رحلة الضباع

08:27 صباحًا الأحد 27 يناير 2013
د.سهير المصادفة

د.سهير المصادفة

شاعرة وروائية وباحثة ومترجمة مصرية، حصلت على الدكتوراة في الفلسفة عام 1994 من موسكو، عضو في اتحاد كتاب مصر، عملت رئيسًا لتحرير سلسلة كتابات جديدة بالهيئة المصرية العامة للكتاب، والمشرف العام على سلسلة الجوائز بالهيئة، القاهرة

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

عن المجلس الأعلى للثقافة صدرت رواية الأديبة المصرية د. سهير المصادفة (رحلة الضباع). الرواية هي الثالثة في مشروع المصادفة السردى بعد روايتيها (لهو الأبالسة) التى صدرت عام 2003، التي حازت عنها جائزة أفضل رواية عام 2005 عن اتحاد الكتاب، والثانية (ميس إيجيبت) التى صدرت عام 2008. أصدرت سهير المصادفة ديوانين هما (هجوم وديع)، و(فتاة تجرب حتفها) الحائز على جائزة الشارقة للمبدعات العربيات عام 1999، وتنشر (آسيا إن) فصلا من روايتها الأحدث؛ رحلة الضباع:

 في انسحابِ المحبةِ

ستكون كل أطرافه باردة، وكلماته أشد برودة، وستكادين تُمسكين بمعاناته وهو يخترعُ حججاً ليتجنُبكِ ويلملم ُأعضاءَهُ حتى لا تلمسكِ .. ستكونُ له صديقاتٌ كثيراتٌ على الفيس بوك تلمحين صورهن المُعَالجة في معامل الفوتو شوب دون أن يُحدثكِ عنهن مطلقاً أو يأتي من بعيدٍ أو قريبٍ إلى الإشارة عن علاقته بهن ..ستلمحينَ حرصه البالغ أن يُغلقَ بسرعة بريده الإلكتروني إذا ما اقتربتِ منه فجأة وستلاحظين أنه لا يردُّ على هاتفه أبداً وهو معكِ، وإذا ما رد مضطراً فسيردُ بكلماتٍ مقتضبة حازمة سريعة، بينما تلمحين إثارة كلّ خلجاته التي تصرخُ بالحنين إلى الصوتِ الذي يُهاتفه، فأنتِ على كلّ حالٍ تعلمين أن أعضاءَ الرجالِ لا تستطيع الكذب .. سيجيبُ عن أسئلتكِ التي بالضرورة ستكون غبيةّ بحروفٍ مفككةٍ مضغومةٍ جافةٍ حتى لا يضطر إلى مواجهةٍ يعرفُ جيداً أنكِ لا تقوين علي الاقتراب منها الآن على أية حالٍ..سيسير معكِ في الشارعِ ويترككِ للسياراتِ العابرةِ لتلتهمكِ دون أن يُبادر بالقبضِ على ذراعكِ لحمايتكِ كما كان يفعلُ أيامَ كان يُحبكِ، وإذا ما بادرتِ أنتِ وتعلّقتِ بذراعه مستنجدة من تلعثمِ قدميكِ فسيتخلص من ذراعكِ ومنكِ بمجردِ عبور الشارع أو مع أوّل فرصة تسنحُ له .. سيسخرُ من جميع الأغاني العاطفية التي أحببتاها معاً وسيجد أنه لا يوجد مبررٌ واحدٌ لكي تتناولا الغداء في مطعمٍ مطلٍ على النيلِ طالما أن كل مكوناتِ الغداء واحدة في كلِّ الأماكنِ، ولن يقدمكِ أبداً على أنكِ زوجته إذا ما قابلتما معارف أو جيراناً جدداً بل سيزداد غيظه عندما تجيبين من تحت نقابكِ عن سؤال في أعينهم عن هويتكِ، فتقولين أنكِ زوجته ..عيناه اللتانِ كانتا تبرقانِ عندما تتأملانكِ وهما تتابعانِ كلَّ خلجةٍ من خلجاتكِ حتى تُغرقانكِ في الخجلِ تماماً، ستذهبانِ بعيداً الآن لمتابعةِ الجميلات العابراتِ أمامكما وربما تنساقين أنتِ نفسكِ إلى التعليقِ عليهن .. سيمتدُ صمتٌ طويلٌ بينكما، خرائبُ من الصمتِ لن تستطيعي أبداً اختراق أسوارها وكلّما حاولتِ ستجدين كلاباً مدربةً لا تحتفظُ إلا برائحتكِ وتنتظركِ لتنهشكِ بسخريةٍ لن تستطيعَ حساسيُتك المفرطةُ احتمالَها، أو ستجدين أسواراً شائكة مشبعة بالكهرباء لصعقكِ فقد يتوقف قلبكِ فجأة مثلاً فتكون هذه النهاية أكثر حنواً لأنها قدريةٌ على كل حال ..ستتأكدين من تبدلِ مشاعره أكثر إذا ما تظاهرتِ بأنكِ مستغرقة تماماً في شيء ما ..حلقة من حلقات “العاشرة مساء” مثلاً، ولتمثلي أنكِ تتابعين باهتمام كيف يسب الجميعُ الجميعَ وكأنهم ليسوا مَن يحركون مقدرات هذه البلاد! حاولي أن تكوني في هذا الوقت معطية له ظهركِ ثم استديري وداهميه بنظرةٍ مباغتةٍ وحينها فقط ستلمحين النهايةَ بعينيكِ، ستستطيعين رؤية كلماته وهى تحلِّق في فضاءِ الغرفةِ مع دخانِ سجائره ..متى ستختفين من حياتي؟ فلا تتابعين عينيه اللتين قد تفضلان أن تحطا على ذبابة بدلاً من النظر إلى وجهك حتى لا تكرهين رويداً رويداً ملامحك التي لا يطيق النظر إليها ولا تتوقفين كثيراً كبلهاء أمام إشعاعِ الكراهية المنساب من عينيه إزاءَكِ وتحركي بسرعةٍ من أمام التليفزيون لتحضري له كأس ليمون لأنه سيهيأ لك في ذلك الوقت أنك قادرة على إبطال شلالات رفضه لوجودكِ بليمونتينِ، ولا تندهشين كثيراً عندما تعودين وتقرئين فى فضاء الحجرة أن كراهيته قد تضاعفت وليكن كلُّ ما عليكِ عمله الآن هو الهروب من أمامه حتى تنفذي بجلدك سالمة إلى السرير.. سيكون عليكِ احتمال ما هو أكثر في الأيام التالية كأن يختفي هاتفه المحمول وبعد أن تبحثي عنه في الأماكن التي اعتاد وضعه بها لن تجدي إلا الطريقة المألوفة بأن تطلبي رقمه لكي تقودكِ رنته المميزة إلى مكانه وإيَّاكِ وأنتِ تلتقطينه من تحت الفوتيه الأخضر أن تفتشي في ذاكرته لأنها ستكون فارغة تماماً ..لا رسائل منه أو إليه ولا مكالمات صادرة أو واردة ولا شيء على الإطلاق إلا قطعة معدنية بلا شخصية أو روح، وإيَّاكِ أن تصرخي حين تلمحين اسمك وقد استحال من جديد إلى مجموعة من الأرقام هي رقم هاتفكِ الذي تحفظينه عن ظهر قلب، تكررين كمخبولةٍ بينك وبين نفسكِ كلمة : لماذا؟.. هل ليقول لامرأته الجديدة إنه رقم غريب في حالة إلحاحكِ في طلبه عدة مراتٍ؟ هل ليمنع الأخرياتِ من طلبكِ بسهولة حال احتفاظه باسمكِ أو وصفكِ كزوجة على هاتفه؟ أو ربما هو الاحتمال الأوحد .. أو لم تتعلمي في الأسفار القديمة أن نسيان الأرقام أسهل آلاف المرات من نسيان الأسماء؟ وهو ماذا فعل سوى التهيؤ الكامل لرحلة نسيان أسهل؟ وعلى كل حال هو لا يطلبك منذ أشهر، وإذا ما ألححتِ في طلبه يرد بعد عشرات المرات باقتضابٍ وجفافٍ ونفادِ صبرٍ، فلا تحزني هكذا وابحثي له عن مئات الأعذار غير السبب الحقيقي الذي تخشين أن تواجهيه به.. إنه يغلَّقُ عليكِ أبوابَ الوحدةِ ونوافذها واحداً إثر الآخر، ويراقبكِ عبرَ كوةٍ صغيرةٍ من الخارجِ ليطمئنَ أنكِ تقعينَ في ركنكِ لتواصلي لعقَ جراحكِ المتقيحة.. سيقطع بكاءَكِ رنينُ الهاتف، وسيأتيكِ الصوتُ الغريبُ المبحوح :
ـ أنتِ المدينةُ الآسرةُ التي أحلمُ بدكِّ أسوارها واحتلالها وسأتوِّجُ نفسي مليكها …
تضعين سماعةَ الهاتفِ بغيظٍ قاطعةً سيل كلماتٍ تمنيتِ أن تسمعيها من زوجكِ ومنه هو تحديداً، وتتمنين موت الرجل المجهول ذي الصوت المبحوح وأنتِ تتخيلينَ أنه لو لم يلتقط الكلمات من الفضاء ويلقيها على مسامعكِ لالتقطها بالضرورة حبيبك من المكان المعلقة به في الأثير، ولن تدركي في هذه اللحظة أبداً أن مَنْ قالَ هو القائلُ، وأن الكلماتِ لا تُخطئ أبداً طريقَها إلى صاحبِ نصيبِها ..ستحاولين بضراوةٍ أن تمسكي بأذيال وهجكِ الأوَّل، ولكنكِ ستتأكدين إلى حدِّ الثمالةِ بأن عينيه لا تقعانِ إلا على عروقِ يديكِ التي نفرت من كثرة الأحمال، أو الانتفاخ تحت عينيكِ واسودادهما من فرط السهر والسهدِ خوفاً من ضياعِ محبته، أو الترهل الواضح في ذراعيكِ وستكفين عن النظر في المرآة لمطالعة المزيد وستخجلين يوماً بعد يومٍ أن تهمسي له بكلمتكِ الأثيرة :
ـ خذني، فأنا أحبكَ .
سيزداد غيظكِ إلى حدِّ النشيجِ وبحة صوت الغريب تزداد عمقاً وسرعة :
ـ ستكونين مليكتى، ستكونين لي بالتأكيد، أنا أرى كما أرى شجرة الخروب التي تُغلق نافذتي الآن، كيف سأجعلكِ تصرخين من السعادة وأنتِ تسبينَ كلَّ الأيام الماضية التي لم أكن فيها في حياتكِ …..
ستلقين بسماعة الهاتف وعندما يرن وترفعينها من جديدٍ ستجدين الفحيح آسراً هذه المرة وكأنه شهابٌ ضرب السماءَ فجأةً في ليلةٍ مظلمةٍ:
ـ أنا أعرفكِ .. أنا كم أعرفكِ !
ستراقبين نفسك وهى ترصد حركاتكما معاً من علٍ وستواصلين مَتْح بئر المحبة كله، فأنت تعرفين أن الوقت المتبقي قليل للغاية، تقومين بأكثر ما يقوم به محبٌ يائسٌ من محبوبه، ولكنه على يقين بأن كل ما يفعله هو للتخلص من ماء بئر هذه المحبة الملعونة.. تضع أمه عينيها في طبق شوربتها بسخرية تكاد تكون إشفاقاً على رفضه محاولتك إطعامه إصبعاً من الكفتة التي طالما أحبها، ولكنه الآن يعرض عنها وعنك ويكاد ينهض من مكانه تاركاً السفرة، كم أطعمك في أيام زواجكما الأولى! وكم كانت يده تتحجج بأي شيء لكي تلمسك في الشوارع وفى بيوت الآخرين! وكم كنتِ تتابعين مصمصة الحسرة في شفاه نسوة عائلته ! الآن تلاحظ نفسك تلك التي تراقب إصرارك على تجاهل محاولات أمه وأختيه الفاشلة بالانشغال عن متابعة يديك اللتين تعملان بلا توقف، يخترعن أحاديث تخصهن وحدهن لا تعرفين عنها شيئاً ويلقينَ نظرة لا مبالية من طرف أعينهن كتلك التي يلقيها صاحب البيت لـضيف ثقيل علَّه يشعر بمدى ثقله ويرحل، لا تعرفين ماذا تفعلين لينفد كل ماء البئر في وقت قصير ويزداد يقينك بعد كل دلو تنزحينه بأنه لا يوجد طريق آخر أشد سلامة للتخلص من المحبة سوى أن تواصلي منحه كل صورها المعهودة وغير المعهودة إلى حدّ إذلال نفسك.. نفسك تلك التي لا تني عن مراقبتك وكلما كان رد فعله أكثر جلافة وكلما كانت كلماته أشد مرارة وأحد من الموسى الباتر، كانت تكاد تهلل من الفرحة لنجاح الخطة من علٍ، جميعهم يعرفون أن أمرك قد انتهى لديه وإلى الأبد، تستمتعين بالنظر إلى وجوههن بازدراء وكأن القصة تخص امرأة غيرك …إنهن نسوة مثلك تماماً فما الذي يجعلهن سكارى هكذا من الشماتة الممزوجة بالرثاء، تلمسين يده بعد أن يعود من الحمام معطراً إياها فيبعدها بسرعةٍ وكأنه قد لدغه عقرب، ولا يجد في النهاية مهرباً منكِ إلا الجلوس بعيداً عنكِ تماماً، تُسر لكِ نفسكِ بأن تكرري أكثر المشاهد إذلالاً في تاريخ العشق بأن تجعليه واقفاً هكذا محاطاً بهن جميعاً وأنتما تستعدان للخروج من بيت أمه ثم تتهاوين على قدميه وتنهمكين في تقبيلهما ولا بأس من أن تصيحي : لا تتركني، تؤكد لك نفسك من علٍ أن هذا المشهد سيكون حاسماً ولا سيما إذا ألهمه الله أن يركلك ركلاً ويواصل ركلك إلى الخارج مثل كلب شوارع دخيلٍ، وبالمرة تتخلصين من وداعهن إلى الأبد وقد تتخلصين من محبته تماماً .
كانت لكِ جدة رشيقة وكأنها خارجة للتو من إحدى لوحات “محمود سعيد”، وعكس كل الجدات السمينات لصديقاتك كانت تخطر في جلبابها الأسود وطرحتها السوداء بجسدٍ يشبه إلى حدٍ كبيرٍ أجسادكن وأنتن صبايا آنذاك، كان لها وشم أزرق يملأ ذقنها وكأنه هارب من ريشات طاووس ما، عندما كنتِ وأنتِ طفلة تتحسسينه وتسألينها : مَنْ رسم لك هذا ؟ فكانت تضحك وتقول : دقوه لي هنا حتى يعلموني فلا أتوه عنهم أبداً فى الزحام، وهذا أيضاً، ثم تفرجكِ على عصفورتين زرقاوين مرسومتين بإتقان على كلٍ من بزى قدميها وتعاود الضحك وهى تقول والعصفورتان لدرء الشيطان عن جسدي. فلماذا تزوركِ جدتك الآن كثيراً في المنام ؟ هل تُريد أخذكِ معها مثلاً ؟ يُقال أننا نعرف مَن كان لنا أقرب من الأموات عندما يُكلف باصطحابنا لرحلتنا الأخيرة، كانت تقول لكِ لما رأت أنكِ صرت أنثى : إياكِ وأن تستسلمي لـ حب الرجال فهم قساة ياابنتى وإذا ما اشتموا رائحة ضعفك فسيعبثون بكِ قليلاً ثم يتركونك باحثين عن صيدٍ آخر فالرجل صائد بطبيعته ياابنتى والمرأة فريسة، فإياكِ أن تكوني فريسة غبية، أحبيه إذا ما ضربك الهوى ولكن دون أن تُشعريه بذلك، واستسلمي له دون أن يفهم أنه امتلكك تماماً واخمشى قبضات ناره وأنتِ تشكين من البرد، وتنفسي عبيره دون أن يلمح استمتاعك، وافتحي عيناً عليه وعيناً على الأفق البعيد حتى لا يُغمض كلتا عينيك وأنت في غيبوبة وجدٍ ويذهب دون رجوعٍ… كنتِ مثل فرس حرون تسخرين من وصاياها وتصيحين في وجهها بصوتكِ المسرسع الضعيف الذي لم ينضج بعد : لستُ فريسة ولا أريد صائداً بل رجلاً، أنتِ غارقة في وجهها الآن …. كانت جميلة لها عينان سوداوان كحيلتان وأنف يذكرك على الفور بالكبرياء وبشرة خمرية ووردية في آن، وكان لها زوج مات فى سنٍ مبكرةٍ فعافت نفسها وهى لم تتجاوز الثلاثين بعده الرجال، كانت تحكى حكاياتٍ لا تُشبه كلَّ ما سمِعته من حكايات وكانت عذبة الرائحة دون أن تختبر أبداً أياً من المعطرات ولهذا أنتِ تعرفين جيداً من أين أتى “زوسكيند” بعطره، كانت لجسدها موسيقاه الخاصة التي تملأ الغرف بمجرد دخولها وكانت إذا ما مرت على الصباح يزداد نوره وإذا ما بقيت لديكم حتى المساء يزداد ألقه، كانت تضع بهدوء بَصْمَتها على الأوراق لتمنح مَن يُريد أرضاً أرضاً ولمَنْ يُريدُ داراً داراً وتمضى، ولكنها لا تنسى أبداً أن تُلقى بإحدى وصاياها وهى ترتدي نعليها .. إياكِ أن تسعى خلف الحياة فالحياة تسعى خلف مَنْ يهرب منها .. وإياكِ أن تُلقى بنفسك في وسط البحر وتقفي هناك ثم تواصلي الشكوى من الغرق، وإياكِ أن تضعي قلبك تحت قدميك ثم تتأوهين وأنتِ تموتين، وإياكِ أن تتعلقي في سماوات الرب كسحابة ثم تطلبي ألا تستحيلي غيثاً وعلى الحقول تتساقطين. جدتك الأمية لم تعرف ــ دون شكِ ــ” النفرى”، وجدتك الأمية تحتلك هذه الأيام احتلال القوى العظمى لدولةٍ دونَها في العدة والعتاد .
ستقلُّ حكاياته عن أمه وعن أختيه وعن أصدقائه وعن زملائه في الجريدة وعن انطباعاته عن كلِّ شيء حتى تتلاشى تماماً وتغلِّقُ أمامكِ السبلُ فلا تستطيعين حتى الاقتراب من إلقاء سؤالِ عابرٍ للاطمئنان على أي شيء، فهل تأكدتِ الآن أنكِ بالفعل خارج حياته وأن وجودك في بيته لم يعد يتعدى قطعة أثاثٍ قديمة لا يهتم هذه الأيام سوى بالبحث عن كيفيةٍ للتخلص منها ؟ ..سيحاولُ في مواقيت ما ـ أقنع نفسه لا يدرى أحدٌ من الشياطين أو الملائكة بأية كيفية أنه واجبه المقدس ـ أن ينكب فوقكِ لاصقاً صدره بصدركِ خانقاً إياكِ ضارباً بعرضِ الحائطِ كلَّ وصايا ابن حزم في ممارسة النكاح ومشرعاً رأسه لأعلى ليُخفى وجهه بعيداً عن وجهكِ ولكي يتحاشى بالمرةِ تقبيلك ودونما كلمة واحدة ودونما همسة محبة ودون أن يشير من بعيدٍ أو قريبٍ أنه يرغبُ في ملامسة حتى يدكِ أو أنه يحبُ أن تحتضنيه هكذا سيدخلك متمددٌ عليكِ صامتاً ولن يُسمع في الفضاء إلا هديلك دون أي صدى وقد يقطع هذا الهديل بشكلٍ مفاجئ رتابة الإيقاع أو يستمر حتى تصلك تماماً حشرجة وصوله، ليس لأنه وصل إلى ذروة محبته، وإنما لأنه أدى واجبه ولسوف ينهض عنك مخلفاً إياك جائعة لانجذابه الأوّل وجنونه الأوّل وولعه الأوّل بجسدكِ، وقد تروحين وقتها في تخيله وهو يفتش في أعضائك عضواً عضواً عن أكثر من بابٍ للدخول وكأنه آدمٌ حين باغتته حواء بالوقوفِ أمامه فتلعثمت يداه وارتبكت لاكتشاف من أية طينة جُبلت هذه؟ وماذا أنا فاعلٌ بها؟ فصار يتحسس كلّ جزءٍ فيها ثم يعاود وضعه في مكانه، لن يلاحظ حتى أنكِ مجروحة ولن يرى أعضاءكِ الغارقة في الشعور بالمهانةِ، ولكن احذري أن تتفوهي بكلمةٍ واحدةٍ أو لم تُعلمكِ جداتكِ منذ أسلاف الأسلاف أنكِ لعبته والألعابُ لا تتحدثُ إلا في الحكايات الخرافية القابعة في مكتباتِ العالم! .. سينتقدُ كلَّ ما تفعلينَ وكلَّ ما لا تفعلينَ وستلمحينَ ابتسامته التي تحبينها كثيراً فقط عندما يُقابل في حضوركِ فتياتٍ أخرياتٍ، سيواصلُ الهروبَ منكِ طوالَ الوقتِ لمشاهدةِ المبارياتِ أو حتى المسلسلاتٍ التافهةِ لكي يجد كلماتٍ يكسرُ من مادتها صمت إسمنت الجدران .. أينما وليتِ وجهكِ ومهما ابتسمتِ لن يقابلكِ إلا وجومه أو حيرته التي تشبه كثيراً حيرة ديكٍ نتفَ معظم جريد عُشته نقراً ولم يتبق إلا القليل ليجهزَ عليه ويتحرر منها فاراً إلى الأبد، أو خطواته المرتبكة في الشقة.. تلك الخطوات التي تميز المنتظر طويلاً في إحدى صالات الانتظار بمطارٍ ما لطائرةٍ تأخرت للغايةِ..لن تسمح لكِ كرامتكِ بالطبعِ أن تواجهيه فأولاً أنتِ تخافين أن يتصدع كلَّ شيء في لحظة، وثانياً لأنكِ امرأته وتعلمين جيداً أنه سيقلب شفتيه امتعاضاً وقد يتهمكِ بالشكِ أو الجنونِ وإذا ما تماديتِ قد يصيح في وجهكِ كعادة الرجال عندما يُجبرون على الاعتراف بالحقيقةِ..نعم لقد كان حباً وانتهى، والجرّةُ يأتي عليها يومٌ وتمتلئُ حتى يتم إغلاقها ووضعها على رفٍ ما حتى ولو كانت جرّة المحبة ..ستتساءلين ببراءة طفلةٍ صغيرة ولماذا لم أزل أحبه أنا ؟ لماذا لم تمتلئ بعدُ جرتي؟ ستتساءلين بكل ما أوتيت من بلاهة .. تُرى أين يذهب كلُّ هذا الحب ؟ .. الصوتُ المعلَّقُ عليه القلبُ كمشنوقٍ يتوسلُ للحصولِ على آخر قطرةِ ماءٍ في حياته .. الكلماتُ المنسابةُ من سماواتٍ بعيدةٍ وكأن حفنةً من الملائكةِ يلقونها سراً في أذنِ المحبِ ليعيدَ ترديدها لمحبوبه .. العينُ اللامعةُ المفتوحةُ عن آخرها لكي لا تفوتها خلجةٌ واحدةٌ من خلجاتِ محبوبها .. الإلحاحُ المحببُ صباح مساء وكأنه عصفورٌ لا يملُّ من الزقزقة .. عذوبةُ وهنِ الأنبياءِ التي تضربُ ملامحهم بهالةٍ نورانيةٍ حين يحتاجون إلى مساعدة الآلهة.. السهرُ وكأنه يحرسُ الكونَ كلّه ببحاره وجباله وصحاريه ونجومه وشموسه وأقماره وحتى أظلاف حيواناته حتى لا يختفي هذا الكون في لحظةِ نومه آخذاً معه محبوبه.. البحثُ الدائمُ عن حمامٍ زاجلٍ يربطُ في أقدامه أطناناً من الرسائل التي تكررُ معنى واحداً والتي لا تشبهُ إحداها بأي حالٍ من الأحوال ويا للعجب الأخرى..الجسد الذي يشفُّ عن روحه حتى يكادُ يطيرُ ولكنه يقاومُ الطيران حتى لا يبتعدُ كثيراً عن محبوبه فيبكى من فرط عجزه على الثبات في مقام البقاء أو في مقام الزوال ويواصل البكاء لأنه يعرف أنه كلّما ابتلت عيناه وكلَّما بكى تزداد صورة محبوبه بريقاً .. التخلي تماماً عن الصبر والعقل والحُلم وما شابههم في محاولة للتحول إلى ذرةِ هواءٍ تحاول النفاذ إلى عيني محبوبه وهو نائم شريطة ألا تؤذيه .. مناجاة الله والاستماع إلى صوته بجلاء والتطاول عليه أحياناً بسؤاله : ألم نكن كلاً واحداً فلماذا شطرتنا نصفين؟ ثم البقاء في رحابه لائذاً بعرشه من رمضاء الوجد وكأن المحب لا يكون نداً لله إلا عندما يحبُ .. اجتراح أسرار الوجود بكشفها كلها والصمت عن البوح بها .. رؤية نفسه بأنه أضألُ من وردةٍ في بستان وأنه أكثر قبحاً أمام جمال محبوبه وأنه عادى إلى حدِّ الرثاء كما نملة في سرب نملٍ تسعى وأنه عبدٌ غير مطيع أمام سيده هو الذي يتهجد في محاسنه طوال الليل وأطراف النهار ويقعى تماماً تحت قدميه لتنفيذ أتفه أوامره، وأنه محجوب مهما فعل عن عين محبوبه، وأنه ضالٌ ومخفٍ تحت وطأة شمسٍ حارقةٍ كما لو كان جناح بعوضة هائم في ثنايا أشعتها، وأنه ذرات تراب تذروها سافيات الرياح إلى ما لا جهة، وأنه سمكة ” لبيرامبوايا” عجوز ضمرت خياشيمها ونبتت مكانها رئتان وعليها من الآن فصاعداً أن تبرك في مستنقعٍ ضحلٍ حتى تُخرجَ رأسها من الماء لتحصل على القليل من الهواء، وأنه آذان في غير أهله، وأنه قرع نواقيس في غير كنائسها، وأنه مأتمٌ بدون ميته أو عرس بدون عروسه أو ياقوتة نادرة تعانى من البحث عمَن يرتديها، أو أنه النفس الأخير الذي يخرج من صدر عابدٍ لائذٍ بكهفه منذ سنين، أو أنه شهابٌ وحيدٌ سقط على الأرضِ دون أن يراه أحدٌ ودون أن يعبأ به أحدٌ فتحول في التوِّ واللحظةِ إلى قطعةِ طين، أو أنه حَمْلٌ تنوءُ به فتاةٌ وحيدةٌ في دياجير جنونها، أو أنه نسرٌ فاجأته طلقةٌ وهو في الأعالي ويريدُ أن يهبطُ إلى الأرضِ آمناً ليموت بإباءٍ وكرامةٍ، أو أنه صلاةٌ جماعيةٌ دونما قِبلة أو إنشاد ودون مسجدٍ ودون مصلين على جباههم بقعةٌ سوداء، أو أنه ببساطةٍ يعود من حيث أتى وتحديداً مجرد نسياً منسياً تماماً كما كان . ها أنتِ تقطعين مقام انسحاب المحبة كاملاً وقد تنجين الآن بنفسكِ، لم يتبق أمامك ياسيدتى إلا القليل ..عبور بحيرة تعرفين أنها راكدة كلما خلّصتِ قدمكِ اليمنى من وحلها غاصت اليسرى في ما لا نهايةِ وحلِ الإشفاقِ على الذات، كانت لكِ أمٌ لمَّاحةٌ خفيفةُ الظلِّ يقعُ في أسر محبتها كلُ مَنْ يراها، والحقيقة أنها لم تبخل عليكِ بأسرار طُرقِ محبة الرجالِ بحكاياتها أو نصائحها أو كيفية معاملتها لأبيكِ أمامكِ، هل تتذكرين يوم جاءت إلى بيتكم خالتك الصغرى “رضوى” منهارة وباكية بعد أن طلقها زوجها الذي انتظر خمس سنوات لكي تنجب له طفلاً ولكنها كانت عاقراً مثلكِ أو أنكِ خلقتِ عاقراً مثلها، يومها أخذتها أمكِ في حضنها طويلاً وأجهشت بالبكاء ولكنها فجأة توقفت وهى تتطلعُ إلى وجه أبيكِ الحزينِ الساهمِ، وألقت بخالتكِ المنهارة على أقرب كرسى صادفها ثم رشقت أباكِ بنظرةٍ حاقدةٍ وكأنه هو مَن طلقها ثم صاحت بها :
ـ بت يا رضوى والله العظيم انتِ محظوظة، ربنا هايبعتلك راجل تانى واهو بدال الراجل تبقى خدتى اتنين، ياختى يروح في ستين داهية، والله يابت إنتى محظوظة، الدور والباقي على اللي قاعدة طول عمرها وشها في وش راجل واحد ما بيتغيرشى، بكرة تاخدى سيد سيده .
يطاردها أبوكِ في الشقة وكأنه سيضربها، لم يضربها أبداً ولكنه كان يهددها فقط ويبدو أنه يعرف أنها تحبه حتى العبادة، ويبدو أنها كانت تعرف أنه يريد احتضانها لا ضربها، ويبدو أنهما متفقانِ سراً على هذه اللعبة، مما كان يطلق في البيت حكايات وآراء وقفشات أمك التي تجبره على الضحكِ مع الجميع في النهاية، وتنتهي المطاردة عادة بإغلاقها الباب عليها من الداخل حتى لا تسمع صياحه :
ـ صحيح إنك ست سافلة.
بينما ترد هي من الداخل وكأنها لا تعرف ماذا قالت بالفعل :
ـ هو أنا يعنى قلت إيه، الله؟

..الطريقُ طويلٌ طويلٌ ولم يزل ممتداً أمامكِ أيتها الجميلةُ، أنتِ تجاوزتِ الآن أميالاً من الغيرةِ والوجدِ والدموع والحنينِ إلى أيامكِ الخوالي معه، وإعادة توليف أحلامٍ وأوضاعٍ وقبلاتٍ في زوايا مظلمةٍ لن تحظي أبداً بها، كم من الكلماتِ كان عليه أن يقولها! كم من الأسرار ربما لو سُفكت على أعتاب سريركما لامتدت أميال الطريق الأولى بعسلها، وقصرت أميال النهاية! كان هناك عناقٌ لم يحدثْ في لحظته المحددة، وصيحةَ إعجابٍ اختنقت في جهامة الذكورة وخجل الأنوثة، وبيتٌ كان من المفترضِ أن تتسعَ جدرانه، وحديقة كان من المفترض أن تنمو على مهلٍ، وصيفٌ كان من المفترضِ أن يزوركما ليعتذرَ عن كلِّ الأصيافِ الحارةِ التي مرت على الكون، ومطرٌ شتائيٌ يجعلُ عظامكما العجوز تلوذُ ببعضها البعض وتُسامحُ البردَ أكثر.
..أنتِ مغادرة إذاً، فإياكِ أن تسحبي معكِ من متاع الدنيا ما يثقل كاهلكِ، اتركي له كلَّ شيء، فما حاجتك لما يُكبلكِ بسلاسل في الأمكنة وأنتِ مغادرة ؟ كل جرام ستحملينه معكِ سيكون بمثابة خسارة تصطف إلى خساراتكِ اللا متناهية، لقد وضعتِ في مخطوطكِ لحظاتِ الأسرِّة كلها، وهسيس الجدران الوحيدة ليلاً، وأحاديث طابور نمل لبلابتكِ صيفاً، وتبادل ظلال الشمس على الأثاث والشراشف ظهراً، ووجع البلاط من فرط كثرة وثقل خطواتكِ عليه، وعبق الشاي بالنعناع عصراً، وتعب المرايا من تكرار ابتساماتها في وجهكِ صباحاً، ونيران غضبكِ التي تشتعل في وحدتكِ اشتعال النار في المرجل وتخمد في وحدتكِ أيضاً، رنين التليفون الأحمق، الصوت الضاحك المحايد لـمذيعة في تليفزيون فضي الإطار تقرأ فيه خبراً عن مذبحة مروعة في أقصى الصعيد، همساتكِ التي واريتها الكلمات همسةً همسة، أحلامكِ التي لملمتها بحرصٍ بالغٍ من ليالٍ شديدة السواد وحبستها إلى الأبد في سطوركِ، ضحكاتك العالية على أشياءٍ تندهشين الآن أنها كانت مضحكة، هل تبقى شيءٌ لم تحمليه معكِ ؟ ستأخذين كلَّ ما كان لكِ معكِ .. القلب المكسور الذي ولدتِ به .. الخجل المجبولة منه والذي يجعل خطواتكِ تتعثر دائماً كلما لمحتِ من بعيدٍ بداياتٍ جديدة .. يداكِ اللتانِ تُجيدانِ إطعام نصف قبيلة وغسيل وترتب ملابسهم ثم تنظيف أعشاشهم .. عيناكِ اللتان تجيدان سفك الدموع على مَنْ راحوا ومَنْ سيروحون لا محالة .. ساعتكِ البيولوجية التي توقظكِ من عزِّ المنام لتُسرَّ لكِ بنبؤاتٍ يصعب عليكِ لأوَّلِ وهلةٍ فكّ طلّسماتها ولكنها تحوم فوق مشاهد فقدٍ غير محتملٍ وأعاصير لا تعرفين أيُ البلدان ستشهدها وحروب لا تدرين مَنْ سيخرج منها منتصراً بل الأحرى أنكِ لا تعترفين بالانتصارات في الحروب ..ستأخذين كلَّ ما كان لكِ معكِ .. رحمٌ لا ينجب أطفالاً يعمرون الأرضَ .. شجٌ فوق حاجبكِ الأيسر من إثر سقوطكِ من أعلى سلم بيتكم وأنتِ طفلة أثناء هروبكِ من أبٍ مصر على ضربك .. أذنكِ التي تطنُ فيها أطنانٌ وأطنانٌ من الكلمات .. قدمانِ لا يحملانِ في ذاكرتهما سوى بضعة شوارع وأرصفة وميادين تستطيعين ترديد أسمائها في زمنٍ لا يتجاوز الدقيقتين.. ذكرياتٌ قليلةٌ تستطيعين التجول بها من فرط خفتها في بلاد الله دون أن يرهقكِ حملها .. شَعرٌ خفّت كثافته ولكنه ما زال يستطيع ستر كلّ ما في داخل جمجمتكِ من آثار طعناتِ كلّ مَنْ عبروا فوق جسدكِ غير مصدقين أنكِ قادرة على النهوض من تحت أقدامهم لتفردي جناحيكِ وتُحلقي من جديد .. أظافرٌ لا تُجيد الاتكاء إلا على روحكِ نفسها .. وردتكِ الحمراء التي ظلت جرحاً مفتوحاً مذ ولدتِ وحتى يواريكِ التراب .. وأخيراً رائحتكِ التي تعرفين أنها خاصة جداً وجاذبة لذكور القبيلة، ولكن انتبهي أنكِ إذا ما انجذبتِ مرة ثانية فستكررين وإلى الأبد الحكاية نفسها .
.. ما زال عليكِ قطعَ أميال من الألمِ المريرِ وإذا ما أردتِ اختصارها ياسيدتى فكوني شجاعة واغلقى بنفسكِ وبكلِّ محبةٍ تلك الجرّة الصغيرة التي امتلأت عن آخرها، وضعيها بحنو على رفٍ غير مرئي مِنْ أرففِ حياتك حتى تتحولي إلى طيفٍ نوراني شفافٍ كلَّما همَّ أن يقبضَ عليه في لحظاتِ حنينه القادمةـ دون شكٍ ـ ينساب من بين يديه، ويلاحق طريقه نحو مصبِ النورِ الخالدْ.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات