حَانَ وقْتُ الحِكايَةِ | الحكايةُ 11 | كَسَّارُ الزَّبَادي

12:30 صباحًا الأحد 2 أبريل 2023
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية لبنانية، أستاذة جامعية متخصصة في الأدب العربي وأدب الأطفال والناشئة، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

د. إيمان بقاعي |ثلاثون حوارية منقَّحة ومزيدة أبطالُها: حفيدٌ وجدّتُه وجدُّه

 [إهداء: إلى كل من لم يتسنَّ له سماعها مُمَثَّلةً عبر أثير إذاعة القرآن الكريم- دار الفتوى في بيروت – 2019]

(أ)

سامي: جدّو عزيز! على سيرةِ شطيرةِ اللَّبَنَةِ، صححْتَ لي مرةً اللَّفظةَ بعد أن لفظتُها (اللَّبْنَةَ)، ولم توضِحْ لي السّببَ، رغمَ أنني لم أنسَها، بل نشرتُها بينَ أصدقائي كلِّهِم، وهم نشروها بينَ إخوتِهم وآبائِهم. 

الجدّة (ضاحكة): أخبرْهُ يا جدو عزيز، أخبرْهُ!

الجدّ: سأخبرُكَ قصتي التي تحبُّها جدتُكَ مع جدي- مفتشِ اللُّغةِ العربيةِ- (رحمَهُ اللهُ).

سامي والجدّة: رحمَهُ الله!

سامي (مهتمًّا): أكانَ جدُّكَ يا جدي مفتشَ اللُّغةِ العربيةِ فعلًا؟

الجدّ (بصوتٍ بطيء مليء بالاعتزاز): طبعًا! وقد أعدَّ كثيرًا من كتبِ اللّغةِ العربيةِ لطلّابِ المدارسِ والجامعاتِ. كما أعدَّ مُعجَمًا لغويًّا قيّمًا سأطلعُكَ عليهِ عندما تكبرُ قليلًا، وأخبرُكَ الفرقَ بينَهُ وبينَ المعاجمِ الموجودةِ في السّوقِ.

سامي (بدهشة): كم يسرُّني أن أعلمَ أنَّ أحدَ أجدادي لغويٌّ مشهورٌ.

الجدّة: لو لم يكنْ كذلكَ، ما عرفْتَ اللَّبَنَةَ ولا غيرَ اللَّبَنَةِ!

سامي (بإصرار): أخبرني يا جدو عزيز!

الجدّ: كيفَ أبدأُ؟ كيفَ أبدأُ؟

الجدّة: أنا سأبدأُ، أتسمحُ لي يا جدو عزيز؟

الجدّ: طبعًا! تفضلي!

(ب)

الجدّة: نزلَ جدُّكَ على بيتِ جدِّهِ ضيفًا، وكانَ في مثلِ عمرِكَ.

الجدّ (شاكرًا زوجته): بدايةٌ موفَّقَةٌ لحكايتي.

الجدّة (بفخر وتهديد معًا): حسنًا، تابعْ؛ ولكنْ على المستوى ذاتِهِ من جودةِ القَصِّ.

سامي (يضحك): من دونِ تيتا مُهيبة لا حكاياتٍ تُحكى!

الجدّة (تدَّعي العدالة): لا حكاياتٍ تَبدَأُ، فالحكايةُ يرويها جدُّكَ، وإنْ بدأتُها أنا بهذهِ البراعةِ. 

الجدّ (يتنحنح): نعم، شكرًا لكِ!

سامي (بتحدٍّ): هاتِ أخبرْنا حكايتَكَ يا جدي!

الجدّ (ضاحكًا): نزلْتُ على بيتِ جدِّي ضيفًا، وكنتُ في مثلِ عمرِكَ، فحضَّرْتُ مع جدتي الطَّعامَ، وجلسْنا مع جدي على طاولةِ المطبخِ الخشبيةِ الزَّرقاءِ الكبيرةِ لتناولهِ.

الجدّة: أرأيتَ يا سمسومةَ قلبي؟ استخدمَ جدُّو عزيز البدايةَ ذاتَها.

سامي: طبعًا.

الجدّ: وكان الطَّعامُ مؤلفًا من: الشَّايِ، الجُبْنِ، المُربَّى، الخُبزِ، والبيْضِ المسلوقِ. وكان- يا سامي- كلُّ شيءٍ قريبًا مني إلا الخُبزَ، فمددْتُ يدي لتناوُلِهِ فلم تصلْ. ولمَّا لم تنتبهْ جدتي لِحاجتي إلى الخبزِ، قلْتُ لها: جدتي! أريدُ شَقْفَةَ خُبزٍ”.

سامي: نعم!

الجدّ: نعم؟ مع جدي، لا يمكنُ أنْ تمرَّ الكلماتُ بهذه البساطةِ، إذْ سرعانَ ما نظرَ إليَّ نظرةَ استنكارٍ، وقالَ لجدتي بتحدٍّ: “لا تعطِهِ شَقْفَةَ خُبزٍ يا مريم”!

فسألتُهُ ممازحًا: “وبمَ آكلُ اللَّبْنَةَ والجُبْنَ إذن”؟ 

فقالَ عابسًا: “قُلِ اللَّبَنَةَ… فاللَّبَنَةُ هي اللَّبنُ المُصفَّى”.

الجدّة: وسأله جدُّكَ: “وبم آكلُ اللَّبَنَةَ والجُبْنَ إن لم أحصُلْ على شَقْفَةِ خُبزٍ يا جدي”؟

فأجابني: “بشَقَفَةِ خبزٍ، لا بشَقْفَةِ خبزٍ”.

سامي يضحك: اللَّبَنةُ، وشَقَفَةُ؟

الجدّة: اسمعْ يا سامي!

(ت)

الجدّ: وراحَ جدي يقص عليَّ قصةَ (الشَّقَفَةِ)، فقديمًا كان يقالُ: شَقَفَةٌ من الإبريقِ الخزفيِّ المكسورِ، ثم أُطلقَتْ كلمةُ الشَّقَفَةِ على القطعةِ من كلِّ شيءٍ كالنَّسيجِ، والورقِ، والخشبِ، والخبزِ.

ولما كنتُ جائعًا جدًّا، قلتُ لجدي: “آه… رائعٌ جدًّا يا جدي، ناولْني، إذن، شَقَفَةَ خبزٍ لآكلّ اللَّبَنَةَ.

سامي (يضحك): أعتقدُ- يا جدو عزيز- أنكَ رجعْتَ إلى بيتِ والدَيْكَ قبلَ أن يحينَ موعدُ الغداءِ، فالمائدةُ وقتَها أكبرُ وأكثرُ تنوّعًا وأخطاءً لغويّةً.

الجدّة (ضاحكة): بل بقيَ، وكانَ مسرورًا هو يسمعُ عن جمعيةِ (كَسَّارِ الزَّبادي).

سامي (مستغربًا): جمعيةُ (كَسَّارُ الزَّبادي)؟

الجدّ: نعم: الكَسّارُ يعني: كثيرَ التَّكسيرِ، وهنا يُقصَدُ بهِ الطّفلُ الذي يوصِلُ الطَّعامَ بالزَّبادي الزُّجاجيةِ من المطاعِمِ إلى البيوتِ أو المحلاتِ إنْ وقعَتْ منهُ وانكسرَتْ وتناثرتْ شَقَفاتُها.

سامي: ولماذا يكونُ طفلًا لا شابًّا؟

الجدّة: لأنَّ الأطفالَ كانوا يعملونَ في عطلةِ الصّيفِ بأعمالٍ سهلةٍ؛كتوصيلِ الطَّعامِ أو في المهَنِ كالنَّجارةِ مثلًا، فلا يقضي الطّفلُ شهورَ الصَّيفِ في اللّعبِ غيرِ المُجدِي، بل يتعلمُ كيفَ يكسبُ مصروفَهُ أو يتعلمُ مهنةً مستقبليةً.

سامي: فهمتُ!

الجدّة (تتابع):  أما الزَّبادي، فجمعُ (زُبديةٍ)، وهي: وعاءٌ من الخزَفِ المحروقِ المطليِّ بالميناءِ، يُخَثَّرُ فيها اللَّبنُ، وأطلِقَتْ فيما بعدُ على كلِّ وعاءٍ زجاجيٍّ خزفيٍّ للّبَنِ أو لغيرِ اللّبَنِ.

سامي: شكرًا يا جدتي، ومنكِ نستفيدُ! 

الجدّ: وبما أنَّكَ “استفدْتَ” من معلوماتِ جدتِكَ…

الجدّة (مدعيةً الخجلَ): لا، العفو!

الجدّ (يكمل من دون التَّعليق على قولها: العفو): أخبرَني جدي أن جمعيَّةً خيريَّةً إنسانيَّةً أُقيمَتْ في دمشقَ في حيِّ (القَيْمريَّةِ) تُدعى جمعيةَ (كَسَّارُ الزَّبادي) منذُ أكثرَ من ستينَ عامًا. وكانَ من أهدافِها: إبدالُ أيَّةِ (زُبديَّةٍ) بجَديدةٍ  ريثما تُصْلَحُ المكسورةُ، إنقاذًا للعمالِ الأطفالِ الذين يكسرونَ الزّبادي، فكانَ الولدُ يلُمُّ الشَّقَفَةَ المكسورةَ، ويسارعُ إلى هذه الجمعيةِ يعطيها الزُّبديةَ والشَّقَفَةَ المكسورةَ ويعودُ بواحدةٍ جديدةٍ إلى مطعمِ معلِّمِهِ من دونِ أن ينالَ عقابًا.

سامي: غريبةٌ وجميلةٌ وإنسانيّةٌ تلكَ الجمعيةُ يا جدي.

الجدّ: هذا بالضّبطِ ما فكرتُ به عندما أخبرَني جدي عنها، حتى كدتُ أنسى اللّبَنَةَ والشَّقَفَةَ اللَّتينِ كانتا السَّببَ لقَصِّ قصةِ جمعيةِ (كَسارِ الزّبادي).

الجدّة: ما أجملَ الشَّفَقَةَ التي تجبرُ كَسْرَ الشَّقَفَةِ!

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات