فكتور الكك: رسول العشق الصوفي

02:16 مساءً السبت 12 يناير 2013
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

البروفسور فكتور الكك

نصف قرن وهو يبذل النفس والنفيس من أجل استخلاص القواسم المشتركة بين الآداب والشعوب، ويبحث عن طرق التقارب والتفاهم والتآلف، ولا عجب فقد نهل من منهل عذب وتجلّى خلال أربعة عقود ناقداً حصيفاً وأستاذاً عالماً يُقبل على الجديد بحكمة وحنكة ويغوص في صفحات الأدب والتاريخ.

البروفسور العلامة فكتور الكك عالم موسوعي عرفته الجامعات العربية بمناقبه الخلقية وميزاته الأدبية وصرامته الأكاديمية وسجاياه الانسانية مناضلاً في سبيل تلاقي الحضارات العربية والفارسية والغربية التي سبر أعماقها، ومعرفته بالعربية والفارسية والفرنسية وإلمامه بالألمانية والأردية ودراساته حول العبرية والصابئية والفهلوية والأبستاقية (الأفستا)، هذا الرصيد الهائل أهّله ليكون رسول المصالحة بين الحضارات والأديان إذ آثر العمل الصامت على الظهور الصائت.

تجاوزت كتبه وأبحاثه المائتي عنوان وهو يشرح قصائد جلال الدين الرومي ورموز العشق الصوفي ويبرهن على أن مصدر الحقيقة واحد في التراث الابراهيمي كما فعل ابن عربي وفريد الدين العطار وحافظ الشيرازي حين قال:

كل ناح ٍ صار للحبِّ مزارا مسجد المسلم أو دير النصارى!

وقد التقاه بجامعة الكويت: الباحث والكاتب سمير أرشدي، أستاذ اللغة الفارسية وآدابها بالجامعة، وأجرى معه هذا الحوار لينشر في (آسيا إن):

– لكم قصة طويلة مع الأدب الفارسي، فهل يمكن أن تسلطون الضوء على جوانب منها؟

– حكايتي مع الفارسية حكاية نصف قرن من الغرام والهيام بروحانية وجمال اللغة الثانية في العالم الاسلامي فقد تلمذت على يد الدكتور الفقيد محمد محمدي في الجامعة اللبنانية من عام 1956م إلى عام 1959م حيث تولى منبر اللغة الفارسية وآدابها هناك وبعد حصولي على الإجازة التعليمية والماجستير في اللغة العربية ساعدني الدكتور محمدي في الحصول على منحة يسّرت لي التحضير للدكتوراه في الأدب الفارسي من جامعة طهران وكان من فضل ربّي علي أن تلمذت لألمع أساتذة عرفهم تاريخ ايران: بديع الزمان فروزانفر، ذبيح الله صفا، محمد معين، جلال الدين همائي، سيد صادق گوهرینوسواهم من حاملي تراث القدامى والآخذين بمناهج البحث الغربي الحديث. وعدت إلى لبنان لابدأ مشواري بتأليف كتاب (أثر الثقافة العربية في شعر المنوجهري الدامغاني) والذي سدّ مكاناً في الدراسات المقارنة العربية – الايرانية وطبعته منشورات جامعة القديس يوسف ببيروت.

أتولى حالياً رئاسة تحرير مجلة الدراسات الأدبية وهي فصلية يصدرها قسم اللغة الفارسية بالجامعة اللبنانية وأسسها أستاذي الدكتور محمد محمدي عام 1959م وجعل منها فصلية رصينة تعنى بالثقافتين العربية والفارسية وتفاعلهما، هذه المجلة أوجدت تياراً من البحث في الدراسات المقارنة العربية – الايرانية انطلق من لبنان لينشط في سائر البلدان العربية وايران ويقع في الأوساط الاستشراقية موقعاً حسناً مميزاً لوجود خلاصة للأبحاث بالفرنسية والانكليزية.

مدمن على قراءة قصائد مولانا جلال الدين المولوي الرومي بالفارسية منذ خمس وأربعين سنة، وشاركت في عشرات المؤتمرات والندوات الأكاديمية التي أقيمت حول التواصل الحضاري والأدبي العربي – الايراني وقدّمت أوراقاً وأبحاثاً معمقة في هذا المجال.

أتولى رئاسة مركز اللغة الفارسية وآدابها في لبنان ورئاسة تحرير فصلية ايران والعرب وهي مجلة محكمة تهتم بتعزيز التلاقح والتمازج الفكري والاقتصادي والسياسي العربي – الايراني.

تخرجت من مدرسة الحكمة في بيروت ونلت جائزة الشرف وكانت الجائزة ملحمة الفردوسي الشاهنامة وهذه الجائزة دفعتني لدراسة الأدب الفارسي وسبر أغواره خلال نصف قرن.

– نلاحظ في الآونة الخيرة إقبالاً منقطع النظير على ترجمات جلال الدين المولوي الرومي في أرجاء العالم، فما سرّ هذا الاقبال العالمي؟

– قصائد جلال الدين الرومي تتضمن روحانية تروي انسان أيامنا المحبط الذي حجبت عنه علائق الدنيا آفاق الأمل في عالمه والتوق إلى عالم بهي تبتدعه الروح وأفكار الرومي تروي ضمأ هذا الانسان.

يصح في مولانا جلال الدين في أيامنا ما قيل في المتنبي قبل ألف عام بأنه “مالئ الدنيا وشاغل الناس” حيث ظهرت أخيراً في أوروبا ولا سيما في فرنسا ترجمات لمختارات من آثاره ودراسات حول تراثه العرفاني الغزير والمميز بين أهل السير والسلوك ممن صقلوا مرآة القلب فتجلت فيها الأنوار كشفاً وشهوداً.

أما الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية فأشد وأدهى حيث غدت ترجمة الشاعر الأميركي كولمن باركس Coleman Barksتحت عنوان خلاصة الرومي The Essential Rumiمفقودة في الأسواق واندرجت في طليعة لائحة الكتب الأكثر مبيعاً في بلاد العم سام والذي يؤثرون تسميته بالرومي، ولوكان الأمر يتعلق بقصة غرام أو فضيحة سياسية أو حدث علمي لكان له ما يبرره إلا أن الكتاب هو خلاصة أشعار عرفانية تعبّر عن أسمى وأرقى ما بلغته شخصية انسانية في تساميها نحو خالقها وفي كسب القيم المعنوية والروحية التي تهيئ السالك في طريق الحق إلى بلوغ مرتبة الانسان الكامل.

أقولها بملء فم ان البشرية وصلت في فتوحاتها العلمية والتقنية إلى نتائج باهرة، سخّرت الأرض والفضاء وجعلت من العالم قرية كونية ويسّرت للانسان وسائل مدهشة لراحته وترفه إلا أنها عجزت عن إرواء روحه التي تنهد إلى ما وراء المادة والتي لم يسبر الانسان إبعادها وكنوزها فيطمئن إليها ويخلد إلى سكينتها وهذا هو ما دعا إليه جلال الدين من خلال غزلياته العرفانية المشتعلة وجداً وشوقاً وعشقاً يفتح به أبواب السماء على مصاريعها!

تلك الرؤى مخبوءة في داخل كل منّا، فما علينا سوى ايجاد الوسيلة لاكتشافها بالسير على خطى مولانا جلال الدين أو ابن عربي أو حافظ الشيرازي أو سواهم ممن اختصروا مسيرة الزمان في هنيهة عبقرية حين يقول مولانا بالفارسية

من ز سدره منتهى بگذشته ام صد هزاران سال آن سو رفته ام

تازيانه بر زدى اسمم بگشت گنبدی کرد و زگردون برگذشت

محرم لاهوت ما ناسوت باد آفرین بر دست و بر بازوت باد

حال من اکنون برون از گفتن است آنچه می گویم نه احوال من است!

وقد أخرجتها في هذه الترجمة الشعرية بالعربية:

من سدرة المنتهى جاوزت أفلاكاً قرناً بقرن طويت الدهر ذياكا

سوط الرحيم رماني في ذرى فلك بوركت من عضد يمناك مرماكا

قد حال ناسوتنا لاهوت معرفة لا تجتليه عيون الإنس لولاكا

فالحالُ منيَ أحوال مجنّحة لا النطق يشرحها أو حدس مولاكا

آن لنا بعد ما شهده أسلافنا من حروب وما عشناه من مآس ٍ أن نعود إلى الندب الذي يهذب النفوس ويزيل عنها الصدأ ويرتفع بنا إلى استعادة قيمنا المعنوية والروحية لتعود إلى الفردوس المفقود.

– ما هي مكانة الأدب العرفاني الصوفي في العالم العربي؟

– في مؤتمر استضافته جامعة قطر بالتعاون مع المكتب الاقليمي لليونسكو تحت عنوان (جلال الدين الرومي والثقافة الانسانية) قارنت بين عرفان ابن عربي والرومي حيث ان عرفان هذين القطبين مختلف فابن عربي قعّد عرفانه على أسس عقلانية في حين أخذ مولانا بالعرفان الذوقي والانخطاف وتغليب القلب على العقل. حتى في مسألة وحدة الوجود هناك اختلاف جوهري. وكذلك هناك تشابه في العرفان الصوفي القائم بين شعر مولانا وابن الفارض في مسألة قيام الحواس الباطنة مقام الأخرى بحيث يسمع العارف بحاسة النظر أو ينظر بحاسة السمع أو يلمس بواسطة العين وهكذا دواليك.

وكان مولانا الرومي يبدع الكثير من غزلياته خلال حالة روحية غير طبيعية وهيجان صوفي يزامن أحياناً حلقات الرقص لدراويشه الدوارين في قونيه كما كان يتدارس تراث الأوائل واقتبس من القرآن الكريم والحديث النبوي وتأثر بشخصية الإمام علي بن أبي طالب وكان يقرأ ديوان المتنبي ودواوين شعراء العرب واقتبس من أبي نؤاس بعض لمعه لاسيما في مقطوعتين ركّب منها مقطوعة واحدة جاءت بعض أسطرها وعباراتها عين أسطر أبي نؤاس وذلك في غزلية مولانا بالعربية ومطلعها:

يا صغير السن يا رطب البدن وقريب العهد من شرب الابن

– كيف ترى شعر مولانا جلال الدين بالعربية؟

– لمولانا ألف بيت من الشعر العربي ما عدا شعره الملمع أي الفارسي المطعّم بالعربي أو العكس. وبلغ ميراثه الشعري نحو سبعين ألف بيت اضافة إلى كتبه ومدوناته ولسنا نعرف في آداب العالم من يضاهيه في غزارة انتاجه ويعتبر ديوان المثنوي المعنوي بما طرحه من أفكار وأبدعه من صور مثيراً للإعجاب ومعروف بأنه “قرآن العجم” لموسوعيته وكثرة اقتباسه من القرآن الكريم والحديث النبوي والعلوم الاسلامية والتربوية.

– كيف يمكن للأدب العربي والغربي أن يتأثر بالفارسية؟

– ان سقوط المثل الأعلى جعل المجتمعات ضائعة في توجهاتها ولا بوصلة لديها وأعتقد أن هذه الأزمة الثقافية التي نعاني منها ستنتج ردة فعل وأود أن أشير إلى مثل من صميم المجتمع الأميركي الغارق في البراغماتية والمادية، فقد ترجم كولمن باركس الشاعر الأمريكي المعروف مختارات من شعر جلال الدين الرومي الصوفي الكبير إلى الانكليزية وجاءت بنحو مئتين وخمسين صفحة من أصل سبعين ألف بيت شعر كتبها الرومي المولوي الذي جعل محبة الله وسيلة وغاية وقد سجّل هذا الكتاب أكبر نسبة مبيعات في الولايات المتحدة وكانت الشريحة الشبابية هي الأكثر اقبالاً عليه، بمعنى أن جيل الشباب الذي فقد المثل الأعلى وجد قشة الخلاص في أبيات هذا الشاعر الإيراني وان الشعب الأميركي أحسّ انه وصل إلى حائط مسدود وعثر على خشبة الخلاص في هذه الروحانية. وقد أصابنا نحن العرب الشيء نفسه حيث اجتاحتنا الحروب ولوثة المادية التي لم تتأهل بنيتنا الاقتصادية والاجتماعية لها ففقدنا المثل الأعلى ولم يعد لنا من مرجعية أخلاقية وفكرية نستند لها.

– ما هي عوائق تطور المجتمع المدني في العالم العربي؟

– يحول دون تطور المجتمع المدني وقائع يجب العمل على تغييرها، فوضع المرأة العربية وتغييب قدراتها يعطل نصف المجتمع ويحكم عليه الطيران بجناح واحد. الأمية تتصاعد نسبتها في العالم العربي وتسجل معدلات متزايدة ومخيفة بدلاً من تدنيها فقد وصلت وفق إحصائيات الأمم المتحدة إلى 70 مليوناً ومن المخجل أن 13 مليون طفل عربي دون مدارس ومما يدعو إلى الهلع تزايد نسبة الأمية الثقافية وتراجع الوقت المخصص للقراءة ليصل إلى 13 دقيقة كل 24 ساعة.

– هل تشعرون بالقلق على الثقافة العربية؟

– أنا لست حائفاً على الثقافة العربية فالتطبيع الثقافي مع الصهاينة لا يمكن أن يجري في نمط المسار السياسي فليس ثمة تكافؤ ثقافي في مجال الابداع والانسانيات، فالعربية اضطلعت تاريخياً بدور حضاري رائد قامت عليه الحضارة الحديثة بينما العبرية الإسرائيلية لا تحمل في أحشائها من إرث أدبي وانساني ولا اضطلعت بدور حضاري ولا حضيت بانتشار كوني. أما بالنسبة للعولمة فالثقافة العربية غنية تحمل تراث الاسلام الذي شكّل عمودها الفقري اضافة إلى تراث الديانات القديمة حيث هضم الاسلام ما لا يتعارض مع مبادئه واستوعب حضارات مصر وبابل وفينيقيا والزرادشتية وغدت لغتنا أممية أغنتها الفارسية والتركية والآرامية وهذه القدرة الثقافية للعربية تملك المناعة والحصانة وامكانية التآلف والانسجام.

الذي أخشى منه هو إفراغ المجتمعات العربية من إرثها الثقافي حيث تسقط الثقافة؛ إذ يسقط التاريخ.

– ما هي الأعمال قيد الإنجاز لديكم؟

– منذ فترة طويلة وأنا مشغول بترجمة (ديوان الدواوين) وهو منتخبات من مجموعة اقبال الشعرية تضم أجمل قصائد هذا الشاعر الكبير حيث يتمتع محمد اقبال اللاهوري بشعبية واسعة في العالم العربي وأعكف على ترجمة شعرية مختارة من قصائده من الفارسية إلى العربية. وانتهيت أخيراً من تعريب دراسة معمقة عن شعر فروغ فرخ زاد الشاعرة الايرانية المعاصرة وهي للباحث والمستشرق الأمريكي مايكل هيلمن حيث ترجمتها من الانكليزية وهي في مرحلة التنقيح النهائي حيث يتم طبعها في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت تحت عنوان (امرأة وحيدة) لأن فروغ عاشت طوال عمرها وحيدة.

– هل هو ترجمة لقصائد فروغ؟

– الكتاب هو تحليل لشعر فروغ مطعّم بشواهد من أعمالها وقد أعجبت بالعمل وارتأيت تعريبه نظراً لقيمته الفنية.

– كيف تقيمون الأعمال الأدبية الفارسية المترجمة للعربية في مصر؟

– أغلب هذه الأعمال تفتقر لروح الشعر الفارسي ولم تستطع أن تنقل ما أـسماه الجاحظ “موضع التعجب في الشعر”.

– كيف ترون مستوى المترجمين من الفارسية في العالم العربي؟

– لا شك أن المبادرات جيدة وتحتاج إلى دعم متواصل، وبشكل عام فان المترجمين لم يوفقوا في ترجمة الشعر وكما قال الجاحظ (الشعر لا يُستطاع أن يترجم ولا يجوز عليه النقل ومتى نُقل سقط موضع التعجب منه) أي حالته الشعرية، لذلك ينبغي أن يكون المترجم على قدر من الروح الشاعرية أو أن يكون شاعراً متوسطاً وليس من الضروري أن يكون شاعراً مبرزاً.

الحالة الشعرية التي تجسّد جوهر الشعر لم أرها منقولة في ما ترجم من آثار اللغة الفارسية الشعرية، لكن الأعمال النثرية المترجمة جيدة بالإجمال.

– وهل تعتبر هذه الترجمات كافية لتحقيق وإحياء التواصل بين الأدبين؟

– إذا ما قارنناها بما ترجمه ونقله الايرانيون من الآثار العربية إلى الفارسية، فهي قليلة ولا تفي بالغرض.

– كيف السبيل لتطوير حركة التلاقح بين الأدبين؟

خلال أسفاري إلى ايران أو أحاديثي مع زملائي العرب أؤكد أن تنشأ لهذه الغاية مؤسسة خاصة تعنى بشؤون نقل الآثار من الفارسية الى العربية ويكون لها شخصية مميزة لأنك عندما تجد مؤسسة متمركزة ينطلق من خلالها المسؤولون بجدية نحو هذا الهدف سوف تجني المحصول بديناميكية منظمة، إذ لا يمكن التعويل على المبادرات الفردية.

– انسانية الأدب الفارسي كيف استقطبت القارئ العربي؟

– يمتاز الأدب الفارسي بنزعته الانسانية التي لا تفرّق بين الأعراق والأديان، بل تنظر إلى الانسان من حيث هو انسان أينما كان وفي أي زمان وُجد وتحترم الانسان، إذ هو بالنسبة إليها قيمة محورية في الحياة وهذا يتجلى عند معظم شعراء الفارسية ولا سيما في شعر سعدي وحافظ ومولانا جلال الدين الرومي وبشكل عام عند شعراء العرفان حتى ان شعراء الفارسية تجاوزوا احترام الانسان وحقوقه إلى الرفق بالحيوان حيث يعتبرون كل ما خلق الله مقدساً وحُر التصرف وهذا قلّما نجده في سائر الآداب حيث لم تطرح بمثل هذا التبسيط الموجود في الأدب الفارسي إلا لُماماً ونادراً، وهناك مئات الشواهد على ذلك كالبيت الشهير لسعدي الشيرازي حيث يقول:

ميازار مورى كه دانه كش است

كه جان دارد و جان شيرين خوش است

أي ما ترجمته:

لا تؤذي نملة تدلّحت بحمل حناطها

فإن لها روحاً والروح حلوة عزيزة على صاحبها

– كيف وجدتم الاهتمام باللغة العربية في الجمهورية الاسلامية؟

– ما من شك في أن العربية ازداد تدريسها بعد قيام الجمهورية الاسلامية الايرانية استناداً إلى أنها أصبحت لغة رسمية بازاء اللغة الفارسية ولا تُحسب من اللغات الأجنبية بحسب المادة السادسة عشر من الدستور الايراني وانتشرت مراكز تدريس العربية – فضلاً عن المرحلة المتوسطة والثانوية – في الجامعات بشتى فروعها حيث يُدرِّس في أغلبها أساتذة ايرانيون نشأوا في بيئات عربية وغدت الفارسية لهم كاللغة الأم، وفي جامعات أخرى لا يزال التدريس يجري باللغة الفارسية وبالطريقة التقليدية ثم الأساتذة عندما يكتبون بالعربية يكتبون بلغة قديمة مُتقعرة وليست لغة العصر الحديثة المستعملة في البلدان العربية. ان أهم مسألة يواجهها تدريس العربية في ايران هي عدم التمرّس بالكتابة العربية الحية التي تساير العصر وتستعمل في عصرنا هذا، وأعتقد ان هذه المسألة تحل إذا ما حدث تبادل في الأساتذة بحيث يكون في كل قسم من أقسام العربية في الجامعات الايرانية أساتذة جامعيون من العرب، مشهود لهم بالكفاية العلمية وسهولة التعبير بالعربية بلغة العصر، وهذه المسؤولية تقع على عاتق ايران والدول العربية في آن، ولو عمدت جامعة الدول العربية في هذا المجال للقيام بهذا الواجب القومي تجاه ايران التي كان لها فضل السبق في تقعيد اللغة العربية بعد انتشار الاسلام وانطلاقها، فالأرض في ايران خصبة ومتقادمة الميلاد والتراث العربي متجذر في تلك البلاد ولا يحتاج إلا إلى إيقاض.

– كيف يتأثر الشعر الفارسي المعاصر بالحداثة؟

– حداثة الشعر الفارسي والأخذ بأساليب الأدب الغربي والتفلّت من القيود والإكثار من استعمال الرمز والأسطورة شبيه بما يقوم بالشعر العربي الحديث تماماً، أما بعض وجوه الاختلاف فتعود إلى أن الشعر الفارسي المعاصر يستوحي الدين والتراث الاسلامي أكثر مما يستوحيه الشعر العربي المعاصر.

– أين يتجلى هذا التطور؟

– من خلال قراءة قصائد علي معلم، شفيعي كدكني، موسوي گرماوردي ومَن هم أفتى منهم سناً، حيث الذين أفتى سناً هم أكثر تأثراً بالشأن الديني، في حين اذا تناولنا الشعراء العرب في معظم البلدان العربية بصورة اجمالية سنجد أنهم لم يتأثروا بالشأن الديني كما تأثر شعراء الفارسية المعاصرة.

– عكفت قبل فترة على ترجمة ديوان قصائد الإمام الخميني الراحل، فأين وصلتم في هذا المشروع؟

– بعد أن قمت بنشر انطولوجيا الشعر الفارسي ابتداءً برودكي حتى الشعراء المعاصرين، تصديت لنقل شعر الإمام الخميني(ره) العرفاني إلى اللغة العربية وقد أعجبت بهذا الشعر الذي رأيتُ فيه استمراراً لشعر حافظ الشيرازي إلى درجة أني صغت بالعربية بعض غزلياته ومقطوعاته الصغيرة بالملاحة نفسها تقريباً التي تجلّت في الأصل الفارسي لأن الأصل الفارسي مشبّع باللطافة والأفكار الصوفية وحرارة التعبير العرفاني، لكن ظروفاً حالت دون الاسراع في انجاز نقل ديوان الإمام إلى العربية وآمل أن أعود إلى ذلك قريباً إن شاء الله.

كما أنوي اعادة طبع انطولوجيا ومختارات من الشعر الفارسي بطبعة جميلة وأنيقة وتوسيع دائرة الترجمة بحيث يستطيع القارئ العربي أن يشبع نهمه إلى حد ما من الاطلاع على الشعر الفارسي الذي يتفرد بأمور كثيرة.

– ما هي سبل تعزيز التواصل الأدبي؟

– ما من شك في أن المستشاريات الثقافية الايرانية تقوم بدور ملموس في مجال نشر اللغة الفارسي في البلدان العربية وكذلك الجامعات العربية التي تهتم بتدريس الفارسي في كلياتها منذ عقود، ولكن هذه الجهود وسواها لم تؤدي الدور المطلوب منها حتى الآن لأن نقل التراث والأدب الفارسي ما زال يتعثر وما زال محدوداً، في حين ان الايرانيين قطعوا شوطاً كبيراً في ترجمة قسم من الأدب العربي إلى الفارسية والمطلوب في تكثيف التدريب للأساتذة العرب الذين ينالون شهاداتهم العليا في اللغة الفارسية وآدابها في بلدانهم، واتاحة الفرصة لهم لمزيد من الاختلاط مع الشعب الايراني لأن تذوق الأدب لا يجري فقط في الجامعة وعلى أيدي الأساتذة بل بمخالطة الناس والإلمام باللهجات الشعبية واللغات المحكية التي كثيراً ما استلهمها الشعراء والكُتّاب.

وبكلمة ان التفاعل الذي كان قائماً بين الأمتين في القرون الوسطى والذي أنتج حضارة عظيمة يبدو في العصر الحديث هزيلاً جداً، ولا يقاس بذلك الزمن لا من بعيد ولا من قريب في حين ان كل الظروف ولا سيما في عصر الاتصالات المخيف مهيأة لتفاعل عميق بين الأمتين العربية والايرانية وهذا من شأنه أن يُثري أدب اللغتين وثقافة الأمتين ولا ينبغي الاكتفاء أن تولّي ايران وجهها شطر الغرب وكذلك العرب، لأن لهما معيناً مشتركاً لا يمكن التخلي عنه.

٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭

مِحورُ السِّرُّ

شعر الإمام الخميني

ترجمة شعرية بروفسور فيكتور الكك

أمِط سِترَ الدِّنانِ عنِ السُّكارى، ودَع أهلَ الهوى غُفلاً حَيارى؛

ورمز السُّكر فاقبلهُ غريباً، كصبر الطفلِ في الكُتَّاب حارا.

وكُنْ كالوردِ في صَفوٍ وهَون ٍٍ، غيومُ ربيعكم هَلّت نِثارا

جماله قصَّةٌ فيك استقرَّت، حديثَ البلبلَ الصَّدَّاح صارا.. (1)

أمِحورَ سِرِّنا في كلِّ أيْس ٍ(2) أجِزْ كأسَ السُّكارى عن الغيارى.

  • · في الأساطير الفارسية أن البلبل عاشق الوردة، مقيم على حبّها وهذا العشق الدائم رمز العشق الإلهي.
  • · الأيس هو الوجود واللَّيس نقيضه.

٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭

الإمام الرُّضا*

جامع الفرس والعرب والملأ

عليكَ ســــلامُ اللهِ يــــا ابنَ محـــمّدٍ رفعتَ لواءَ الحقِّ في أرض ِ مشهد ِ،

وهذي خراسانُ العريقة ُ في العُلى تقــبّل أعتـــابَ الضـــريح وتهتدي

تطوفُ بصحن ٍ، تخفض الشمسُ عندهُ جبـــينَ ضــــياءٍ من ضيائكَ سرمدِ

يؤمُّ ثــــراكَ الزائــــرونَ، ألوفُــــهُم تــدافَعُ بالأكتـافِ والكــــلُّ قد صَدي:

فهذا ينـــادي: سيّـــدي! أيّها الرِّضــــا قطـــعتُ إليك القـــفرَ، يا خيرَ سيّدِ!

وذاك يروّي الدمــــعُ صحـــــةَ خدّهِ ويــــــهفو إليــــــكم بالشّـــفاهِ وباليدِ!

حملتُ إلى مــــثواكَ لبنـــــانَ زائراً ومن عامـــلٍ طيباً وزادَ المــــزوّدِ…

ومن صور، من صيــــدون ألفَ تحيّةٍ وألــــفَ دعـــــاءٍ للإمــــام المصمَّدِ!

مقامُكَ في إيــرانَ للفُــــرس ِ نعمة ٌ وللعُـــــرْب شوق للـــتآخي المحمّدي!

فيكتور الكك

* مقطوعة من قصيدة في الإمام علي بن موسى الرضا(ع) صاغها الدكتور فكتور الكك خلال زيارته مقام الإمام عام 1962م، ونشرتها جرائد ومجلات ايرانية وعربية، مثل اطلاعات، العرفان، وسواهما.

٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭

جَذْْبة ُُ “مولانا”

مولانا البلخيُّ انجذبا للحضرةِ واجتازَ السُّحُبا،

لو ضاءَت مشكاتُك فينا لانشقَّ الصُّبحُ، وقد حُجبا!

بلخيُّ المحتدِ، مطلعهُ نورٌ للرّومِ، وقد “غُلبا”

يا حبلَ اللّيلِ وعقدتَهُ يا فيضَ النور نزا خبَبا،

“مِعراجُ السالكِ” يرفعهُ شوقٌ، والحقُّ بدا عجبا!

وا لهفي لأيّامِ ولّت ولعمر كالغيمِ انسكبا!

إن دالت أيّــــامٌ فينا تترى كالطَّيف إذا انقلبا،

أوبتنا حيارى وسُكارى نتنسّمُ عهداً قد قرُبا…

جاوزنا “الأبرار” غيارى ونَعِمْنا قُرباً لا قُربى..

وأطلّت من فجرك شمسٌ تتناثرُ تبراً أو ذهبا..

لتَجلّت تبريزٌ “شمساً” بمقامٍ يخترق الحُجُبا!

لا مطلعَ نعرفهُ شرقاً لا مغربَ نعرفهُ غربا،

لا نورٌ يعروه كسوفٌ بل شمسُ المعرفة القصوى!

الشمسُ رهينةُ ذي صفةٍ وصفاتُه دفقٌ ما تعبا،

خلق الأسماءَ وعلّمها فحباها “الروميّ” الرّتبا!

* * *

يا مَن في عيني قد أضحى عيناً للقلبِ ترى العجبا:

جنّاتٍ تجري أنهاراً، تفّاحاً، إجاصاً، رُطبا،

لألاءَ بَلُورٍ من نفسٍ قد عافت حُبّاً أو غضبا،

عَرجت كالوُرْقِ إلى عدنٍ بيضاءَ الصورةِ والمخبا،

نتدافع أطيابٌ فيها يحدوها نسيمٌ قد هبّا،

ولجت فردوساً عُلويّاً، سكرت عشقاً، ذابت طربا،

غابت في الواحدِ واندثرت، يا طيفاً بان لنا ثمّ نبا!

أفْديك بروحٍ من ربّي أهديك الصّورة والكُتُبا:

ألواحاً حُفظت في غيب تتجلّى في كأسي حَبَبَا،

تتواقص أطيافٌ فيها، تتملى أسراري، كثَبا،

فيضا من كثرة واحده: نوراً قد ذابَ بنا وخبا…

* * *

عِرفانُ الله بك انكشف ونقابُ الحضرةِ قد نُقبا!

وبيانُ الله بك “مَثْنى” يتنزّلُ شعراً ما عَرُبا:

قرآنُ الفُرْسِ و”أحمدُهُ” شمسٌ لضياءٍ ما اجتُلبا!

يا أوحدَ دهرٍ في الدّنيا طِبْ شعراً يستسقي السُّحُبا

“ديوانُ الشمسِ” لنا شمسٌ “تبريزُ” المشرقِ ما اغتربا،

“فيه ما فيه” يُهدهده فيضاً لا أمّ له وأبا!

أليالي الشّوقِ وقد عبرت عطشى كالطّيف إذا انحجبا،

الأستاذ الدكتور فكتور الكك:

  • · دكتور في الأدب الفارسي والأدب العربي والفلسفة.
  • · أستاذ الحضارة العربية الاسلامية والأدب المقارن والأدبين العربي والفارسي في الجامعة اللبنانية.
  • · رئيس مركز اللغة الفارسية وآدابها بالجامعة اللبنانية.
  • · أستاذ مشرف على رسائل الماجستير والدكتوراه في الجامعة اللبنانية وجامعة الروح القدس.
  • · أمين سر المجمع الثقافي العربي، وعضو مجامع دولية.
  • · أستاذ زائر ومحاضر في عدة جامعات أوروبية وأميركية وشرقية.
  • · نشر حوالي عشرين كتاباً في الموضوعات المذكورة أعلاه وحول أوضاع الشرق الأوسط، وأكثر من مئة بحث مطول في مجلات جامعية وعلمية، بالعربية والفرنسية والفارسية والانكليزية. كما ترجم مجموعة من الكتب والدراسات من هذه اللغات باللغة العربية، ونقل إلى الفرنسية والفارسية آثاراً أدبية عربية.

من أبحاثه:

  • · بديعات الزمان:بحث تاريخي تحليلي في مقامات الهمذاني؛ ط1، بيروت 1961، ط2، دار المشرق، 1971.
  • · جذور العربية فروع الحياة:دار الانسان الجديد، بيروت 1970.
  • · صناعة الكتابة:دار الانسان الجديد، بيروت 1971؛ ط7، اللاذقية 2004.
  • · (أثر الثقافة العربية في شعر منوچهري دامغاني:أثر القرآن والحديث النبوي وفنون الشعر العربي والعروض)، ط1، بيروت دار المشرق، 1971؛ ط2، بيروت 2000 (بالفارسية).
  • · (دور صابئة حَرَّان في الحضارة الاسلامية)، ط1، طهران، جامعة طهران، 1961 (بالفارسية)، ط2، بيروت، منشورات دار غندور، 1970 (بالفارسية).
  • · (الأربعون حديثاً نبوياً في آداب العربية والفارسية والتركية)، طهران، 1964 (بالفارسية)، ط2، لاهور، جامعة پنجاب، 1967 (بالأردية).
  • · الغزالي: حجة الاسلام، ابن المقفع أديب العقل،بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1971.
  • · أمين الريحاني، داعية وحدة الأديان ووحدة العوالم،بيروت، دار السلام، 1982.

– Gibran Khalil Gibran, pionnier de l’unité nationale libanaise et ďune Humanité nouvelle, Beirut, 1984.

– The Iranian Revolution, From Divine Right to the Rule of the Faqîh, Beirut, 1981.

– La civilization arabo – islamique, l’Andalousie, la Sicile et la Renaissance européenne, Palermo, 2004.

* رأس تحرير مجلات أسبوعية وشهرية وفصلية، سياسية وثقافية، في سياق خبرة صحافية امتدت 47 سنة، في لبنان وإيران وكندا.

– حالياً: رئيس تحرير فصلية “الدراسات الأدبية” من منشورات الجامعة اللبنانية (بالعربية والفارسية والانكليزية والفرنسية)، و”فصلية إيران والعرب” من إصدارات مركز الدراسات الاستراتيجية للشرق الأوسط في بيروت.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات