قراءة موضوعية في حضور- الغياب

09:18 صباحًا الخميس 31 أغسطس 2023
د. منى رسلان

د. منى رسلان

أُسْتَاذةُ النَّقْد الأَدَبِيّ المعاصر والمنهجيَّة فِي كليَّة الآدابِ والعُلومِ الإنسانيَّة في الجامعة اللبنانيَّة

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الإمام موسى الصدر في “ذمة الحقيقة”:

فكر عربي نهضوي بصبغة أُمميّة

بقلم الدُّكتورة منى رسلان

أستاذة النَّقد الأدبيّ المُعاصر والمنهجيَّة  في كلِّيَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّة في الجامعة اللُّبنانيّة

 تحلّ ذكرى تغييب الإمام الصدر غاصة بذكرى الاختفاء القسري، غير أنّ ضمائر الجماهير التي عشقته وارتقت بفكره وتتلمذت على نهجه، تحتفل احتفاء مجيداً بفلسفته الأمميّة والّتي استمدّها من فضاء حقيقة الكون الفسيح.

 الإمام الصدر

يشكّل الفهم الوّاعي والمنطق الحججي لدى الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر (1928)، أحد أبرز منطلقات مشروعه الخلاصي للمواطن في الوطن العربيّ بشكل عام، وللإنسانيّة جمعاء بمعناها الأوسع.

وانطلاقاً من المفهوم الإسلاميّ الّذي ركّز على قيم الوجود الإنسانيّ على الأرض، وعلى مفهوم القوى الدفينة المحرّكة للذّات البشريّة والحركة بين الذّات الفرديّة _ النفس[1]، والجسد الترابيّ، والرّوح، بهدف الموازنة إلى حدّ ما بينها، وسعي الإنسان خلال صيرورته الحياتيّة لايجاد صيغة تكامليّة، إلى حدّ ما، وما يفضي عنها من توازن في الشخصيّة المنطلقة ضمن إطار الجماعة، كلّ الجماعة بمفهومها الأمميّ، لا بجزئيتها الحياتيّة المعيوشة؛ إذ تسطع مسلّمة “مكارم الأخلاق”، فلا سلوك اجتماعيّ قويم من دون توجيه أخلاقيّ، ولا حياة اجتماعيّة أو سياسيّة أو ماليّة أو اقتصاديّة، أو توجيهيّة أو تثقيفيّة، تتجلّى بحقّ، إن لم تكن هذه المسلّمة ركيزة أساس في حضورها. 

ها هنا، تكمن المفارقة في أنّ الدّين الإسلاميّ الحنيف، يحثّ بشدّة المؤمنين على طلب العلم في سبيل النهوض بأخلاق المجتمعات والأمم.

بيد أنّ أيّ مشروع نهضويّ – إنسانيّ أو دينيّ أو اجتماعيّ لا يمكن له أن يتحقّق، إن لم تتوافر له الرؤية ومستلزمات النهوض بالمفهوم التقدميّ.

انطلاقاً من المسلّمات الأسمى والأرقى المستمدّة من حياة الأمّة العربيّة والإسلاميّة، صاغ الإمام المغيّب مشروعه النهضويّ الحقيقيّ؛ وشكّلت ظاهرة الإمام الإجتماعيّة – الإنسانيّة، والفكريّة والثقافيّة والعلميّة والسياسيّة والتنويريّة – التوحيديّة، إحدى أبرز وأهمّ الظواهر القياديّة المؤسّسيّة والمؤسّساتيّة في القرن العشرين، في لبنان والعراق، والعالم العربي آنذاك.

قال فيه الشيخ الشاعر جعفر رشيد العاملين:

“في محراب عينيك سجدت كلماتي

تفانت في ملكوت زرقتها

وذابت

 …  لتتطوف حول أهدابها أشواط وجع السّنين”[2].

                 

كمال جنبلاط

وبما أنّ “دين الله الحقّ”، فقد “كانت الأديان واحدة حيث كانت في خدمة الهدف الواحد، دعوة إلى الله وخدمة للانسان؛ وهما وجهان لحقيقة واحدة”، كما يعبّر الإمام؛ إذ تمكّن من سبك شخصيّته برؤية مجتمعيّة وانسانيّة ودينيّة وسياسيّة وأخلاقيّة منفتحة وشاملة وتتخطّى حدود الزمان – مكانيّة وحتّى الأقاليم والدول والقارات والشعوب واختلافاتها، مستلاً من القيم الدينيّة المسلّمات التوافقيّة الجامعة بين الأمم والشعوب على تنوّع تطلّعاتها وقيمها وعاداتها وأدبياتها وسلوكها، وأديانها ومعتقداتها وطقوسها، بفهم حقيقيّ ورؤية ثاقبة، ونظرة موضوعيّة شاملة. 

مستشهداً بقوله الله تعالى: ﴿كان النّاس أمّة واحدة فبعث اللّه النّبيّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه ۚ وما اختلف فيه إلّا الّذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغيا بينهم فهدى اللّه الّذين آمنوا لما اختلفوا  فيه من الحقّ بإذنه ۗ واللّه يهدي من يشاء إلىٰ صراط مستقيم﴾ [3](ص).

لقد أثار الإمام الصدر  مسألة القيم الأخلاقيّة والعلم في المجتمع اللبنانيّ والعربيّ، فأحبّ الجماهير والجماهير أحبّته، فسخّر في شخصه العلم بمفهومه الصحيح، للمساهمة منه في نهوض مجتمعه ووطنه من كبوة “التجهيل”؛ إذ كان يجترح الحلول العملانيّة تذليلاً للمشكلات المعيشيّة والعائليّة والقرويّة والعشائريّة والقبليّة والوطنيّة، بقدرة هائلة على الحوار، منتصراً للحقّ، في محاولة منه لتظهير هذا العقل العربيّ المنفتح، وهو الذي أعلن في القاهرة أنّ تعايش الطوائف هو التجربة الحضاريّة الوحيدة في العالم؛ فكان له أن تبوّأ موقعاً رائداً بين الشعوب والأمم. 

كان الإمام الصدر خطيباً منبريّا- إعلامياّ، كربلائيّ الهوى[4]، يحمل في ذاته هذا التوق المعرفيّ والشغف الدّائمين للبحث عن قيم الحريّة والعدالة والحقيقة وكينونة الإنسانيّة.

قال كمال جنبلاط في (مضمار الحقّ): “إنّ الصّراع في سبيل الحقّ هو انتصار في كلتا الحالتين، أكانت نتيجته على السّواء: الاستشهاد المضيء أو النّصر السّاحق. والانتصار هو انتصار النّفس القويّة الجميلة فينا، انتصار الإنسانيّة فينا، انتصار التطوّر على الرّجعيّة، انتصار الحياة”.[5]

لم يكن الإمام فقيهاً ومتنوّراً قانعاً في شخصه فحسب، بل تعدّى ذلك، ليكون باحثاً مجدّاً ونشيطاً بطبعه الحياتيّ، ومخططاً لم ينحصر فكره بالبحث في قضايا المجتمع اللبنانيّ الجنوبيّ أو العامليّ أو الشماليّ أو الجبليّ أو البقاعيّ؛ ولم يكن ذاك المنخرط بالسياسة اللبنانيّة الضيّقة الغائرة في عبثيّة الطائفيّة والزبائنيّة الخانقة، وهو المعبّر عن ذلك بقوله: “الطائفيّة في لبنان بحث سياسيّ وليست بحثاً دينياً”،  بل كان ذلك المتبحّر في علوم القرآن والأحاديث النبويّة الشريفة وفي الإنجيل المقدّس وكتب الحكمة والكتب الفقهيّة والكتب المعرفيّة، وأسرار المعارف لدى الديانات الوضعيّة؛ والغائص كذلك الأمر في علوم اللّغة والشعر والنثر وعلوم الكلام والسياسة والاقتصاد ومندرجاتها، وعلم النّفس وعلم الاجتماع وسواها الكثير من المعارف ذات المشارب المتنوّعة، فالتصق بعرى وثقى بقضايا مجتمعه اللبنانيّ بأشمله، بانفتاح فكريّ ومعرفيّ عميق، من دون تمييز، مستدلاً على إمكانيّة إحقاق العدالة والحقّ المجتمعيين من الكون المنظّم العادل. 

قال عنه الرئيس فؤاد شهاب: “لو كان هذا الرّجل مسيحياً لقدّسه المسيحيّون. يجب دعم هكذا رجال بكلّ ما نملك من قوّة”[6].

بحث الإمام الصدر عميقاً في المشترك في ما بين الديانتين الاسلاميّة والمسيحيّة، واللّتين تدعوان إلى مبادئ أخلاقيّة وإلى قيم روحيّة مشتركة، وسعى إلى تمكين العلاقات بينهما؛ فهو القائل، أنّ الطوائف الدينيّة نوافذ حضاريّة، غير أنّ الطائفيين لا يعرفون لا مسجداً ولا كنيسة، وظلّ متمسّكاً بصيغة العيش المشترك ومواجهة خطر المخطّط الصهيونيّ التفكيكيّ للبنان ولدول الجوار والمنطقة العربيّة برمّتها.

‎قال عنه الملك عبد الله بن عبد العزيز:”طوال سنين حياتي لم أر شخصيّة بهذا الذكاء وسعة الإطّلاع وحسن الخلق والمحبوبيّة، مثل شخصيّة الإمام موسى الصدر”[7]..

‎لقد شكّل الإمام فتحاً جديداً بين علماء الدين، وهو الّذي مدّ الفكر الإسلاميّ من معين فكره وسعة اطلاعه بالكثير من الاجتهادات الفقهيّة والكلاميّة؛ هذا إلى جانب كونه ذاك الباحث عن الروابط المحكمة بين القيم المجتمعيّة والدينيّة والإنسانيّة وسواها، وقيم العلم العليا، موظّفا موقعها في مشروعه النهضويّ.

الإمام موسى الصدر والرئيس جمال عبد الناصر

‎وقال عنه الرئيس جمال عبد الناصر: “ليت جامعة الأزهر تملك رئيساً كالسيّد موسى الصدر”[8].

‎إذا، كان لا بدّ له من مشروع نهضويّ عظيم، ينطلق من “قضية العدالة الاجتماعيّة” – العمود الأساس في مشروعه – والحوار الهادف الذي عدّه الإمام حاجة لبنانيّة ضروريّة ملحّة دوماً، تأميناً لاستمراريّة هذا الكيان المتنوّع بأطيافه وفئاته وايديولوجيّاته وتشعّباته واختلاطه، والّتي انطلق منها تحقيقاً لرؤاه، إلى رحاب صيرورة مستدامة تخدم الإنسان بروحيّة العدالة القيميّة الارتكازيّة الّتي تتخطّى حدود الوطن، ومن خلال عمليّة تكافليّة وتضامنيّة بمعناها الأوسع، ليس فقط بين أبناء “شيعته” و”سنيّته” و”مسيحيّته” و”توحيده”، بل ضمن صياغة عمليّة تكافليّة أمميّة تواصليّة، انفتاحيّة وثيقة الصلة بأواصره، تصل بأسرها مجتمعة إلى مبتغاها التكامليّ – التعاونيّ، بأنّ “الاصلاح” في المجتمعات و”نداء التغيير” لا يمكن لهما أن يقوما بـ “القوّة”، وأنّ فكرة العدالة الاجتماعيّة غير مرهونة إطلاقاً بأيّ ظروف، لأنّ الثورة في المجتمع أو النهوض بالوطن أو حتّى السقوط سيطال الجميع. فهو القائل بأنّنا نحتاج إلى ثورة من طبيعة أرضنا ومن وحي هذه السماء.

‎وأنشدته شعراً في قصيدتي “جود”:

‎”لم تكن للمحزونين ذكرى،

‎ولا كنت للأنام عبرة،

‎إنّما طيفك الرنّان في الصّدر،

‎طافت به الملائكة

‎ما بين الوهاد والهضاب

‎حيثما تكشّف الورع في محياك

‎تقشّفاً واحساناً”…[9] .

‎تحلّ ذكرى تغييب الإمام الصدر غاصة بذكرى الاختفاء القسريّ، غير أنّ ضمائر الجماهير الّتي عشقته وارتقت بفكره وتتلمذت على نهجه، وتأبّطت روح عينيه، تأبى ألاّ تحتفل احتفاء مجيداً بفلسفته الأمميّة والّتي استمدّها من فضاء حقيقة الكون الفسيح، ولتضجّ الدّنى بإمام الفلاّحين والعمّال والمحرومين.

‎وقد قال فيه الشاعر ميشال جحا: 

‎”س: سئلت فيك الكلام .. هالني الطّلب!! ونازع الحبر في أوصافك الذّهب!؟!

‎م: ملكت نفسي!! ورحت الوحي أنحته فلا المعاجم مدّتني ولا الكتب!!

‎ا: أولمت للسّابحات.. علّ تنجدني بحيث أنّ .. إليك، البدر ينتسب!!

‎ح: حلّفتها بسناها أن تخبّرني نبل المزايا التي يعزّ تحتسب!!

‎ة: تأوّهت .. ثم قالت: “لو سرت درر حتّى بها تصف “الإمام” تضطرب!؟!”[10].

‎إنها ذكرى إماميّة تنويريّة في “ذمّة الحقيقة”، لن تخبو أبداً. 

‎الهوامش:

‎[1] _ ورد في الحديث الشريف: “من عرف نفسه فقد عرف ربَّه”.

‎[2] _ رشيد العاملي، الشيخ الشاعر جعفر. قصيدته في الامام موسى الصدر.

‎[3] _ القرآن الكريم؛ سورة البقرة، الآية 213.

‎[4] _ كان الإمام موسى الصدر يردِّدُ في خطب عشوراء: “ما دُمنا على الحقِّ لا نُبالي، وقعنا على الموتِ أم وقع الموتُ علينا”.

‎[5] _ جنبلاط، كمال. يقول: ” الأمر الوحيد الذي تستحقه الحياة هو أن نقول الحقيقة، ونعمل لأجل الحقيقة”.

‎[6] _ شهاب، فؤاد. (رئيس الجمهوريَّة اللبنانيَّة السابق).

‎[7] _ بن عبد العزيز، الملك السعودي عبد الله. (خادم الحرمين الشريفين – المملكة العربيَّة السعوديَّة).

‎[8] _ عبد الناصر، جمال. (رئيس جمهورية مصر العربية الأسبق).

‎1_ رسلان، د.منى. قصيدة “جود” والتي نُشرت في الميادين الثقافية . آذار 2021.

‎[10] _ جحا، ميشال. قصيدة : “سماحة الإمام موسى الصدر… أبا الحوار” .

‎قام الشاعر ميشال جحا بزيارة “مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات”، والتقى رئيس المركز السيد صدر الدين الصدر – نجل الإمام المغيب، حيث أهدى الشاعر المركز ديوانه “اعلام مطالع وتواريخ”، الجزء الأول، والصادر في العام 2007، وقد احتوى بين دفتيه على هذه القصيدة

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات