أبناء الجبلاوي

12:41 مساءً الخميس 7 فبراير 2013
إبراهيم فرغلي

إبراهيم فرغلي

روائي من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الروائي إبراهيم فرغلي الفائز بجائزة ساويرس في الرواية لهذا العام عن عمله (أبناء الجبلاوي)

فصل (1) ـ الجزء الثالث

 1

 يبدو أنني فقدت سطوتي، نعم. أصبحت مثل خيال مآتة، أتعكز على خشب رخيص لأخيف طيورا افتراضية لا تخشاني من الأساس.

هكذا هو حالي منذ قرر الشخص الذي أقترن به التوقف عن الكتابة. لست قرينا كما قد يبدو من كلامي، لكني “شيطان كتابة”، إذا شئتم. نعم أنا شيطان كتابة وذلك الشخص هو كاتب، لو اهتممتم أن تعرفوا اسمه فهو “كاتب الكاشف”. غالبا لم تسمعوا اسمه قبل ذلك، وهذا طبيعي إذ أنه لم ينشر شيئا من قبل.

المعلومة الأخيرة تبدو محرجة لي، إذ تهيؤني لكم في صورة شيطان كتابة فاشل، ليس لديه ما يمكنه أن  يلهم به أحدا. لكن الحقيقة غير ذلك. ولكم أن تعرفوا مبدئيا أن كل ما قرأتوه سابقا هو نص رواية من الخيال، كنت أنا ملهمه الأول والأخير.

ربما سيصدمكم أن تعرفوا أن كل ما قرأتموه ليس سوى محض خيال لا أصل له في الواقع، فلا وجود لـ”كبرياء”، أو “نجوى”، أو غيرهما مما ورد في النص، وأنه ليس سوى خيال كاتب، قرر أخيرا أنه أصيب بـ”سكتة كتابية”، وافترض أن الفصل الأخير مما قرأتموه هو نهاية الرواية.

  لكني أؤكد لكم أن ما يدعيه ليس صحيحا، لقد ألهمته بالفصل الأخير، الذي امتنع عن كتابته،  والذي تنكشف فيه حقيقة ما حدث لكتب “نجيب محفوظ”. وكان مقتنعا بأحداث ذلك الفصل الذي تدور أحداثه في مرحلة ما، خارج الزمن؛ تنتمي لعصر سحيق كانت مصر فيه هي سيدة العالم.

 لكنه توقف فجأة بعد أن انتهى من الفصل الأخير، مرددا لنفسه أن كل ما كتبه ليس سوى مجموعة من الأكاذيب المختلقة التي تصيب بالغثيان، وأن النهاية التي كان يفترض أن يكتبها ليست مقنعة، وليست سوى ثرثرة لا تجدي نفعا .

  وضع أوراقه في الدرج بجوار الروايات الخمس التي كتبها سابقا، ولم ينشرها لأنها لم تكتمل لنفس الأسباب. وضع المفتاح في درج المكتب وأداره عدة مرات، حتى لا تساوره نفسه للعودة لهذا النص أو غيره. وإمعانا في التأكد من أنه لن يعود لذلك خرج إلى عشيقته. ناولها المفتاح، وطلب منها أن تضعه في حقيبتها، وألا ترضخ له لو عاد وطلبه منها مرة أخرى لأي سبب من الأسباب.

عشيقته التي كانت تتعامل معه بوصفه شخصا غريب الأطوار لم تسأله عن سبب ذلك، بسبب اعتيادها على غرابة أطواره، ولأنها كانت قد جلست تتابع فيلما سينمائيا خلال فترة وجوده في غرفة المكتب، فقد تناولت منه المفتاح ونهضت بسرعة وهي تعدل من ثوب النوم القصير، واتجهت إلى المنضدة التي تضع حقيبتها عليها. ألقت فيها بالمفتاح الصغير وعادت مرة أخرى إلى حيث كانت تجلس، دون أن تنظر إليه.

فهم أنها مستغرقة في مشاهدة الفيلم، وأنها ليست مستعدة لحوار أو مقاطعة حتى ينتهي الفيلم، فرضخ بلا أي مقاومة.

 إتجه إلى المطبخ. فتح باب الثلاجة، وبحث عن زجاجة بيرة. وجد واحدة فالتقطها. نزع غطاء الزجاجة الخضراء، ورشف منها جرعة أظهرت له مدى عطشه. سألها إن كانت ترغب في شيء تشربه. أشارت إلى كوب بيرة ممتليء أمامها وقالت أنها لم تنته من شربه بعد.

جلس على الأريكة المجاورة للكرسي الفوتيه الوثير ذي اللون الأزرق الذي كانت تجلس عليه باسترخاء. تأمل ساقيها العاريتين، المستندتين إلى المنضدة الزجاجية القصيرة التي كانت تتوسط غرفة المعيشة، وكانت  قربتها من الكرسي قليلا لتتمكن من إسناد ساقيها عليها. تأمل مطلع فخذيها الذين انحسر عنهما رداء النوم الشفاف الأسود. لاحظ استغراقها فيما تشاهده، فتجرع من زجاجته رشفة أخرى. أشعل سيجارة من علبة سجائرها، ثم قدم لها واحدة. نظرت إليه بوجوم وهزت رأسها نافية رغبتها في التدخين.

إستفزه رد فعلها، فنظر إلى الشاشة. كان المشهد من فيلم يحبه هو فيلم “المريض الانجليزي”. وهو أيضا فيلم يثير غيرتي شخصيا، لأنه أكد لي أن بعض النصوص الجيدة يمكن أن تتحول إلى صورة جيدة بنفس قيمة النص، بالرغم من أنني أعتبر كل محولي النصوص إلى السينما ضعيفي الخيال، ذوي قدرات متوسطة أو محدودة.

دعوني أُسّر لكم أنني صديق لشيطان كتابة كاتب كندي يدعى “مايكل أونداتجي”. من بين شياطين الكتابة في عالمكم يعتبر شيطانا موهوبا، وشخصيا سمعت منه كلماته التي وهبها لشخصية عشيقة المريض الإنجليزي حينما تركها الكونت دي ألماسي في الكهف وهي مكسرة العظام : وأرجوكم أن تتمثلوا حالتها، فاقدة للقدرة على الحركة، داخل كهف في بطن جبل عملاق في وسط الصحراء، لا يدخل إليه الضوء إلا لماما، ولا تمتلك طعاما أو شرابا:

” حبيبي أنا أنتظرك”.

 “ما مدى طول النهار في الظلمة؟”.

 “إنطفأت النار الآن، وأنا أشعر ببرد قارس”.

 “كان علي الخروج”.

 “لكن هناك أشرقت الشمس على الرسومات بينما أكتب هذه الكلمات”.

 “نموت”.

 “نموت أغنياء بالعشاق وبالقبائل”.

 “وبأذواق ابتلعناها”.

 “أجساد ارتديناها وسبحنا فيها كالأنهار”.

 “وفيها خبأنا مخاوفنا كهذا الكهف البائس”.

 “أريد أن يكون كل هذا علامة بارزة على جسدي”.

“كأسماء البلدان والحدود المرسومة على الخرائط”.

 “مع أسماء الرجال الأقوياء”.

 “أعلم أنك ستأتي وتحملني خارجا إلى قصر الرياح”.

 “هذا كل ما أردته”.

 “انطفأ النور وأنا أكتب في الظلمة”.

رددتُ الكلمات من بعد ما سمعتها، من شيطان كتابة مايكل أونداتجي، عشرات المرات، حتى حفظتها فكررتها آلاف المرات، وأصبحت أستدعيها مثل الملتاثين، بنفس درجة تكراري لكلمات أوحاها صديق آخر هو شيطان كتابة كاتب تركي يدعى “أورهان باموق” في روايته “اسمي أحمر” وأهداها لشخصية “نظير أفندي ” لينطق بها في الرواية قائلا:

” لن أهدأ في قبري حتى لو دفنوني في قبر رائع، وسأبقى أبثكم اللاإيمان”.

“جدوا ابن القحبة قاتلي، وأنا أحكي لكم بالتفصيل عما رأيته في الحياة الآخرة”.

لكني الآن مستفز من ابن القحبة هذا؛ “كاتب الكاشف” الذي رهن اسمي باسمه بينما هو يقرر أن يكون فاشلا. يستهلكني لألهمه الأفكار، ثم يلقي بها في النهاية في درج مكتبه وائدا إياها، ويتسلل إلى عشيقته واعدا نفسه بليلة حب ساخنة ينهك فيها نفسه، بعد أن يشرب حتى يقارب فقدان الوعي، كأنه يغيب نفسه لينسى الرواية التي كتبها ويميتها في أعماقه.

 الفصول السابقة إستغرقت منه خمس سنوات. كان خلالها متفرغا للكتابة تماما. أي أنه كان يكتب كل يوم تقريبا. لكنه أصيب بوسواس يقول له أن ما يكتبه لا قيمة له. لذلك كان يكتب لمدة أسبوع أو أسبوعين بتدفق، وعندما ينتهي من أحد الفصول، يمزق كل ما كتب، ليس لأن ما كتبه لا يعجبه، وإنما لأنه اكتسب قناعة جديدة تقول: أنه لكي تكون كتابته جيدة فإنه سيعيد كتابة ما سبق أن قام بسطره على الورق، وهكذا؛ كان يمزق الأوراق التي كتب عليها، ويشرع في أعادة الكتابة، على يقين أنه إذا كانت الفكرة التي سبق له كتابتها أصيلة فإنه سيتمكن من استدعائها بسهولة. أما إذا كانت غير ذلك فسوف تسقطها ذاكرته، وإلى الأبد.

عندما باغتني بهذه الفكرة عاندته وقررت ألا أقدم له أية مساعدة في خلال فترات إعادة الكتابة تلك. لكنه في الحقيقة، أبهرني بقدرة ذاكرته على استعادة النص، مع تغييرات لا تكاد تذكر. لكن ذلك كان يستغرق منه وقتا طويلا. والآن، وبعد أن أوشك على إنهاء النص، وضعه في الدرج واعتبره كأنه لم يوجد فماذا علي أن أفعل؟

هذا الغبي لا يدرك أنه يتسبب في إحراجي بين أقراني من شياطين الكتابة الذين يعتبرني الكثير منهم صاحب موهبة رفيعة في السرد، بل تنبأ لي بعض منهم إمكانية وصولي إلى مصاف عباقرة شياطين الكتابة من أمثال “شيطان دوستويفسكي” نفسه. لكني الآن لست سوى واحد من أولئك القرناء التافهين الذين يدعون أنهم شياطين كتابة ويلهمون أشخاصا محدودي المواهب وساذجين ممن يحبون القراءة فيظنون أن بإمكانهم أن يمارسوا فعل الكتابة، متسببين في كوارث عديدة عبر إنتاج ركام من نصوص تافهة، تفتقر الحد الأدنى من المعرفة بجمال اللغة، يظنونها قطعا من السرد العبقري، دون أن يدركوا أن ما يفعلونه هو أكبر الأخطاء التي ارتكبوها في حياتهم.

الوحيدة التي تعرف حجم موهبتي هي قرينة عشيقة كاتب الكاشف، فهي التي كانت تقرأ ما ألهمه له من أفكار وخيال عبر شخصية العشيقة التي تقترن بها.

لكن هذه العشيقة، وبعد العام الأول من علاقتها بهذا الكاتب اكتشفت أنه شخص غريب الأطوار، وفاشل وفقا لمفاهيمها عن الفشل، وأنها لن تتمكن من إقناعه بنشر كتاب واحد، فاكتفت بقراءة ما يكتبه وفي مناقشته أحيانا، وبالاستمتاع بقراءة نصوصه، خاصة بعد أن أقنعت نفسها بأنه يكتب لها هي وحدها، وهي الفكرة التي بدت لها مغرية تماما، فسرعان ما وقعت أسيرة لها، لأنها جعلتها تشعر بقوة جاذبيتها وتأثيرها عليه، من جهة، وتاليا لأنها جعلتها تدرك مدى تقديره لها. وهكذا استسلمت تماما لمنطقه المتخاذل، وتوقفت عن مراجعته في فكرة النشر نهائيا.

ولكن ماذا عني أنا؟ هل سأظل أدور في هذه الدائرة الفارغة. أنا أحترق بالخيال، أي أشتعل بتوليد الخيال من بعضه بعضا، وبلا توقف. لهذا وُجدتُ، ولنفس السبب تقرر اقتراني به. فلماذا أقترن بفاشل مثله؟ ألم يكن الأجدر بي أن أقترن بشخص مثل بول أوستر مثلا؟ أو سلمان رشدي، أو د.هـ.لورانس؟ أو شاعر مثل بودلير، أو أمثالهم من الموهوبين؟ لماذأ أوقعني حظي مع كاتب الكاشف الفاشل؟

*****

إليكم الآن ما قررته. ليكن ما يريد أن يكونه. نعم، إذا أصر على فشله، فهذا شأنه، لكني لن أقبل بذلك. سأقاوم، بأن أستمر في أداء دوري، لكني في هذه المرة سأنتقم منه شخصيا. نعم. سأمارس الدور الذي ينبغي لي أن أمارسه منذ زمن بعيد. سأحكي لكم سيرته هو شخصيا، بكل إيجابياته وكل مثالبه. سأقص لكم تفاصيل غرابة أطواره، وأعرفكم على أسراره، بما فيها ما لا يعرفه هو نفسه عن نفسه.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات