مطابخ كونية: الملوخية

11:15 صباحًا الإثنين 21 يناير 2013
نجوى الزهار

نجوى الزهار

كاتبة من الأردن، ناشطة في العمل التطوعي

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

إنها الملوخية

لا يَتَبادر أنني أُعني شـيئاً آخر

مجازاً، تورية، تشـبيهاً،

أو أنني أقصد معنى ما، من وراء كلامي عن الملوخية.

لا يا أصدقائي لا أطـيق شـيئاً من هذا

أن أقصد شـيئاً من وراء الشيء.

إنها أشبه بلعبة (الغميضة) ولطالما لم أنجح فيها فانا دائما الأولى التي تُنبئ عن مكان وجودها…

بالأمس فقط بالأمس.

كشهاب مارق من أحضان السماء

شعرتُ

ثم عَرفتُ مدى ارتباطي بها . أي الملوخية (مهلاً ملوخيتي أنا)

إنه يشكرني عن ذاك الطبق الذي أُرسل إليه.

هو يتكلم

يشرح

أما أنا فأني في محاولة جادة لجعل سماعة الهاتف جزء من أذني

خوفاً من إضاعة أي رنين من كلامه

 فيه الإخبار

والإيصال

والتوضيح عن الملوخية

يَضج داخلي بفعل الإنتظار للجملة التي أعشقها (( ما من أحد ما من أحد باستطاعته أن يطبخ الملوخية كما تفعلين و ما من ملوخية في الكون تعلو على ملوخيتيك )).

ابتسمتُ

ابتسمتُ

ثم عاودت الإبتسام.

أَعدت سماعة الهاتف ثم اقتربتُ من فراشي لأنضم إليه.

كانت يدي اليمين تحتضن يدي الشمالِ

لتكونَا وسادتي.

أنضم جسدي إلى جسدي بفعل النشوة التي تتغلغلني.

أُحاول أن لا تُغادرني.

أيتها الملوخية

اعذريني بأننا لم نتحدث كثيراً .

أنت تعلمين أنك كنت دائما معي

ولكن من يعي للذي معه؟

من ثم ابتسمت أوراق الملوخية الخضراء.

بتسمتُ .

ها أنا أمشي مع جدتي في سوق الهال. تُمسك بيدي.

أقول لها أنني لا أضيع ياجدتي.

 

جدتي: لا أستطيع ترك يديك، ألا ترين عربات الخضار، ألا تسمعين تلك الأصوات:

  ” أصابع البوبو يا خيار” “بندورة حمرا يا بندورة… أصفر يا ليمون” “تعال ولا تحتار عندك عمك المختار”

        “إنك لو أفلتِ ثانية من يدي ، وناديت لا أستطيع سماعك.”

أهز برأسي أهز برأسي..

نمشى أمام البائعين. لكل بائع في سوق الهال اختصاصه، هذا بائع البندورة لا يبيع إلا البندورة

وها هو يُحاول أن يصنع من البندورة هرماً..

وهذا بائع البقدونس والنعنع والكزبرة يُمسك بيده ابريق من الماء ويبدأ بالرش المستمر… أنظر إلى بائع البامية والفاصوليا..

لاتستهويني..

لا أشعر بها..

إلى أن تقف أمام بائع الملوخية أبا عبدالله…

أبا عبدالله: صباح الخير يا أم صبري..

قاطعته جدتي برد سريع… أهذه ملوخية اليوم؟

 

أبا عبد الله: منذ متى أبيع ملوخية مغشوشة، ملوخية الأمس ذهبت مع الأمس

 الذي ذهب..

 لعلك تعتقدين أنها قد نامت عندي منذ البارحة (امبارح)؟ لوكان هذا قد حصل، لما ارتسمت الإبتسامة على أوراقها. أنظري إليها بالله عليك. ألا تبسم..

 

 

جدتي: أصبحت شاعراً يا أبا عبدالله. انك صادق فيما تقول..

ولكن..

 أحب أن أتأكد.

أبا عبد الله: تأكدي تأكدي…

سيقان لانت فتتكاثف عليها الأوراق الخضراء

سيقان لانت تزدان بالأوراق الخضراء

 

قلت لجدتي : دعيني أساعدك فأنا أحب أن أحمل الملوخية..

ابتسمت جدتي ثم اقتسمناها قسمين..

قسم لها وقسم لي..

أما يدي الملاصقة فما تزال بيدها..

نمشي في الحارة..

رويداً رويداً..

أبواب تُفتح..

أبواب تغلق..

نقترب من بائع القهوة أبو فراس الذي يبادر جدتي..

لقد انتهيت لتوي من تحميص القهوة..

ما رأيك ببعضاً من القهوة. لا أعلم لماذا لم نعطه جواباً . فبادر إلى إعطائي كيساً صغيراً من القضامة المكسوة بطبقة من السكر..

ثم أقسم بالقسم أن لا يأخذ ثمنه..

هزت جدتي رأسها بالموافقة لنتابع السير..

ثم نتوقف عند جارتنا عائشة التي أطلت بقسمين قسم وراء الباب وقسم خارج الباب.

 

عائشة: الملوخية قد آن الأوآن لها.. ولكن ما هي طريقتك في الطبخ ياوديعه؟

تهز جدتي رأسها ثم تقول لها: ما بك أنك طباخة ماهرة لم تسألين ؟

تضحك عالياً ثم تعاودها الأسئلة مرة ثانية، هل تحبين الملوخية ناعمة أم خشنة ؟…

جدتي لا تطيق مثل تلك الأسئلة،

ولكن سؤال عائشة امتلك الأجواء كلها…

فظل يتردد …

ناعمة أم خشنة… خشنة  أم ناعمة ،

و ما أن نقترب من دارنا حتى تفاجئني جدتي أراك اليوم صامتة،

أين الأسئلة ؟

فلقد توقعتك منك السؤال

من أم الملوخية ؟ من أب الملوخية؟

فأنت يا صغيرتي منذ عرف الكلام طريقه إليك ابتدأت تلك الأسئلة لكي لا تنتهي…

أين أم الياسمين..

أين أب الورد..

أشجار الليمون.. لنهر بردى.. جبل قاسيون.. الغوطة..

 فلم تكفين اليوم عن هذا؟

لعلك كبرت قليلاً…

لم أجد نفسي إلا وأنا ألتف نحو جدتي،

وثم أرمي رأسي بين ثنايها معطفها.

مع إمساكي بالأغصان الخضراء…

لا أريدها أن تلمسني..

فثمة مراوح من دفء تتوهج حولي..

في تلك اللحظة..

في نفس اللحظة..

التي سألتني جدتي كان السؤال خافياً..

مخفياً..

يُمارس دورانه في داخلي..

من أين أتيتِ؟ أين أجدادك أيتها الملوخية..

أَمسـكتُ بحدوة باب دارنا..

ابتدأت بالقرع..

ولكن بصوتٍ مختلف..

عما اعتدنا عليه.. أعلى مما يجب..

لعل الأسئلة المتراكمة في رأسي تكف عن هذيانها..

تكف عن دورانها…

ناعمة أم خشنة.. أم خشنة ناعمة..

فتحت لنا خالتي الباب مسرعة وهي تقول: ما بكما ؟ ظنت بالأمر سوءاً..

 

جدتي: لا أدري ما بها؟ ولماذا قرعت الباب هكذا…

ابتسمت خالتي..

واخذت ما بالأيدي. مررنا بذاك الدهليز الطويل، إلى الديار..

انها ديارنا، في منتصفها بحرتنا وفي منتصف بحرتنا.. نافورتنا..

ابتعدت إلى ركناً مضيئا من الديار معنا..

تحت شجرة الياسمين ذات اللون البنفسجي..

أما جدتي.. خالاتي.. أمي…

فلقد أحضرن طنجرتين من النحاس..

وابتدأن في قطف أوراق الملوخية..

هل هو قطفاً..

إني أراه انفصالاً للملوخية..

الإنفصال الأول عندما انتزعت من تربتها..

وها هو الإنفصال الثاني..

يا أيتها الملوخية كيف تشعرين..

عملية مستمرة متتابعة…

يتخللها أحاديث أفهم منها القليل ولا أفهم الأكثر…

تمتد يدي إلى جيوبي لتتناول القضامة المكسوة بالسكر…

اتابع الأوراق ورقة ورقة…

ابحث عن حبة قضامة لا اجد اي منها.

أتساءل متى وكيف انتهيت.

تستقر أوراق الملوخية في الطنجرة النحاسية.

تبدأ جدتي بالغرف من مياه البحيرة،

السكب في الطنجرة،

إلى أن تطوف أوراقها بمياه عذبة،

افرح للقائها مع الماء..

فالماء اغنية..

تصحو جدتي ..

صادرة تعليماتها..

“آن الأوان للبدء بعملية تنشيف الملوخية،

فالشمس عما قريب تبدأ بارتداء أقنعة الخريف”.

تنشيف..

قلت لذاتي..

ما هو التنشيف؟

أهو حالة تنتقل فيها من درجة إلى درجة مختلفة… أهو الأفضل؟

أهو الأسوأ؟..

ملوخية وراء ملوخية

أوراق تتبعها أوراق ..

سيقان وراء سيقان..

عملية متتابعة

يرافقها صوت المذياع . تطرب أمي لصوت أم كلثوم وهي تغني “عودت عيني على رؤياك”

من  وإلى..

إلى ومن..

الي أن تصل تلك الاوراق في النهاية إلى أعلى غرفة من المنزل اسمها (الطيارة) ذاك لأنها أقرب للسماء ولأن الشمس تحتضنها من مختلف الجهات. فتستقر أوراق الملوخية على الشراشف البيضاء الممتدة في أرض الطيارة.

قالت جدتي:

أعلم كم من الأوقات تقضينها في الطيارة، فتلك المجلات الموجودة في مكتبتها تستهويك.

مع أنك لا تجدين القراءة.

قاطعتها وثمة دمعة تتجول في قلبي ولكن أعرف الأحرف كلها.

أبجد هوز حطي كلمن سعفص…

باستطاعتي أن أركب من تلك الأحرف المعاني التي أُحب.

ابتسمت جدتي.

ابتسمتُ. لأقول لها في العام القادم سأقرأ لك كل ما أقرأه الآن.

عندما تصعدين للأعلى حركي أوراق الملوخية

ماعليك سوى التحريك..

تركت المربع البراني..

ثم اتجهت إلى الديار..

لأصعد إلى الطرمة..

ثم إلى الصالية..

ثم إلى ذاك الدرج المؤدي إلى الطيارة..

لعلي كنت مسرعة أكثر مما أحتمل..

رأيت قلبي مسافراً..

اغمضت عيوني قليلاً ثم أرجعت قلبي إلى مكانه..

أنظر إلى أوراق الملوخية قلت لها أنك مطالبةٌ مرغمةٌ على التحول.من حالة الإخضرار إلى حالة النشفان…

أي لون هو هذا؟

لعله اللون الذي يحمل إشتياقه إلى أصله،

إلى إخضراره؟

فماذا عساك تفعلين؟

اقتربتُ منها..

اقتربت منها..

وبدأت يداي تُلامس أوراق الملوخية،

وإذا بصوت جميل يملأ المكان. .

إنها الخشخشة:

خ ش خ ش”

ابتدأت حواف الاوراق بالإلتفاف / الغناء / بأنغام نابضة بالخشخشة

سرت الطمأنينة النائمة لتصحو علامات الرضا..

أشعر بالطمأنينة ، فماذا يُقال لعله صوتاً نابضاً بالخشخشة.

مرت الأيام،

ودارت الأيام،

لم أستطع إمساك شمس ديارنا لكي لا تغيب..

لم أستطع الإحتفاظ بالقمر بدراً لكي لا يذوب …

لكن عقلي أبصر كل شيء..

الأحرف كلها عرفتها..

كتابة وقراءة..

كان باستطاعتي أن أحفظ أبياتاً من الشعر في لحظات..

ولكن يا إلهي ..

ثمة معاني لم أعد أستطيع التعبير عنها..

يا جدتي أين أنتِ؟

أجلس لترتيب الأحرف حرفاً حرفاً..

لتكتسب بعضاً مما أريد الأفصاح عنه..

فيتكون معنى آخر لا أعنيه لا اعنيه..

لا أقصده..

لابد من مغادرة طفولة الزمان والمكان.

هكذا قيل؟

من باستطاعته الإحتفاظ بماؤه أخضر؟

لا بد من الإنفصال..

لنجتمع مجتمعين في أسلوب واحد هو أن نتَغير ارضاءاً لمن حولنا..

أن نُغير أيضاً من حولنا..

هكذا نَدور ونُدَّور تلك الدائرة..

لقد تزوجت..

فتساوت الألوان عندي..

أسير بخطى بليدة..

أردد الأحاديث نفسها..

أبحث عن مكنون الأيام..

لكن هيهات… هيهات.

سيقان ناعمة لانتْ. فتكاثفت عليها الأوراق الخضراء

صحوت يوماً لأجد حزمة من الملوخية،

ملقاة على طاولة المطبخ..

ذاك يعني أنه علي أنا أن أطبخ الملوخية…

 تركت عقلي خارجاً !!

أغلقت بابت المطبخ..

هي و أنا..

لوحدنا..

 لربما نشعر بالطمأنينة..

الملوخية.. وأنا..

أنا التي سوف تطبخ الملوخية..

أنا..

وآه يا جدتي..

ها أنا في دروب لا أدري منها دربي.

لكن يا أيتها الملوخية أعاهدك بأنك لن تكوني مزيـجاً خاسراً.

سأحاول أن أقترب منك بالقدر الذي يحفظ لك بعضاً من اخضرارك،

لن أفرم؟

لن أنشف؟

أمسكت بأكبر طنجرة لدي لكي توضع الملوخية على نار..

هادئة هادئة هادئة..

لن أضع غطاءً للطنجرة..

ذاك شيء خانق

نار من الأسفل وغطاء من الأعلى..

ذاك لكي تمارس الملوخية حريتها.

نعم..

إن الملوخية أصبحت هاجسي..

عند كل لقاء ندعى إليه..

قبل الذهاب.. وأنا ألبس ثيابي..

يختمر السؤال عندي..

هل سيكون هناك طبق من الملوخية؟

عند الوصول أحاول الوصول قبل الوصول..

وإذا ما كانت الصديقة من المقربين..

أدخل إلى المطبخ لمعرفة إن كان هناك طبق منها.

عـند الإنتهاء..

من أي غداء أو عـشـاء..

أتـمنى بأن يدور الحديث ليـصل إلـى أنـنـي أنا المتميزة بطبخ الملوخية..

كانت إرادتي بألا يكون هنالك من ملوخية تُنافس ملوخيتي..

أطحن الثوم ناعماً ناعماً حتى لا يُرى؟

وعندما كان السؤال يفاجئني،

هل تضعين الكزبرة معها، أحاول أن لا أجيب.

فأنا في بعض الأحيان أضع الكزبرة وأحيانا لا أضعها..

احتفظت لها ببعض الأسرار.. لتكون بوصلتي معها..

أردت لها أن تحتفظ ببعض ما كانت عليه قبل أن يتجدد مصيرها..

سيقان ناعمة لانتْ. فتكاثفت عليها الأوراق الخضراء.

 لم نستطع أن ننشف خلافاتنا..

ما من خشخشة في دارنا..

ولكن الملوخية الخضراء ذات الأغصان اللينة، الكثيفة الأوراق ظلت تجمعنا..

المناسبات هي التي تسير إليها غداء , عشاء في دارنا أو عند الأصحاب..

أحمل معي طبقاً منها..

أراوغ لكي أضعه في منتصف الطاولة،

وأراوغ أكثر عندما أُبعد بقية الأطباق،

أريدها أن تكون بدراً مكتملاً في منتصف الطاولة..

ذاك لكي يبدأ الإيقاع..

فيبرق فرحي متلألأً..

يطرق كل الأبواب..

فتتفتح كل الأزاهير.

لا أحد      لا أحد            باستطاعته         باستطاعته

 أن      أن          أن         أن        أن      أن                كما تفعلين”

ألم أقل بداية، أنها الملوخية. عذراً ملوخيتي أنا.

One Response to مطابخ كونية: الملوخية

  1. ليانة بدر رد

    23 يناير, 2013 at 11:43 ص

    جميل يا صديقتي نجوى . نتشارك هوى الملوخية إذا . بقي علينا ان نسال شادية

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات