مرآة فاس

12:35 مساءً الجمعة 9 نوفمبر 2012
محمد عز الدين التازي

محمد عز الدين التازي

روائي من المغرب

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

 

 

فصل من رواية بعنوان:
“أشياء تنفض عنها الغبار”

 

 

 

مدينة فاس

مدينة فاس

“الصورة في المرآة هي التي تنظر إلينا.
لست أدري كيف يكون الوجه الذي يراني عندما أنظر إلى وجه المرآة”.
(خورخي لويس بورخيص)
“كانت لي مرآة، فصرت أنا المرآة”.
(المتصوف أبو زيد البسطامي)

 

أنت يا هذا الذي اسمه عبد الهادي السباعي، حُلَّ عني. غادرني. فارقني. ابتعد. سر حيثما تشاء فلا مكان لك فوق أرضي.
تَفَرٌّقْ كما يَتَفَرَّقُ الشعاع أو تِهْ في متاهاتي كما تتيه الأرواح والكائنات، وإن شئت كن تائها مثل تَيْهِي في وحشة الأيام وما تبقى بعد أن لم يبق شيء.
إن كنت لا تراني فأنا لا أحب أن أراك، وإن كنت في ظلمائك فأنا في ظلمائي.
بيني وبينك ألف سبب لكي تفارقني، رغم أنك قريب من الموت وأنا قريبة من الموت.
عندما أدرتَ وجهك لي عرفتُ أنك لا تعرف شيئا عني، سوى ما عشتَه في دروبي وساحاتي وطرقاتي، فهل من يعرف مدينته لا يعرف منها غير الدروب والساحات والطرقات؟
ثم إنك لم تُصْغِ إلى أصواتي القريبة والبعيدة، ولم تنظر إلى ما عشته من تقلبات ومحن وأحوال عبر الأزمنة، ولم تصعد مع صعودي ولم تنهر مع انهياراتي، فلو كنت امرأة عاشت كل هذه القرون لأدركتها الحكمة أو لأصابها الجنون، أما أنا فمن أين لي بالحكمة أو الجنون؟ ما أنا سوى مدينة معرضة للضياع والنسيان. أما أنت فقد شغلك عني الأسى الذي عشتَهُ طوال حياتك، رغم الفيلا والسيارة والتجارة التي جعلت المال يتدفق بين يديك، والأسفار التي سافرت خلالها إلى مدن أخرى حيث ملأت عينيك بالنظر فيما لم تره في مدينتك، كل ذلك شغلك عني، كما شغلتك أمور دنياك، نساؤك وأولادك وخادمتك ولياليك مع الصحاب وخروجك من حانة لتدخل أخرى.
هل كان كل هذا هو ما غَيَّبَ وجهي عنك حتى أصبحت لا تراني؟
حُلَّ عني إذن، غادرني، فارقني، ولا تقل بعد الآن إنك واحد من أبناء فاس، فالعقوق هو ما لا يمكن أن تغفره المدينة لأبنائها.
لم يأت عليك يوم ترى فيه مدينتك، لا بمرأى العين، ولكن برؤيا تجمع فيها ما تفرق من الأوضاع التي عاشتها، وأن تقرأ تاريخها وما شهده من أحداث وما تَقَلَّبَ فيه من أوضاع، أو أن تجول بين دروبها السفلى لتسكن ولو لبعض الوقت بين الصمت والعتمة، وبين حيطان طالها الرشو، وبين منازل كان لها بهاؤها وهي الآن على وشك أن تتهدم، أو أن تقف عند سِقَّايَةٍ نَضَبَ منها الماء، أو عين جفت، أو جامع صار إلى خراب، أو سوق كان يزخر بالخيرات ثم تَفَقَّرَ بعد أن لم يعد به من الخيرات ما كان، حتى وأنت تشرب كأسك في (فندق المرينيين) لا تُلْقِي نظرة علي وأنا تحت نظرك وأنت في ذلك العلو تشرب كأسك وتنظر إلى نفسك دون أن تنظر إلي.
كيف بك تعيش في مدينة لا تعيش فيك، وكيف بك لا تجعل مدينتك تعيش فيك؟
مادمت على هذا الجفاء وهذا النكران فلا أنت مني ولا أنا منك، لذلك يتوجب عليك أن تَحُلَّ عني، أن تغادرني، أن تترك فاسا لمن تمثلوا وجودها ورأوها برؤى متعددة، في أحوالها وصعودها وانهيارها، في حضارتها التي هي على وشك أن تُبَاد، إن لم تكن قد أُبِيدت، في علمائها وصُلَحَائِهَا وصُنَّاعِهَا وأسواقها وحدائقها وباحات منازلها وما كان يحيط بها من جنان، ومن تغنوا بها في قصائد “الملحون”، ومن حكوا حكايتها بألف لسان وألف رواية، وكانوا عميانا فساروا في دروبها يبصرونها، من ناموا في حضنها ومن حاربوا في طرقاتها بالسيوف ومن باعوها ومن اشتروها ومن دخلوها عنوة ومن خرجوا منها غير آمنين، ومن سكنوا منازل كالقصور ومن سكنوا أربع أو خمس أسر في بيت واحد، ومن جمعت بينهم (مقبرة القِبَب) حتى وهم لم يجتمعوا في الحياة، ومن ضحكوا ومن بكوا، ومن تأرقوا، ومن مرضوا ومن تَغَرَّبُوا ومن لم يكن لهم شيء في حياتهم سوى مدينتهم يحرسونها بالليل والنهار ويسهرون على حبها حتى صارت هي المعشوقة.
لأنك لست واحدا من أولائك، فأنت لست مني وأنا لست منك، ولو كنتَ مني لأصغيتَ إلى من عاشوا قبلك وكانوا يقولون: “فاس مرآة”.
أنا المرآة!
لو لعلمت أن معنى ذلك هو أن المرآة تُظهر الخفي وإن شاء أحد أن يذكر شيئا أمامها فهو يظهر أمامه، لكانت لك تلك المرآة، من غير أن تنظر إلى المرآة.
هي مرآة لم تكن لك يا عبد الهادي، وهي ليست لك، لأنها مرآتي أنا. أنا فاس.
قد تكون مرآة سحرية ولكنها كذلك وليست كذلك، فما يظهر في المرآة أمام من يرها هو ما يملكه من ملكية خاصة لذاكرة مدينته، وهو عبر المرآة يرى تاريخها، وتَقَلُّبَاتها وأحوالها، ونَبْضَ عروقها، وأحلامها وأوهامها، وأبراجها العالية وانحداراتها نحو ما ينحدر من الطرق.
هي مرآة الرائي، أو هي مرآة المرآة!
قد تكون مرآة عجيبة، رغم أنها ليست مرآة، وإنما هي مجرد صفحة تظهر عليها الأشياء والكائنات والمخلوقات ومظاهر الحياة، وظهورها يبدو مطابقا لما هي عليه، وما كان.
تصور أيها الغرير، أنها مرآة تشبه المرآة، وأن ما قد يظهر عليها يُظْهِرُ من عاش في فاس من السلاطين والرعايا الأوفياء والرعايا الذين لم يعودوا رعايا فثاروا على جور السلطان، ومن عاش فيه أيضا، من التجار والصناع ومن ملكوا العبيد والإماء، ويُظْهِرُ أشياء غريبة وعجيبة، لكنها من صلب الواقع، حيث تصبح تلك المرآة، وكأنها تاريخ مرئي، يراه كل من يحب أن ينظر إلى تلك المرآة.
أنت يا عبد الهادي السباعي لم تحب أن تنظر إلى تلك المرآة، لأنك كنت تنظر إلى مرآتك فلا ترى فيها سوى وجهك.
وهي مرآتي أنا.
مرآة فاس.
لو شاء أحد أن يذكر اسم السلطان وينظر إليها لرآه وهو في قصره مع حريمه أو وهو يخرج من “المحلة”، وهي جيش كبير ليحارب من ثاروا على ملكه من القبائل، أو وهو يشرب كأس المرارة، وقد أعياه ذكاؤه وحيلته فتخلى عنه جيشه وبقي وحيدا في العراء، يعيش على بقول الأرض، منتظرا أن يسعفه ذكاءه وحيلته لكي يحصل على المال الذي يُجَنِّدُ به جند القبائل حتى يقضي على أعدائه ويسترجع سلطانه الضائع، فيعود إلى قصره وحريمه. وهي حروب تظهر على المرآة، بين سلطان وبين من رغب في أن يكون هو السلطان، وكانت فاس تبيت ليلتها على حكم سلطان ثم تصبح في غدها على حكم سلطان آخر، وكأنها امرأة اغتال زوجَها السلطانَ فارسٌ مغوارٌ فأصبح هو السلطان وضمها عنوة إلى حاشيته، دون أن يراعي ما كان بينها وبين ذلك السلطان، وبذلك فهي تتعرض من فترة لأخرى، لوطء لا ترغب فيه، بل تعتبره عنوة، كما العنوة تكون تحت حد السيف وليس بالقبول وطيب الخاطر. ومن شاء أن يشاهد فاسا توطأ عنوة، فهو الناظر إلى تلك المرآة، وهو الشاهد!
هذا الناظر إلى المرآة يمكنه أن يرى حريم السلطان والأميرات والوصيفات ودسائس رجال ونساء القصر والأحقاد والخيانات والسيطرة أو إفلات السيطرة على زمام الأمور وبعض الموبقات وحالات ضعف السلطان وجلوسه للبكاء أو خروجه في رحلة صيد أو حتى موته وخروج جنازته من القصر إلى المقبرة الملكية وتهيأ من يأتي بعده لتولي السلطان. والمرآة يظهر فيها السلطان بعيدا عن تلك النظرة التي تملكها الرعية عنه، والتي تتسم بنوع من القدسية، فرضتها هيبته على الناس، فهو إنسان كباقي البشر، يضحك ويبكي ويضاجع النساء ويتأرق ويمرض ويموت، وسواء مات بداء النقرس، أو بالطاعون، فموته لا يختلف عن موت باقي البشر، لأن الموت واحد، وسواء دفن السلطان في المقبرة الملكية ودفن الناس في المقابر العادية فلا فرق ما دامت تتحلل وتحول إلى عظام، لكن ما يختلف فيه موت السلطان عن موت باقي الناس العاديين، هو أن المؤرخين يدخلونه إلى التاريخ، سواء بتلميع صورته من خلال حروبه التي انتصر فيها على الأعداء أو من خلال منجزاته وهي في الغالب أبنية أو أبواب للمدن لا تذكر إلا مع ذكر اسمه، لكن الصورة ليست لامعة في جميع الأحوال، فالبطش بالرعية، وتوظيف العلماء ليفتوا فتاو لا أساس لها في الدين، والسطوة التي تعقبها الكبوة، وأيام الرخاء التي تليها أيام شُحِّ مداخيل الدولة من الإتاوات والاتجار مع الأجنبي كل ذلك يعجل بموت الدولة وأفول نجم السلطان، لكن الدولة تموت، ونجم السلطان يأفل، فتأتي دولة أخرى بسلطان آخر يسطع نجمه، ثم يأفل النجم، وهكذا دواليك. كل ذلك يظهر على المرآة، ويظهر عليها أيضا، حراك شعبي يعلن من خلاله الناس أنهم مع السلطان أو ضده، ومن هم ضده ليسوا بالضرورة مع أعدائه من النصارى، لأنهم لا يبيعون ذمتهم، ولكنهم غيورون على وطنهم، ومنهم من علماء عندما رأوا فساد السلطان جندوا الجنود لمحاربته وخلعه، إلى جرت الدماء ممزوجة بماء المطر. كم من مرة استنفرت نفسي وأنا أرى الدم يمتزج بالمطر فيهبط أنهارا من (فاس الجديد) وينحدر مع (الطالعة الصغيرة) و(الطالعة الكبيرة) إلى أن يصل إلى (باب مولاي إدريس) فتبتلعه المجاري ويذهب مع (واد بوخرارب)! لم ينفعني ذلك الاستنفار في شيء، فقد كنت أنا نفسي أغرق في ذلك الدم الممزوج بماء المطر. هل سهل علي ذلك؟ أيام عصيبة عشتها، وما كان لي في ما وقع فيها من أحداث أي قرار، كما لم أكن أتفرج على الدم وهو يمتزج بماء المطر حتى يصبح نهرا يهبط في طرقاتي، بل انطويت على جراحي، وهي جراح ظلت تتكرر أعواما بعد أخرى، حتى أصبح جسدي مثخنا بالجراح، وأصبحت أنا الذاكرة الجريحة.
أين كنت طوال هذا الوقت يا عبد الهادي؟ كنت لم تولد بعد، لكن الذين ولدوا معك في نفس السنة، أو بعضهم على الأقل، عرفوا الكثير من تاريخي وذاكرتي المثخنة بالجراح، فلماذا لم تكن أنت من بين هؤلاء، ولماذا أردت أن تصنع من حياتك أسطورة شخصية، ولم تربط بين أسطورتك الشخصية وأسطورتي أنا كمدينة؟ لماذا لم تنظر إلي في المرآة، وهي مرآة من نظر إليها تنظر إليه، وتراه كما برى نفسك مدينته، وما دمت لم تفعل ذلك، فَحُلَّ عني، غادرني، أخرج من (باب بوجلود) أو ( باب الفتوح) ولا تدخل أبدا. سر حيثما تشاء، لأكون براء منك وتكون براء مني.
ويمكن أن يرى الرائي على المرآة قابلة تُوَلِّدُ النساء في البيوت فما عليه سوى أن يذكر اسمها وهو يقف أمام المرآة ليراها تقوم بتسخين الماء والكشف بأصابع يديها عن فرج المرأة التي تنتظر الولادة بعد أن انفجر الكيس الوقائي وخرج منه ذلك الماء الساخن إيذانا بقرب خروج الوليد. والمرأة تتوجع، وتصرخ، والقابلة تساعدها وتطلب منها الصبر، إلى أن يبرز رأس الوليد فتمسك به القابلة وتسحب جسده ثم تقطع حبل السرة ثم تحمل الوليد بين يديها من قدميه ورأسه في اتجاه الأرض لتضربه على مؤخرته ضربات خفيفة يصرخ لها صراخه الأول وهو يستقبل الحياة أو أن الحياة هي التي تستقبله، فقد أخذ يتنفس الهواء، وهو ذكر، سليم شعر رأسه نام وعيناه مفتوحتان. بشرى لأبيه ولأمه التي تجشمت كل هذا العناء في الولادة. تعالج القابلة سرة الوليد، وتغسل جسده بالماء الدافئ بغية إزالة طبقات الذهن التي تعلق بجسده، ثم تُلْبِسُهُ ملابسه الأولى وتُخْرِجُهُ من الغرفة التي تمت فيها الولادة إلى حيث يقف الوالد وهو ينتظر، فتسلمه وليده وهي مبتسمة وتطلب البشارة. يقدم لها الوالد ورقة مالية تفرح بها، وتسأله عن الاسم الذي سوف يسميه به، فيقول لها، عبد الهادي، وهو اسم الوالد، تبارك له الاسم، وتقول له آ الحسن مبروك عليك ولدك عبد الهادي، ها قد صرح صرخته ألأولى وهو يستقبل الحياة، وها قد لبس أول ثيابه، جعله الله ذخرا للبلاد والعباد. هكذا ولدت أنت يا عبد الهادي، وبنفس الطريقة ولد أولاد وبنات على مر السنين والأعوام، وإن كنت تذكر اسم القابلة التي وَلَّدَتْ أمك لالة الطاهرة فاذكره وأنت تقف أمام المرآة لترى ولادتك، وهو أمر ممكن، إلا أنك سوف تحتشم، فلا أحد يمكنه أن يرى فرج أمه وهو يتسع ويتمدد ليخرج منه الوليد.
أما الحمامات فيمكن رؤيتها عبر المرآة، يقصدها الرجال والنساء في أوقات معينة، بالتناوب، فحينما يخرج الرجال تدخل النساء، وحينما تخرج النساء يدخل الرجال، وقد كثرت الحمامات في فاس حتى وجد في كل حي حمام يقصده المستحمون ومن يرغبون في أن يرفعوا عنهم الجنابة بعد مضاجعة نسائهم، ومن بينها (حمام مولاي إدريس)، و(حمام بوصويفة)، و(حمام سيدي امحمد بن عباد) و(حمام باب البجاة) وحمامات أخرى كان الصناع والحرفيون يأتون إليها في ليالي الخميس ليغتسلوا بالمياه الساخنة حتى يأتي عليهم يوم الجمعة وهم على طهارة. ولم يكن الماء يَشِحُّ وهو يخترقني عبر الجريان من (وادي الجواهر) ليتوغل عبر القنوات حتى يتوزع على الأحياء والمساجد والبيوت، حتى تصل رقرقة الماء إلى كل حي من الأحياء، من (قصبة الأنوار) و(قصبة الشمس) و(الطالعة الكبيرة) و(الطالعة الصغيرة)، هبوطا نحو (باب مولاي إدريس) و(الشرابليين) و(عين علو)، و(عين البغل)، و(عقبة الزرقاء)، و(راس الشراطين)، و(راس الجنان)، و(كزام برقوقة) و(شق بذنجالة)، و(العيون)، و(النخالين)، و(الرميلة)، و(باب الخوخة) إلى كل ما يصب فيه مائي من أحياء ومساجد وحمامات.
وليس هذا وحده ما يظهر على المرآة، فمن شاء أن يذكر اسم عازف على العود أو الرباب أو ضارب على الطَّرِّ في جوق للموسيقى الأندلسية فما عليه سوى أن يذكر الاسم وهو يقف أما المرآة كي يراه وهو يُشَنِّفُ الأسماع. تِرِيتَان يا لاّلانْ. من “شمس العشي قد أشرقت”، إلى “اسقني الحميا، شعشعتي والحبيب ندمان”، إلى “طربت عندما رَقَّ النسيم، يا لان يا لالان يا اللالان…”، إلى مقامات م الحجاز والبطايحي وبساط العجم ورمل الماية ونوبات وتواش وصنائع. يرى العازف وهو وسط الجوق يعزف، مرتديا جلبابه الأبيض وعلى رأسه طربوشه الأحمر والبُلْغَةُ في قدمه حتى لا يكاد يميزه من بين أعضاء الجوق، ثم لا يميزه إلا بحركات يَخْتَصُّ بها كإمالة الرأس إلى جانب أو إدارته طربا وضبطا للإيقاع، ويراه وهو شبه عار في الحمام العمومي يفرك صدره وذراعيه ويغتسل بالماء الساخن، أو وهو في السوق يستبضع، أو وزوجته تخاصمه بعد أن بلغتها أخبار عن مرافقته لغلام وهو يدافع عن نفسه بأن لا شيء بينه وبين ذلك الغلام سوى أنه يُحَفِّظُهُ الطبوع والمقامات ليكون خير خلف لخير سلف، والمرآة تؤكد ما جاء في ظنون زوجته إذ يظهر وهو يتغزل في ذلك الغلام تمهيدا لركوبه، وإذا كان الحياء من شيم بعض الناس فالمرآة لا تستحيي من أن تُظْهِر الأمور على حقيقتها، كما يرغب في رؤيتها بعض الناس أو كما لا يرغب في رؤيتها أناس آخرون، ولا عجب، فهي مرآة تشبه المرآة ولكنها ليست مرآة.
ومن كان يقصد وليا صالحا من أولياء المدينة، يتبرك به ويستجير بجواره وأحيانا يكشف له عما في صدره من غم أو يشكوه ظلما تعرض إليه، فما عليه إلا أن يقف أمام المرآة ويذكر اسم الولي الصالح ليراه على المرآة وهو على قيد الحياة، يباشر حياته العادية أو يقرأ بعض الأوراد أو يُظهر للناس بعض الخوارق والكرامات، والناس يشاهدون كراماته ويتبركون به ويحفظون أذكاره وتسابيحه للخالق القهار، ثم إن مات بنوا له ضريحا يقصده الناس على مر العصور، وإن أوشك الضريح على التهدم فهناك من المحسنين من يسعى لترميمه واستصلاحه حتى تبقى بركة الزيارة سارية، لذلك كثرت الأضرحة في أرض فاس وكثر مريدوها، من (ضريح مولاي إدريس) في وسط فاس إلى (ضريح مولاي علي بوغالب) في (باب الفتوح) إلى (ضريح سيدي أبي بكر بن العربي) الذي يقع خارج أسوار (باب المحروق) وهو غير ابن عربي دفين دمشق، ويقال إن هذا الرجل من كراماته أنه قد أَلَّفَ العلم كله في ليلة واحدة، وهو أمر من العجائب، إذ يكون العلماء قد قضوا أعمارهم كلها في تأليف العلم ولم يبلغوا من ذلك شأوا كبيرا بينما استطاع هذا الرجل أن يؤلف العلم كله في ليلة واحدة، ويمكن لمن أراد أن يرى ذلك أن يذكر اسمه وينظر إلى المرآة فيرى رجلا رِبْعَة، يرتدي جبة بيضاء، على وجهه اصفرار، وهو يجلس أمام قرطاس ودواة والريشة في يده يغمسها في المداد ثم يكتب بسرعة كبيرة ما يجيش به خاطره، من ورقة لأخرى، والأوراق المكتوبة تتراكم، والأوراق التي في القرطاس لا تنفد، والمداد لا يَجِفُّ في الدواة، والرجل يبدو كمت فَقَدَ عقله رغم أنه هو صاحب العقل، وبالعقل كان يؤلف العلم وقد ألفه كله في ليلة واحدة، ولكن أين هو ذلك العلم؟ إنه لا يظهر على المرآة إلا لذوي العلم. كما كثرت الزوايا من (الزاوية القادرية) نسبة إلى مولانا عبد القادر الجيلالي دفين بغداد، و(الزاوية التيجانية) نسبة إلى سيدي أحمد التيجاني التي لها موسم سنوي يَحُجُّ إليه بعض الأفارقة من السينغال ومالي متبركين ببركة هذا الرجل الذي وصل إلى أرضهم لينشر فيها دين الإسلام وطريقته التيجانية، وزاوية سيدي أحمد الشاوي وزاوية ….، وهي زوايا توجد بها أضرحة أولائك الأولياء الصالحين، كما توجد بها قبور أبائهم وأحفادهم ومن تبعوهم، ونظرا لضيقها مهما رحبت، فقد امتلأت أرضها بالقبور، حتى أصبح بعض الأتباع للزاوية من الأغنياء يشترون قبورا لهم، في حياتهم، ليدفنوا فيها بعد موتهم، وأما ثمن القبر فيعود إلى “الربيعة” وهي صندوق لادخار الأموال يقتسمه أحفاد الولي كل سنة كما يقتسمون النذور من ذبائح وما تجمع في الصندوق من شموع وقطع للنقد. يمكن للمرآة أن تجعل من يناديهم بأسمائهم ويقف أمامها رائين لكل ذلك، فيروا أحفاد الولي صاحب الزاوية وهم لا يعملون في صناعة أو تجارة، لأنهم يستثمرون أيما استثمار كونهم أحفاد الولي الصالح صاحب الزاوية، وقد يرون حياة أولائك الأحفاد، وزواجهم وطلاقهم، وموتهم ليتركوا أبناء هم الآخرون حفدة للولي الصالح صاحب الزاوية.
أما المرآة فهي المرآة، ومن ذكر مُعَلِّمًا من معلمي الصنائع، سواء أكان “زلايجيا” أو “جَبَّاسًا” أو نَقَّاشًا على الخشب أو النحاس، أو “اصطارميا” أو “صانع فنارات من الزجاج العراقي”، وفعرف اسمه، فما عليه إلا أن يذكر الاسم وهو يقف أمام المرآة ليراه يمارس عمله مع صناعه بكل إتقان حتى إن من يرى ممارسة تلك الصنائع يمكنه أن يتعلمها مما يراه وإن كان يحتاج إلى أن يكون بين الصناع ليجيد فيها ويعرف أسرارها. وإن عرف أحد صانعا بالاسم وذكره ووقف أمام المرآة وكان الصانع صانع فنارات من الزجاج العراقي فسيراه وهو يصنع الإطارات من النحاس، يكوي القضبان بالكاوية لتلتصق مع بعضها، ليحصل على أشكال أسطوانية يحيط سطوحها بالزجاج الملون الذي يقطعه بمساحات تتلاءم مع الفجوات التي يدخل فيها، وألوان الزجاج من الأزرق إلى الأرجواني إلى الأصفر والأحمر، ولا يكون قد نسي فتحة الباب، ووضع قاعدة من النحاس تُثَبَّتُ عليها الشموع، كما لا ينسى أن يضع في أعلى الفنار تاجا نحاسيا يكون هو المقبض والحامل للفنار. الفنارات يا عبد الهادي كانت تضيء بالشموع بيوت الأكابر، أما بيوت الفقراء فكانت تكتفي بالقناديل، وذلك قبل أن يأتي الكهرباء لتصبح صناعة الفنارات صناعة ميتة، لا يحييها سوى ما يُقبل عليه السياح الأجانب، وبعض من يريدون أن يؤثثوا بيوتهم بتحف من الصناعة التقليدية. غير أن صانع الفنارات يظهر وهو يبكي بحركة، فقد انتحرت أخته ليلة البارحة بعد أن اكتشفت الأسرة أنها حامل من صانع يعمل مع معلم جباس تنكر لها وتركها تواجه مصيرها مع حملها، وكان أن صعدت إلى سطح المنزل ثم رمت بنفسها إلى وسط الدار، فَشُجَّ رأسها وسقطت ميتة، والدم ينزف من أنفها. بكي صانع الفنارات أخته ثم شحذ سكينا ليطعن بها في القلب من كان وراء حمل أخته وتنكر له.
ويمكن أن يرى الرائي على المرآة “زلاَّيْجِيَّا” يقطع الزليج بمطرقته الحادة الجانب ليصنع منه أشكالا مثلثة ومربعة ومثمنة، من كل الألوان، الأحمر والأزرق والأصفر والأبيض والأسود، وهو يضع الأشكال المثلثة من كل لون في صناديق من الخشب، والأشكال المربعة من كل لون في صناديق أخرى، والأشكال المثمنة من كل لون في صناديق أخرى، لكي تبقى مميزة عن بعضها، وبالدقة التي يقطع بها لوح الزليج يقيس انسجام القطعة الصغيرة بمقياس حتى تنسجم مع ما سيكون حولها من قطع، لكنه يعمل وهو شارد مشغول البال، فحبيبة قلبه جفته في هذه الأيام لأنه لم يبادر إلى خطبتها، وهو لا يملك مالا ييسر به أمر الزواج، منتظرا أن يُفْرِجَ الله عليه، لكن حبيبة القلب لا تنتظر ذلك الفرج الذي سوف يأتي من عند الله، وأخذت في كل مرة يلتقي بها تخبره بأن أناسا قد جاؤوا لخطبتها لولدهم، وهي لا تستطيع أن تعصي أمر والدها بالزواج كما لا تستطيع أن تصرح له بأنها على علاقة مع شاب آخر يعمل “زلايجيا”. يحترق قلبه من الغيرة، فمن هذا الذي سوف يختطف منه حبيبته، وهي من ملكت عليه جوارحه وعواطفه وخياله؟ فهو في كل مرة يتذكر لقاءه بها في (جنان السبيل) لِيُجْلِسَهَا بقربه ويظل وَالِهًا ينظر إليها بعين القلب، ثم يقومان ليمشيا في مماشي الحديقة التي تحيط بها أشجار القصب الهندي فينظر إلى أمامه وورائه وعندما لا يرى أحدا يلثم خدها لثمة تصعق روحه وإن أراد أن يقبل شفتيها فهي تبتعد عنه وإن أراد أن يضع يده على كتفها فهي تزوغ عنه وتقول له: “احتشم”، فينصاع لها ويحتشم. حيرة استبدت ب”الزلايجي”، فهو يرغب في أن يتزوج وأن يصبح له بيت وأن يُنْجِبَ أولادا ولكن يده قصيرة، فماذا عليه أن يفعل؟ حتى مشهد تلك الخطرات بين عيدان القصب في مماشي الحديقة تظهر للرائي والحبيبة تًسْلِمُ يدها ليده لكي يبعث من خلال ذلك التلامس باليدين رسائل ما يحترق به الجسد، وحتى اللثمة المسروقة من الزمن، يمكن أن تظهر، وزوغان الحبيبة وهي تتراجع لكي لا يحتك الجسد بالجسد يظهر على المرآة، وسهوم الحبيب وحيرته يظهران وهو يعمل بما تدربت يداه على عمله وعقله شارد وروحه حائرة.
ويمكن أن يرى الرائي على المرآة جَبَّاسًا عمل في تلبيس سقوف منزل بالجبس ثم أخذ أجرة يومه وذهب إلى (سوق الرصيف) ليشتري لزوجته كبد غنم مع قليل من الشحم تشويه على مجمر الفحم ليأكل هو وزوجته وأولاده حتى الشبع، ليضاجع زوجته وعندما يصبح على جنابة يذهب إلى (حمام سيد العربي) القريب من (زقاق البغل) فيستحم ويغتسل ثم يخرج من الحمَّام ليشتري من الإسفنجي أربع إسفنجات ساخنة خرجت لتوها من المقلاة فيذهب إلى المقهى ويطلب كأسا من الشاي بالنعناع ليفطر ثم يذهب إلى عمله.
ولمن شاء أن ينظر إلى المرآة فعليه أن يذكر بابا من أبواب فاس ليرى من يدخلون منه ويخرجون، وهم في الغالب من البدو الذين يرتدون الجلابيب الخشنة، يقصدون الحلاقين الذين يوجدون خارج الأبواب ليشذبوا لحيهم ويحلقوا رؤوسهم، وما أكثر الحلاقين الذين كانوا يحلقون الرؤوس ويشذبون اللحى، فقد كانت لهم صفوف عند حيطان الأبواب، وهم لا يتوفرون إلا على مرآة يُثَبِّتُونها على الحائط، وكرسي يجلس عليه من يريد أن يحلق رأسه ويشذب لحيته، ومقص وموسى وجلدة يُشْحَذُ عليها وفوطة وسطل مليئة بالماء. هذا كل شيء، وهذه هي عُدَّةُ الحلاقين، فقد كان الرجل يجلس على الكرسي ووجهه يقابل تلك المرآة، فيبلل الحلاق شعر رأسه بالماء، ثم يشحذ الموسى على تلك الجلدة ويبدأ في حلق الشعر، وعندما ينتهي من ذلك يُشَذِبُ شعر اللحية بالمقص، أما إن كان الرجل يرغب في فصد الدم، فالحلاق يأخذ الموسى ويضع جروحا صغيرة على قفا الرجل، وكلما نَزَّ منها الدم ينحني بفمه على مكان الجرح ويَسْتَفُّ الدم ثم يبصقه على الأرض، وبعد أن ينتهي من ذلك يصب شيئا من الكحول على مكان تلك الجروح من القفا. لا يمكن لأحد اليوم أن يشاهد مثل هذا إلا عبر المرآة، إن كانت له مرآة.
حكايات الأبواب السبعة تبدأ من سوء الحظ مع ملوك استولوا على الملك ثم عندما تحكموا في زمام الأمور بنوا أبوابا ليجعلوا منها مجالا حيويا للدخول والخروج، سواء لانفتاح فاس على باديتها أو لخروج ودخول القوافل التجارية ومواكب الحجاج، ولأخذ المكوس من كل من يدخل من الباب. حول كل باب كانت توجد مقاه شعبية ومطاعم رخيصة وفنادق هي غير الفنادق المعروفة اليوم، المصنفة سياحيا بعدد النجوم، وإنما هي أماكن يُخَصَّصُ جزؤها السفلي للدواب وجزؤها العلوي لإقامة العابرين، وما أكثرهم، فقد كان كل من يدخل بابا من أبواب فاس يدفع مكس الدخول، أو ما كان يسمى ب “حق الباب”، ولكي نذكر تلك الأبواب نذكر (باب الفتوح) و(باب الخوخة) و(باب سيدي بوجيدة) و(باب الحمراء) و(باب بوجلود) و(باب المحروق) و(باب المكينة) و(باب الشمس) و(باب الزيات) و(باب السمارين) و(باب الكيسة)، و(باب الجديد) و(باب الحديد)، فهي ليست أبوابا سبعة بل إنها قد تجاوزت هذا العدد، ومن أراد لها من المؤرخين أن تكون أبوابا سبعة قد استهواه هذا الرقم، فأخذه التركيز نحو الأبواب الكبرى التي لها معمارا خاص وحركة كبرى للدخول والخروج، إذ لا يمكن أن تقاس قيمة (باب بوجلود) أو (باب الفتوح) بقيمة (باب الشمس) أو (باب الزيات)، كما أن الأبواب التي توجد على الأسوار المحيطة بالمدينة تقاس بقيمة مواقعها من الأسوار وبقيمة من بنوها من الملوك وبقيمة الصناع الذين قاموا بالبناء، فلاشك أن (باب بوجلود) هو الباب الذي يختص بالزخارف على الواجهتين، وهي زخارف من زليج يراها الداخل من الباب على نحو ويراها الخارج منه على نحو آخر، بما يعني أن الخروج ليس كالدخول، فالأحوال النفسية للداخل للمدينة بعد غيبة أو وهو عائد من سفر ليست هي الأحوال النفسية لمن يغادرها وهو مشتاق للسفر. بهذا يبدو (باب بوجلود) متميزا على باقي الأبواب الأخرى. غير أن لَمَّ شتات القصص التي يرويها التاريخ، سواء عن بناء ألأبواب أو عن الحروب التي دارت خلفها أو عن الأوضاع التي عاشها الناس وهو يدخلون بابا من أبواب المدينة أو يخرجون منه، يبدو أمرا كثير الصعوبة، لأنها قصص تتشعب، وتختلف من زمان لزمان، من عصر لعصر، من مملكة لأخرى.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات