عندما يجاوز الظالمون المدى والأخلاق: حرق مقام الولي الصالح .. سيدي أبي سعيد الباجي

06:30 مساءً الإثنين 14 يناير 2013
خالد سليمان

خالد سليمان

كاتب وناقد، ،مراسل صحفي، (آجا)، تونس

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

مقام الولي الصالح سيدي أبي سعيد الباجي بعد خرقه من الداخل

في ظل سيطرة تيار الإسلام السياسي علي أنظمة الحكم في بلدان ما أطلق عليه الربيع العربي تعاظمت مخاوف الأقليات و حتى المسلمين من سيطرة تيار إسلامي وهابي متعصب برؤيته الأحادية التي لا تقبل التعايش مع الآخر حتي و لو كان منتميا لذات الدين مادامت لديه رؤى مختلفة و قد إتضح ذلك علي مر العصور و مؤخرا بدا ذلك الأمر جليا واضحا مع حركة طالبان في أفغانستان و كذلك في السودان و الصومال ؛ حتي أصبحت مصطلحات ” كالأفغنة و الصوملة و أحيانا السودنة” هي المعادل الموضوعي للتطرف و الإرهاب ؛ ومازالت البشرية بأسرها تذكر جريمة نسف تمثالي “بوذا” في منطقة “باميان” الأفغانية دون أدني مراعاة لقيم التراث الحضاري الإنساني التي لا يؤمن بها هؤلاء البرابرة الجدد ؛ ثم كانت لهم محاولات مماثلة في عدة بقاع من العالم الإسلامي و مؤخرا حدث ذلك في ليبيا و مصر مع بعض الأضرحة و الكنائس و وصل بهم الأمر إلي حد التهديد بنسف تمثال ” أبي الهول” و الآثار الفرعونية .. و لعلهم إقتدوا بذلك كله بأفعال شنيعة مماثلة قام بها ” محمد بن عبد الوهاب” مؤسس الحركة الوهابية في الجزيرة العربية و تم التعتيم عليها من قبل السلطات هناك لكن كتب التاريخ مازلت تحفل بها بما في ذلك الكتب المسطورة في حاضرة “الآسيتانة” مقر الباب العالي و الخلافة العثمانية التي يحلمون بإحيائها و يتشدقون بها الآن متناسين أن من قضي عليها و حاربها كان منهم الوهابيين أيضا ..

صورة لنسخة نادرة للمُصحف الشريف تعُود إلى القرن ال14 ميلادي تم حرقها داخل المعّلم الصوفي مقام الولي الصالح

 – ورغم تجرؤ هؤلاء المتطرفين علي بعض الأضرحة الصغيرة متناسين أن الطرق الصوفية قدمت للحضارة الإنسانية تراثا مذهلا ليس لديهم مجرد القدرة علي فهمه مثلما قدموا للإسلام أمما بأكملها دخلت إلي رحاب الإسلام بفضلهم في آسيا و إفريقيا ؛ إلا أن أحدا لم يتصور أن يصل بهم الغباء و الرعونة إلي هذا الحد خاصة في المغرب الإسلامي الذي لولا الطرق الصوفية لنجحت غزوات الإستعمار الصليبي المستمرة في محوه تماما من تلك الأصقاع ؛ و فوجئ الشعب التونسي بإعتداءات متكررة على الأضرحة كان أكثرها إيلاما الإعتداء علي ضريح الولية الصالحة ” السيدة المنوبية” و ما أدراك من هي السيدة المنوبية في البلاد التونسية .. و أنظر فقط في سجل المواليد لتعرف كم إمرأة تونسية تحمل إسم ” منوبية ” ؛ و ليس في تونس من هو أرفع مقاما من هؤلاء الأولياء الكبار في قلوب شعبها المسلم فإلي جانب “السيدة المنوبية ” ستجد “سلطان المدينة .. سيدي محرز بن خلف ” و ” سيدي أحمد بن عروس ” و ” سيدي عبد السلام الأسمر ” و ” سيدي محمد بن عيسى ” و “سيدي أبي الحسن الشاذلي ” و أستاذه ” سيدي أبي سعيد الباجي ” .. ” سيدي بوسعيد ” الذي تحمل أسمه القرية و الضاحية الشهيرة الوادعة فوق جبل ” المنارة ” و الذي قام بعض هؤلاء المجرمين بحرق ضريحه أمس (السّبت 12 يناير) لتستعر نيران الغضب في قلب كل تونسي و مغاربي وعربي و مسلم مساء أمس من جراء ذلك العمل القذر ؛ و من نكد الطالع أن يتم تجاهل الأمر إعلاميا علي المستوي العمومي حتى اليوم التالي و هو ما آثار حنق المواطنين فصبوا جام غضبهم علي رأس وزير الثقافة ” د/ مهدي مبروك ” الذي أدانت وزارته ذلك العمل الإجرامي و ذهب لتفقد الضريح ليلة أمس لكن المواطنين الغاضبين قاموا بطرده مرددين الصيحة الشهيرة التي رددوها في وجه “بن علي ” ” ديقاج” ؛ و اليوم ذهبت جموع المواطنين لعمل إحتفالية تسمي في تونس ” الخرجة ” رافعين الرايات لنصرة ولي الله الصالح “سيدي بوسعيد” وسط زغاريد حرائر تونس .. لتنطلق من هناك مظاهرة توجهت إلي قصر قرطاج حيث مقر رئيس الدولة “د/ المنصف المرزوقي” للإحتجاج علي الحادث الإجرامي و إدانته ومطالبته بإتخاذ التدابير لملاحقة الأوغاد المعتدين و إلقاء القبض عليهم ؛ و تردد أن رئيس بلدية ” سيدي بوسعيد” قد حمل حكومة النهضة مسئولية الحادث ..

– تبقي عدة ملاحظات حول الحادث ..

أولا – أن من قاموا به يعلمون أنهم يلعبون بالنار و يتحدون معتقدات الشعب و إختياراته و قناعاته .. و لو كان لديهم أدني قدر من الشجاعة أو الإقتناع بما قاموا به لواجهوا الناس و دافعوا عن أرائهم و لما فروا هاربين

ثانيا – هل قدم هؤلاء للمنطقة المغاربية و لتونس عشر معشار ما قدمت الطرق الصوفية منذ نشأتها و حتى الإستقلال ؛ لقد وطد هؤلاء الصالحون أركان الدين الحنيف و حافظوا عليه و نشروا علمه و واجهوا الحملات الصليبية و الإستعمار حتي لا يضيع الإسلام من المغرب الإسلامي ؛ هل يعرف هؤلاء .. الجهاد البحري الذي أطلق عليه الأسبان حقدا “القرصنة ” و أطلق علي هؤلاء الأطهار و منهم ” سيدي أبي سعيد الباجي” “المشايخ القراصنة” ؛ هل يعلم هؤلاء الأوباش المعتدين الجهلاء أن تلميذ “سيدي بوسعيد .. سيدي أبي الحسن الشاذلي ” قد قاتل الصليبيين في المنصورة مع تلاميذه و قد كف بصره لكن بصيرته لم يصبها العمى أبدا ؛ و كان إلي جانبهم ولي صالح آخر هو ” شيخ العرب ذو اللثامين .. سيدي أحمد البدوي ” و أسفرت المعركة عن آسر ملك فرنسا ” لويس التاسع” في دار ابن لقمان بالمنصورة و تدمير جيشه ؛ هل يعلم هؤلاء الجبناء أن “الأمير عبد القادر الجزائري” الصوفي المجاهد محقق ” الفتوحات المكية .. لسيدى محيي الدين بن عربي ” هو من أشعل جذوة الجهاد في الجزائر في مواجهة فرنسا ؛ و من بعده صنوه فى المغرب الأقصي ” الأمير عبد الكريم الخطابي ” قائد ثورة الريف ؛ و صنوه الآخر في الشهادة و البطولة ” سيدي عمر .. عمر المختار ” الذي قاد كفاح الشعب الليبي ضد الفاشية .. و نظرائهم في تونس كلهم أبناء التصوف الطرقي في المغرب الإسلامي .. ؛ حاربوا الصليبيين و المستعمر و لم يحاربوا أشقائهم في الإسلام كما فعل ” محمد بن عبد الوهاب ” و من لف لفه ..

ثالثا- هذا الحادث الحقير لم يكن توقيته مصادفة حيث يأتي قبل يوم واحد من الإحتفال الثاني للشعب التونسي و العربي بثورة تونس في 14 يناير “جانفي” و أنظار العالم كله تتجه نحو تونس .. ؛ و أين وقع الحادث ؟ .. في أهم و أشهر منطقة سياحية في تونس علي الإطلاق و في أرقي ضواحيها حيث يسكن الأثرياء و الشخصيات المرموقة من جميع أنحاء العالم ؛ وعلي مرمي حجر من القصر الرئاسي بقرطاج ” حوالي كيلومترين علي الأكثر ” ؛ ألا يعني ذلك للدولة و للإعلام العمومي شيئا في ظل ظروف إقتصادية حساسة في بلد يعتمد علي السياحة بشكل أساسي كمصدر من مصادر الدخل القومي

رابعا- بقدر حزني و حزن كل محب لأولياء الله الصالحين و هذا البلد الطيب .. أنا في غاية السعادة لأن نعش الإرهاب في طريقه إلي مثواه الأخير .. يروى في الحديث القدسي فيما أذكر قول رب العزة جل و علا ” إنّ من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب” أو كما قال .. ؛ و أؤمن بما جاء في الذكر الحكيم ” ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون” صدق الله العظيم ؛ إن أولياء الله يمشون بنوره في نوره .. عباد ربانيون يقولون للشيء ” كن فيكون” يسعون بقدم الله و يبطشون بيده .. فهل يعقل أن ينجو من بطشهم مخلوق حتى و إن كان في حماية الولايات المتحدة الأمريكية متدثرا بالبترودولار الوهابي .. حقا و صدقا و يقينا ” إنه لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور ” ..

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات