المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في المغرب

12:29 مساءً الجمعة 25 يناير 2013
د. محمد أقضاض

د. محمد أقضاض

باحث مغربي، متخصص في الثقافة الأمازيغية وناقد أدبي

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

مجلس إدارة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية

تقع بناية مقر “المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية” في “حي العرفان” بمدينة الرباط، حيث تتجمع جل المعاهد والكليات والمدارس العليا. ويعتبر شكل بناية المعهد مثيرا، بجمال هندسية معمارها التي استفادت من المعمار الأمازيغي القديم والمعمار المغربي الحديث. وقد تأسس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بظهير ملكي شريف، أصدره الملك محمد السادس من بلدة “أجدير” قرب مدينة خنيفرة، يوم 29 رجب 1422 هجرية، الموافق لـ17 أكتوبر 2001 ميلادية. اتخذ المعهد الملكي رمزا له، هو عبارة عن لوحة مركبة من حرف “زاي” أمازيغي في دائرة اسم المعهد المكتوبة بحروف تيفناغ الأمازيغية.

وقد جاء هذا التأسيس تتويجا لمجموعة من المبادرات والشروط المتضافرة فيما بينها، نذكر أهمها:

منذ أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، من القرن الماضي، تحركت فعاليات شخصية وجمعوية أمازيغية في بعض المناطق ذات أغلبية سكانية أمازيغية، مطالبة بإعادة الاعتبار للغة والثقافة الأمازيغيتين، بصفتهما مكونا أساسيا للثقافة والشخصية والهوية الوطنية، ولكونهما عانتا من الإقصاء، بل ومن محاولة إلغاء وجودهما، الشيء الكثير وخلال أزمنة طويلة؛ ولأنهما تشبثتا بالبقاء وتمكنتا من الاغتناء ومن إضفاء سمة خاصة على الثقافة المغربية، وحققتا بعض التميز والإثراء للتراث الوطني إلى جانب اللغة والثقافة العربيتين والدين الإسلامي. بل إن الثقافة واللغة الأمازيغيتين، بما تنطويان عليه من عناصر إفريقية وأوربية ومن عناصر القدم والعتاقة، أثرت في الثقافة العربية خلال أربعة عشر قرنا، كما أن الثقافة العربية تركت بصمات بارزة في الثقافة الأمازيغية وفي لغتها أيضا.

ورغم أن هذا الخطاب كان غير مسموع بل وغير مسموح به في البداية، إلا أن الدولة المغربية منذ بداية التسعينيات، من القرن الماضي، وخلال تنامي الحركة المذكورة وتطورها وتجذرها وامتلاكها لقوة الإقناع عبر تراكم التفكير بين مكوناتها حول قضيتها، تمكنت من أن تجد من ينصت إليها، لتشكل المسألة الأمازيفية ظاهرة. وجعلت تلك الحركة من مطلبها المذكور قضية ثقافية وسياسية أيضا، انخرطت في الدفاع عنها أحزاب سياسية إلى جانب جمعيات ثقافية وطنية.

 وقد بدأ التحرك في ذلك الوقت نتيجة إحساس تلك الفعاليات الأمازيعية بشدة تهميش مناطقهم وإدخالها ضمن المغرب غير النافع، منذ فترة الاستعمار وخلال الاستقلال، الذي لم يغير هذا السلوك، بل عمق التهميش بتحويل تلك المناطق إلى ما يشبه مناطق عسكرية يتحكم فيها الهاجس الأمني. فعانت من شدة الفقر والقمع، واتجه كثير من سكانها نحو الهجرة إلى أوربا أو نحو ممارسة أنشطة اقتصادية واجتماعية لا مشروعة.

 وقد ساعدت الجامعة والمدرسة المغربيتين على إنتاج نخبة ثقافية واعية بواقع المجتمع المغربي عموما، وبواقع جماعاتها الخاصة، مستفيدة من تطور الحركات اليسارية وبعض العلوم الحديثة من مثل الانتروبولوجيا، على اكتساب وعي خاص بالذات وبالغير فضلا عن إدراكها لأهمية تراثها الثقافي واللغوي والحضاري العميق. وعرفت أن المجتمع المغربي ليس ابن خمسة عشر قرنا فقط وإنما هو نتيجة لأكثر من ثلاثين قرنا، وأن الفتح الإسلامي للمغرب لم يلغ ماضيه الثقافي والحضاري السابق بقدر ما استوعبه وتفاعل معه. فتجلى، لتلك النخبة، ذلك العمق وهذا التفاعل في الثقافة والعوائد وفي اللغة، الكائنة، إلى حد الآن.


الإذاعة الوطنية الأمازيغية تحتفل بالفنان المبدع الرايس حسن أرسموك بمناسبة مرور 25 سنة لانطلاقته الفنية في الأغنية الأمازيغية السوسية

وخلال التسعينيات من القرن الماضي، في عهد المرحوم الملك الحسن الثاني، بدأت الدولة المغربية تستجيب لبعض مطالب الحركة الأمازيغية، فأعلنت توسيع حصة نشر الأخبار بالأمازيغية في الوسائط السمعية البصرية، وفكرت في تأسيس هيئة علمية تبحث في التراث الأمازيغي، وهي الهيئة التي لم تر النور إلا خلال حكم محمد السادس. وإذا كانت الدولة المغربية خلال أواخر سنوات حكم الملك الحسن الثاني بدأت تستجيب لتلك المطالب محاولة إيقاف المد المطلبي الأمازيغي، فإن الدولة المغربية، في بداية حكم الملك محمد السادس، أصبحت تدرك عمق القضية إدراكا أصيلا، فلم تعد الأمازيغية قضية تطالب بها بعض الجمعيات والفعاليات فقط، وإنما هي مكون رئيسي للشخصية المغربية والهوية الوطنية، التي تشكلت عبر عشرات القرون، وهي مسألة وطنية تهم جميع المغاربة بمختلف مشاربهم. لذلك وفي الذكرى الثانية لاعتلاء الملك محمد السادس العرش أعلن الملك عن إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، فجاء في الظهير الشريف:

“لقد أبينا إلا أن نقوم بعون الله وحُسن توفيقه، بوضع طابعنا الشريف، في هذا اليوم المبارك، على الظهير الشريف المحدث والمنظم للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية؛ هذا المعهد الذي سبق لنا الإعلان عن قرار إحداثه وتحديد مهامه، في خطاب العرش، الذي وجهناه للأمة بمناسبة الذكرى الثانية لاعتلائنا عرش أسلافنا الميامين

وقد أقر الظهير بمقومات التاريخ المغربي وهوية البلاد الثقافية، التي تشكلت من روافد متعددة انصهرت لتلحم وحدة الأمة، ويبين هذا عمق الوعي بحضارة المغرب المركبة والمتعددة الروافد. يقول جلالة الملك في الظهير:

“إننا نريد، في المقام الأول، التعبير عن إقرارنا جميعاً بكل مقومات تاريخنا الجماعي، وهويتنا الثقافية الوطنية، التي تشكلت من روافد متعددة، صهرت تاريخنا ونسجت هويتنا، في ارتباط وثيق بوحدة أمتنا، الملتحمة بثوابتها المقدسة، المتمثلة في دينها الإسلامي الحنيف السمح، وفي الذود عن حوزة الوطن ووحدته، وفي الولاء للعرش، والالتفاف حول الجالس عليه، والتعلق بالملكية الدستورية الديمقراطية الاجتماعية.”.

ويؤكد الظهير الملكي على أن الأمازيغية تمتد جذورها في أعماق تاريخ الشعب المغربي، وساهمت في تشكيل هذا التاريخ. لذلك ليست المسألة الأمازيغية مهمة مغربي دون آخر وإنما هي ملك لكل المغاربة، محذرا من أن تصبح مطية لقضاء مآرب سياسية خاصة، يقول جلالة الملك:

“كما أننا نريد التأكيد على أن الأمازيغية، التي تمتد جذورها في أعماق تاريخ الشعب المغربي، هي ملك لكل المغاربة بدون استثناء، وعلى أنه لا يمكن اتخاذ الأمازيغية مطية لخدمة أغراض سياسية، كيفما كانت طبيعتها.”

واعتبر الظهير الملكي الثقافة الأمازيغية مكونا أساسيا للثقافة الوطنية، وتراثا ثقافيا زاخرا،  وسم ويسم التاريخ والحضارة المغربيين في كل مراحلهما، والنهوض بهذه الثقافة يسهم في إنجاز المشروع الديمقراطي المغربي الحداثي قصد تأكيد الاعتبار للشخصية الوطنية… يقول جلالة الملك في هذا الصدد:

“ولأن الأمازيغية مُكوّن أساسي للثقافة الوطنية، وتراث ثقافي زاخر، شاهد على حضورها في كلّ معالم التاريخ والحضارة المغربية؛ فإننا نولي النهوض بها عناية خاصة في إنجاز مشروعنا المجتمعي الديمقراطي الحداثي، القائم على تأكيد الاعتبار للشخصية الوطنية ورموزها اللغوية والثقافية والحضارية.”

وردا على من كان يعتبر إثارة المسألة الأمازيغية هي إثارة للنعرة الإقليمية وزرعا لبذور التفرقة والتناحر بين أبناء الشعب المغربي، يؤكد الظهير الملكي بأن الشعب المغربي، بتعدد أصوله ولهجاته، بقي خلال عصور طويلة متلاحما ومتشبثا بمقدساته ووحدة وطنه ومقاوما لكل غاز أجنبي. فورد في الظهير:

“فقد ظل المغرب، عَبْر العصور، متميزاً بالتحام سكانه، مَهمَا كانت أصولهم ولهجاتهم، متشبثين بمقدساتهم ووحدة وطنهم، ومُقاومتهم لكل غزو أجنبي أو محاولة للتفرقة.”

ولأن الأمازيغية، ثقافة ولغة بمختلف مشاربها، عملت على توحيد البلاد وعلى تماسك شعبه والدفاع عن مقوماته ومقدساته، ولأنها ملك للجميع، فإن الاهتمام بها وخدمتها وتطويرها هو أيضا مهمة كل المغاربة. فالثقافة الوطنية مهما تطورت لا يمكن أن تتنكر لماضيها وجذورها، ولابد لها انطلاقا من تلك الجذور أن تنفتح على ثقافات إنسانية أخرى، قصد تطوير المجتمع المغربي. يقول جلالة الملك في الظهير المؤسس للمعهد:

“إن النهوض بالأمازيغية مسؤولية وطنية، لأنه لا يمكن لأي ثقافة وطنية التنكر لجذورها التاريخية. كما أنّ عليها، انطلاقا من تلك الجذور، أن تنفتح وترفض الانغلاق، من أجل تحقيق التطور الذي هو شرط بقاء وازدهار أيّ حضارة.”

وأن الآلية الأساسية للاهتمام بالثقافة الأمازيغية والحفاظ عليها والنهوض، بها قصد تعزيز مكانتها تربويا واجتماعيا وثقافيا وإعلاميا، في المغرب سيعطي قوة ودفعة جديدة للتراث الأمازيغي الذي نعتز به، تلك الآلية هي تأسيس معهد علمي خاص بالبحث في الثقافة الأمازيغية وتطويرها. فيضيف جلالة الملك:

“وفي هذا السياق، فإن قيام المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بالمهام المنوطة به في الحفاظ على الأمازيغية والنهوض بها وتعزيز مكانتها في المجال التربوي والإجتماعي والثقافي والإعلامي الوطني من شأنه أن يعطيها دفعة جديدة كتراث وطني يعد مبعث اعتزاز لكل المغاربة.”.

فعمل جلالة الملك، ونخبة واسعة من المسئولين إلى جانبه في المغرب، على إنشاء المعهد الملكي الذي كلفه بمهام واضحة ومحددة.

لقد انطلقت عملية الاهتمام بالأمازيغية وتأسيس معهد أكاديمي خاص بها، من شمولية اقتناع الدولة، وفي مقدمتها جلالة الملك محمد السادس، بأن المواطنة المغربية التي يفرضها الاختيار الوطني للمسار الديمقراطي والخط الحداثي للمغرب لابد أن تتحقق. وانسجاما مع ذلك الاختيار، الذي لا رجعة فيه، اقتنع الجميع بأن المواطنة تقوم على المساواة وحقوق الإنسان، وضمن تلك الحقوق الحق الثقافي واللغوي لكل فئة تكون الشعب المغربي، ما دامت تلك الفئة تحقق وجودها  بتكوينها الخاص، ومن خلال ذلك، وحين تشعر بالثقة في الذات، تسهم في تنمية البلاد، وفي إثراء حقوله الثقافية والمعرفية. لذلك أصبح المغاربة يخططون لديمقراطية شمولية اجتماعية واقتصادية وثقافية وليس للديمقراطية السياسية فقط.

مهام المعهد وتسييره:أهم تلك المهام هي استقراء تاريخ المغرب، وتجسيد قوة الإيمان بمستقبل مغرب قائم على التضامن والجد والإرادة والطمأنينة والرصانة، مغرب قوي بوحدته، كما ورد في الظهير:

 “إن العمل الذي نقدم عليه، اليوم، لا يرمي فقط إلى استقراء تاريخنا؛ إنه بالأحرى تجسيد لقوة إيماننا بالمستقبل، مستقبل مغرب التضامن والتلاحم، مغرب الإرادة والجد، مغرب الفضيلة والطمأنينة والرصانة، مغرب الجميع، القوي بوحدته الوطنية، التي لا يزيدها المضي قدما في سياسة الجهوية إلا رسوخا؛ مغرب يجعل كل جهة من جهاته مجالاً خصباً، يتيح لكل طاقاتها التفتح والنمو والازدهار، في إطار ممارسة ديمقراطية مواطنة.”

لذلك يعمد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية إلى  الحفاظ على الثقافة الأمازيغية ولغتها بكل لهجاتها، خاصة تشلحيت، تمازيخت وتاريفيت، وتطويرهما، وتقديم المقترحات لجلالة الملك في هذا المجال. ويوقع المعهد شراكات مع جهات وطنية رسمية مختلفة مسئولة على التعليم والتربية وعلى الثقافة وعلى الإعلام والتواصل والجامعات وغيرها من المجالات والقطاعات، قصد إدماج الأمازيغية في التعليم وفي قطاع السمعي البصري والمجالات الثقافية والاجتماعية، ومع جهات غير رسمية من مثل الجمعيات الوطنية والإقليمية والمحلية التي تشتغل على اللغة والثقافة المغربية بما فيها الثقافة واللغة والأمازيغيتان.[1]

ويتكون طاقم تسيير المعهد، إلى جانب المجلس الإداري الذي يناقش القضايا الخاصة بمجال اشتغال المعد والمشاريع التي تقدمها المراكز العلمية ويصادق عليها ويتابع إنجازها، من هيئة إدارية على رأسها عمادة المعهد والأمانة العامة، ثم القسم الإداري والقسم المالي. وتتكون الهيئة العلمية في المعهد من سبعة مراكز بحث هي:

1ـ مركز التهيئة اللغوية: يقوم هذا المركز بالعمل على تهيئ اللغة الأمازيغية ومعيرتها وتقعيدها، إملاء ونحوا، وجمع معاجمها قصد إدماجها في المنظومة التعليمية وفي المجال السمعي البصري وفي الحياة العامة، وجعلها متداولة في الكتابة إلى جانب اللغة العربية. وخلق وضبط المصطلح المناسب لثقافة العصر وفكره.

2ـ مركز البحث الديداكتيكي والبرامج البيداغوجية: يقوم بالبحث في المجال الديداكتيكي والتربوي، وبتهييء المناهج التربوية المرتبطة بإدماج اللغة الأمازيغية وتدريسها، ضمن المنظومة التربوية الوطنية النظامية وغير النظامية. وفي نفس الوقت ينتج ويشرف على تأليف الكتب المدرسية المقررة للأمازيغية، كما ينتج ويشرف على إنتاج الكتب الداعمة تربويا لتدريس الأمازيغية.

3ـ مركز الترجمة والتوثيق: هو مركز يشرف على الترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة الأمازيغية أو العكس، ويشرف على طبع الوثائق والمؤلفات التي يصدرها المعهد، ويقوم بإصدار مجلة إخبارية دورية شبيهة بالتقرير، تنطوي على كل إنجازات المعهد في الدورة وعلى بعض البحوث والنصوص.

4ـ مركز الدراسات الأدبية والفنية والإنتاج السمعي البصري: يقوم هذا المركز بجمع المادة الأدبية، شعرا وحكاية وأمثالا، والفنية، موسيقى، أغاني ورقص ومسرح، ويشرف على تحقيقها ودراستها، ويشجع الإبداع الأدبي والفني ويهيء كل ذلك للنشر. وفي نفس الوقت يشتغل على السينما وكل ما له علاقة بالمجال السمعي البصري.

5ـ مركز الدراسات الإعلامية وأنظمة والإعلام والتواصل: هو مركز يشتغل على كل ما له علاقة بالإعلاميات، من برمجة الحواسيب وتهييئها للكتابة بحرف تيفيناغ، وتهييئ شبكة الأنتيرنيت، وصيانة الحواسيب.

6ـ مركز الدراسات التاريخية والبيئة: يهتم بالتاريخ الأمازيغي الموغل في القدم والقديم والحديث والمعاصر، معتمدا على المنحوتات والأدوات الأركيولوجية وعلى الوثائق المتوفرة بمختلف اللغات. كما يهتم بالبيئة التي نشأ فيها هذا التاريخ وفضاءاتها المعمارية والحضارية..

7ـ مركز الدراسات الأنتروبولوجيا والسوسيولوجيا: يقوم بجمع الأعراف والعادات المختلفة في المعمار وفي الزي والرسوم والطب والطبخ، ومجالات الفرجة والاحتفال ودراسته..

 إنجازات المعهد:

منذ بداية اشتغاله واجه المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ثلاث مشاكل أساسية، هي: الحرف الذي ينبغي أن يستعمله في الكتابة، وهيمنة الشفاهية على كل العطاء الأدبي التراثي، والتعامل مع تعدد الأمازيغيات في المغرب:

 وقد واجه المجلس الإداري للمعهد المشكلة الأولى، في بداية اجتماعاته، بإقرار أبجدية “تيفيناغ” التراثية الأمازيغية، أبجدية رسمية في المغرب للكتابة الأمازيغية. ومن المعروف أن المهتمين، سواء في المجال الجمعوي الثقافي أو في المجال السياسي، تداولوا بينهم ثلاث أبجديات يمكن أن تصلح للكتابة الأمازيغية، هي: العربية، اللاتينية وتيفيناغ؛ ولأن الصراع كان على أشده بين التوجه العربي والتوجه اللاتيني، وكان من الممكن أن يخلق أزمة سياسية، فإن جل أعضاء المجلس المذكور توافقوا على إحياء أبجدية تيفيناغ وتشذيبها وتعديلها وتحيينها، فأصبحت هي الأبجدية الأمازيغية الرسمية بالمغرب واعترفت بها هيئة الأمم المتحدة نفسها.

أما المشكلة الثانية فتجلت في التنويعات الأمازيغية الرئيسية والفرعية، فالتنويعات الرئيسية هي تشلحيت في جنوب المغرب وتامازيخت في وسط المغرب وتاريفيت في شمال المغرب، وكل تنويع من الثلاثة اكتسب مع تطور التاريخ خصوصيات صوتية ونحوية وصرفية وتركيبية وبلاغية خاصة به، خضوعا للتأثر بالمجالات القريبة الإفريقية أو العربية والأوربية. ولمواجهة هذه المعضلة عمد المعهد إلى توحيد الأصوات المختلفة في حروف مشتركة فيها الإلغاء من أي تنويع والإضافة إليه، وما زال يعمل على توحيد المعجم والنحو والصرف لتكوين لغة معيارية واحدة، وتواجه هذه العملية اعتراضات كثيرة منها ما هو عملي ومنها ما هو ثقافي وتربوي بحيث ستقوم هذه الطريقة بخلق لغة جديدة وغريبة عن أغلبية المناطق الأمازيغية، ومنها ما هو سياسي مرتبط بتوجه الدولة المغربية نحو إقرار الجهوية واللآمركزية… وإلى جانب هذه المعضلة هناك التنويعات الفرعية، فكل تنويع رئيسي يتفرع إلى تنويعات مختلفة تحتاج إلى توحيدها في تنويع واحد…

ثم المشكلة الثالثة وهي الشفوية، فالأمازيغية في جلها لم تمارس الكتابة إلا نادرا جدا، منذ ما قبل الإسلام، وحين مارستها فعلت ذلك بالحرف اللاتيني ثم بالحرف العربي. لذلك واجه المعهد كله هذه المشكلة بعملية جمع المادة الشعرية والحكائية والأمثال مكتوبة بالحرفين المذكورين سابقا، أو من خلال آلات التسجيل، ثم تحقيقها وتفريغها في الحواسيب بحرف تيفيناغ. وإلى جانب جمع الشفاهي بهذه الطريقة، هناك ذلك التنويع الأمازيغي الثلاثي، على الأقل، الذي يتطلب جمع مادة كل تنويع كما وجدت، ويقوم بها خبراء من أهل منطقة ذلك التنويع أنفسهم, لذلك ما زال المعهد يتحرك بثلاث اعتبارات فرضتها التنويعات الأمازيغية التي أنتجها التاريخ الطويل وطبيعة الجعرافية أيضا..

ورغم تلك المشاكل وأخرى أقل أهمية فإن المعهد يسير في اتجاه التغلب عليها أو على بعضها. وهي لم تعرقل مسيرة العمل في المعهد. لذلك، وخلال حوالي سبع سنوات من عمر المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، راكمت المراكز السبعة المذكورة، إلى جانب الإدارة، عملا مهما واسعا ومختلفا ومتعدد الجوانب؛ ففي مجال الطبع والنشر، مثلا، تمكنت تلك المراكز من نشر مئات الكتب في الإبداع الأدبي، بعد جمعه وتحقيقه، وفي البحث والدراسة الأدبية والفنية، وفي مجالات التاريخ والبيئة والأنتروبولوجيا والسوسيولوجيا. وحقق المعهد وأنزل إلى السوق عدة منوعات، أغنت المكتبة المغربية وأخرجت إلى النور كنوزا كثيرة كانت مضمرة في الذاكرة أو في المخطوطات وفي العادات والأعراف وفي المعمار والسلوك اليومي. وأشرف على إنتاج مجموعة من الأفلام الإبداعية والوثائقية. وترجم أمهات الكتب حول هذا الجزء من التراث المغربي. ونظم مئات التظاهرات الثقافية والفكرية والإبداعية شارك فيها مفكرون وباحثون ومبدعون مغاربة وأجانب.  وينظم سنويا، بمناسبة تأسيسه، جائزة لأفضل إبداع أدبي أمازيغي وأفضل بحث فكري في الثقافة الأمازيغية، وأنجح مسرحية أمازيغية وأفضل أستاذ لالتعليم أمازيغي إلخ… وأسس فرقة الأطفال للأناشيد الأمازيغية. وقد أصدر في السنوات الأخيرة مجلة متخصصة في البحث العلمي المرتبط بالثقافة واللغة الأمازيغيتين، هي مجلة “أسيناك”- المعهد.

فبوجود المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، استطاع المغرب أن يعود إلى جانب مهم من شخصيته وذاته قصد استقصائها، لتغني المشهد الثقافي المتنوع في المغرب وتسهم في العطاء الإنساني عموما. واستطاع أن يضع المجتمع المغربي على سكة النهج الديمقراطي الشامل. وأن يتجاوز هيمنة النخب الوحيدة النظرة نحو مغرب الجميع، ذلك الجميع الذي من حقه أن يستفيد من وطنه وفي نفس الوقت يقدر على أن يعطي ويثري ويبدع ويبادر ويسهم في التنمية الشاملة.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات