الثورة الفرنسية : نهاية الصراع، خلود الإبداع

08:59 صباحًا الخميس 27 ديسمبر 2012
محمود قاسم

محمود قاسم

ناقد وروائي من مصر، رائد في أدب الأطفال، تولى مسئوليات صحفية عديدة في مؤسسة دار الهلال، كتب عشرات الموسوعات السينمائية والأدبية، فضلا عن ترجمته لعدد من روائع الأدب الفرنسي.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الثورة بين المقصلة والقلم

الثورة كائن متحرك.. يندفع مثل النهر فى منبعه بقوة شديدة.. عابراً مجرى النهر، يدفع بكل شىء أمامه، حتى يهدأ حين يصل إلى المصب.

لو ركبت هذا النهرالمتحرك المتدفق، فإنه سيجرفك معه، بقوته إلى حيث يشاء، فأنت مجرد فرد، أما هو فله قوة الجماعة ولن يمكنك أن تفكر أو تبدع، إلا بعد أن ينتهى الحدث، فتبدو الصورة بانورامية واضحة.

وقد حدث هذا دوما بالنسبة للعلاقة بين الثورات الكبرى التى عرفها البشر، وبين الابداع.. حيث ان مسألة “البانورامية” بالغة الأهمية، لا يمكنك تشريح الجسم إلا إذا بقى هادئاً، وقد اتضحت معالمه.

ولعل الثورة الاكثر صخباً، واطول زمنا، هى الثورة الفرنسية، التى بدأت بغضب، وخروج مساجين الباستيل، وانتقلت إلى الميادين، والاحياء، وطالت رقبة لويس السادس عشر، وزوجته، واتت بقادة جدد من الجيش، وابناء الشعب، تناطحوا فيما بينهم، وتقاتلوا، وسقط نابوليون، وجاء من بعده أباطرة آخرين حتى قامت الجمهوريات.

لم يكن فى امكان كاتب أن يؤلف رواية – حسب علمى – عن ما حدث فىالعقد الأخير من القرن الثامن عشر، قبل أن ينقضى هذا القرن، وبعد ذلك صارت الثورة حدثاً عالمياً، بقدر ما هو ايضا حدث فرنسى، فالأدباء الذين قدموا الروايات الخالدة عن هذه الثورة، لم يكونوا فقط من الفرنسيين، بل اننى أؤكد أن الروايات التى كتبها تشارلز ديكنز “قصة مدنيتين” والامريكى هرمان ملفيل “بيلى بد” أكثر شهرة بكثير مم كتبه أدباء فرنسا طوال أكثر من مائتى وثلاثين عاماً.

ألكسدر ديماس ـ الأب

الكسندر ديماس الأب، شغف كثيراً بالتاريخ الفرنسى، وخاصة ما كان يحدث فى البلاط الفرنسى منذ القرن الرابع عشر، حتى القرن التاسع عشر، وقد كتب عشرات الروايات حول هذا التاريخ، وجاءت رواياته عن بلاط لويس السادس عشر بمثابة استكمال لما شهدته الأسر الحاكمة طوال خمسة قرون، من البذخ، والعلاقات العاطفية، والمؤامرات، وصعود أسماء وهبوط اسماء أخرى، وابتدع شخصية الفرسان الثلاثة، “هم فى الروايات اربعة” عم دار فى عصر لويس الرابع عشر، والسياسى الداهية ريشيليو.

أما الروايات التى كتبها ديماس حول الثورة الفرنسية، فهى تنتمى إلى الرواية الشعبية، التى تنشرها الصحف، والتى تطبع فى مطابع رخيصة، ويقرأها الجميع، ولا يشترط أن يلتزم فيها الكاتب بالوقائع التاريخية، لذا فإن كل هذا العدد من الروايات الذى كتبه ديماس عن الثورة الفرنسية أقل أهمية من رواية “قصة مدينتين” للبريطانى ديكنز، رغم المكانة السامية لديماس فى كتابة الرواية.

من المعروف أن ديماس كان كاتباً غزير الانتاج، وان العديد من الروايات التى كتبها عن الثورة الفرنسية كانت تقع فى أجزاء مطولة، بما يعنى مقدار الصفحات التى ألفها الكاتب عن هذه الثورة، بما يعنى أنه وجد الكثير من الأحداث، والشخصيات الحقيقية والمتخيلة التى تستوعب آلاف الصفحات، وقد اضطر ديماس الى تكثيف الصفحات، احيانا حسب رغبة الناشر، مثلما حدث مع رواية “كونتسه شارنى” المنشورة عام 1853، وهى أولى أعماله عن الثورة، فقد سبق أن نشر رواية ضخمة باسم “الملاك بيتو”.

كونتسة شارنى تضم الكثير من الشخصيات الموجودة فى الرواية السابقة، وتدور أداثها بين باريس مركز الثورة، وبين قرى فرنسية أخرى، شاهدت أحداث تتعلق بالثورة، تبدأ الأحداث صباح يوم السادس من أكتوبر 1789، حين تركت الاسرة الحاكمة قصر فرساى الى قصر التويلرى، ويظهر فى الرواية اشخاص صار لهم دور عظيم فى الثورة، مثل جان بول مارا وروبسيير، وميرابو وآخرين، اما الشخصية الرئيسية فهو الكونت دوشارنى الذى كان مغرما بالملكة مارى انطوانيت، وأهمل زوجته الشابة اندريا، الكونتسة شارنى، التى تحمل الرواية اسمها.

كان الاخ الصغير للكونتسه، قد وقع فى غرام امرأة متزوجة تدعى كاترين، ابوها مؤمن بالثورة وهو غاضب كثيرا على وقوع ابنته فى غرام رجل بسيط حاول اغتيال واحدا من نبلاء اسرة شارنى، الذى يموت قتيلاً بالفعل، فتسعى الكونتسه الى انقاذ ابنها من المحاكمة، بينما ابوه منشغل بغرامه بالملكة.

كما نرى، فإن ديماس قد قام بتوسيع دائرة العلاقات أمامه، وجعل الثورة، والقلاقل التى صاحبتها قد طالت الكثير من النبلاء، بينما بدا الشعب نفسه بعيدا عن البلاط.

هذه الروايات، كانت تخص الحدث، لكن لكل رواية استقلاليتها، وشخصياتها، قد يتكرر، وجودهم فى رواية أخرى، لكن المحور الرئيسى، هو الثورة الفرنسية، مثل رواية “فرسان البيت الاحمر” المنشورة عام 1846 حول واحد من النبلاء يدعى الكسندر جونس، وفيها يلتقى واحد من الثوار “موريس” بالفتاة جنيفيف، ويقع فى غرامها، ومثل كافة العلاقات فى هذه الطبقة الراقية، فإن المرأة متزوجة من واحد من الأسرة الحاكمة، وهذان الزوجان يحاولان الابتعاد عن الانظار، حيث انهما يخفيان فى قصرهما هارباً من العدالة، حاول مساعدة الملكة مارى انطوانيت من الهرب فى محبسها، وامام الوجود الحساس لموريس فى محيط زوجته، فإنه يدفع بزوجته كى تشغل حبيبها عن حقيقة الشخص الموجود فى قصرها، وتنتهى الاحداث بالقبض على الزوجة ويتم اعدامها، ويقرر موريس أن يلحق بها فى السجن، والشنق.

وهكذا، فان الكسندر ديماس كتب عن الثورة باعتبارها ديكور مناسب لقصص حب، وخيانات، واعدام، وموت، وبدا الأشخاص يتحركون بشكل فردى، وليس فى جماعات، مثلما كان يفعل الثوار الفرنسيون، كما صدرت رواية بالغة الضخامة، للكاتب باسم “البيض والزرق” عام 1861 تبدأ أحداثها عام 1793، وتنتهى بعودة نابوليون من مصر عام 1799، وهى تقع فى أربعة اجزاء منها “برسى فوق الراين”، “الحملة الصليبية الثامنة”.

على غرار هذا النوع من الروايات، نشرت روايات شعبية عديدة فى فرنسا، وجدت قراءها من القارىء العادى مثل رواية “فارس اللمس” لجول باربى دورفلى المنشورة عام 1864، والتى استوحاها المؤلف من أحد المحاربين يدعى جاك ديتوس “اللمس”.

وما اكثر الروايات الشعبية التى كتبها مؤلفوها عن الثورة الفرنسية، كانت تقرأ بشكل ملحوظ فى تلك الآونة، وكان لاصحابها مكانة لدى القراء، لكن الآن، لا يكاد أحد يتذكر أصحاب هذه الروايات الذين فقدوا أسمائهم عبر تاريخ الأدب.. حيث عكف الفرنسيون والبريطانيون على تأليف هذه الروايات لعل السؤال هو: لماذا شغف الأدباء الانجليز بالثورة رغم ذلك الصراع المتأصل الذى ولد بين فرنسا وانجلترا فى تلك المرحلة وما بعدها.. حيث ان اشهر رواية حول هذه الثورة كتبها تشارلز ديكنز عام 1859، أى فى الذكرى السبعين لقيام الثورة تحت عنوان “قصة مدينتين”.

هذه الرواية كما تقول المعلومات بيع منها مائتى مليون نسخة، وانها اكثر كتاب تم طبعة باللغة الانجليزية، وانه تفوق فى ذلك على مسرحيات شكسبير، الرواية تصور الوضع المتردى الذى عاش فيه الفلاحون الفرنسيون تحت القمع من الطبقة الفرنسية الراقية، فى السنوات التى سبقت اندلاع الثورة، وقد نتج عن ذلك أن الثوار تعاملوا مع هذه الطبقة بقسوة ووحشية فى السنوات الأولى للثورة.. مما دفع بالكثير من أثرياء باريس إلى الهرب إلى لندن، والعيش هناك مم يعنى أن عنوان الرواية “قصة مدينتين” هما باريس ولندن.

وقد اختار ديكنز نموذجا من هؤلاء النبلاء، واسمه شارل درناه، الذى تعرض لقسوة الثوار، رغم انه شخص فاضل، لم تكن له اى سابقة معاملة سيئة للمسحوقين، والفقراء، وقد توغلت الرواية فى حياة درناى بعد ان ساءت احواله، ومحاولة محامى بريطانى فاسد الى ان يتحرر من حياته الضائعة بعد ان وقع فى غرام لوسى مانيت، زوجة درناى.. وقد لخص المؤلف هذهالحقبة من الزمن قائلا: “كانت أفضل الأزمنة، كانت أسوأ الأزمنة، كان عصر الحمقى، وكانت حقبة التصديق، كانت حقبة الجحود، كان فصل النار، وفصل الظلام، ربيع الأمل، وشتاء اليأس، كان كل شىء وراءنا، ولم يكن وراءنا شىء، كأننا جميعاً ذاهبون إلى الفردوس، وكأننا أيضا ذاهبون إلى الاتجاه المعاكس.

أما الرواية الثانية المكتوبة باللغة الانجليزية فهى “بيلى بدبحارا” التى كتبها هرمان ملفيل “مؤلف رواية موبى ويل” قبل وفاته مباشرة عام 1891 ولم تنشر إلا بعد ذلك بخمسة وثلاثين عاماً، وتدور حول بحار أمريكى يواجه العديد من المتاعب مع القبطان، الذى يضيق عليه الخناق، وهو يعمل فوق مركب بريطانى، ويدور الحوار فى جزء من الرواية عن الثورة الفرنسية، وكيف غيرت الخريطة البحرية من حولها.

أناتول فرانس وروايته المترجمة

أناتول فرانس وروايته المترجمة “الآلهة عطشى”

كما أن رواية “الآلهة عطشى” للكاتب أناتول فرانس “نوبل 1921” قد حظيت بأهمية فى هذا الاطار، صدرت الرواية عام 1950 وتدور أحداثها حول فنان تشكيلى فرنسى، يعيش فى أحد أحياء باريس، وتصف الرواية سنوات باريس السوداء، حيث سيطر “مارا” روبسيير على الثورة، وانتهى الأمر بتعيين الفنان محلفا لمحكمة الثورة.

جاملين هذا شاب مثالى، نموذجى، يجد نفسه وسط أحداث دامية عمياء، مجنونة، فيضطر إلى أن يقطع علاقته بالمقربين إليه، خشية أن يأتى إليه أحدهم يوماً متهماً بأنه من أعداء الثورة،خاصة حبيبته اليودى، ويرى الأحداث تتطور، ويصيب الخراب باريس، فيسعى إلى التخلص من وظيفته القاسية، كى يعود إلى طبيعته، لكنه يكتشف أن أحكامه التى أصدرها جعلته دوماً متعطش للانتقام، والدماء، وأنه من الصعب أن يعود إلى سيرته الأولى “الفنان”.

أغلب الروايات المكتوبة عن الثورة الفرنسية، كانت تدور حول شخصيات حقيقية، كانت موجودة بالفعل، سواء من أبناء الطبقة الأرستقراطية أم زعماء الثورة، وقليلة هى الروايات التى دارت حول صغار الثوار، أو الشعب نفسه، وقد استغرق البارون أوركيزى سنوات طويلة من حياته ليكتب رواية فى تسع مجلدات، أو كما قال إنها تسع روايات، تحمل عنوان “المارون الأحمر” حول السير البريطانى بيرسى بلاكنى الذى سعى لمساعدة الكثير من الأثرياء، للافلات من أيدى الثوار، وقام بترحيلهم مع ثرواتهم إلى بريطانيا ويشير الكاتب الى انه فى عام 1792 تكونت جمعية سرية لانقاذ ضحايا الإرهاب، ومن أجل أن يكسو رواياته بأجواء المغامرة، فإن المؤلف ابتدع بطلاً وهمياً، يرتدى القناع على وجهه، ويقوم بمهامه فى انقاذ ضحايا الثورة.

ومثلما كانت “بيلى بد، البحار” هى آخر ما كتب ملفيل، فإن فيكتور هيجو، انتظر حتى اقتربت حياته من نهايتها، وكانت روايته الأخيرة “93” وكان قد سبق أن نشر رواية “الرجل الضاحك”، عن الثورة، وقد ظلت رواية 1930، فى أدراج المؤلف سنوات، يكتبها بشكل متقع، ثم يضعها فى الأدراج، إلى أن انتهى منها، وهى تدور أيضا حول الأرستقراطيين  الذين انتقلوا إلى بريطانيا فى عام 1793، و اختار “الماركيز دولانتنس” انموذجا، الذى تبنى القيام بأعمال انتقامية ضد الثوار، فقاومه رجال الثورة وسعوا لتصفيته خاصة جوفين ابن أخيه.

نحن هنا أمام أنموذجين من البشر، الثوار، ورجال العهد القديم، هؤلاء يمثلون عند هيجو التقاليد الراسخة، ومقاومة المادية، وسمو الروح، أما جوفين فهو مؤمن بعالم جديد مادى، ملموس وهناك طرف ثالث يمثله سيموردان، وهو قس ينظر إلى الأحداث بحيادية، كما أن الأحداث تفرز أفكاراً عديدة، تتجسد فى أصحابها، كل منهم يؤمن بواحد من القادة الثلاثة، للثورة وهم “انتون، وروبسبير دمارا، وقد قال النقاد ان هيجو كتب عن الثورة المضادة ورجالها، وليس عن الثورة نفسها.

أغلب هذه الروايات وغيرها، ترجمت مرات عديدة إلى اللغة العربية فى سلاسل “روايات الجيب” والروايات العالمية، ومنها رواية “سكاراموش”، تأليف الكاتب البريطانى رفائيل سباتينى، المنشورة عام 1921، ورواية “الرجل ذو القناع” للكاتب دانييل ماهونى عام 1916.

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات