لا أحد يعرف لون عينيها

01:31 مساءً الثلاثاء 5 سبتمبر 2023
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

رواية الكاتب يسري عبد السلام صبري … بين الواقعية والسحر

في الحكاية الشعبية، يقوم الأحمق بذبح دجاجته التي تبيض ذهبا، أملا في الحصول على الذهب كله، أما في رواية الكاتب يسري عبد السلام صبري (لا أحد يعرف لون عينيها) فسنتعرف على أحمق آخر، ولكن المؤلف سيأخذنا بعيدًا عن الحكاية الشعبية ليضعنا في عالم واقعيته السحرية.

ابن الجوهري، أو المعلم سيد صاحب المقهى البسيط، يكتشف وجود فأر يتسلل إليه من جحر في الجدار الفاصل بين المقهى وبيت جاره الراحل؛ الذي يترك في البيت حقيبة مترعة بالدولارات المسلوبة.

حين يقرر المعلم سيد قتل الفأر، بماشة تقبض عليه في جُحره، يكتشف أن حيوانه الرمادي يأتي بورقتين من البنكنوت الأخضر، وأن الماشة، أداة القتل المحتملة، تحولت لأداة ثراء طاغ، فأخذ يسحب بها الدولارات، كأنه يدق باب ماكينة آلية للصرف النقدي، ويبدأ حاله في التبدل، فيتحول المقهى المتواضع – حتى الحقارة – إلى كافيتريا أنيقة تعج بالزبائن، يجدون بها ما يزين المقاهي الكبرى، حتى لو ظلت المقهى مجرد  خُن في شارع جانبي.

يقرر المعلم سيد اقتحام منزل الجار المتوفى، وأخذ المال كله، فالفأر الذي يلد الدولارات أصبح صديقه، بل ويمكن أن يشاركه طعامه، وقد جعل صندوقا على باب الحفرة، يسمح للفأر بالخروج والعودة، ويغلق أعين المتطفلين عنه.

صيام وإفطار

يستخدم المعلم مفتاح باب بيت جاره، الذي كان معه ليطمئن عليه في مرضه، ولكنه يأتي بأدوات عصرية، مثل الكاميرا الدقيقة المتصلة بهاتفه، والتي كشفت له أن الفأر لم يكن وحده، بل كانت معه مجموعة من الفئران، ضرب أحدها وهو يأخذ الحقيبة، قبل أن يعود بها إلى بيته الخاوي منذ عشرين سنة، بعد وفاة زوجته، ولا تطأه إلا امرأة تنظفه كل أسبوع مرة، قبل أن تجري المئات في يديه، فتأتي البيت ثلاث مرات كل أسبوع، للتنظيف والطهو، وقد هامت بالمعلم، لكنه لم يكن يصوم عقدين ليفطر على بصلة، هي إجلال الشغالة!

هذا بعد الحكاية، لكن الرواية تأخذنا لبعدها الثاني حين يعمد المؤلف إلى إثارة الشك في شخصية (الغريب)، وصحبه، وكيف أنهم يماثلون الفئران عددا، وأن من نال الضربة أثناء أخذه للشنطة الدولارية يربط يده، ويلمح إلى الحذاء الجديد الذي يرتديه المعلم، الذي اشتراه خصيصا لعملية الاقتحام. وأن صحبه أو أخوته يأتون وخرجون في صمت، كأنهم باقي عائلة الفئران الرمادية.

حتى الكلب الذي يظهر، وينهش سمانة إجلال، فينهض الجميع لأخذ المرأة للمستشفى، لتظهر امرأة لا يعرفها أحد، يقع في غرامها المعلم سيد، ويتفقان على الارتباط على باب المستشفى. وسيبدو لنا أن سحرا يقود خطوات ابن الجوهري، وأن كل شخصية ستظهر لا بد لها من مقابل حيواني.

الغرباء

فالمرأة اللعوب التي جاءت المقهى، أرسلها الغريب، وحين تبللت تنورتها، أعطاها المعلم عباءة، وسألته أن يحتفظ بالتنورة لتجف، وترسل له زوجها ليأخذها، فإذا بالتنورة تتيبس، كأنها جلد ثعبان، ويعيده ذلك لحادث موت خالة عروسه داليا، التي ماتت بسم ثعبان. وتكشف له الكاميرات التي وضعها في المقهى، أن الكلب الذي يظهر على رأس الشارع، سيصبح الرجل الأسود الذي يأتي لأخذ التنورة.

هكذا فئران وثعابين وكلاب، ولكنه مطمئن على ثروته، التي سرقها من إرث اللص، ودرك القاريء من الحوارات أن الفئران، والكلب والحية (الغريب ومن معه) يعرفون بأمر الحقيبة، بل ومكانها في الكنبة التي لا يفتح بابها السري إلا على واجهة الحائط كي لا تكتشفها زوجته.


يسري عبد السلام صبري

ستنتهي الرواية بأن تعرض عليه الحية يريدونه أن يصبح واحدا منهم، معرفين نفسهم بأنهم الغلبة والسيطرة والجاه،  في مشهد فاوستي، يريد الشيطان أن يأخذ روحه مقابل أن يحتفظ بماله:

“- إحنا عايزينك تبأى واحد منا.

– إنتوا مين؟

– احنا المعرفين بأل والمنعمين بتل والمميزين بحل

اللي هم مين برضو ؟

– احنا الغلبة والسيطرة والجاه.

فقال بصوت تعمد انخفاضه

– اللي يسمعك ما يشوفشي خوفك من الغريب الغريب بيه بيحكمني بسطوته، وأنا بحكمه بجمالي –

وإيه اللي هكسبه لو بقيت منكوا؟

لم تجبه مباشرة، بل ألصقت ظهرها بظهر الكرسي، ووضعت ساقا

على ساق ثم قالت بثقة

– سؤالك لو معكوس كان يبأى أصح.

– مش فاهم

. يعني السؤال المفروض يبأى كده إيه اللي هتخسره لو مبقتشي

واحد منا؟

فقال المعلم باستهتار

– أنا ما عنديش حاجة اخسرها .

– ولا حتى الشنطة؟

– شنطة إيه؟

– الشنطة اللي في كنبتك.

نزلت كلمة الكنبة على أذن الجوهري كصفعة، فتعرق جبينه، واحمرت أذناه، بينما أخرجت المرأة بكل هدوء من شنطتها سيجارة ملفوفة يدويا والتفتت نصف التفاتة، بعد أن رفعت إصبعيها بالسيجارة فجرى ناحيتها أحد الزبائن بولاعته ككلب بلدي، وأشعلها لها فى خشوع، وعندما طال صمت ابن الجوهري بخت دخانها في وجهه، وسألته:

– يا ترى الناس هتقول إيه لما يعرفوا حقيقتك؟

لم يعرف المعلم كيف يجيبها ؛ فاكتفى بالصمت وبابتلاع ريقه، فبخت في وجهه نفسا ثانيا من دخانها ، ثم ،الثالث، فالرابع، وكان في الخامس مهيأ تماما للقبول .

وفي تلك اللحظة ظهر الغريب عند الباب، ممسكا بلوح زجاجي، يحمله معه أخوته والكلب؛ ففر العمال والزبائن من الخن وتركوه وحيدا شبه مخدر و خلف الأخوة ظهر الساعل والشارب وظهرت خالة زوجته المتوفاة ،والحاج عرفة، وابنه، وعلام، وظهرت إجلال وأولاد الغالية وقدري وفريدة وداليا ،وفرح وآخرون، وتراصوا جميعا في صفوف خلف الزجاج، تاركين مكانا في الصف الأول لإلهام، ثم اقتربوا من المكتب بخطى ثابتة فشعر سيد الجوهري بالاختناق وحاول الوقوف مرارا، لكنه لم يستطع اقتربوا أكثر، والتصق الزجاج

بمكتبه، فصرخ مناديا : موافق أبأي منكوا .

فلم تعره إلهام، انتباها ونتيجة لدفعهم بدأ المكتب بالتراجع ببطء ربما، ولكن بثبات، وتحرك كرسيه معه حتى التصقا بالحائط، فتوقف الدافعون، وتركوا اللوح، فلم يتزحزح وصرخ ثانية – موافق أبأى منكوا .

فلم يلتفت لصراخه أحد . وأفسحوا الطريق لمجهولين أتوا بألواح زجاجية أخرى سميكة جدا، وشديدة الشفافية وضعوا لوحين منهم على جانبيه، وواحدا فوق رأسه وألصقوهم معا بقوة؛ فازداد اختناقه ونادى من يعرفه من الموجودين بأسمائهم، مرات ومرات فلم يجبه منهم أحد . وشعر بدوخة شديدة، وتنميل ثقيل، بدا بأصابع قدميه، ثم امتد ليشمل جسده بالكامل، وأصيب فكه كاملا بالشلل. كانوا ينظرون إليه نظرات غير مفهومة، ويحركون شفاههم بكلمات تبدو وكأن الآخرين يسمعونها ، لكن لا أصوات تصله منهم.

وظلوا هكذا حتى اقتربت امرأة من الزجاج الأمامي لها ملامح زوجته الأولى، بل هي هي، غير أن بشرتها كانت مشربة بحمرة غريبة، وأنفاسها الحارة تغطي زجاجه كل حين بالبخار؛ فتتشوش رؤيته. حاول محادثتها، ولفت انتباهها، ومسح سواد الكحل المنهمر مع الدموع على خديها، لكنه لم يستطع، حاول مرة ثانية وثالثة، لكنه أيضا لم يستطع، فاكتفى رغما عنه بمراقبتها .

رآها وهي تفتح صرة بيضاء كانت في يدها ثم وهي تخرج منها أولى محتوياتها، وتضعها على كرسي يراه بوضوح من الزجاج الجانبي. إنه يعرف تلك المحتويات جيدا إنها ساعة الحائط التي أهدتها له يوما وتوقفت عن الحركة منذ زمن، إلا أن عقاربها الآن تتحرك، بل ويسمع ضجيج دقاتها بكل وضوح، نعم تتحرك وتشير إلى الثانية عشرة إلا دقيقتين.

ومن الصرة ذاتها أخرجت صورته المرسومة، يذكر جيدا متى أنزل الصورة، ومتى مسحها بنفس القماشة المبلولة التي مسح بها الساعة، وكيف وضعهما معا فى ملاءة واحدة، وجها لوجه وزجاجا لزجاج؛ ليأنس كل منهما بملامسة الآخر. ها هي صورته الآن تنعم بحضنها . يكاد – لولا الزجاج – أن يشعر بدفئه . ويود بشدة أن ينعم بمثله ولو للحظات، وأن يدنو أكثر من شفتيها اللتين تتمتمان بكلام لا يسمعه.

أما آن لهذا الضجيج أن يتوقف؟ أو – على الأقل – ألا تزيد حدته ؟

طبلتا أذنيه أوشكتا على الانفجار وساعته تدق بحماس غير عادي، ورغم ذلك لم يدر عقرب الدقائق إلا دورة دورة واحدة فقط . ومع أول ثانية في الدقيقة الجديدة تغير نمط الدقة؛ فانتبه الجميع للنمط الجديد . ودارت بينهم أحاديث جانبية متفرقة، لكنه لم يسمع من كلامهم سوى كلمة فريدة».

وسرعان ما توقفوا عن ..الكلام. ومع تحرك البنت أفسحوا لخطواتها مجالا مناسبا . كانت تتقدم ناحية علبته الزجاجية ونظراتها لا تولّيه أدنى اهتمام، وحينما تأكد أنه ليس المقصود حاول بكل الطرق أن يلفت انتباهها ، لكنه كان أعجز من أن يحرك جفنا . حاول البكاء أيضا، لكن غدده الدمعية لم تسعفه.

حاول، وحاول، ولا شيء منعها من الوصول للمرأة، وحينما أمسكت كف هذه بكتف هذه أحس بالذعر. ولم يستطع منع صورته من السقوط والتشظي أو منع الآخرين من عدهم التنازلي الجماعي – تسعة وعشرين ثمانية وعشرين سبعة وعشرين……

تزامن ذلك مع اختفاء ضجيج عقرب الدقائق وتزامن مع التقاء العينين بالعينين. ومن المنشغلين بالعد انفلت شعبان وعلام والساعل والشارب وإجلال، وسارعوا إلى نهب أكبر قدر من صورته المتكسرة – خمستاشر أربعتاشر لتاشر ….. ثم ذهبوا إلى صندوقه الخشبي، وتشيطنوا في تحطيمه وحينما وصل العد إلى رقم واحد كان الجُحر مكشوفا للجميع بعدها تبادلوا فيما بينهم نظرات الانتصار، ثم غادروا المكان مع المغادرين في هدوء.”

نهاية مقهى التحولات

وإنما أردتُ أن أضع الصفحات الأخيرة من الرواية كما دونها المؤلف لتكون نموذجا حيا لأسلوبه الكتابي، وخياله الروائي، ولنستحضر معا تلك المشاهد الدرمية التي تنهي الأعمال الكبرى، فالرواية، التي تصلح إلى أن تتحول إلى مسرحية تدور معظم مشاهدها في المقهى الشاهد على التحولات في حياة صاحبها، يتحول مشهدها الأخير إلى مأساة شكسبيرية، بأصابع سوريالية، للكاتب المفتتن بالسينما، والإثارة، والإيقاع السريع يجعلك تقرأ الرواية (88 صفحة) في جلسة واحدة لا تمل منها، شريطة ألا تسقط منك الأسماء والتفاصيل التي يلح عليها المؤلف، ويربط بين كل ظهور لها، وكأنه لا يأتي عليها اعتباطا، وإنما ليضفر واقعيته بالسحر، بدقة بالغة.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات