حكايات شهرزاد الكورية: المساء الأخير في سيول

09:12 صباحًا الإثنين 4 فبراير 2013
إيناس العباسي

إيناس العباسي

شاعرة وكاتبة وصحفية من الجمهورية التونسية، مقيمة في دولة الإمارات العربية المتحدة

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

البطء…

 من 25 إلى 29 اغسطس 2009:

(يوميات) :اليوم الثاني:

الآن أفهم معنى “البطء”….البطء الذي خصص له كونديرا رواية في مديحه…في مديح حياة الريف أو المدن الصغيرة التي لا يسيطر فيها الإيقاع السريع على الحياة ذاتها….هنا في مركز “توجي” (كلمة تعني الأرض باللغة الكورية وهي اسم رواية شهيرة للكاتبة الكورية والمعروفة جدا في كوريا “كيونج-ني بارك” التي شيدت هذا المكان ليقيم فيه الأدباء سواء من كوريا أو من مختلف بلدان العالم لفترة ثلاثة أشهر  ليتفرغوا فيها للكتابة..وتُقدم لهم تذكرة القدوم لكوريا على حساب المركز)…اكتشفت البطء واكتشفت أنني عبدة للمدينة …والثلاثة روايات التي حملتها معي مثل كنز أقسطها على مهل…علي أن أقرأها في أربعة ليالٍ …

صباحا أفتح النافذة على الخضرة الداكنة للأشجار العالية التي تطوق “توجي” وكأنها تحتضنه… دون سيارة للتنقل باتجاه وسط مدينة “جانجون-دو” التي يقع “توجي” في إحدى ضواحيها، يصبح المكان معزولا تماما…منحوتة حجرية عند حافة غابة والجبال مترامية على امتداد العين…

البارحة صعدنا الجبل ومشينا لأكثر من ساعة صعودا ومثلها للنزول…كانت متعة الصعود ترافقها متعة انتعاشات خفيفة: دفقات من الهواء البارد والشعور بانفتاح القلب…تأمل الفطر المنبثق بين الصخور….ضحكات الآخرين …الصعود الذي يشبه تسلق فكرة في الطريق إلى قصيدة لم أكتبها بعد…في الطريق إلى حياة لم أخترها بعد…العودة إلى الامارات أم الرحيل إلى اسبانيا…وماذا سأصنع هناك إن ذهبت…تعلم اللغة الاسبانية في مدينة تقع في أقصى جنوب اسبانيا في قلب الأندلس…ثم ماذا؟ أم العودة إلى مستقبل مهني مجهول؟ أليس ذهابي لأوروبا هروبا؟…

 ضحكات الآخرين وفراشات الضوء تلتمع في الليل الذي غطى طريق عودتنا… والذكريات ينابيع تنساب أمامي…ماذا إن عدت لتونس؟ سأستكمل دراستي للرياضيات وأواصل كتابة القصائد في ساعات الامتحان وأتوه في تناقضاتي ذاتها من جديد…يحاول كل واحد منا التقاط فراشة ضوء في كفه بحنو…والوقت صعود الأفكار وارتدادها…تنتشر فراشات الضوء من حولنا أكثر بعد أن أطفأنا أضواء مصابيحنا اليدوية…تبدو كأنها نمنمات في ثوب الليل صنعتها يد خفية…

في طريق النزول، تصلنا من الشارع أصوات موسيقى خافتة من أقرب “نوري بانغ” (ملهى لممارسة “الكاراوكي” الذي يمثل تقليدا شعبيا كوريا حديثا للتسلية، حيث كل واحد يحجز غرفة هو وأصدقاءه، ليغنوا فيها أغانيهم المفضلة وتلاقي هي وألعاب الكمبيوترا قبالا كبيرا)…

اليوم الثالث:

أرتقب عودتنا لسيول باشتياق حقيقي….

اليوم الرابع:

صباحا، أتمشى قريبا من الأراضي الزراعية دون الاقتراب من الغابة القريبة..أفكر ببدايات قصائد وصور عابرة  من روح الطبيعة تفرض نفسها على مخيلتي… وقتها فقط فهمت لماذا تغنى الشعراء الكوريون كثيرا بالطبيعة …كل هذه الجبال المتسامقة المكللة بأثواب متنوعة بتنوع الفصول الأربعة …

ثم أعود قبل ساعة الغداء لأجد أحدهم، على الأرجح إحدى الجارات أوالعاملات في مطبخ “توجي” ، قد نشرت فلفلا أحمرا على مفرش بلاستيكي، أمام الباب الرئيس لمبنى”توجي” ، ليجف تحت الشمس…أتذكر أمي تعد مؤونة السنة وأتذكرالصيف التونسي والفلفل الأحمر الذي يجفف على سطح المنزل تحت أشعة شمس أغسطس أيضا ليرحى في ما بعد ويتحول إلى “فلفل زينة “(للطبخ) أو “هريسة عربي” ، ينشر جنبا إلى جنب مع “الكسكسي” المنشورعلى قطع قماش بيضاء كبيرة متغذيا بأشعة الشمس… وفي كوريا تستعمل مؤونة الفلفل الأحمر بعد أن يرحى في اعداد “الكيمتشي” وفي الطبخ  اليومي أيضا …أبحث بعيني عن المرأة التي وضعتهم وإن كانت ستأتي لتقلِبهم، فأنتبه لجرار الفخار الكثيرة المصفوفة حسب أحجامها من الكبيرة إلى الصغيرة…من المؤكد أنها  لحفظ مؤونة السنة…

الليلة الأخيرة:

كأن الوقت توقف…كأنه انكفىء على وجهه وتعلم البطء هنا …كأن الساعة العاشرة  ثقيلة ثقل ليل راهبة تتقلب على سرير حيرتها…وفي هذه الليلة الأخيرة في “توجي ” اكتشفت أني أنهيت الكتب التي معي وماعدا الحشرات بكل أنواعها وفراشات الضوء…فما من شيء لأحصيه في العتمة…أرتقب الصبح الذي لا يأتي…

  المساء الأخير …

أتأمل غرفتي …بيتي الصغير في نظرة شاملة وأخيرة: أتطلع في الطاولة التي لطالما كتبت عليها..في الأرضية المكسوة بطبقة خشبية …الأرضية التي لطالما تقلبت عليها في ليالي الحر والوحدة…التي لطالما تقلبت عليها مقلبة صفحات الروايات وبضع كتب تاريخ سرعان ما أنام بعد بضعة صفحات منها، لأصحو في الصباح بجسد متيبس ومنهك ….أتطلع في المبنى وألتفت إلى موتيل “amoure”  الذي لم تواتني الشجاعة الكافية على دخوله ورؤية شكل الغرف به..أو على الأقل لأقول أن اسمهamour  (حب بالفرنسية) تُكتب من دون حرف الـ”e” في النهاية…

تنساب سيارة “شين يونغ” باتجاه مطار “اينشون” الذي يبعد أكثر من ساعة عن المدينة…تنساب السيارة مسرعة لأعبر الليل السيولي للمرة الأخيرة ربما…نعلق في الزحام المسائي…نتحدث دون توقف …نتخفى من الوداع وراء الكلمات…أتطلع في الطرقات متسائلة هل نسيت مكانا كان من الممكن أن أزوره ولم أفعل؟ هل عرفت أهل هذه المدينة حقا؟ وهل…و…وأي طريق غامض ينتظرني بعد ثماني ساعات ؟

في فوضى الاجراءات وفوضى الرحيل وكلمات الوداع المبتلة بوعود لقاء غيبي في تونس أو في باريس، أودع “شين يونغ”……

 ثمّ عبرت بوابة المغادرين، مثقلة بحزن لا يوصف…حزن من يغادر حبيبا …وقتها فقط اكتشفت متأخرةً، مثل كل العشاق، عشقي لمدينة اسمها…سيول…

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات