الحلي المغربية: صناعة وعراقة وجمال

07:10 مساءً السبت 19 يناير 2013
د. عبد الرحيم العلام

د. عبد الرحيم العلام

رئيس اتحاد كتاب المغرب، مستشار شئون المغرب العربي في آسيا إن

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

عرف شمال أفريقيا، منذ العهود القديمة، نشاطا حرفيا وصناعيا متقدما ومتطورا في مجال الصناعات والفنون التقليدية والحرف اليدوية. ويعتبر المغرب أحد أقدم البلدان التي اشتهرت منذ قرون خلت بالعديد من الحرف والصناعات والمهارات الفنية التقليدية، باعتباره مركزا أساسيا لمجموعة من الحرف التقليدية، وخصوصا في بعض المدن المغربية التاريخية العتيقة.

ويجمع المهتمون على أن فن الحلي في المغرب قد ظهر مع بداية العصر الحجري الأعلى، أي حوالي الألفية الثالثة والعشرين قبل الحاضر. وقد اكتشفت أولى الحلي وأدوات الزينة بالمغرب بعدة مواقع تؤرخ بالعصر الحجري الأعلى، أو ما يصطلح عليه بالحضارة الإيبيروموريسية، كمغارة “تافوغالت” (وجدة)، ودار السلطان والمناصرة (الرباط)، وإفري البارود (سيدي سليمان)، وإيفري ن عمار (الناضور). ومن بين هذه اللقى الأثرية، نجد مواد ملونة مثل المغرة ذات اللون الأحمر والأصفر وأصدافا بحرية مثقوبة وقلادات حجرية وعظمية.

وخلال الفترة الموالية المتمثلة في العصر الحجري الحديث، تطورت الحلي، سواء في التقنيات أو في المواد الأولية، مع الاحتفاظ بالأصداف والعظم والحجر.

أما الفترة الممهدة للتاريخ، فتميزت باكتشاف صناعة المعادن التي مكنت الإنسان القديم من استعمال تقنيات جديدة في بلورة وخلق أشكال من الحلي كالأساور.

وإذا كانت المصادر التاريخية ترجع وصول البحارة الفينيقيين إلى سواحل موريطانية الغربية في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، فإن الحفريات الحديثة بعدة مواقع مثل لكسوس وبناصا وتاموسيدا وتمودا والدشر الجديد، وأيضا بمنطقة الريف الشرقي، ساهمت في الكشف والتعرف أكثر على هذه الحقبة من تاريخ المغرب، من خلال عدة لقى أثرية، حيث تحتل الحلي أهمية خاصة. وتمثل الحلي الذهبية والفضية المكتشفة بمقابر نواحي طنجة ومقبرة “رقادة” قرب موقع لكسوس، نماذج تعكس مستوى تطور وتنوع فن الحلي في المغرب خلال الفترة التاريخية المذكورة.

 وعموما، فإن صناعة الحلي في المغرب تعتبر من بين أهم الحرف والصناعات التقليدية، باعتبارها حرفا حافظت على جوهرها وعلى استمرارها، وعلى توارثها جيلا بعد جيل، من قبيل: الدباغة وصناعة الخزف والحلي والزرابي والنحاس والنقش على الجبس والخشب والزليج، كما أنها حرف عرفت تطويرا وتجديدا في تقنيات وأدوات صناعتها، وفي موادها الأولية، بحيث كان كل جيل يتوارثها ويضفي عليها من إبداعه الخاص، بشكل يجعلها اليوم تحتل مكانة أساسية في مختلف المدن ومناطق المغرب القروية والحضرية، من شماله إلى جنوبه ومن غربه إلى شرقه.

موازاة مع ذلك، يتوفر المغرب على شبكة واسعة من المتاحف تكاد تغطي معظم المدن المغربية العتيقة، في الرباط وفاس وتطوان ومراكش والصويرة وشفشاون والعيون وطنجة وآسفي ومكناس، وغيرها. وأهمية هذه المتاحف كونها تعرض مجموعة من التحف القديمة التي تعكس مدى عراقة حضارة المغرب، ومدى تنوع تراثه وعاداته وتقاليده.

ونحن إذ نتحدث هنا عن الحلي في المغرب، لا بد من الإشارة إلى هذه الشبكة الواسعة من المتاحف المنتشرة في مجموعة من المدن المغربية، بما تحتويه من ذخائر وتحف نفيسة، حيث تشكل الحلي إحدى هذه التحف التي تشغل حيزا لافتا في هذه المتاحف، وخصوصا في المتحف الشهير المسمى بـ “المتحف الوطني للحلي”، وهو المتحف الوحيد في المغرب المخصص فقط لعرض الحلي المغربية، في انتمائها إلى فترات وحقب تاريخية مختلفة.

 

المتحف الوطني للحلي:

يتواجد مقره داخل “قصبة الأوداية” الأثرية العتيقة بمدينة الرباط؛ بما هي قصبة معروفة بموقعها المتميز والجذاب، في محاذاتها لنهر أبي رقراق الذي يشطر مدينتي الرباط وسلا المتجاورتين. وقد شيدت قصبة الأوداية وفقا للطراز الأندلسي ما بين 1672 و1694، في عهد السلطان مولاي اسماعيل، وتعتبر اليوم من أهم المزارات السياحية بالعاصمة الرباط، بحدائقها الغناء، وبمقهاها التقليدي الذي يغري السائحين بارتشاف كؤوس الشاي المنعنع، مع عرض تشكيلية متنوعة من الحلويات المغربية التقليدية، كما تعرف أيضا بموقعها الخلاب المطل على نهر أبي رقراق من جهة الرباط، حيث تبدو مدينة سلا ممتدة في الجانب الآخر للنهر.

وتكمن أهمية المتحف الوطني للحلي، الذي شيد عام 1915 في قيمته التاريخية والهندسية والجمالية، وفي قيمة محتوياته من التحف الفنية النادرة. ولعل الأهمية التي كانت لصناعة الحلي في المغرب هو ما دفع بالمشرفين على شؤون المتاحف في المغرب إلى فتح متحف خاص بالحلي التقليدية بالرباط، إذ يعتبر هذا المتحف اليوم من أقدم المتاحف بالمغرب، حيث أنشئ مع بداية القرن الماضي،  هو الذي كان في الأصل، حسب ما أوردته بشأنه وزارة الثقافة، متحفا إثنوغرافيا يمثل العادات والتقاليد المغربية، جامعا للعديد من المواد المختلفة التي تجمع بين النحاس والخشب والفخار والمخطوطات والنقود والحلي والزرابي والأزياء القديمة، قبل أن تبادر وزارة الثقافة إلى إعادة تنظيمه وتخصيصه للحلي والحلل، ليصبح بذلك أهم وأكبر معرض للحلي في المغرب، حيث تم تقسيمه إلى أجزاء مختلفة للعرض، والتي تعكس معروضاتها التطور التاريخي والفني والتصنيفي للحلي والمجوهرات المغربية.

وحسب ما أوردته وزارة الثقافة بخصوص هذا المتحف وأجنحته، فإن الجزء الأول من معرضه المعنون بـ “الأركيولوجيا والاستمرارية” يتضمن مجموعة من الحلل للفترة ما قبل التاريخية والفترة الكلاسيكية والأركيولوجية الإسلامية التي تم جلبها من المجموعات المتحفية المعروضة أو المخزونة في المتاحف الوطنية، مع الإشارة إلى مواقعها الأثرية، حيث تم العثور عليها.

ويمكن هذا العرض من إطلاع الجمهور على مدى ثراء وتنوع التحف المنجزة بمختلف المواد عبر التاريخ، واطلاعه أيضا على أكبر تشكيلة ممكنة من الأشكال والتقنيات.

أما الجزء الثاني، فمخصص لتقديم مجموعة رائعة من الحلي المصنوعة من الذهب وذات القيمة التاريخية والجمالية التي تشهد على عبقرية ومهارة الصناع المغاربة.
في حين يبرز الجزء الثالث تنوع الحلل النسائية من خلال عرض عينة للجهات الأكثر إنتاجا وغنى في هذا المجال.

ويركز الجزء الرابع من هذا المعرض على عملية التصنيف “الوحدة داخل التنوع”، حيث تم عرض الحلي حسب أصنافها، انطلاقا من المجوهرات المخصصة للرأس إلى تلك المرتبطة بالكعبين من خلال خصوصية الصنع والتزويق في مختلف الجهات الممثلة، فضلا عن عرض مجوهرات خاصة بالرجال، لا سيما الأسلحة التي تمثل تحفا رائعة وفريدة، وعرض وتقديم الأدوات المستعملة في صنع وتزويق الحلي.

في حين يعكس الجزء الأخير من هذا المعرض “الحلل والزي الحضري والقروي” تنوع الحلل الحضرية بمدن فاس ومكناس وطنجة وتطوان والرباط وسلا، والحلل القروية بالأطلس الكبير والمتوسط والصحراء، من خلال مجموعات مرتبطة بالزي والحلاقة. ويتناول هذا الجزء على الخصوص نمط وطريقة التزيين بالحلي ووظيفتها والدلالات المرتبطة بالانتماء الاجتماعي وعقيدة مرتديها. وموازاة مع تقديم حلل النساء، هناك عرض آخر مبهر لحلل الرجال ولبعض الأسلحة التي تستعمل عادة في الزينة.

وفضلا عن المتحف الوطني، يتوفر المغرب على شبكة واسعة ومهمة من المتاحف المعروفة بطابعها المعماري التاريخي، وبتواجدها داخل بنايات عريقة، بعضها اليوم هو بمثابة معلمات حضارية مهمة. وتتوفر معظم هذه المتاحف على عدد من الأجنحة التي تحتوي على مجموعة من القطع المتحفية النادرة والمتنوعة. وتشعل مجموعات تحف الحلي حيزا مهما في هذه المتاحف، حيث يكفي أن نتوقف عند بعضها لكي ندرك مدى الأهمية التي يوليها المغرب لحفظ ولصيانة جانب من تراثه وفنونه وعاداته وتقاليده في إطارها الحضاري والطبيعي، وعلى مدى حقب وفترات تاريخية، على الأقل ابتداء من القرن التاسع الميلادي إلى اليوم.

متحف البطحاء بمدينة فاس:

يوجد هذا المتحف بالقصر الملكي الذي بناه السلطان الحسن الأول في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وفي عام 1915، تم توظيف هذه المعلمة التاريخية كمتحف للفنون والعادات والتقاليد.

وأهمية هذا المعرض كونه يتوفر على حوالي 6000 قطعة متحفية متنوعة من المخطوطات والاسطرلابات والقطع النحاسية والخشبية والجبسية والرخاميات والمسكوكات والحلي والألبسة والمنسوجات وقطع الزليج والخزف.

وتشغل الحي فضاء متميزا في هذا المتحف، وتحديدا في القاعة الثالثة من الجناح الغربي، وفيها تعرض الحلي وحلي فاس، في حين تنفرد القاعة السابعة بعرض الحلي والحلي القروية…

متحف الآثار بمدينة تطوان:

يقع هذا المتحف الأثري الذي تم تأسيسه عام 1939 قرب “ساحة الفدان”، أي عند نقطة التقاء مدينة تطوان العتيقة بالحي الإسباني الجديد.

تشتمل محتوياته على بقايا أركيولوجية وأثرية، ويضم أيضا قاعة بها معروضات نادرة، تشكل الحلي جانبا مهما فيها، بما تتوفر عليه القاعة من أساور وخواتم من البرونز، وميداليات من العظم، وعقود من عجين الزجاج وحلقات من ذهب، ومرايا برونزية…

المتحف الإثنوغرافي بمدينة شفشاون:

يقع هذا المتحف بالقصبة التاريخية بساحة “وطاء حمام”، التي يرجع تاريخ بنائها إلى عام 1471 على يد الأمير مولاي علي بن راشد، مؤسس الإمارة الراشدية بشفشاون، حيث شكلت هذه القصبة النواة الأولى للمدينة ومركز الحكم بها.

أما تاريخ إحداث المتحف، فيعود إلى عام 1985، ويحتل مكانة خاصة في تاريخ المدينة وطبوغرافيتها.

يتكون المتحف من قاعتين رئيستين، ويحتوي على مجموعات متحفية وقطعا فنية تعكس خمسة قرون من التفاعل الحضاري والثقافي بين المجموعات القبيلة المحلية والعناصر الأندلسية واليهودية التي عمرت المدينة واستوطنتها، منذ نشأتها في الربع الأخير من القرن الخامس عشر.

وتضم القاعة السادسة من هذا المتحف، فضلا عن معرض الأزياء، مجموعة من الحلي ومجوهرات المرأة في هذه المناطق، وقطعا متنوعة من الأشكال والوظائف، مشكلة أساسا من معدن الفضة التي تتزين بها المرأة في مختلف المناسبات.

متحف دار الجامعي بمدينة مكناس:

شيد هذا القصر عام 1882 ميلادية. ويعود الفضل في تشييده إلى الوزير الصدر محمد بن العربي الجامعي الذي عاصر السلطان المولى الحسن الأول.

ويقدم متحف دار الجامعي، بطابقيه السفلي والعلوي، معرضا دائما للفنون والحرف التقليدية التي تتميز بها مدينة مكناس، من بينها عرض بعض الحلي الحضرية.

متحف سيدي محمد بن عبد الله بمدينة الصويرة:

يرجع تاريخ البناية التي تحتضن هذا المتحف إلى القرن التاسع عشر، ويعود تاريخ إنشاء المتحف إلى عام 1980، بهدف الحفاظ على الموروث الثقافي للمدينة وللإقليم ككل والتعريف به.

ويضم الطابق العلوي للمتحف مجموعات متحفية مهمة، تشغل الحلي حيزا لافتا فيها، بما يشهد على مهارة الصانع الصويري من خلال القطع المعروضة المتميزة، والتي تعد نتاج تلاقح عدة ثقافات فيما بينها، كالأمازيغية واليهودية والعربية.

متحف دار السي سعيد بمدينة مراكش:

تعتبر هذه الدار من بين الدور التقليدية الفاخرة بالمدينة، أنشئت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من قبل السي سعيد بن موسى وزير الحربية في عهد السلطان المولى عبد العزيز. ويتوفر المتحف على مجموعات متحفية تقليدية، تتكون في الغالب من مجموعات خشبية وفخار وخزف وأسلحة تقليدية ومنسوجات وبعض اللقى الأثرية، فضلا عن مجموعة من الحلي التقليدية النادرة…

متحف الفنون الصحراوية بمدينة العيون:

أحدث هذا المتحف بمقر دار الثقافة بالمدينة. وتتكون مجموعاته المتحفية من نماذج من التراث الثقافي الصحراوي الأصيل، حيث تضم القاعة الرئيسية للمتحف ثلاث وحدات، تعرض الوحدة الثالثة منها، إلى جانب الزي التقليدي والآلات الموسيقية، مجموعة تحف للحلي المحلي.

الحلي القروية والحلي الحضرية:

تتنوع الحلي في المغرب من منطقة إلى أخرى. وتشتهر المناطق القروية، كما هو الحال بالنسبة للمناطق الحضرية، بتحف خاصة من الحلي، تعكس بشكل أو بآخر مدى المكانة التي للحلي في قلب المغاربة عموما، وتفرد الإبداع المغربي في مجال صناعة الحلي وزخرفتها، وأيضا مدى اهتمام المغاربة القديم بهذا الفن الأصيل. وتصنع الحلي القروية من الفضة، حيث يعتمد في تزيينها على عدة تقنيات مثل “التسليك” و”النيلة” و”النقش” و”التخريم”، وتمثل منطقة الأطلس الصغير أهم مركز للحلي القروية بالمغرب، وخصوصا لدى الأمازيغ، بمنطقة “تزنيت” و”إذا أونظيف”، كما تشهد على ذلك جمالية القطع التي صنعت بهاتين المنطقتين، هناك حيث تشتهر حلي الفضة خصوصا، تلك التي يطلق عليها المغاربة عموما تسمية “النقرة”، وتشتهر بها وبصناعتها مناطق الجنوب المغربي، نظرا لوجود مناجم الفضة بها.

وتحظى الفضة (النقرة) في الجنوب المغربي باهتمام خاص بها من لدن المرأة أكثر من الذهب، وهي حلل معروفة بعيارها الثقيل، وتضم غالبا أساور وخلاخل وأقراطا يزينها اللوبان والمرجان، وأخرى تزينها الأحجار الكريمة، وعادة ما توضع على رأس العروس في حفلات الزواج. وتعكس طبيعة الحلي الأمازيغية الهوية الاجتماعية لمن يرتديها من النساء.

وتبقى الحلي الذهبية هي الأكثر شهرة في المناطق الحضرية، في حين يكثر الإقبال على الحلي الفضية في المناطق الأخرى لرخص ثمنها مقارنة بالذهب. وتستعمل الحلي عادة في المغرب إما للزينة أو لعلاج بعض الأمراض والأعصاب، وطرد الجن، وطرد الحسد والعين… وتُلْبس هذه الحلي في المناسبات الكبرى، كحفلات الزفاف. وفضلا عن قيمتها الجمالية، تعد الحلي أيضا وسيلة للادخار نظرا لقيمتها المادية، وتعد مدن فاس ومكناس وتطوان والصويرة ومراكش أهم مراكز صناعة الحلي في المغرب.

عرفت مدينة فاس منذ قرون كمركز هام للصناعات التقليدية والمهارات الفنية، وقد احتلت صناعة الحلي مكانة هامة بين هذه الحرف، حيث استخدم فيها الصانع الفاسي تقنيات متعددة لصياغة مواد أولية مختلفة. وقد كان الذهب المعدن الأكثر استعمالا، حيث صيغ بتقنيات متعددة، كالتهذيب والتخريم والتقطيع والتطريق والتفصيص والحفر…

أما في مكناس، فقد استخدم الصائغ المكناسي نفس التقنيات المستعملة في باقي الحواضر المغربية، إلا أنه تميز بإضافة طلاء أزرق هو “الكوبلت”، والذي يضفي بريقا فريدا على الحلي، فضلا عن تقنية الترصيع بالأحجار الكريمة أو شبه الكريمة، أو الزجاج الذي يزين به المعدن المستعمل…

وفي تطوان، تتميز الصياغة بالتنوع في التقنيات، وفي الأشكال والزخارف، ويطغى عليها الأسلوب والطابع الأندلسي، وهذا التقارب والتأثير بين الحضارتين المغربية والأندلسية أضفى على القطع إبداعا فنيا وجماليا جعل مدينة تطوان تنفرد بتقنياتها الدقيقة، مثل الحفر والتفصيص والترصيع بخيوط الفضة والتقطيع والطلاء…

وبحكم موقعها الجغرافي الذي جعلها نقطة تلاقي قبائل أمازيغية وعربية، تبلورت بمدينة الصويرة صناعة متنوعة للحلي ذات مرجعيات ثقافية متعددة، استخدم فيها الصانع الصويري تقنيات متعددة كالحفر والتخريم والتشكيل بأسلاك الفضة…

وعلى غرار المدن المغربية العتيقة، استقطبت مراكش صاغة مهرة مازالوا يبدعون إلى اليوم في فن الصياغة. وتتميز صياغة الحلي بمراكش بتجانس أنواع متعددة من تقنيات الصنع والزخرفة بشكل يصعب معه، في نظر المتخصصين، جرد أصناف مميزة، إلا أن الترصيع بالأحجار الكريمة والزجاج الملون وقطع المرجان وحبيبات الفضة تبقى ظاهرة سائدة…

 وعرفت صياغة الحلي خلال فترات تاريخية مختلفة تقنيات جديدة ومتطورة مثل “التسليك” و”القولبة” و”النقش” و”التلحيم” و”التحبيب”. ويمكن التمييز بين حلي تلك المدن من خلال تقنيات صياغتها، حيث كانت تحمل أختام المدن التي صنعت فيها. كما أنها تعتبر بمثابة قيمة حقيقية للادخار والاستثمار.

وعموما، ورغم غلبة مادة الفضة في الحلي المغربية، فعادة ما يتم إدخال مواد أخرى كالنحاس والبرونز وخليط من النحاس والقصدير أو الرصاص…

الحلي النسائية والحلي الرجالية:

تصنع الحلي النسائية إما من الذهب أو من الفضة أو من الفضة المذهبة، وتمثل في الغالب عناصر للزينة النسائية، وتتميز كل القطع بجمالية خاصة، من بينها تاج العروس، وطقم حلي الرأس، يوضع على شكل عصابة الرأس، ولها عدة أسماء مثل”العيّاشة” و”النوّاشَة” و”خيط الريح”. وتتخذ الأقراط أشكالا متنوعة، منها ما يعرف باسم “المفاتل” و”خراص كباش” أو “خراص عمارة”، وهي ذات حجم كبير، أما العقود الصدرية، فتتخذ بدورها أشكالا وأحجاما مختلفة وتعرف باسم “المنجدة” و”اللبة”، وترصع بالأحجار الكريمة مثلها مثل “الخلالات” أي “البروش”. ولا تكتمل زينة المرأة من دون ارتداء الأساور الذهبية أو الفضية وتسمى “شمس وقمر”، وكذلك الخلاخل المزخرفة ب “الفتائل”، والدمالج، والخواتم .

أما الحلي الرجالية في المغرب، فعادة ما تنحصر في الخواتم، غير أن قطعا أخرى اكتسبت بعدا جماليا وتزيينا للرجال، من قبيل السبحة، وعلبة التبغ، وحافظة كتاب “دليل الخيرات”، فضلا عن بعض الأسلحة البيضاء كالخناجر المصنوعة من الفضة بأنواعها الثلاثة: السبولة والكمية والخنجر، والبنادق، وأوعية البارود، والواقية، والأغماد، والحاملات أو المجادل، وهي ما يحمل بها الخنجر أو السيف. وكلها حلي تتخذ أشكالا زخرفية ذات أصول أمازيغية وأندلسية، يتم ارتداؤها في المواسم والحفلات التي تكتسي طابعا شعبيا، من قبيل مواسم “التبوريدة”، المخصصة لركوب الخيل وسباقاته. ويبدو أن الطابع السائد في تزيين هذه الحلي هو تشكيلات نباتية وهندسية مرصعة بالأحجار الكريمة (ياقوت وزمرد وجواهر) والزجاج، وهو ما يضفي على الحلي الحضرية الرونق الذي يميزه. وتمثل تلك الحلي بالنسبة للرجل رمزا للفخر والرجولة والشهامة ودليلا على المكانة الاجتماعية.

الحلي المغربية: تجديد متواصل:

من شأن المتتبع لتطور صناعة الحلي في المغرب أن يلمس عن كثب مدى التطور اللافت الذي طال هذه الصناعة في المغرب، سواء من حيث الأدوات ووسائل الصياغة أومن حيث خلق أشكال وصور وزخارف جديدة. من هنا، فإن احترام التراث والثقافة المغربيتين يجب، حسب كريم طاسي وهو أحد أشهر المصممين المغاربة المشهورين عالميا، ألا يحول دون تحديث هذا المنتوج الذي يجب تطويره باستمرار حتى يصبح قادرا على التلاؤم مع أذواق العصر، وقادرا أيضا على استباق وتوقع توجهات الأذواق.

ويكفي أن نشير، هنا، إلى تلك التجربة الفريدة من نوعها التي قادها سمير طاسي بمدينة تزنيت المغربية لفائدة عشرة صناع تقليديين من المدينة، لما تكتسيه من أهمية خاصة في سبيل تطوير المنتوج الوطني للحلي، عبر تلقينهم التفكير في إبداع خطة كاملة لصناعة الحلي، بغية الحصول على منتوج بسيط لكنه معبر من حيث الشكل والصورة، حيث اقترح عليهم سمير طاسي، انطلاقا من دراسة قام بها على “الخميسة” أو “يد فاطمة”، عددا من الرسومات ليترجمها كل صانع بطريقته الخاصة.

ولتحقيق هذا الإنجاز، اقترح سمير طاسي الانفتاح على ميادين الفنون الأخرى، وعلى الأنترنيت، وعلى المجلات المتخصصة، وعلى كل المصادر التي يمكنها أن تساعد على التعرف على الأذواق المستقبيلة للسوق، حيث ستسمح هذه المقاربة بخلق تبادل مهم ومزج لمختلف المهارات، وبالتالي تجديد المتخيل.

ومن شأن ذلك، يضيف سمير طاسي، أن يساعدنا على استهداف سوق مغربي زاخر بالتحولات وعلى العثور على أسواق جديدة للتصدير.

الحلي المغربية في الذاكرة البريدية:

اعتبارا للأهمية التي تحظى بها الحلي في الذاكرة الحضارية والتاريخية المغربية، فقد تم تخليد مجموعات مختلفة من التحف الفنية منها في طوابع بريدية، أصدرها بريد المغرب في فترات زمنية متتالية، مباشرة بعد الاستقال، من عام 1956 إلى عام 1981، وهي طوابع تزينها نماذج من الحلي والجواهر والأسلحة التقليدية، هي عبارة عن أقراط وخميسات وأسلحة فضية قديمة، تؤرخ لمناسبات مختلفة، وخصوصا تلك التي تؤرخ لليوم الأول من أيام الهلال الأحمر المغربي عام 1966.

الحلي المغربية: أقدم حلي في العالم:

لقد همت الحفريات الأثرية بالمغرب، وخاصة مع بداية سبعينيات القرن الماضي، عدة مواقع إسلامية، نذكر منها: بليونش وباديس والقصر الصغير والبصرة وسجلماسة وأغمات وتامدولت وتينمل، حيث تم الكشف عن عدة لقى أثرية مهمة، من بينها الحلي.

وتشكل الحلي التي تم العثور عليها بمختلف المواقع الإسلامية مصدرا أركيولوجيا مهما، كما تمثل اللقى الأثرية المكتشفة رمزا للجمالية والغنى والانتماء الاجتماعي.

وقد دفعت هذه المكانة المتميزة التي للحلي في المغرب، بعض الباحثين في الآثار والخبراء المغاربة والبريطانيين (من المعهد المغربي للآثار والتراث ومن جامعة أكسفورد)، إلى القيام مؤخرا بحفريات أثرية دامت خمس سنوات، أسفرت عام 2009 عن اكتشاف أقدم حلي في العالم بالمغرب، وتحديدا في مغارة الحمام بمنطقة “تافوغالت” شرق المغرب.

ويتراوح عمر الحلي التي تم اكتشافها ما بين حوالي 84 و85 ألف سنة، أي أنها تعود إلى العصر الحجري، وهي عبارة عن مجموعة من الصدفيات، يتفاوت عددها من تصريح لآخر، كان قد ثقبها الإنسان القديم واستعملها حليا. وتعتبر تلك التحف الأقدم من تلك التي تم اكتشافها بمغارة بلومبوس في جنوب أفريقيا، وتعود إلى 75 ألف سنة، والأقدم أيضا من تلك التي تم اكتشافها في فلسطين والجزائر، مما يعني، حسب نيك بارطون، الأستاذ الباحث بمعهد الآثار بجامعة أكسفورد وعضو الفريق العلمي، أن هذه الاكتشافات الجديدة بالغة الأهمية، لأنها توضح أن صناعة الحلي بالقارة كانت بمثابة نشاط قديم جدا…

ويشير عبد الجليل بوزوكار، الأستاذ المغربي الباحث بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث والمسؤول عن الفريق العلمي، أن التأكد من تاريخ تلك الحلي تطلب من الفريق العلمي أربع سنوات من العمل في المغرب وفي مختبرات بريطانيا وأستراليا، بمساعدة خبراء دوليين ومغاربة.

وقد أظهر مختلف تلك الاكتشافات أن إنسان العصر الحجري لم يكن متوحشا ويطارد الحيوانات مثلما تقدمه كتب التاريخ والأفلام، وإنما كان يتمتع بحس جمالي وبذوق فني، كما أنه صنع لنفسه رموزا ولغة للتخاطب.

وحسب رئيس فريق البحث، فإن أهمية هذا الاكتشاف الأخير تكمن في تأكيد ما مفاده أن الإنسان القديم الذي عاش في شمال أفريقيا، سبق الإنسان الأوربي في استعمال الرموز والحلي وربما اللغة، مضيفا أن الإنسان القديم بهذه المنطقة “بلغ جانبا من الرقي في التفكير والعيش والانتماء إلى مجموعة بشرية. فالحلي المكتشفة لا تستعمل فقط للزينة وإنما تعبر عن الهوية وتكشف عن وجود لغة مشتركة واهتمام بالجماليات والرموز”.

الحلي: أفق جمالي وحوار ثقافي كوني:

كما هو معروف وشائع، تحظى الحلي المغربية باهتمام متواصل وبشهرة عالمية، كما تلقى إقبالا متزايدا على متاحفها وعلى معارضها الدائمة والمتحولة، حيث إن أجنحة الحلي غالبا ما تستقطب إليها الزوار من مختلف الجنسيات والجغرافيات، كما تثير إعجابهم وفضولهم الفني وإحساسهم الجمالي، بما أنها أجنحة تعكس في مجملها مدى تفرد الصانع المغربي منذ القديم، وتظهر مهارته وعبقريته في مجال صناعة الحلي وزخرفتها وتشكيلها، في نماذجها وأشكالها المختلفة، كالعقد والقلادة والإسورة والخلخال والخاتم والخنجر وغمده والدليل…

غير أنه من شأن المتأمل في نماذج وأشكال الحلي كما هي لدى بعض الأقليات هنا وهناك، سوف يكتشف مدى قيام حوار وتلاقح وتقاطع بين حضارات وثقافات مختلفة ومتباعدة. ويكفي هنا أن نشير إلى معرض التحف الفنية المسمى ب”معرض الحلي المتقاطعة”، الذي نظمته المكتبة الوطنية للمملكة المغربية وجمعية المرأة الفاعلة، بفضاء المعارض بالمكتبة، والذي اشتمل على عرض عينات مختارة من الحلي المعروفة لدى “الأمازيغ” بالجنوب المغربي ولدى الأقليات الإثنية بقبائل “مياو” بالصين، بما يجسد في نظر المنظمين حوارا ثقافيا بين ثقافيتين متباينتين ومتباعدتين: ثقافة الأمازيغ بالمغرب وثقافة المياويون بالجنوب الغربي للصين، من خلال خلق تواصل مباشر هذه المرة بين المادة (الحلي) والرموز والأشكال والألوان. وهو الحوار الذي يرمز إليه التشابه القائم بين قطع الحلي المسكوكة لدى أمازيغ المغرب وقبائل مياو بالصين، على مستوى المادة وتقنية الصناعة: القولبة، التطريق، النقش، الترصيع، الضغط، الفتل، الجدل، التلحيم، التقطيع، وأيضا على مستوى موتيفات ورسوم التزيين والوظائف والأشكال الهندسية والرموز المرتبطة بالحلي.

وقد شهد هذا المعرض إقبالا لافتا عليه من لدن الزوار، من مختلف الجنسيات والاهتمامات. وما ميز أيضا هذا المعرض الفريد من نوعه، تكليف شابات بارتداء عينات من الحلي اليدوية المصنوعة بإتقان مبهر في المغرب والصين، وقيامهن باستعراض ذلك أمام جمهور الزوار، وهن ترتدين الأزياء التقليدية الأمازيغية والمياوية، في مشهد بديع ومثير أمام جمهور الزوار، الأمر الذي خلق، موازاة مع معرض الحلي، لوحات فنية بديعة أبهرت الناظرين، وأمتعت الأعين والحواس.

 

One Response to الحلي المغربية: صناعة وعراقة وجمال

  1. كريم رد

    25 فبراير, 2013 at 11:14 م

    أعتقد بأن قصبة الأوداية من بناء الموحدين وليس العلويين، أرجو البحث والتأكد وتصحيح المعلومة.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات