ظاهرة توم وجيري: الصورة أسرع من البصر

01:23 مساءً الأحد 20 يناير 2013
محمود قاسم

محمود قاسم

ناقد وروائي من مصر، رائد في أدب الأطفال، تولى مسئوليات صحفية عديدة في مؤسسة دار الهلال، كتب عشرات الموسوعات السينمائية والأدبية، فضلا عن ترجمته لعدد من روائع الأدب الفرنسي.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

لكل منا علاقته الخاصة بافلام الرسوم المتحركة، خاصة القصير منها، وبشكل اكثر خصوصية أفلام الكارتون للثناى توم “القط” وجيرى “الفأر”.

هذه العلاقة تتمثل فى الطريقة التى نرى بها هذه الأفلام، ونسمع موسيقاها التصويرية، او بالاحرى مؤثراتها الصوتية، فبالرغم من الافكار العبقرية والتنفيذ المذهل لافلام شركات والت ديزنى، فان الافلام التى وزعتها شركة مترو جولدن مايير للثنائى توم وجيرى، قد أحدثت حالة خاصة من المشاهدة، تكاد العين فيها تتسابق مع ايقاع المطاردات البالغ السرعة بين النقيضين كل منهما يريد الفوز بما هو مرسوم له، القط يسعى دوما الى ان يمسك بالقط، ليس ابدا لالتهامه، فالالتهام يعنى هنا نهاية المطاردات، ولكن لمجرد الامساك به، وان كان هذا لا يتحقق قط، فلم يتمكن توم من ان يضع خصمه الصغير، بالغ الذكاء بين مخالبه، واذا حدث هذا فإن جيرى سرعان ما يفلت، كى تبدأ المطاردات وقد اختارت هذه الافلام بيتا امريكيا تقليديا يسكن فيه الفأر، هذا البيت موجود فى منطقة ريفية محاطة بالمزروعات، يمكن الخروج اليها فى مطاردات عابرة وسرعة العودة الى البيت.

اهم ما فى الحكاية هو اختيار البيت، حيث ان هناك فتحة يقيم فيها الفأر الاوحد فى الدار ونحن هنا أمام فأر وحيد، ليس لديه فأرة ينشغل بها، وينجب منها الكثير من الفئران، لكن هذا الـ “جيرى” مخلوق فى هذا المنزل كى تتم مطاردته من القط الوحيد فى المنزل، وغالبا ما لا نعرف شيئا حول البشر الذين يسكنون الدار، هل هم ملاك، أم مستأجرين، هل هم سكان دائمين، أم عابرين لا يهمهم بالمرة تلك الفتحة التى يسكن فيها الفأر، وهى على هيئة نصف قوس، اى انها واضحة للعينين، لكن فى المقابل، فان هذا البيت الكلاسيكى، نظيف، ومهندم، ومرتب، خاصة ادواته فى المطبخ، وغيره التى يتم استخدامها بشكل حاذق للغاية فى عمليات المطاردة.

هذا الديكور الدائم، فى افلام توم وجيرى، يعاد ترتيبه من قصة الى اخرى، ونحن هنا امام قصص عائلية، فالفأر تبية منزلية، يعيش على أدوات البيت، خاصة الأطعمة، وكذلك القط، وفى اغلب القصص فنحن أمام شرير ضد طيب، القط كائن عملاق، قوى، سريع الحركة لكنه ليس ابدا سريع البديهة، يفكر بشكل شرير للايقاع بالفأر، البالغ الذكاء، الاكثر سرعة، الذى عرف كيف يتعامل مع خصمه، ودوما فإنه ينتصر عليه، ويغلبه.. ومن هنا تأتى عبقرية تفاصيل كل حلقة.

المقصود بعبقرية التفاصيل هنا، ان المشاهد يعرف مسبقا انه لن يرى اكثر من صراع، ومطاردات بين قط وفأر، وفى بعض الاحيان، قد تزداد الشخصيات، لكنها عابرة، كى يبقى توم يطارد فأره داخل الشقة وخارجها.

تفاصيل المطاردة، فى كل حلقة هو المهم، هى تفاصيل مبتكرة جديدة، مبهرة، اسرع من ايقاع الرؤية، تجعل المشاهد يحبس انفاسه ويبرز مقلتيه ليرى كيف ينتهى المشهد، ثم تتلاحق الانفاق، عند نزول عبارة ان كل هذا فلكلور او خيال.

اى ان على الفيلم فى كل مرة ان يأتى بتفاصيل مليئة بالحركة، واللهاث، بأقل من الحوار، وبأكثر مساحة من السرعة، وايضا بأكثر خسائر ممكن حدوثها لادوات المنزل، وكم رأينا ان مجرد تحطيم شىء ما، طبق مثلا يجر على البيت تحطيم كل ما هو الى جوار الطبق، وهكذا دواليك، حتى يكاد الامر ان يصل الى انهيار درجات السلم.

واذا عدنا مرة اخرى الى البيت الكلاسيكى، الذى ظهر فى اول افلام توم وجيرى عام 1937، فإن الامر يبدو ملائما للبيت الريفى، القريب من الحقل،  ولاشك أن البيت المعاصر يخلو تماما من الفئران وان لم يخل من القطط.. كما اننا لم نر قط توم وجيرى ينزلان الى المدينة والى شوارع نيويورك مثلا، لأنهما سوف يتوهان هناك، ومن هنا تأتى صعوبة عمل حلقة جديدة وايجاد افكار مستحدثة لأن المكان ثابت، والزمن قصير، لكن صناع هذه الافلام يجيدون ابتكار الاشياء، والتحولات التى تحدث للاشياء التى تستخدم ادوات فى المطاردة.

ورغم هذا التجدد الذى يثير الدهشة واستبقى على هذه الافلام والشخصيات بنفس الانبهار، والاعجاب، لأكثر من عشرة أجيال، احبت جميعها الفأر الذى يطارد القط، ويدبر له المقالب لاتقاء شره.. رغم كل هذا، فلايزال البيت مسكونا بالقط والفأر، هما وفيان.. للمطاردة، ولم يغلب أحدهما الآخر بدليل انهما يعودان فى افلام جديدة، وفى بعض الاحيان يربت القط على الفأر، ثم يعاودان المطاردات.

غالبا ما تكون الأدوات مرتبطة بالبقاء على قيد الحياة، قطعة لذيذة من الجبن او مطرقة، او مولد كهربى، او شجرة، او ادوات مطاردة، مقشة او مكنسة، او ارضية بالغة النظافة، بداية نحن أمام قصص حيوانات، من التى نبهت الى جمالها الحكايات الفارسية “كليلة ودمنة” وايضا قصص لافونتين، وايضا افلام ورسوم والت ديزنى، الحيوانات هنا تعيش مع الانسان، لكن الانسان تقريبا غير موجود، حتى ولو بصفة هامشية، لا يكاد يشعر بوجود المعارك بين القط والفأر.

هذا النوع من المطاردات يتناسب مع عقلية المشاهد الطفل، وهو صغير الحجم، ضئيلة مثل جيرى انه يفلت من المأزق، ولا يستسلم ولا يترك ثأره ابدا.. تدور الاحداث فى أجواء من العنف والخبطات، وطرقعات أدوات المنزل: حلل، اثاث، اجهزة كهربية، ويبدو ذلك واضحا من حول الموسيقى فاذا ادرت ظهرك الى الشاشة وسمعت الى ما يدور خلفك فانك سوف تستمع الى ايقاعات موسيقى جاز مليئة بالصخب، حيث تلعب الموسيقى دورا مهما للغاية، لذا فان المؤلف الموسيقى سكوت برادلى موجود فى عناوين الافلام كبطل رئيسى مشارك فى الاحداث.. وهى موسيقى متكررة فى أغلب الأحيان، بالاضافة إلى موسيقى اخرى سمعناها فى أفلام انتجتها شركة مترو جولدن مايير، ومنها “ساحر اوز” عام 1938 على سبيل المثال..

الحوار هو أقل ما نجده فى هذه الافلام، كما أن هناك شخصيات ثانوية، تظهر من أجل أن تختفى بالجاذبية فقط للقط ثم الفأر، والمطاردات.. هذا القط المدلل دوما وجزاؤه ان تتم تربيته على يدى الفأر الذى يرعضه لأكثر من امتحان، ينتهى كل منها، بأنه يصير مجروحا، ومضروبا، ومهزوما بعد خيلاء، وانياب حادة، واسنان مسنونة، ويبدو الصراع هنا مع الفأر انه صراع ادمغة، فمثلا عندما يقوم القط بضبط رافعة كى تسقط سندانا حديديا فوق رأس الفأر فإن جيرى يغير من المقاييس بواسطة جهاز ويجعل السندانة تسقط فوق رأس القط، وهو سقوط مرن، وكل ما يحدث من معارك هى احداث مرنة، كأن يتم شطر القط الى عشرات الدوائر بواسطة آلة، ثم سرعان ما يلتئم، او تحويل القط الى “ياى” او “زمبلك” سرعان ما يسترد شكله الاول.. فالفأر على سبيل المثال فى امكانه احضار سمكة قرش لتخيوف القط وتتحول السمكة الى كائن حقيقى يطارد القط فى البيت الريفى يريد التهامه.

توم وجيرى هما المعادل المعاكس لشخصيات والت ديزنى، التى يعيش بعضها فى مدينة البط، يتنافس دونالدوك مع محظوظ على قلب مينى، ويتنافس دونالدوك من أجل الحصول على رضاء العم دهب، عالم ملىء بالرومانسية، ويخلو من العنف، لذا فانه منذ الوهلة الأولى فان توم وجيرى على خصومة، ومطاردات شرسة، بالغة العنف، والقوة، لأن النتيجة واحدة، فمهما كانت الأدوات التى تستخدم فى المطاردات، فإن أحدا لن يموت وسوف تعود لتوم حيويته بعد أن تمت بهدلته او اذلاله، لذا تبدو المغازلات فى هذه القصص بمثابة حكايات عابرة، او غير مرغوب فيها لأنه سوف يسبقها أو تعقبها مطاردات ممزوجة بالعنف.

وتتعامل القصص مع الطرفين على انهما من سكان الدار نفسها، لا يمكن لأحد منهما ان يغامر بالخروج منها، فبدون الفأر لن يتمكن القط ان يكون قطا شرسا، وهو لا يتحول الى هذا القط الشرس الا اذا بدت ملامح الفأر الذى يخرج من جحره بحثا عن طعام، او محاولة لجر شكل صاحبه، او التسلية.

فى المشاهد الداخلية تبدو عبقرية المشاهد فى الحركة، كل شىء يتحرك تقريبا، يتم استخدامه ومن هنا تأتى مسألة ان ايقاع الفيلم اقوى من ان تستوعبه العين كاملا، وادوات المنزل التى تتحرك تحتاج إلى حالة تثبيت للتعرف على ما بداخل الكادر، وقد حدث هذا بالفعل فى أحد الافلام، حيث حاول القط أن يعرف سر مهارة خصمه، فعرض فيلما على الشاشة، وقام بتثبيت الكادر تلو الآخر، ليعرف كيف ينطلق وبأى سرعة يتحرك، وبدأ يضع الخطط لاصطياد الفأر حسب سرعته، واتجاه حركته، وانفلاته غير الموقع من السندان، بالتأكيد هناك شخصيات أخرى فى بعض الحلقات، مثل سبايك وبوتش، لكن ما يهمنا هنا هو الشخصيتين الرئيسيتيين، اللذين ابدعهما كل من ويليام حنا، وباريير، جوزيف،وحصلا من خلال هذه المجموعة من الافلام على جائزة الاوسكار سبع مرات، فالرجلان ينتميان إلى جيل الثلاثينيات من القرن الماضى، وقد تم ابتكار القط والفأر فى فترة عصيبة، فى الولايات المتحدة، بعد تجاوز الازمة الاقتصادية، وهى الفترة نفسها التى شهدت ميلاد شخصيات كارتونية من البشر الخارقين المقنعين على يدى مارفل، اى ان المنافسات بين الشركات قد أسفرت عن مولد شخصيات كارتونية متحركة لكل منها مذاقه.. واذا كانت شخصيات مارفل تظهر فى الليل، مثل الفأر الا ان الصراع بين الفأر والقط تدور دائما فى النهار، وهذا عكس ما يحدث فى الواقع، فالفأر كائن ينشط ليلا، والافلام التى تتم فيها المطاردات تدور احداثها كلها فى النهار.

يعنى هذا بكل بساطة أن توم وجيرى ليسا مثل القطط والفئران فى منازلنا، ولكنهما كائنات كارتونية، تتجدد أجسادها، ولا تعرف الجروح، كل هذا التنوع جعل شركة مترو جولدن مايير تترشح لثلاثة عشرة جائزة اوسكار، وصارت هذه السلسلة من الافلام هى الاعلى من ناحية الايرادات، ورغم أن هناك مجلة تحمل اسم “توم وجيرى” الا ان عدد القصص المتوفرة للنشر لا يكفى لعمل مطبوعة دائمة النزول الى السوق عكس ما حدث مع شركة والت ديزنى، كما أن الفيلم الروائى الطويل بطولة “توم وجيرى” لم يكن رواده بنفس العدد الذين ذهبوا لمشاهدة افلام من انتاج والت ديزنى فالناس تريد ررؤية توم وجيرى باعتبارهما كبسولة لا أكثر.

من المعروف ان آلية الرؤية لهذه الافلام قد تغيرت، بعد ان انتقل عمل الافلام من السينما الى التليفزيون فى صورة حلقات منفصلة تتراوح مدة عرض كل منها إلى حوالى تسع دقائق، وقد بدأ الجيل التلفازى للقط والفأر منذ عام 1965، ومن هنا بدأت الشخصيات الاضافية فى الظهور بكثافة أكثر بحثا عن التنوع، مثل شخصية مامى، التى تخلت عن بدانتها، وصارت فتاة رشيقة.

من المهم أن نتوقف عند المعنى الاجتماعى والثقافى ما يعنيه الاسم “توم وجيرى” المعنى الأول هو “الخصومة” كما جاء فى موقع الويكبيديا، انها خصومة تتجدد من فيلم إلى آخر، والمنتصر فيها معروف سلفا، انه الفأر الذكى اما المهزوم فهو القط الشرس الغبى، الشرير، وتأتى عبقرية الخصومة فى الخطط التى يدبرها كل منهما للنيل من خصمه، وهذه الخصومة مرتبطة بالمعارك والمطاردات، وخسائر عديدة لن يدفع أحد ثمنا لها، لأنها كلها خسائر كارتونية، لن تلبث ان يتم لمها، واعادتها مرة أخرى الى الارفف، والى اماكنها الطبيعية، ولذا فحذار ان تنتقل هذه الخصومة الى البيوت الحقيقية، خاصة بين الاطفال، لكنها فى رأينا خصومة غير متكافئة وممزوجة بالشر، فكل طرف يضع الخطة للتخلص من خصمه الى الابد، لكن طبيعة الافلام ان كل هذه المخاطر لا تقتل، مثل مرور منشار حول جسد القط، فهو سرعان ما يستعيد جسده، لكن الناس تنسى كل ذلك وهى تضحك، ثم تذكرهم عبارة ان كل هذا فلكلور انها ليست من الواقع بالمرة.

من الافلام التى حصلت على جائزة الاوسكار 1940 القط يحصل على الحذاء، 1941: ما قبل ليلة عيد الميلاد، 1947 جيكل السيد مارس، 1949 حتى المشاكل الخاصة بك، 1950 ابن العم جيرى، و1954 توش بوسى كات.

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات