ترى من هم الذين “ما يراوش”؟!

07:07 مساءً الجمعة 21 يوليو 2023
خالد سليمان

خالد سليمان

كاتب وناقد، ،مراسل صحفي، (آجا)، تونس

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

– كما قال “هيراقليطس” منذ قرون “أنت لا تسبح في نفس النهر مرتين” و كذا المسرح الذي يبقى في حالة تجدد مستمر عبر الثواني واللحظات لذا ” كتب للمسرح الخلود لأنه يولد و يموت في نفس اللحظة .. ليبعث من جديد ” ..

و تجدد المسرح الدائم يعود إلى “المختبر المسرحي” حتي قبل أن يولد هذا المصطلح و ” المختبر المسرحي ” يرتبط شرطيا بالتجريب الذييتلازم حتما مع الحداثة كما هو مذكور في كل معاجم المسرح .. ، و لا شك أن ” التجريب ” الذي يجري في المختبرات المسرحية ليس سوىمحاولات لإبتكارات إبداعية جديدة على كافة الصعد المرتبطة بالفن الرابع .. لا تلبث إلا أن تصبح مع مضي الوقت إلى جزء من كلاسيكياتالماضي و هكذا دواليك .. 

و تطور الفن الرابع عبر المختبرات و محاولات التجريب المتلازم مع الحداثة عظم من دور الفن التشكيلي في الحالة المسرحية بشكل عام وكان للمدرسة التكعيبية دورا ملموسا في هذا الصدد .. ، أما عن تاريخ المختبرات المسرحية التي بلورت تلك المفاهيم فهو معلوم بالضرورة فيكل المؤلفات التي تعرضت لدراسة الفن الرابع إلى حد أنه يمكن القول أن ذلك التاريخ ملقى على قارعة الطريق .. فمن منا لا يعرف “أندريهأنطوان” ، و “ستانسلافسكي” ، و “راينهارت” ، و “إدوارد أوتان” و قرينته “لويز لارا” ، و “جروتوفسكي” .. على سبيل المثال لا الحصر وطبقا للترتيب التاريخي .. 

بيد أن تاريخ المختبرات المسرحية عربيا يعد مجهولا إلى حد ما إذ لا يعرفه إلا المختصين المدققين .. و لا يفوتنا ذكر أمثلة ممن ناضلوامسرحيا في هذا المضمار و كان من أكثرهم تأثيرا و حيوية في الميدان المرحوم “عبد الرحمن عرنوس” من مصر .. و الذي ترك ورائه قبائلمن المبدعين في مصر و الأردن من خريجي جامعة اليرموك و جلهم أسماء كبيرة اليوم كالمخرج ” حكيم حرب” ، فيما كان المخرج المصريالكبير “سمير العصفوري” يؤسس لترسيخ أجيال جديدة في مسرح الطليعة .. و قد ظهرت أسماء كبيرة من المخرجين مثل المبدع الراحل”محسن حلمي” ، و “عصام السيد” ، “ناصر عبد المنعم” ، و “إنتصار عبد الفتاح” ، و “حسن الوزير” ، و “أحمد هاني الميهي” ، و”محمد الخولي” ، و “صبحي يوسف” .. و غيرهم ، و من العراق الفنان القدير “د/صلاح القصب” مد الله في عمره ، و من تونس “توفيقالجبالي” ، و “فاضل الجعايبي” ، و المرحومين  “عز الدين قنون” .. و  “رجاء بن عمار” و رفيق دربها “المنصف الصايم” أطال الله بقائه ،و في سياق متصل بالحالة التونسية و رواد التجريب فيها خاصة على مستوى الكتابة .. لا يفوتنا ذكر الكاتب الكبير “عز الدين المدني” وسعيه لإستئناف التراث من خلال قوالب و صياغة مبتكرة .. ، و من المغرب ظهرت التجارب الأولى للمرحوم “الطيب الصديقي” .. ، و من جيلالشباب “بوسلهام الضعيف” .. ، و في الخليج التجارب الهامة لفرقة “مسرح أوال” و مخرجين مثل “عبد الله السعداوي” ، و ” خليفةالعريفي” ، و من الإمارات “عبد الله المناعي” ، “محمد العامري” ، و من الكويت “سليمان البسام” ، و على الرغم من تلك الأسماء التيتبدو كثيرة إلا أنه يمكن القول أن تجربة المختبر المسرحي لم تترسخ عربيا كما ترسخت في الغرب و آسيا ..

– كان لابد من مقدمة ضافية للولوج إلى رحاب عمل هام على كافة الصعد الجمالية للفن الرابع و هو العمل الذي قدمه المخرج التونسيالقدير “محمد منير العرقي” عرض “ما يراوش” و هي تعني باللهجة التونسية “لا يبصرون” .. المأخوذة عن نص “العميان” للكاتب والشاعر والكاتب الصحفي البلجيكي “موريس ماترلينك” الحائز على جائزة نوبل في الأدب في عام 1911 ، و كتابات ” موريس بوليدورماري برنار ماترلينك” المعروف أيضا ب “الكونت ماترلينك” تحمل روافد روحية صوفية ملهمة لمن يملك القدرة على التماهي مع البعدالإسطوري المسقط على الواقع لكتابات “ماترلينك” ليعيد تشكيله و ربما صياغته الفنية ليصبح تنويعة على الفكرة الأساسية تكملها أوتضيف إليها بعدا جديدا .. و ربما أصبحت مولودا مستقل بذاته لا يحمل الكثير من الملامح الأساسية لأصوله ..

و يقوم عمل المختبرات المسرحية على المخرج الذي يقوم بتوظيف عناصر العرض في المساحة المخصصة للفعل الدرامي و أهم تلك العناصربطبيعة الحال هي الممثل الذي يقوم بالتشخيص ، و في حالة تقديم عرض مسرحي و ليس مجرد تمارين يصبح “النص” هو ‘المتن” الذييربط بين تلك العناصر المحمولة على ظهره إن جاز التعبير ..

– في العرض المسرحي العرائسي للكبار “ما يراوش” يبدو جليا الدور المركب لمخرج العمل “محمد منير العرقي” .. ،  صحيح أنه لا قياملعرض بدون المخرج المسئول عن بنائه و تنظيمه بالكامل .. لكن “الدراماتورج” يمثل واضع الأساس الذي يحمل عليه العرض المسرحيبالكامل .. و من قام بتلك الصياغة هو مخرج العمل “منير العرقي” الذي يمكن القول بأنه قد إنطلق من الفكرة الأساسية لنص “موريسماترلينك” إلى أفاق تختلف في خصوصيتها و ربما في نظرتها حتى للمفاهيم المجردة ..

– “مايرواش” في التكية أم في الكهف :

عميان “منير العرقي” ” اللي مايرواش ” يعيشون في “التكية” مع شيخهم “الهادي” لكن السياق الذي يعيشون فيه يحيلك على الفور إلي”كهف أفلاطون” لتنهمر التساؤلات على ذهن المتلقي هل يعيش هؤلاء العميان عالم الحقيقة أم عالم الظلال ، و إذا كانوا يعيشون عالمالحقيقة .. فهل يعيشون الحقيقة المجردة أم أنها حقيقة نسبية لها أوجه تختلف بإختلاف زواية تناولها من قبل كل فرد على حدة ، حتى عندمايخرج هؤلاء العميان من التكية لينتشروا في الجزيرة التي يغشاها صوت البحر و مؤثرات الطبيعة المحيطة .. و تغمرها أوراق الشجر الجافةمحاولين التعرف على الأشياء و الواقع فيما حولهم تختلف الرؤى الخاصة بكل منهم .. إلى درجة عودة التساؤلات بإلحاح حول عالم الحقيقة وعالم الظلال الذي يمكن القول أنه مركب بمنتهي التعقيد ..

– موتى يتحكمون في أحياء : 

كما يقول العظيم “عباس محمود العقاد” إن في الأضرحة موتى يتحكمون في أحياء .. ، و كيف لا و ساكن الضريح ميت يخلفه شيخ يدعيالحكمة و العلم اللدني لكنه في حقيقة الأمر ميت الروح متبلد الإحاسيس .. ، و هو ما يخلق عالم من الظلال المضافة فوق ظلال الكهف أوالتكية من خلال الأساطير التي يسيطر بها على هؤلاء الذين إختاروا العيش مسلوبي الإرادة حتى و لو خرجوا من سجنهم .. 

و ربما تختلف رؤاهم لا حول الحقيقة فقط و لكن حتى حينما يجمعهم عالم الظلال ..

و لعل في المشهد الخاصة بالشابة الضريرة المغتصبة دلالات عديدة على ما ذكرناه انفا .. 

و لا يمكن لهؤلاء العميان رهيني المحابس المتعددة .. العمي ، و التبعية ، و القهر ، و المجتمع ، و الأساطير .. الفكاك من عالم الظلال .. وكيف لنا و شيخهم “الهادي” يمكنه التحليق بهم من موضعهم ليصل بهم إلى المشاعر المقدسة بفضل سر “كراماته” و قوتها ، و يمكنللمتلقي تصور صدمة أمثال هؤلاء الأسرى أو الرهائن عندما يكتشفون أنهم كانوا يتبعون أو بالأحرى  يعبدون شيخ أو إله ميت ..

– “قتلتنا أن الواحد منا يحمل في الداخل ضده” : 

تلك الدمى التي حركها الممثلون بمهارة و حرفية تم تنفيذها بحذق و دقة لتكون بمثابة قيمة مضافة لإبداع مخرج العرض في توظيفه الماهر”لكسر الجدار الرابع” مما يعيد إلى الأذهان تجارب “بريشت” و من ساروا على النهج .. ، و مع التوظيف المميز لكافة مهارات الفن الرابعبما في ذلك مسرح العرائس ، و خلق أكثر من مستوى و عمق لمساحات الأداء الحركي .. ، كما كان هناك ما يذكر بشاعرية و شعر كاتبالنص الأصلي “موريس ماترلينج” و لكن من خلال الإحالة التي يدفعك إليها الدراماتورج “محمد منير العرقي” ليعود بك إلى ذلك الصراعالدرامي الأزلي بين عالم الحقيقة و عالم الظلال في علاقة الممثل العرائسي بالدمية التي يلعب بها متماهيا معها تارة .. متصارعا معها تارةأخرى إلى حد أن المتلقي المرهف الحس يمكنه سماع صوت “مظفر النواب” في صراخه الباكي المنتحب و هو ينشد ” قتلتنا الردة .. قتلتناالردة .. قتلتنا أن الواحد منا يحمل في الداخل ضده ” .. إنها حالة الفصام التي يحياها الإنسان في الواقع المعيش في هذه المنطقة من العالم ..

– دلالات الأسماء .. و دلالات المكان و تأثيراته :

أستخدم الدراماتورج “منير العرقي” دلالات أسماء الشخصيات بذكاء بالغ يحيلك على الفور للإسلوب “المحفوظي” ( نسبة لنجيب محفوظ)  في إستخدام الدلالات المختلفة .. و تنسحب تلك الإحالة على المكان “التكية” و النتيجة مذكرا المتلقي ب “تكية” “نجيب محفوظ” التي لجأإليها بطله “سعيد مهران” في رائعته “اللص و الكلاب” و ما وصل إليه من نتيجة عدمية في مصير مشابه لمصير هؤلاء الذين “ما يراوش” ..

الممثل و الدمية .. ،  أبطال العرض و المتلقي .. ، و السؤال المطروح بعد كسر الإيهام و ربما الوصول إلى درجة من درجات التماهي بينالجميع .. من هو الأعمى و من البصير ؟! .. من من هؤلاء  ” اللي ما يراوش ” ..

و يمكننا القول أن مخرج العرض قد حالفه التوفيق بتقديم عرضه على مسرح الحمامات الذي أضاف للعرض ثراء على ثراء على كافة الصعدخاصة في تكامل المكان المذهل مع الحدث الدرامي على مستوى السينوغرافيا ..

، “ما يرواش” عرض يستحق أكثر من قراءة تحليلة و أكثر من مشاهدة ل 115 دقيقة من المتعة الحقيقية .. 

– و لابد من توجيه تحية مستحقة لفريق العمل : في التمثيل و تحريك العرائس .. هيثم وناسي ، فاطمة الزهراء المرواني ، أسامة الماكني ،هناء الوسلاتي ، أسامة الحنايني ، ضياء المنصوري ، إيهاب بن رمضان ، أميمة المجادي ، محمد الطاهر العابد ، عبد السلام الجمل ،الأسعد المحواشي .. الذي أشرف على ورشة صنع العرائس أيضا ..

تصميم العرائس و تنفيذ الصنع و تصميم الملابس : عبد السلام الجمل 

نحت : ياسين بشر 

كوريغرافيا : حافظ زليط

إعداد و تلحين موسيقي : أسامة المهيدي 

تنفيذ عرائس و إكسسوار : أميرة اللواتي

إضاءة : معز العبيدي ، محمد منير العرقي

سينوغرافيا : حسان السلامي ، محمد منير العرقي

إعداد دراماتورجيا و إخراج : محمد منير العرقي

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات