ناظم حكمت: لا مكان لي في وطني

07:40 مساءً الثلاثاء 12 فبراير 2013
فاطمة الزهراء حسن

فاطمة الزهراء حسن

مخرجة تليفزيونية، وكاتبة من مصر، مستشار شبكة أخبار المستقبل (آسيا إن)

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

صدر قرار من المحكمة  التركية أعاد الحياة إلى آلاف الكتب والمؤلفات التي كانت ـ ولعقود طويلة ـ محظورة الطباعة والنشر والتوزيع وقد شملت تلك القوائم أعمال رائد الشعر التركي الحر ناظم حكمت وكانت السلطات التركية قد فرضت حظرا على تداول أعماله في البلاد عام 1965.  لاقى قرار رفع الحظر ترحيبا واسعا في الأوساط الأدبية والفنية والشعبية في تركيا على اعتبار أنها خطوة مهمة في طريق طويل تقف تركيا في منتصفه بين قواعد حازمة وتوجهات أتاتوركية  لم تستطع تركيا أن تخرج عن سياقها وبين رغبة محمومة من دولة هي بالفعل عضو في حلف الناتو في الانضمام للإتحاد الأوروبي , إلا أن تركيا مازالت تعاني أزمة كبيرة في مجال حرية التعبير والصحافة لدرجة جعلت منظمة مراسلون بلا حدود تصنفها كأكثر دول العالم قمعا واعتقالا للعاملين في الحقل الإعلامي والصحفي.

كان البرلمان التركي في شهر يوليو / تموز الماضي 2012 قد تبنى قانونا ينص صراحة على أن كافة القرارات الإدارية والقضائية المتعلقة بمصادرة أو منع أو عرقلة بيع أو توزيع منشورات مطبوعة تسقط بالتقادم في حال لم تؤكدها المحكمة خلال ستة أشهر وقد انقضت المدة وشمل هذا القانون الجديد 23 ألف كتاب بحسب تقديرات وزارة العدل التركية .

كلمات لمن يقبع في السجن

مظاهرات حاشدة ومسيرات غاضبة في باريس ودول أمريكا اللاتينية , احتجاجات موسعة في الجمهورية التركية الناشئة خرجت تضامنا مع الشاعر الثوري النبيل ناظم حكمت ومطالبة بإطلاق سراحه دون قيد أو شرط عام 1950,كان حكمت قد قرر الإضراب عن الطعام وساءت حالته الصحية احتجاجا منه على وحشية وقسوة ساجنيه … وذلك بعد أن قضى 12 عاما رهن الاعتقال في مرحلة كانت الأصعب والأقسى من حياته …قررت السلطات التركية على إثر تلك الضغوط الداخلية والخارجية الإفراج عن ناظم قبل أن يكمل مدة سجنه التي بلغ مجموعها خمس وثلاثون عاما …

كان قد حكم عليه عام 1938 بالسجن لمدة 15 عاما وفي السنة التالية حكم عليه بالسجن عشرين عاما أخرى بسبب جرأته وسخريته من القضاة أثناء جلسة محاكمته إذ قال مقولته الخالدة: “الجيش يخاف من الشعر “

ولكنه وطوال مدة سجنه لم يتوقف عن كتابة الشعر وقد عكست قصائده مأساة القيود والممارسات غير الإنسانية وراء القضبان وأهمية الصبر والإصرار في مواجهة الظلم والظالمين وكان زملاؤه في السجن يسمونه (المعلم) فيما كان هو يسميهم (إخوتي) .

 وكانت قصيدته الرائعة (كلمات لمن يقبع في السجن) خير توصيف لحالته النفسية والمعنوية في هذه المرحلة المؤلمة من حياته :

إذا كنت تؤمن بالوطن

بالعالم والإنسان

فسيقودون خطاك إلى المشنقة

أو سيلقون بك في الزنازين

ستبقى هناك عشر سنين

أو ربع قرن

ولكن مهما يكن الأمر

عليك أن لا تفكر ولو للحظة

أنهم لو علقوك كالعلم على العامود

لكان ذلك أفضل

عليك أن تتمسك بالحياة

رغم مسحتها التعسة

فواجبك أن تقاوم

وأن تعيش ليوم آخر نكاية بالأعداء.

  • ناظم حكمت الشاعر الثوري النبيل

 ناظم حكمت Nazim Hikmet  (1902-1963) ولد في مدينة سالونيك اليونانية والتي كانت وقتئذ تابعة للدولة العثمانية , عانقت عائلة حكمت الأدب والنضال فكان والده حكمت ناظم بك مديرا عاما للمطبوعات في الدولة العثمانية ووالدته عائشة جليلة خانوم تعشق الرسم والفنون وكان بيتهم ملتقى لمريدي الشعر والطرب , سافر حكمت عام 1922 إلى موسكو ودرس في جامعة (عمال الشرق ) وكانت هذه الفترة تمثل بداية التجربة الإشتراكية والفكر الماركسي في أعقاب الثورة البلشيفية في روسيا وتمكن حكمت من توسيع آفاقه المعرفية والفلسفية والفنية وشارك في التظاهرات الثقافية والندوات الفكرية وارتبط بعلاقات وثيقة مع كبار الشعراء ولعل الشاعر الكبير مايكوفسكي كان من أقرب أصدقائه , عاد حكمت مجددا إلى تركيا عام 1925 محملا بأفكاره الماركسية وحاملا نموذج الفكر الإشتراكي كمنهج للحياة تلك التوجهات التي كانت محظورة في تركيا بعد أن أطاح مصطفى كمال أتاتورك Mustafa Kamal Ataturk (1881-1938)بالخلافة العثمانية وطرد الخليفة وأسرته من البلاد وألغى وزارة الأوقاف والمحاكم الشرعية وأصبحت تركيا جمهورية علمانية عام 1924 , لم تدم العلاقة الإيجابية طويلا بين نظام أتاتورك والفكر الماركسي الإشتراكي لناظم حكمت تلك الأفكار التي أثارت النظام ضده بل وباتت مدعاة لإعتقاله فغادر الوطن مجددا إلى موسكو حيث عمل بالمسرح وتزوج فتاة موسكوفية وعاد مجددا إلى بلاده عام 1928 وإنصرف للشعر وأصدر العديد من الدواوين الشعرية التي كان فيها من المجددين في الشعر التركي ومدارس الشعر العالمية .

  • رسالتي الأخيرة إلى ابني محمد

 كان ناظم حكمت يعتقد أنه بالإمكان أن يمارس حياته الفنية والأدبية بصورة طبيعية بعد أن أفرجت عنه السلطات التركية إلا أنها بذلت كل الجهود الممكنة لتضييق الخناق عليه حتى قرر العودة مجددا إلى موسكو ومنها إلى إلى بلدان أوروبا الشرقية مقدما أعماله المسرحية وأشعاره الثورية التي كانت ممنوعة في بلاده …

وقد كتب حكمت قصيدة بعنوان (رسالتي الأخيرة إلى ابني محمد) وكانت هدية خاصة إلى مجلة الثقافة الوطنية 1954 وترجمها إلى اللغة العربية  حسين مروة خلال جلسة مع حكمت أثناء انعقاد مجلس السلم العالمي ببرلين عام 1954:

 الجزارون – في ناحية – ضربوا ضربتهم بيني وبينك

وهذا القلب اللعين – في ناحية – يلعب بي لعبته

فهل يكون نصيبي- ياصغيري محمد – أن أراك بعد؟

أنا أعلم أنك ستكون رشيقا كسنبلة القمح

فأنا كنت هكذا ـ في صغري-

ممشوقا فارعا نحيفا أشقر

وعيناك ستكونان واسعتين كعيني أمك

وحينا سيغشاهما حزن غريب

وجبينك سيكون جبينا وضاء لا يتناهى في الأفق

 ابني … لا أخاف الموت…

ولكني أنتفض أحيانا وأنا أعمل فجأة

وحين أكون وحدي على سريري قبيل الغفو

يهتف بي خاطر :

من الصعب أن يعد الإنسان ما قد يعيش بعد من أيام …

ولكن هل نشبع من الحياة ؟

لا يمكن – يا محمد – أن نشبع ..

  •  أجمل الكلمات: تلك التي لم أقلها بعد

لعل المرحلة الإشتراكية التي تألق فيها ناظم حكمت بحكم دراسته الجامعية في روسيا والمد الماركسي في الإتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية مقابل التجربة الرأسمالية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة ألحقت بإبداعه ضررا غير مباشر إذ تم تصنيفه كمبدع يساري لاسيما من مروجي فنه وجعلته أسيرا للأيديولوجيا اليسارية حتى من الأحزاب العربية التي تبنت النهج الماركسي , لم يكن حكمت وحده ضحية لهذه المرجعيات في تلك المرحلة فالشاعر العظيم بابلو نيرودا والشاعر الفرنسي لويس آراجون والشاعر المصري أحمد فؤاد نجم وغيرهم, لم تتم قراءة أعمالهم برؤية محايدة بعيدا عن الولاءات السياسية , فالحاجة الآن ماسة وملحة لقراءة أعمال هؤلاء العظام مجددا لأنهم لم يجمعهم إلا مقدرتهم الفائقة على تجسيد معاناة الآخرين من المظلومين والمقهورين في كل بقاع الأرض.

كلما داهمنا اليأس وشعرنا بمرارة الأيام وفقدان الأمل نتذكر كلمات ناظم حكمت الخالدة :

أجمل البحار: تلك التي لم نزرها بعد

أجمل الأطفال : أولئك الذين لم يولدوا بعد

أجمل أيامنا: تلك التي لم نعشها بعد

أجمل الكلمات: تلك التي لم أقلها بعد.

لم تكن تلك الخطوة برفع الحظر عن أعمال الشاعر العظيم ناظم حكمت هي منتهى المراد من السلطات التركية فمازال الطريق طويلا في محاولة بلاده رد الاعتبار إليه بعد عقود من الظلم والتحقير وصلت إلى حد تجريده من جنسيته التركية في خمسينيات القرن الماضي لاعتناقه المذهب الماركسي وقد حصل على الجنسية البولندية كبديل عن هذه القسوة من أبناء وطنه ووصل الأمر إلى حد أنه لم يدفن في بلاده. فهل يأتي اليوم الذي تحتضن فيه تركيا ولدها ولو كان رفاتا وأن تنفذ وصيته بأن يرقد تحت شجرة وارفة الظلال في مقبرة الأناضول؟

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات