(في انتظارِ مناقيشِ زَعْتَرِ المَوْقوفين) ثلاثُ قصص قصيرة

10:22 صباحًا الأحد 1 أكتوبر 2023
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية وكاتبة وأكاديمية، لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

(في انتظارِ مناقيشِ زَعْتَرِ المَوْقوفين) ثلاثُ قصص قصيرة بقلم: د. إيمان بقاعي

1/10/2023

القصة الأولى: (الزيارة الأولى)

 قربَ الجندي العشرينيِّ الواقف يحرسُ بوابةَ (مركز التَّوقيفِ)، وقفَتْ شابَّةٌ ذات شعر أسود طويل تحمل في يدِها كيسَ صُوَرِ ابنِها الأَول الذي أنجبته منذ ثمانٍ وعشرين يومًا بيد، وبيد أُخرى تحمل منقوشَتَيّ زعتر ملفوفتين بورقتينِ، وعند قدمَيْها وضَعْت علبة قناني المياه البلاستيكيةَ الصَّغيرةَ.

 وعندما سألها العسكريُّ إِن كانت ترغب في تَرْك مالٍ لزوجِها يستخدمُه لشراءِ ما يحتاجُ إليه من دكانِ سِجْنِ التّوقيفِ؛ مسحَتْ دموعَها المنسابةَ بصمتٍ، ووضعَتِ المنقوشتين فوق علبةِ المياهِ، ثم أَخرجَتْ كلَّ ما في جيبِ بنطالِها تعدّه. وعندما نبهها العسكريُّ إلى أَنَّه لا يُسمح لها أن تترك له أكثرَ من مليوني ليرةٍ لبنانيَّة، نظرَتْ إِليه بدهشة، ثم أكملتِ العدَّ، ورفعَتِ المبلغ قائلة للعسكري:

– كان معي مليون، اشتريْتُ منقوشتين بمئة ألفٍ وعلبةَ مياه. ويجب أن أَترك مئتين وخمسين ليرة أجرةَ (الفانْ) الذي سيعيدني إلى بيتي في الجبلِ.

وقدمت النُّقود للعسكري الذي سلمَها للعسكري المسؤول عن أمانات الموقوفين، وابتسمَتْ وهي تمسحُ دموعَها:

– إليك ثلاثمائة ليرة وخمسين.

وهرعَتْ عندما نادى عسكري من الدَّاخل مناديًا إياها باسْمِ عائلة زوجِها معلنًا أن موعد “مواجهة” زوجِها قد حانَ، وذكَّرَها بلطف وهو يقدم لها محرمةً ورقيةً:

– وقتكِ، مدام، ربعُ ساعةٍ بالضَّبْط، لمرتين كل أُسبوع: الثلاثاء والخميس.

وأردفَ:

– ويُسمَحُ له بمهاتفَتِكِ مرتين أسبوعيًا لمدة دقيقة في كل مرةٍ.

شكَرَتْهُ مبتسمةً بعد أن أعطته المنقوشتين وعلبة الماء ليدخِلَها إليه، بينما ضمَّتْ كيسَ صُوَرِ ابنِهما إلى صدرِها ليتعرَّفَ إليه من خلفِ زجاجِ المواجهةِ لأول مرة.

القصة الثَّانية: (المدلَّل).

جلسَ على حجارةِ طرفِ سُوِر المحكمَةِ المنخفضِ كمصطبةٍ قربَ أختٍ تحتضنُ لأخيها الموقوفِ كيسَ ثيابٍ تكفيه لأُسبوع شابٌّ ثلاثينيٌّ رثُّ الثِّياب، يسندُ كيسَ ثيابٍ ايضًا إلى قدميهِ، وحاول أن يلفت نظر الأُخت التي بدَتْ شاحبةَ الوجهِ والعينينِ، وسألها:

-أول زيارة؟

-المرة الثَّانية هذا الأسبوع.

-أنا لا أستطيع القدوم مرتين في الأسبوعِ الواحد، بل ولا مرة كل أسبوعين، فقط مرة في الشَّهر، احزري لماذا!

وقبل أن تحزرَ، أجابَ:

-بيتي بعيد بعيد، عند الحدودِ الشّمالية. يعني يكلفني المجيءُ إلى بيروتَ والعَوْدة منها ساعاتِ نهاري كلِّها، هذا اذا لم أحسبْ أُجرةَ “الفان” التي باتَتْ تكوي الجيوبَ. ولا تستغربي أن الأُجرةَ وتعطيلَ شغل يوم كامل يساوي أُجرة ثلاثةِ أَيامٍ، هذا إذا كان الرِّزق “نهرًا”، وقد لا يكونُ. وأنت تعرفين أَن عملنا، رغم أَنه خطير، غير منتجٍ ماديًّا رغم أننا-المهربين- مضروبون بحَجَرٍ كبيرٍ كبيرٍ، وخاصة أَن مصروف أَولادِ أخي الموقوفِ السِّتة أُضيف إِلى مصروفِ أولادي الثّمانية، ومصروفِ أُمي وأُختي العزباء.

وبدا في عينيْها بعضُ اهتمامٍ، وإِن لم تنبس ببنت شفةٍ، فالتقطَ هذه البادرة الإيجابية وأكملَ:

– نحن “مهربون”، كل أولاد ضيعتنا مهرِّبون، نهرِّب كل شيء: ناس، خضار، فاكهة، ربطات خبز، مازوت…مثل كل القرى الحدودية.

وتابع:

-هو يعرف أن النقود تكاد لا تكفي، ومع ذلك، يعترضُ ويقول إنني يجب أَن أَزوره أُسبوعيًا ولو مرة واحدة.

وضحكَ:

-مرة واحدة؟ يا حبيبي تعالَ نتبادلْ أَمكنتنا، وأَتحداك إِذا كنت تستطيع زيارتي في التَّوقيف مرة كل شهرين. “يتغنج”، ويطالب، وهو جالسٌ في الدَّاخِلِ: “آكِلْ، شاربْ، نايم، وعندَهُ كوندشْنْ” على حساب الحكومة، وعنده زملاء كل واحدٍ عندَهُ حكايةٌ، ويلعبُ الورقَ معهم، وقال “شو”، يريد أن أزوره “على الأقل” مرة بالأسبوعِ!

وصمت لحظة، ثم قال:

-لا نختلف أن حاله صعبة، وأنه مظلوم، لأن الرَّصاصة التي أَطلقها دفاعًا عن النَّفس من ضمن رصاصات مجموعةِ شبابنا وقت هجوم المهربين الغرباء لا يمكن، رصاصته ورصاصاتهم، أن تكون التي قتلت “أبو نادر”. أتعرفين لماذا؟ لأنَّ “أبو نادر”، ببساطة، هو من جماعتِنا. وهاتي أقنعي الحكومة أن الرصاصة انطلقت من جماعتهم، رغم أنها أوقفَتْ اثنين منهم رهنَ التَّحقيق أيضًا. الحكومة تريد أن تحقق لتتأكد، والتَّحقيقُ يطول، وظهري سينكسرُ من حمل المسؤوليات، “والمدلَّلُ” يريد أربع زيارات في الشَّهر، وقد يطالبُ بمحامٍ، وربما بالسُّؤال عن القاضي الأكثر نزاهة من القضاة ليتولى التَّحقيق معه. لا يا حبيبي، تعال اخرج إِلى “الحرية”كما تسميها، ودعني أدخلْ بقدميّ الى “اللاحرية” .

وضرب كفًّا بكفٍّ، وقال:

– ليتني أنا الذي أطلقت الرصاصة مع شبابنا بدلًا عنه، كنت الآنَ لافًّا رِجلًا على رِجْل، وأُنَظِّر عليه كما ينظِّرُ عليَّ!

وأشعل سيكارة رخيصة، وتنهد:

– كان عندي تهريبة “شَلْعِة معزة”.

القصة الثَّالثة: (ضربةُ شمسٍ وضربةُ شرَفٍ)

كل النِّساءِ المغادراتِ بيوتهن “قبلَ الشَّحّادة وبنْتِها”، بعضهُن آتياتٌ بـ(الفانات) من مناطقَ بعيدةٍ، أو بسياراتهن، لزيارةِ مَوْقُوفيهن مرتين في الأُسبوعِ لمدة ربع ساعةٍ هي مدةُ ما يُسَمّى بـ “المواجهة”، عليهن الوقوف في الطَّابورِ.

وقد يطولُ الوقوفُ تحت الشَّمسِ صيفًا إلى أَكثر من ساعة، فتضربهن الشَّمسُ، فإما حرارة يعانينَ منها ليومين، أي إلى موعدِ الزِّيارةِ التَّاليةِ، أو يرتفع ضغطُهُنَّ حتى لو لم يكنَّ مريضاتِ ضغطٍ.

ويسارعْنَ الى دكانِ المناقيشِ الملاصقةِ لمركز التَّوقيفِ قبل أن تنفذَ الكميَّةُ التي يتقاسمُها الأهلُ والعسكرُ والموظفونَ، يقفْنَ في طابورٍ ثانٍ، ولكن بسقفٍ.

وتخترقُ الصَّفَّ عاملةُ نظافةٍ عتيقةٌ قصيرةُ القامةِ، عابسةُ الوجِهِ، مليء وجهُها بتجاعيدَ محفورةٍ بعمقٍ، وتقفُ مطالبةً بمنقوشةِ زعترٍ وهي تنظر الى السَّيِّداتِ المنتظراتِ نظرةً فوقيَّةً.

تسندُ مكنسَتَها المتآكلةَ على الجدارِ الفاصِلِ بين مكانِ البيعِ ومكانِ الانتظارِ، فإنْ أعْطَى البائعُ منقوشةً لسيدةٍ سبقَ أن دفعَتْ ثمنَها قبلَ مجيءِ عاملةِ النَّظافَةِ المشعَّثَةِ الشَّعرِ، القذرةِ الثَّوْبِ، صرخَتْ بوجهِهِ:

“مرِّقْني ، يا خَيي، قبلها. بَعِدْ ناقِصْ تمرِّقْ أهل المجرمين قَبْلَنا نحن الشُّرفاء”!

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات