا .. وبخاصة في أفكار المسيري .. هو شيء مختلف وأوسع مما كان يقصده توماس كون ..

عبد الوهاب المسيري

لأنه بينما قصد توماس كون مجال “النظريات العلمية” تحديدا .. فإن المسيري .. مستفيدا من ماكس فيبر .. عمل على توسيع فكرة البارادايغم “النموذج المعرفي” توسيعا كبيرا ..

وذلك ليقوم بتطبيقه كما طبقه ماكس فيبر .. ليس في مجال النظريات العلمية .. لكن أيضا في مجال “النظريات الثقافية” .. أو بمعنى أخر “رؤية العالم” لدى أتباع أصحاب الثقافات والديانات المختلفة ..

 وطبعا .. من المفهوم أن “رؤية العالم” .. لا تقتصر على النظريات العلمية فقط .. بل إن توسيع المسيري بالاتكاء على ماكس فيبر .. لمفهوم البارادايغم .. ليشمل “رؤية العالم” .. جعل المسألة تختلف عما كانت عليه لدى توماس كون .. فأصبح الوضع كالتالي:

كنا ..

مع مفهوم توماس كون .. للبارادايغم .. نقرأ “نظريات وفرضيات” علمية .. تنتمي للعلماء ومجموعات علمية .. تمتلك تفكير منضبط ومنتظم ومكتوب ..

وأصبحنا ..

مع مفهوم المسيري/ماكس فيبر.. للبارادايغم .. نقرأ “تحيزات” تعبر عن رؤى ثقافية ودينية للعالم .. تنتمي إلى شعوب وجماعات بشرية .. ذات وعي جمعي محدد .. ليس بالضرورة منضبط أو منتظم أو مكتوب .. بل غالبا ما يتوجب استخراجه من مأثورات وأمثال شعبية .. وليس من تحليل نظريات علمية .. كما كنا مع توماس كون ..

ويكفي لفهم الفارق بين هاتين الطريقتين في تضييق وتوسيع .. مفهوم النموذج المعرفي .. أن نلاحظ الفرق بين كتاب توماس كون: بنية الثورات العلمية .. وبين كتاب ماكس فيبر: الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ..

فالأول يحدد مجاله في النظريات العلمية .. بينما الثاني يوسع مجاله .. ليشمل الحديث عن الأديان والروح الثقافية لنظام اجتماعي محدد.

لذا فعندما نستخدم مفهوم “النموذج المعرفي” في سياق الأحاديث السياسية والفكرية والدينية الراهنة .. فأننا هنا .. نكون بصدد محور “المسيري/ماكس فيبر” .. ولسنا بصدد محور “توماس كون” ..

والفرق هو أن محور توماس كون .. كما بأعلاه .. هو محور ملائم أكثر للنظريات العلمية .. وبالتالي يمكن أن ينطبق عليه القول بأنه يعبر بالأساس عن “موقف ابستمولوجى” ..

ماكس فيبر

لكن محور “المسيري/ماكس فيبر” .. أوسع .. ويحتمل جدا .. تضمين الأبعاد الاجتماعية والنفسية والدينية والسياسية والأيديولوجية والانطولوجية .. بل وحتى النوايا والمقاصد والغايات والنزعات والدوافع النفسية والاجتماعية .. الإيجابية والسلبية .. مثل النفاق والتضليل والرياء والتظاهر بما يخالف الباطن .. والتمسكن لحين التمكن .. والنزعة العنصرية الاستعلائية .. ونزعة كراهية الآخر وكراهية المختلف .. وكراهية الأجانب .. والدوغمائية والشوفينية .. ألخ .. ألخ ..

ومن ذلك مثلا .. أن المسيري وأتباعه يتحدثون عن نموذج “توحيدي” .. في مقابل .. نموذج “شركي” .. وكذلك يتحدثون عن نموذج “روحاني” .. في مثابل نموذج “مادي” .. ويتحدثون عن .. نموذج “مفارق” .. في مقابل .. نموذج “حلولي” ..

ومن الواضح تماما .. أن هذه التصنيفات لا تنتمي إلى تصنيفات النظريات العلمية الصارمة المعهودة في العلوم الطبيعية .. بل هي تنتمي – على أفضل تقدير – إلى التصنيفات الفلسفية والأدبية والدينية في العلوم الإنسانية ..

ملحوظة هامشية: يمكن تعريف هذه النماذج كما يلي:

النموذج “التوحيدي” .. هو نموذج الإله الواحد .. بينما النموذج “الشركي” هو نموذج الآلهة المتعددين والمشتركين ..

النموذج “المفارق” .. هو نموذج الإله المفارق للعالم .. وهو المذهب السائد .. بينما النموذج “الحلولي” هو نموذج الإله الذي يحل في موجودات العالم .. وهو مذهب بعض الصوفية مثل الحلاج وأبن عربي وسبينوزا .

الخلاصة:

وبناء على ما سبق ..

يمكن القول بأن النموذج المعرفي عند توماس كون .. هو بالأساس نموذج تفسيري .. ينتمي لمحاولته فهم التمايزات بين النظريات العلمية .. ويقوم على التمييز والتصنيف بين عدد من الفرضيات النظرية العقلية والظنية .. التي يعتمد إثباتها على القدرة البرهانية لمؤيديها .. ولذا يمكن التداول بشأنها بطريق الجدل .. حيث يعتمد الإثبات والنفي على التناول النقدي .. بغض النظر عن القوة السياسية والاجتماعية لمؤيديها .. بل إن قوة النقد تمكن ناقد النموذج المعرفي القائم من التفوق على  بعض مصادر القوة التي يتمتع بها مؤيدو النموذج الذي يمارس الناقد تقويضه وتفكيكه ونقده .. وهو ما يتم بقدر عالي من الحرية في التعبير وانعدام الحرج .. بشرط وجود احساس بامكانية أو توقع أو احتمال قرب اكتشاف بدائل نظرية جديدة يمكن أن تحل محل الفرضيات النظرية القائمة بالفعل .. وبذلك يكون النموذج المعرفي عند توماس كون .. ذي نسق مفتوح نوعا .. وينتمي إلى مجال الابستيمولوجيا ..

لكن النموذج المعرفي الخاص بالمسيري وماكس فيبر .. فهو بالأساس نموذج تفسيري .. ينتمي لمحاولة فهم التمايزات العقائدية والإيمانية والأيديولوجية والثقافية .. ويقوم على التمييز والتصنيف بين عدد من الوثوقيات القطعية الإيمانية الغيبية .. التي لا تعتمد على البرهان العقلي .. والتي يعتمد إثباتها على القدرة الخطابية لمؤيديها وعلى قوتهم السياسية والاجتماعية  .. بل إن قوة النقد تعرض ناقد النموذج المعرفي القائم لخسائر سياسية واجتماعية فادحة لكافة مصادر القوة التي كان يتمتع بها قبل ممارسته النقد لأنه يتعرض لعقاب شديد من مؤيدي النموذج القائم الذي يمارس تقويضه وتفكيكه ونقده .. وهو ما يتم بطريقة تخالف تماما طرق التداول الجدلي والعقلي .. فهذا النموذج المعرفي الإيماني لا يقبل إلا طرق التلقي الحدية المتطرفة حصريا .. مثل طريق التسليم اللانقدي (الإيمان التام) .. أو طريق الرفضية اللاعقلية (الكفر) .. وهو ما يتم تحت سقف محدود ومتقلص من الحرية في التعبير .. وبكثير من الحرج وتحت خطر اشتداد الضغط والنبذ الاجتماعي .. لأنه من المحظور مجرد التفكير في .. وجود إمكانية أو توقع او احتمال لاكتشاف بدائل عقائدية جديدة .. يمكن أن تحل محل الوثوقيات والقطعيات العقائدية القائمة بالفعل .. ولذلك يكون النموذج المعرفي عند المسيري وماكس فيبر .. ذي نسق مغلق نوعا .. وينتمي إلى مجال الأنطولوجيا والميتافيزيقا ..

وانطلاقا من هذا التمييز بين هذين النمطين من النماذج المعرفية (العلمي عند توماس كون .. والإيماني عند المسيري وماكس فيبر) يمكن إعادة تحليل التقاطعات التي حدثت بين هذين النموذجين في التاريخ . كما في حالة جاليليو مثلا .. والذي كان عالي الشأن في زمنه بصفته عالم (نموذج توماس كون) .. لكنه أدخل العلم في تقاطع مع العقيدة القائمة في زمنه (نموذج المسيري وماكس فيبر) .. وبذلك تمكن .. من ناحية .. من اكتساب بعض مصادر القوة العلمية التي كانت لأرسطو من قبله (وفق نموذج توماس كون) .. ولكن من ناحية أخرى .. تعرض أيضا .. لخسارة فادحة على المستوى السياسي والاجتماعي (وفق نموذج المسيري وماكس فيبري) ..

فالمكسب جاء نتيجة لقدرته البرهانية على نقد وتقويض النموذج الأرسطي القائم في زمنه ..

بينما جاءت الخسارة  نتيجة لتقاطع وتصادم النتائج العلمية لأفكار جاليليو .. مع النموذج المعرفي الإيماني القائم في زمنه ..

ومن هنا يمكن القول .. بأن هذين النموذجين يوجدان دوما جنبا إلى جنب ويتقاطعان ويتصادمان .. بما يؤدي إلى إحداث خسارة وإتيان بمكسب لنفس الشخص في نفس الوقت .. كما في حالة جاليليو ..

وبهذا نكون قد أثبتنا وجود قدر كبير من التشابك والتداخل والتقاطع بين هذين النموذجين .. وهو ما قد يمهد إمكانية الجمع بين النموذجين معا .. لتطوير وتحسين القدرة التفسيرية للنموذجين بالجمع بين ما قدمه كل من توماس كون والمسيري وماكس فيبر في إشكالية النموذج المعرفي بنمطيه

3 Responses to النموذج المعرفي بين توماس كون والمسيري وماكس فيبر: مفارقات وتقاطعات

  1. sofiane hamaidi رد

    29 نوفمبر, 2016 at 9:22 م

    ممكن نشوف المراجع اللي اخدت منها هاد المقال

  2. Pingback: النموذج و النموذج المعرفى

  3. lakhdar boufnik رد

    26 يوليو, 2019 at 2:59 ص

    شرح رائع بوركتم استطعت فك كثير من الطلاسم شكرا جزيلا.

اترك رداً على sofiane hamaidi إلغاء الرد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات