قصة صينية معاصرة: الابتسامة الأكثر بُطئًا في العالم

10:07 مساءً الأحد 24 فبراير 2013
يارا المصري

يارا المصري

كاتبة ومترجمة من مصر، تخرجت في كلية الألسن، قسم اللغة الصينية. تم اختيارها ضمن مشروع للترجمة عن الصينية يتبناه المجلس القومي للترجمة في مصر واتحاد كتاب الصين، شاركت في ترجمة مجموعة قصص قصيرة للكاتب الصيني (سو تونج) الحائز على جائزة البوكر الآسيوية ، الضي يصدر بعد مراجعة الدكتور محسن فرجاني المشرف على المشروع تمهيداً لإصداره عن المركز القومي للترجمة. وحالياً تعكف (يارا المصري) على ترجمة عمل الكاتب الصيني مو يان (عدو الابن) الحائز على جائزة نوبل للآداب

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

 

بي شو مين

(بي شو مين) طبيبة نفسية صينية عملت لمدة عشرين عاماً، منها ثمانية أعوام في الجيش الصيني، وكانت أحد الأطباء الذين تم استدعاؤهم للمساعدة في التأهيل النفسي والجسدي، للأطفال المصابين في زلزال سيشوان المدمر عام ألفين وثمانية، تروي الكاتبة قصتها مع الأطفال على موقع (شبكة الحكايات ـ www.xiaogushi.com) الصيني، الذي ينشر قصصاً واقعية، وأخرى شعبية من التراث الشعبي الصيني، كتبت (بي شو مين) قصتها كما تقول بتاريخ 28/5/2008 أي بعد أسبوعين من وقوع زلزال سيتشوان، ونشرها الموقع المذكور بتاريخ 14/11/2011، ولدت (بي شو مين) عام 1952 في مقاطعة شاندونج، وهي حالياً متفرغة للكتابة وعضو اتحاد كتاب الصين، ومعظم أعمالها الأدبية، له علاقة مباشرة بمهنتها السابقة كطبيبة نفسية، القصة ترجمتها يارا المصري عن الصينية مباشرة.

 تلقينا دعوةً من مستشفى لزيارة الأطفال الذين تم إنقاذهم من زلزال سيتشوان، والذين أجريت عمليات بتر لسيقان البعض منهم ولأيادي البعض الآخر، حتى لا يُصابوا بالغرغرينا، وكان هؤلاء الأطفال يحتاجون للمساعدة على المستويين الجسدي والنفسي.

سألت، ما الهدايا التي نحضرها عند زيارتنا للأطفال؟

قال الطرف الداعي، الأطفال لا ينقصهم شيء، وقريباً يصلهم الكثير من الهدايا المواسية، ساعديهم بالزيارة والمساعدة النفسية.

بالطبع سأزورهم وأساعدهم نفسياً، ولكنني أصررت على إحضار هدايا، فقد اقترب عيد الطفل، الذي ينتظره الأطفال بلهفة، ولهذا لا أستطيع الذهاب لزيارتهم بيدي فارغة.

ولكن، ما هي الهدايا الأنسب لهم؟

كنا نذهب إلى سوق بكين لشراء الألعاب لأولادنا، لكنهم كبروا الآن، وحينما عدنا إلى السوق بعد سنوات طويلة، أصبحت وزوجي مثل عفريتين كبيرين، نتزاحم على رفوف الألعاب، ونشير بأيادينا إلى عاملة المتجر: نريد هذه اللعبة، نريد تلك، ولا نكتفي من الاختيار.

إذا لعب الأطفال باللعب الكبيرة، سيتذمر الأطباء من الضجيج، وبالنسبة لأطفال فقدوا أطرافهم، فإن اللعب المعقدة ستكون صعبة الاستخدام، وسيشعرون بالحزن، والألعاب التي تحتاج إلى قوة، لا تناسب أجسادهم الضعيفة، وسوف يصيبهم بالملل من الألعاب غير المُبتكرة، يا إلهي.. لماذا الاختيار صعبٌ هكذا؟

في زمن قياسي أصبحنا خبراء في ألعاب الأطفال، كما أن الهمة ساعدتنا، وأصبحنا كمن يغربل الرمال لاستخراج الذهب، وفي النهاية حصلنا على ألعاب آمنة، ممتعة، ومميزة.

هذه الألعاب مصنوعة من الزغب، عندما تلمسها تعطيك شعوراً بالنعومة، وتشعر بالود والأمان عندما تقترب منها. هؤلاء الأطفال يخافون من الأشياء الصلبة الباردة، وذلك بسبب انتظارهم المُجهِد، حيث كانوا محاصرين بين الطين والحجارة القاسية، كما لو كانت جبلاً، ولهذا يطمئنون إلى الأشياء الناعمة ويحبونها.. أتذكر تجربة رأيتها من قبل، كان يتم خلالها إعطاء قرد فقد أمه، دميتين بديلتين، واحدة من البلاستيك والأخرى من القطن، لكنهما متشابهتان في الشكل، وكلتاهما تحملان زجاجة الحليب لإرضاع القرد الصغير، وكانت النتيجة بقاء القرد بجانب الأم الدمية المصنوعة من القطن ونفوره من الأم البلاستيكية القاسية.

يحتوي ظهر الدمى على سحَّاب، بداخله صندوق للبطارية ودائرة كهربائية، ودائماً ما تكون هذه الاشياء مخبأة في بطون الدمى البسيطة الجذابة، ومهمة هذه “المعدات” هي إعطاء هذه الدمى خاصية الكلام.

بالضغط على يد الدمى اليسرى تبدأ بالتسجيل لمدة دقيقة على الأكثر، وتستطيع تسجيل ثلاث أو أربع جمل إذا تحدثت بسرعة، بعد ذلك ينطلق صوت تنبيه قصير ويتوقف التسجيل، عندها تمسك يد الدمية اليمنى بين أصابعك، فتنطق الدمية بما سجلته، وكأنها ببغاء مخلص.. باختصار، هذا جهاز تسجيل صغير، تستطيع تسجيل عبارات قصيرة عليه وإعادة سماعها حينما تريد.

جعلتنا هذه الدمى نتصرف كما لو كنا وجدنا كنزاً، ولم نتوقف عن الإشارة والطلب، نريد هذه، وهذه أيضاً وتلك.

كانت عاملة المتجر فتاة تحب الكلام، سألتنا:

هل هذه الألعاب لأحفادكم؟

نظرت أنا وزوجي لبعضنا وابتسمنا، وقلنا نعم، لقد اقترب عيد الطفل.

قالت العاملة: أنتِ محظوظة حقاً، لديكِ أحفاد كُثُر.

قلت: نعم نعم، إذا اشترينا ألعاباً قليلة، فلن تكفي، وقد يتشاجرون.

عدنا إلى المنزل، وقلت لزوجي، سأجلس في الغرفة، وسأتحدث مع نفسي فلا تستغرب.

دخلتُ الغرفة وأغلقت بابها، وجهزت الدمى واحدةً، واحدةً للتسجيل، وحينما هممت بالتسجيل، اكتشفت أنني أهملت أمراً إهمالاً قاتلاً، وهو أنني لا اعرف أسماء هؤلاء الأطفال، فكرت بالاتصال بالمستشفى والسؤال عن أسمائهم، كان الوقت متأخراً، ولا بد أن الموظف المسؤول في راحة الآن. ولهذا قررت تسجيل تحية تقليدية، مثل “أحبائي طلاب مدرسة بيتشوان مرحباً، بكين ترحب بكم وأتمنى لكم عيداً سعيدا!” وإذا لم أستطع غداً أن أعرف أسماءهم وأن أسجل لهم مرة أخرى، فسأكتفي بهذا التسجيل، الذي يجب أن أعده بشكل جيد.

احتضنت الدمى، ولم أتوقف عن التسجيل والاستماع لما سجلته. في البداية لم تكن لدي خبرة، فكنت أتحدث كثيراً، كان الكلام مشوباً بالتأثر ومُرسلاً، وكان تأثري يقطع كلامي، اضطررت إلى التسجيل مرة أخرى. ولم أتوقع أن أتجاوز الحد في إصلاح خطأي، كانت عباراتي قصيرة للغاية، ومتقطعة بصمت طويل، كما لم تكن تحياتي حارة أو مفعمة بالمشاعر، وبعد الكثير من التجارب، توصلت إلى الصيغ المناسبة، ولكنني اكتشفت أن صوتي عجوز جداً ولا يصلح للصغار الذين يحبون المرح. قررت أن أغير صوتي، وأن أجعله كصوت شخصيات الكرتون، وأن أسير على نهج الشباب المرح. بعدها بقليل، دخل زوجي الغرفة وعلى وجهه علامات الدهشة وسألني (بي شو مين)، هل أنت بخير؟ فزعت من دخوله وقلت بغضب: أَلًم أقل لك إذا سمعت أي صوت غريب فلا تتعجب.

قال زوجي: نعم لقد قلتِ ذلك، ولكن هذه الأصوات تثير التعجب، كما أني أعرفك منذ زمن طويل. ولم أسمعك تتحدثين بمثل هذه الطريقة من قبل. لم أكترث بكلامه، وركزت فيما أفعله. وأخيراً وفي ساعة متأخرة من الليل أنجزت مهمة التسجيل.

 يوم الثامن والعشرين من شهر مايو، وصلت إلى المستشفى مبكراً.. “هذا جيد لم يأت أحد، وأمامي متسع من الوقت لإنهاء الخطة المحددة”.. كتبت أسماء الأطفال على يدي حتى لا أنطقها خطأ في حال توتري، واختبأت في غرفة الاجتماعات التابعة للمستشفى، وأخرجت الدمى من أكياس الهدايا وشرعت في التسجيل من جديد. أمسكت باندا ملونة بالأبيض والأسود وسجلت قائلة:

صديقي.. فلان.. مرحبا، لقد أتيت أنا أيضاً من سيشوان، أتمنى لك عيداً سعيدا!  وفلان هذا طفل أجريت له عملية بتر ولا يريد أن يعرف اسمه أحد. إنني أعتقد أنه لمغزى مميز ومهم عندما تنادي شخصاً باسمه، إنه يعطيه نوعاً من الاستقلالية، وإيقاظاً للحياة، ويرمز إلى احترام يفوق الحد، ويعبر عن آمال قوية قوة عارمة كاللهب المضطرم، حتى وإن كان هذا الشخص طفلاً صغيرَ السن، إن مناداة طفل باسمه يعبر عن انتماء هذا العالم إلى مخزونه المعنوي، وفي تقاليدنا القديمة: إذا تعرض الطفل إلى صدمة، يظل الوالدان يناديان اسمه حتى ترجع روحه.

أحسست في هذه اللحظة بغبائي، لأنني لا أعرف لهجة سيتشوان، وبالطبع فإن الأطفال إذا سمعوا لهجة منطقتهم فسيشعرون بالحميمية أكثر، عندما دخلت الغرفة وشاهدت هؤلاء الأطفال لأول مرة، وعلى الرغم من أني عملت طبيبة عسكرية لمدة ثماني سنوات، ولدي خبرة عشرين عاماً في مهنة الطب النفسي، وعلى الرغم من أني أعددت نفسي لمقابلة هؤلاء الأطفال المُعاقين إعداداً نفسياً كبيراً، فإنني أصبحت أقول لنفسي (بي شو مين) لا تبكي لسعادة هؤلاء الاطفال، يجب عليكِ أن تتحلي بالهدوء وأن تقابلي هذا الموقف بطمأنينة نفس، حتى يستشعر الأطفال القوة والأمل من الكبار. إن أي ذعر أو خوف شديد، قد يسبب لهم الأذى بشكل يتعذر إصلاحه، وعلى الرغم من كل هذا، فقد أصبت بالذعر لدرجة الحزن، ولكنني حاولت قدر الإمكان الحفاظ على رباطة جأشي وهدوئي.

للحظة، أحسست أن هؤلاء الأطفال ليسوا بشراً حقيقيين، بل هم دمى مطوية من الحرير الأبيض، تستطيع أن ترى فقط آثار التهشم على أبدانهم، لكنهم نظروا إلينا، وأصوات أنفاسهم الرقيقة، تثبت وجود الحياة الصامدة. هؤلاء الأطفال الذين حطمتهم الكارثة، كما لو كانت وحشاً يلتهم كائنات من ريش، ولُمْلِمُوا بيد الحب والعطف، هذه العيون السوداء التي تعرفت على هاوية الظلام الدامس، هذه الأجساد الرقيقة كالورق التي دُمِّرت بسبب الزلزال، وهذه الأطراف التي بُتِرَت، والتي تحملت الطحن والتحطيم من قبل، وأنتِ أيتها القلوب الصغيرة التي تنبض، كم من المرات علينا أن نلصق أجزاءك حتى تعودي كما كنتِ من قبل؟

عندما أعطيتهم الدمى، لمعت أعينهم، أمسكوها بأيديهم ذات الأصابع الصغيرة المحطمة، كما لو كانت عِصِيَّاَ مكسورة، وضغطوا عليها، وحينما سمعوا الأصوات القادمة من جوف الدمى، ارتسمت ابتسامة على شفاههم، وحينما نطقت الدمى بأسمائهم، اتسعت أعينهم من الدهشة. وحينما هنأتهم الدمى بالعيد، ابتسموا بهدوء، كانت هذه الابتسامة هي الأكثر بطئاً في العالم، ابتسامة ضعيفة رقيقة، كما لو كانت بيضة بطريق تفقس بهدوء في فضاءٍ من ثلج وأرض من جليد إلى أن يظهر جبينه أخيراً. إلا أن هذه الابتسامة كانت قويةً عنيدة، وحالما ارتسمت على وجوههم جعلت أرواحنا تفرح وترتفع، كأنها تحمل عطراً وشذى لا يمكن مقاومته.

خرجت بسرعة من الحجرة لأنني لم أستطع تمالك نفسي من البكاء، ليس بسبب ضعفهم أبكي، إنما بسبب قوتهم تنهمر الدموع.

تقول (يانغ شيا) الباحثة المسؤولة عن العلاج النفسي للأطفال في المستشفى، إنَّ الأطفال الآن في حالة استعادة قوتهم وصحتهم، ومن بينهم فتاة صغيرة تقول: “لقد اقترب عيد الطفل، نحن الأطفال نريد أن….”، وعندما وصلت إلى هذا المكان غيرت كلامها قائلة: “نحن الأطفال المعاقين نريد أن……”، ياله من تعديل مؤثر!. منذ الثاني عشر من شهر مايو الساعة الثانية ظهراً وثماني عشر دقيقة، هذا اليوم الذي دفنوا فيه تحت الأنقاض، وتعذبوا في الظلام، وتحطمت أجسادهم، اليوم الذي شهدوا فيه موت أصدقائهم أمام أعينهم، وكان يضنيهم الجوع والبرد، البتر، العدوى، الجروح، الحمى، الترنح.. هذه الآلام المستمرة، شكلت ورصفت طريقاً لمذبحة دموية، هذه الفتاة لا تستطيع استعمال ساقيها وقدميها، وما تبقى لها هو آثار أقدام شفافة، وقد أنهت مراحل العلاج النفسي، الزلزال، الخوف، الإنكار، الغضب، الوحدة، الاكتئاب وأخيراً تقبل الحقيقة، كان تقدمها سريعاً، كما لو كانت نسيماً منعشاً في أرض عراء موحشة، هذه سرعة لا نستطيع نحن الكبار اللحاق بها. كان لديها الكثير من الانتكاسات، والكثير من المحن والمصائب، ولكن ابتسامتها تخبرنا، أن كل محنة تزول شيئاً فشيئاً، حتى تصل إلى الوقت الذي تفتح فيه صفحة جديدة بخفة ورشاقة.

قررت الانطلاق إلى مقاطعة سيشوان، ووجهتي مدينة ميانيانغ، لألقي محاضرة في مدرسة بيتشوان الإعدادية في الأول من شهر يوليو، قال زوجي، إن مدينة ميانيانغ خطرة وبها الكثير من الهزات والزلازل، وماذا لو واصلت المياه الارتفاع في بحيرة (يان سي خو)* وانهار السد الذي يحيط بها، هل ستكونين من المجموعة الأولى أم الثانية التي ستترك الموقع؟

قلت له: لا تقلق، أريد أن أقول لك شيئاً، إذا حدث لي أي مكروه، كالموت مثلاً، ومهما كان موتي حزيناً ومروعاً، فهذه مسئوليتي، إنني لا أهتم كثيراً، حتى ولو تحولت إلى الجملة المشهورة في أفلام الأكشن التي تصور الجريمة “لقد أخذتُ مقلباً”.. الأمر ليس بيدي ولا حول لي ولا قوة. أريدك أيضاً أن تصدقني، وثق في أنني سأكون مطمئنة وهادئة إلى آخر دقيقة لي في هذه الحياة، لأن هذا أمراً أوافق على القيام به، ولأنني بذلت قصارى جهدي.

* Imprisoned lake

والمقصود البحيرة المحصورة بين أراضٍ يابسة يليها سد طبيعي

المترجمة يارا المصري

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات