رَبَابُ (بابور الكاز) |قصة قصيرة بقلم د. إيمان بقاعي|

10:44 صباحًا الثلاثاء 17 يناير 2023
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية وكاتبة وأكاديمية، لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

أخبرَتْني جدّتي قالَت: حدثَ هذا قبلَ أربعينَ سنةً ونَيِّف

(1)

انتخابٌ ديمُقْراطِيٌّ

اجتمَعْنا في بيت جدَّة (ليلى) الملاصق لبيت زعيمة الأشْرار (رباب) نحن- عُصْبَةَ اسْترداد حقوق العلامات- المؤلفةَ مني أنا المدعوّة (ثلْجة) الّتي ولِدَتْ أيام الثَّلجة الكبيرة قبل أربعةَ عشَرَ عامًا، و(ليلى) و(ناديا) و(سُلَيْمى)- زميلاتي في الشّهادة الإعدادية وجاراتي في حيّ الضّيعة التَّحْتانيِّ، وانتُخِبْتُ أنا للمَهَمَّة الجليلة الّتي تحتاج إلى جُرأَة وقدرة على التَّمْحيص، فتدثَّرْتُ بمعطفي السَّميك الَّذي أهدتني إيَّاه جدَّة صديقتي (ناديا) الرُّوسيَّة، ولففْت فوق القَلَنْسُوة الّتي غطَّت أذنيَّ شال أمي الصُّوفيّ حول أنفي ورقبتي أحميهما من الصَّقيع المسائيّ، محاولة ألّا يصْدُر عني أيُّ حووووووووووووووووحْ!

 واجتزْت الرَّصيف بحماس، محمَّلَة بالأدعية الّتي ركّزَت على العودة المُظّفَّرة بسِرّ الأسْرار المخبَّإِ تحت عنوان: “مُراجعَة الرّياضيات” قُبَيْل الامتحان النّصفيِّ في بيت “زعيمة الأشرار”.

في الحقيقة،لم تكن (ربابُ) شريرة بالمعنى المتعارَف عليه والمألوف لتستحقّ لقَب “زعيمة الأشْرار”؛ بل كانت فتاة لطيفة، وديعة، هادئة، حَيِيَّة، إلَّا أن الشَّرّ الكامن فيها- كما توصَّل أعْضاء عُصبتِنا- كان يتمثَّل في أمرين اثْنَين: الأوَّل: أنها كانت قادرة على القبْض على كلِّ علامات الرّياضيات مِن دون أن تجْرُؤ واحدة على أن تفْلِت منها! أمّا الأمر الثَّاني، فلكَوْنِها كانت تكْتُم طريقة درسها كِتْمانًا عجيبًا؛ فكلَّما سألَتْها إحدانا عن الطّريقة، ارتبكَت واحمرَّت وجنتاها، وأجابَت متلعْثِمة:

  • عادي، عادي، أدرس مثلما تدرُسْنَ!

ولطالما أرّقَنا السُّؤال والجواب، حتى إنَّنا لم نستطع النَّوم في الأيام الّتي كانت تتلو توزيع العلامات، مُتَسائِلات في اجتماعاتِنا المكثّفَة المعقودة غالبًا في مطابخِ بيوتنا الحافلةِ بالطّعام اللّذيذ: 

كيف تدرسُ؟

لا ندري!

كم تدرسُ؟

لا ندري!

ولو كان بإمكانِنا وضعَ كاميرا متطوّرة مثلَ كاميرات اليوم تراقب تحركاتِها في بيتها ليلَ نهار، لدفعْنا كلَّ مصروفنا على مدى سنةٍ ثمنًا لواحدةٍ تنقُل إلينا سرَّها، لنفعل ما تفعل.

(2)

بوَّابَةُ بَيْتِ الشَّرِّ

وعند بوّابة بيت (رباب) الَّذي دعوناهُ: “بيْت الشَّرّ“، حيث تُطبَخ طريقةُ السَّطْو على العلامات بدقَّة، والّتي تُفتحُ على منزلٍ قرويٍّ  مُتواضع، ولكن واسع الأرجاء، يغطّيه قرميد أحمر يتحوَّل أيامَ البرد إلى أبيضَ ناصع، نادَتني (ربابُ) بصوتها العالي الرَّفيع من الدّاخل:

– شدِّي حبْلَ باب البيت الخارجيِّ، فيفتح يا (ثَلْجة)، ثم ادفعيه بقوة!

لم يكن الأمْر صعبًا، فمعظم بوّابات بيوت القرية “التَّنكيةِ[1]” المؤَطَّرة بالخشَب السَّميك كانت تُفتَح بهذه الطَّريقةِ من الخارجِ  بواسطة الحبل المربوط بـ “شَنْكَل” داخليّ حديديّ كبير  معقوف  يستقِرُّ  عند الإغلاق في نصف دائرة حديديَّة  مُوازية.

(3)

سِرُّ الأَسْرارِ

وعند باب غرفة الجلوس الكبيرة الكبيرة والمفروشة بالسَّجَّاد الصُّوفيّ الَّذي يغطّي كلّ أرضها الإسمنتيّة الملساء، باستثناء العَتَبَة المنخفضة  بمقدار درَجَة، والّتي تبلُغ مساحتها مترًا مربعًا واحدًا كانت العائلات تستخدمُها أيَّام البرد لتحميم الأطفال، وقفْتُ لحظات مُستكشفَةً المكان، ثمَّ دخلْت.

كانت (رباب) قد فرشَت كلّ كتب الرِّياضيات والدَّفاتر استعدادًا لدراسة “غير عادية”.

وجلْتُ  بنظري بسرعة كبيرة على الغرفة متسائلة، بيني وبين نفسِي، عن سرِّ الأسرار:

أهي المِساحة الكبيرة؟

أهي السَّجادة الصُّوفية؟

أهي ألْسنة النَّار المنبعثة من المدفأة؟

(4)

“البريمُوسْ” العَجِيبُ

ولم أنتبه إلا متأخرة إلى (بابورِ الكازِ)، أو ما كنّا نُسمّيه في زمانِنا: (البريمُوسْ)، نسبة إلى المدينة السّويدية الّتي اخْتُرِع فيها، وقد تربَّع وَسَط الغرفة فوق صِينيَّة نحاسيَّة سميكة، وعليه طَنْجرة ماء نحاسيَّةٌ أيضًا، كبيرة مليئة بماءٍ يغلي!

بابورُ كازٍ؟!!!

لم أعرف إن كان عليَّ أن أضحك وأنا أجلِس على طَرَّاحة  قُبالةَ (بابورِ الكازِ) بجانب الشّريرة، أم أبكي، بل رحْت أتساءل إذا ما كانت (رباب) قد قرأَت نوايايَ فأرادَت معاقبتي بطريقتِها الّتي اعتبرْتها خبيثة وقميئة إلى جانب كونها مؤقَّتة، لو لم تسارع فتلتفِت إلى (بابور الكاز) وتبرم أذنَه النُّحاسية الصَّغيرة المستديرة، فإذا بصَوْته ينخفض، وبناره تخِفّ، وبفقاعات ماء طنجرتِه تهدأ، فيتَّضح صوتها قليلًا حين تقول:

  • أنا أصغر أفراد عائلة تزوَّجَت الأُسبوع الماضي آخرُ بناتها. وقد اعتدْتُ- مذ كنْت طفلة- على الدِّراسة في هذه الغرفة الكبيرة، وسطَ تسعة إخوة وأخوات أصواتُهم كانت أعلى من صوتِ هذا البابورِ؛ لذا….

وصمتَت (رباب)،  فلم أستطع إلَّا أن أفتح فمي على وسعِه وأشهق صارخة بأنفاس مبهورة:

  • لا!

فقالت الفتاة وقد لوَتْ رقبتَها باستسلام:

  • بلى!

وعدْت لأتأكد من اعترافاتِها:

  • أمعقولٌ؟

أجابت بحزمٍ:

  • ولا أستطيع حفظ جملة واحدة من موادِّ الحفظيّات، أو حلَّ مسألة واحدة من الرّياضيّات أو الفيزياء والكيمياء من دون أن يرافقَني صوتُه؛ فصوتُه مرتبط عندي بالتّفكير، كلِّ تفكيرٍ.

ولم أدرِ وسط ذهولي كيف طرحْت سؤالًا سخيفًا لا يساعدُني جوابُه في اكتشاف السّرّ الَّذي كُلِّفْتُ بالبحث عنه، ولا يهمّني أنْ أسمع جوابَه:

  • وماذا لو تعطَّل يومًا؟
  • عندنا (بابورُ كازٍ) غيره، أستعملُه ريثما يمرّ “السَّمْكَريُّ” مصلِّحُ البوابير المتجول بين البيوتِ، مناديًا بصوتِه….

قلْت وأنا أحاول الخروج من الصَّدمة بإلقاء دُعابة سخيفة:

  • بصوته الرَّخيم!!!

ولم تعترض على وصْفي، بل تابعَتْ بصوت جادٍّ:

  • تعرفينَه.

أجبْت بابتسامة صفراء:

  • نعم! أسمع أغانيه، وأحبّ أغنيتَه المميزةَ: (مُصَلِّحُ بوابيرِ الكااااااااز، مُصَلِّحُ بوابيرِ الكااااااااز).

(5)

الطّريقةُ السّويْدِيةُ

ورحْت أغنّي العبارة ممطوطةً مرّاتٍ كانت كافية لتتيح لي فرصة النّهوض ولبس كلِّ ما خلعْت من ثيابٍ منذ دقائق معدودات، والعودة إلى بيت جدَّة (ليلى) حيثُ ينتظرُني أعضاءُ العُصبَةِ على أحرّ من الجمر في المطبخ الَّذي تفوحُ منه رائحة الكعك باليانسون الَّذي تعدُّه الجدة لنا، قائلةً لهنَّ بعدَ أن ساعدْنَني في نَزْع ملابس التّجسس وقدمْنَ لي الشّاي السّاخن  مع الكعك وفي عيونهن يسكن كلُّ انتظار العالم:

  • اسمعْنَ يا فتيات، لا أستطيع أن أقول- رغمَ عودتي السّريعة من مَهَمَّتي المكثَّفة- إنني لم أحقِّق الهدف الَّذي ذهبْت من أجلِه؛ بل وصلْتُ إلى نتائجَ مُهمّةٍ لنا نحن غير الموهوبات في الرّياضيات: إما أن  نكتفي بعلامات الرِّياضيات القليلة الّتي نلملمُها مِن هنا وهناك، وهذا ما يُسمّى: القناعةُ، أو نلتحق بدورة رياضيات كما تفعل بقية فتيات الصَّفّ، وهذا ما يُسمّى: المَنْطِقُ، أو تستخدم كلُّ واحدة منَّا في غرفة درسِها، على غرار عزيزتِنا الّتي أتممْتُ عملية تجسسي عليها على خير ما يرام: الطّريقةَ السّويدية! 

[1] – معْدِن أبيضُ يُسْتَخْرَج مِن الحديد الْمَمْزُوج بِالقَصْدير، يستخدمُ كأوعية لحفظ البنزين أو الزّيت ونحوهما، وقد تصنع منه الأبوابُ.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات