ثنائية الذات والعالم في تجربة البدوي الشعرية

12:51 صباحًا السبت 1 أبريل 2023
عزة أبو العز

عزة أبو العز

كاتبة وناقدة من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

لو تصفحنا دواوين الشاعر والإعلامي ( زينهم البدوي ) الشعرية سنجد أنها لا تخلو من تلك الثنائية الإيجابية (ثنائية الذات والعالم) وأطلقت عليها الثنائية الإيجابية لأن معظم أشعاره لا تخلو من القيمة المعرفية الخلقية وهذا جناح مهم من جناحي الثورات الحقيقية التي تعتمد على ثورة العلم والمعرفة الخلقية في شق منها والشق الآخر يعتمد على ثورة العدد والضخامة.

ولا يظن قارئ هذه السطور أنني خرجت عن السياق الشعري بالعكس رؤيتي لتجربة الشاعر زينهم البدوي وما حملته من رسائل في الدواوين الثلاثة  ( عبير من الفردوس ، من وحي المرارة ، تباريح الغروب والرحيل ) ومن خلال متابعتي لسيرة الرجل الذاتية ومسيرته المهنية تجعلني أُقر بثقة كبيرة أنني أمام ذات إنسانية توافر لها جملة من المفردات والميزات جعلتها لا تكتفي بالانكفاء على الذات، بل خرجت بنفسها وبإبداعها من الحيز الذاتي المحدود إلى الحيز العالمي الكوني اللامحدود.

ولو رجعنا لأفكار كبار المصلحين الإصلاحيين في العالم من (كتاب ومفكرين وفلاسفة) لوجدنا فكرة الخروج من حيز الذاتية إلى آفاق العالمية هي المسيطرة عليهم، ولنا في سيرة وأقوال سيد الخلق – سيدنا محمد – عليه الصلاة والسلام أفضل مثال، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” فالدعوة هنا رغم كونها ذاتية وهو المسؤول عن إبلاغها من أجل هدف أسمى وهو إتمام مكارم الأخلاق أي للعالمين كافة، وهنا انطلاق من الذاتي إلى العام، ولو تابعنا مسيرة الفيلسوف البريطاني برتراند راسل ذائع الصيت والذي تناول في كتاباته كثيرًا من القضايا الاجتماعية والسياسية، وكان من دعاة السلام طوال حياته سنجد أنه حرص كل الحرص على ضرورة ارتباط العلم بالأخلاق وهو ممن طالبوا  بميثاق أخلاقي للعلم، وعلى المستوى العربي في عصرنا الحديث لدينا النموذج الأبرز الدكتور مصطفى محمود الذي صال وجال بعقله بين كثير من الأفكار والتشكك والنظريات العلمية، ثم استقر به المقام إلى ضرورة ربط العلم بالإيمان.

إذن علمنا التاريخ أن الأعمال العظيمة والأفكار السديدة هي تلك التي يعمل أصحابها بكل جد واجتهاد على أن تخرج أقوالهم وأفعالهم من حدود الذاتية الضيقة إلى رحابة العالمية الواسعة لتعم الفائدة، حتى على مستوى الفطرة الإنسانية فلو وضعنا في الحسبان أن الإنسان   (كائن حي اجتماعي يصعب عليه العيش منعزلًا)  لأدركنا أنه لا تكتمل لهذا الكائن الحي الراحة والاكتمال إلا بشعوره بالحياة وسط جماعة وليس منعزلًا.

قد يسألني البعض وهل الشاعر ينطبق عليه هذا الطرح وهو ضرورة خروج إبداعه من الحيز الذاتي للحيز العالمي؟

 أقول أليس الشاعر بإنسان؟

 أليس الشاعر صاحب أكبر ملكة شعورية تمكنه من الشعور والإحساس بكل ما حوله في المجتمع بصورة تفوق غيره من بني البشر؟

 أليس للشاعر وللشعر رسالتهما المجيدة والتي من أجلها يجب أن يسعيا لإيصالها إلى العالمية؟

 من هذا المنطلق وجدت تلك الثنائية الإنسانية المدهشة ” ثنائية الذات والعالمية في تجربة زينهم البدوي  الشعرية”.

 وهذه بعض الأمثلة التطبيقية لتأكيد رؤيتي حول تلك الثنائية :

ثنائية الذات والعالم في تجربة البدوي الشعرية

” ديوان من وحي المرارة”

تمثل معظم قصائد ديوان ” من وحي المرارة” دلالة ساطعة ونقطة تماس ما بين العام والخاص في تجربة زينهم البدوي الشعرية.

ولو نظرنا لوظيفة الحرف من وجهة نظر البدوي في قصيدة “أعباد أم عبيد؟ ” في ص ١٣ سندرك مدى الدور الفاعل للحرف ومن ثم  للشاعر في تغيير ما حوله من سلبيات البشر، فهو يتساءل وسنجده دائمًا أميل إلى صيغة  السؤال، وهي طبيعة أصيلة في المبدع الحريص على فعل التغيير، فالشاعر يقول في تعجبٍ :

 أعِبادُ تظاهروا لعيوني

 أمْ عبيدُ في هيئةِ الأسيادِ؟

 حرِّكيهمْ يا أحرُفًا تتسامى

 عن جُمودٍ و ذِلةٍ و رُقادٍ

وأجد في البيتين الأخيرين نوعًا من مثالية المكون اللغوي النابع من المنهجية الفكرية للشاعر، فكما هو معروف نقديًا أن مقاصد اللغة تتشكل بناء على المنهجية الفكرية والشاعر يعرف وجهته جيدًا ويدرك حدود ومنطلقات منهجه الفكري بجلاء تام بل ويعرف وسيلة التغيير لديه وهي اللغة الشاعرة.


الشاعر والإعلامي زينهم البدوي والناقدة عزة أبو العز

ومازلنا في رحاب الكلمة الذاتية المنطلقة بسرعة صاروخ صاعد بقوة دفع ذاتية مصدرها” صدق العاطفة وقوة الهدف” ، فنجده في قصيدة سبحة في عيلم الشعر في ص ١٨ يتحدث مرة أخرى عن ماهية الشعر ودوره الفاعل بين الخلائق،. فيقول :

فما الشعرُ إلا نسيمُ سرى

 ليبعثَ في الأفقِ فحوَى شَذاهْ

 نِداءُ يُدوي بخير الوَرى

 تُرى مَنْ سيفقهُ معنى نِداهْ

 ***

 وبصفة عامة فإنني أعظم تلك الثنائية الإيجابية (ثنائية الذات والعالم) في ديوان من وحي المرارة تحديدًا لما لمسته في الديوان من اتساق ووضوح المنهج الفكري للشاعر مع فكرة قلق المبدع بشكل خاص والقلق الإنساني بشكلٍ عام، وأحالتني قصائد البدوي في ديوانه إلى ما ورد في كتاب الدكتور محمد إبراهيم الفيومي عليه رحمة الله حول (القلق الإنساني مصادره تياراته علاج الدين له) الصادر عن دار الفكر العربي عام ١٩٨٥م، وفي ص ٢٥ من الكتاب يذكر تحديدًا :

” إن المدارس الفلسفية على اختلاف ألوانها وتباين مناهجها تعبير عن رغبة الإنسان في تأمين نفسه من مشاعر الغربة التي انتابته من متاهات هذا الكون”

 وقد يتساءل قارئ هذه السطور، وهل يسعى البدوي في قصائده لتأمين نفسه من مشاعر الغربة التي انتابته من متاهات هذا الكون؟

 وإجابتي : ” نعم” بل ووجدت مسوغًا إضافيًا في الديوان يتفق مع ماورد في الكتاب سابق الذكر من طرح لقيمة الدين وضرورته في بناء الشخصية الإنسانية، ومع ما أشارت إليه الحكمة اليونانية :” اعرف نفسك بنفسك” ولطالما سمعتها من البدوي نفسه في حواراتنا الممتدة تجري على لسانه تحت عنوان ” المرء طبيب نفسه”،

وأمثلة اتكاء القصيدة عند البدوي على القيم الدينية (كثيرة وبارزة ودالة) منها على سبيل المثال :

– قوله في قصيدة ” أبا الأحلام” في ص ٢٣.

 ومن يخضع لغير الله ذلا

 سقاه الله من خمر التردي

 ويأتي بعد ذاك يقول : ربي

 يقول الله : بئس العبد عدي

– ونجد قوله في ختام قصيدة ” الشيطان الأخرس ” ص ٥٣

 فمهما كنت يا صمت

 سيبقى الحق مطلوبا

وهو يرتكن هنا لقول : الساكت عن الحق شيطان أخرس.

ونجد في قصائد (بئس الأقوال، المجد والذئاب، بلا جدوي) النموذج الصارخ للواقع الضاغط على الذات الشاعرة من سلبيات مما يجعلها تسخر من واقعها الفعلي ومن ناسه في رسائل تصلح لأن تردد في كل الأزمنة والأمكنة في المواقف المشابهة، ولنا مثال واضح في قصيدة ” المجد والذئاب” ص ٣٩ :

 أيعقل أن يساق المجد يومًا

لمن أوتوا الغباء بلا حساب

ذئاب إن رأوا في الأرض كلبًا

أسود لو نأى طيف الكَلاب.

* تزداد سعادتي عندما أضع يدي علي قصيدة في الديوان تحقق لي مقاصدي من فكرتي المطروحة، وجاءت قصيدة ” لله في قومي شؤون” في ص ٦٥ من الديوان محملة بالكثير من ملامح ثنائية الذات والعالم في قصيد زينهم البدوي ، وسر استحساني لهذه القصيدة يكمن في :

 أولًا :استهلاله بمفتتح ذاتي ينم عن رغبة صادقة في العدل المطلق حتى لو تعرض هو نفسه لظلم ما، فهنا الذاتية تفر من الثنائية السلبية وتلوذ بالثنائية الإيجابية في رغبته الكاملة بأن يسود العدل كل الربوع بقوله :

 أنا إن ظلمت فلست أبغي..

 العَدلَ في ظُلْمِ الجَميعْ

 بَلْ أبتَغي عَدلًا يَسودُ..

 الناسَ في كل الرُّبوعْ

 ثانيًا : وصفه فيها لملامح هذا العدل المنشود الذي يتساوى فيه الكبير والصغير، ولا فرق فيه بين صاحب المكانة الرفيعة وعامة الناس.

فقال :

 عدلًا يُضيئُ سبيلهم

بضياء حق لا يضيع

لا فرق بين كبيرهم..

في السن أو طفل رضيع

لا فرق بين أولي الثرى

أو صاحب الشرف الرفيع

كل سواء عنده

ذو الجاه والعبد الوضيع

 ***

ثالثًا : حرصه على مخالفة ما هو سائد وأن يستبدل به  ما هو حق.

فمن المتعارف عليه القول المأثور المساواة في الظلم عدل، يخرج الشاعر في قصيدته عن هذا العرف ويفضل أن تكون المعاملة خاضعة للعدل المطلق حتى لو كان هو من وقع عليه الظلم ويذكر ذلك في قوله :

 قالوا بأن الظلم عدل..

إن سرى في المرغمين!

 ما دام يطوي الجمع تحت ..

جناح ذل مستكين

وأقول إن الحق حق

والرؤى غير اليقين

 ***

 رابعًا : جمع الشاعر في هذه القصيدة حزمة من الصور المتناقضة التي أظهرت بفجاجة واضحة مدى الخلل في الرؤية عند (الأدعياء والمنافقين وأصحاب المصالح) وهذه ظاهرة موجودة في كل زمان ومكان متى وجدت هذه الفئة الضالة المضللة، فهم يسيرون ويدورون وفق هواهم كما تدور زهرة عباد الشمس إلا أنهم لايبصرون ضوء الحقيقة وداروا في متاهات الظلام.

وقد نجح الشاعر في إظهار وتصوير بشاعة ضلالاتهم بقوله :

 كم صفقوا لما رأوا

سيفًا لجبارٍ خؤون

لا يرتضي لسواه حقًا..

في الحياة بلا ديون

هتفوا بصوت أحمق :

 أنت المنى، أنت الأمين

مدحوا ظلامًا حالكًا

ما أبصر النور المبين

وجنوا على نور سرى

في الأفق وضاح الجبين

 ***

 ويختم كعادته بختام قوي دال على شدة الظلم وانعدام الرؤية عند هؤلاء بصياح الأرض بأنينها قائلة :

 لله في قومي شؤون

 وهذا الختام يحمل تأويل اشتراك الذات الشاعرة والأرض معًا في صرخة الأنين.

* وفي قصائد:

 (الجبن رخيص، الناس نيام، هون عليك) صرخة أنين من الذات الشاعرة المتألمة من واقعها الضاغط مختل المعايير، والشاعرة بالأسى والمرارة ومع ذلك فهي لم تفقد وعيها بالقيمة وقدرتها على الفرز بين الأشياء والناس ومواجهتهم بحقائق الأشياء وصحة مسمياتها على الوجه الصحيح.

* ثنائية الذات وقضايا الواقع الآني

 مثله مثل كل مبدع صاحب رسالة لا تنفصل الذات الشاعرة عن قضاياها المعاصرة، وها هي قصيدة متى نفيق؟ في ص ٧٧ من الديوان تثبت أن رسالة زينهم البدوي الشعرية ليست مقصورة على ذاته  أو حدود وطنه ، بل خرجت وفق رؤيته العامة لقضايا أمته ككل، وقد عبر عن هذه الرؤية بشجاعة ودون مواربة، بدأت بسؤال العنوان اللافت الذي جاء كجرس إنذار ولفت الانتباه لدى القارئ بقوله : متى نفيق؟ وطبيعي أن يمنحه المتابع أذنه وانتباهه سائلًا إياه من أي شيئ نفيق؟

 فيرد في حوار افتراضي

الآن أدركت الحقيقة

دون زيف أو ستار

الآن يا عقلي رأيت..

الشمس في وضح النهار

لننتبه مرة أخرى أن الذات الشاعرة وجهت السؤال لنفسها وليس لنا فخرجت بنا من فكرة الوصاية والتوجيه لفكرة جلد الذات بمواجهة الحقيقة، فتمنحنا مساحة أكبر من الالتفات لها وسماع صوت تساؤلاتها المشروعة، فتضعنا تلك الذات الشاعرة فجأة أمام أنفسنا، لنطرح نحن أيضًا أسئلة ذاتية ربما تمثل لنا ألمًا ذاتيًا أكبر من ألم تساؤلاتها.

وبسلاسة وهدوء ترمي الذات الشاعرة بمقذوفها الأول في وجوهنا عبر القصيدة بقولها :

 أنا لست مخدوعًا كغيري

 لم يعد عقلي يحار

 وطبيعي يسأل القارئ نفسه، وهل أنا المخدوع؟

 ليجد الذات الشاعرة تصوب صيغة الحوار لمن يتابعها بقول : فاسمعوا مني القرار :

 ثم تفند ما آل إليه حال الشرق بقولها الصريح المباغت :

الشرق؟ .. كان الشرق يومًا..

في أشعته منار

لكنه أضحى كسيحًا..

في سُباتٍ واحتضارْ

ألقاه في الأهوال ليلُ

من جحيم واستعارْ

* ثم يشد انتباه القارئ مرة أخرى بسؤاله :

 أتُرى يصان لديه عقل..

دون قيدٍ أو حِصارْ؟

 ويقسم في ختامه البديع

تالله لن يحظى برفقٍ..

عٍندَ عُشاقِ الدَّمارْ.

*وفي قصيدة أخي ص ١٢٣في الديوان تتمثل أمامي ثنائية الذات وحلم الإنسانية العام، ففيها تستحث الذات الشاعرة الأخ على المبادرة بفعل الخير في شتى صوره، وعنوان أخي عنوان يحمل في طياته درجات الأخوة بداية من أخ العصب حتى أخ الإنسانية لتكتمل بهذه القصيدة المفعمة بالإنسانية دائرة الرؤية من ذات شاعرة ظلت مهمومة ومشغولة في دواوينها الثلاثة بفكرة الهم العام والرغبة في التغيير للأفضل، وظلت تصدح عبر القصيد بدعوة (الحق والخير والجمال) ليس على طريقة شعراء المدن الفاضلة الافتراضية عبر القصيد فقط، بل رأت أن هذه الدعوات الإصلاحية ما هي إلا مكون رئيس من مكونات الشخصية السوية المؤمنة بفكرة أن الدعوة لقيم الحق والخير والجمال هي دعوة أخلاقية ودينية في الأساس، وأن الرؤى الإصلاحية الكبرى ضرورة ومكون فاعل في رسالة الشاعر صاحب الرؤية الإصلاحية، لذلك عدد الشاعر في القصيدة ملامح حلم الإنسانية بعدة دعوات مآلها كله خير، لأن الدعوة في القصيدة ليست دعوة شاعر حالم بعالم أفضل ، بقدر ماهي دعوة من رب العباد للفوز بخير زاد في الدنيا والآخرة.

وقد ختمها الشاعر بقوله :

 وما أنفقت من خير

سيبقى عند باريك

فنعم الزاد في الدنيا

ويوم الهول ينجيك

فبادر يا أخي هيا

إله العرش يدعوك

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات