اللغة العربية في أفغانستان في القرن العشرين (1)

01:20 مساءً الإثنين 25 فبراير 2013
د.عبد الله خاموش الهروي

د.عبد الله خاموش الهروي

أديب وديبلوماسي وباحث أكاديمي، أفغانستان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

اللغة العربية في أفغانستان في القرن العشرين تعليماً، و دراسةً، و رجالاً (المقدمة)

تأتي أهمية هذه الدراسة التاريخية و العلمية في إطار البحث عن أهمية هذه اللغة‌، فهي ليست لغة قوم فحسب‌، بل هي لغة القرآن و السنة و الشريعة و الدين و العلم و الحضارة الإسلامية‌.، و إذا تتبعنا مسيرة الحضارة المعاصرة نجدأنها جاءت بعد الثورة العلمية التي قامت أروبا فيها بنقل التراث و الحضارة الإسلامية العربية إلي لغاتها من المكتبات الإسلامية في الأندلس و صقلية و غيرهما. و أهميتها في أفغانستان تتركز في أن الشعب الأفغاني عشق الإسلام و القرآن و قدم بكل غال و رخيص في سبيل الحفاظ علي هذه اللغة و القرآن الكريم – الذي أنزله الله بهذه اللغة المباركة – و حفظ دينهم عن إعتداء الآخرين‌. فهم ملتزمون بهذا الحب و محافظون له أيا ما كان الثمن‌.

سبب اختيار الموضوع‌

إن اهتمام المؤسسات التبشيرية و العالمية في الظروف الراهنة مبذولة تماما للعناية باللغة الإنجليزية و كمبيوتر و استخدام الأفراد الذين لهم صلة بهما و عدم الإهتمام باللغة العربية و التقليل من شأنها. و أن هناک جهودا بالفعل لحذف هذه اللغة من المدارس الإبتدائية و الثانوية مثل أيام الشيوعيين بحجة‌ أن التلاميذ لم يکونوا يستفيدون من هذه اللغة و لم يکن النصاب الدرسي لهذه اللغة بشکل يفيدهم من ناحية المحاورة و … . فأردت من خلال هذه الرسالة بيان فضل هذه اللغة المباركة و أثرها في ماضي أفغانستان و حاضرها و مستقبلها و أن الشعب المسلم الأفغاني رهينة لهذه اللغة – التي وصلها بالقرآن و الشريعة و عبادة اللّه الواحد المنان -، و أن أي إهمال لها لا يستطيع إبعاد هذا الشعب الوفي المحب لهذه اللغة – التي هي نقطة وصل بينها و بين اللّه و الإسلام كما قلنا – من هذه اللغة التي قدم لها و في سبيل نشرها و الإحتفاظ بها بكل غال‌ٍ و رخيص‌.

مشكلات البحث‌

في البداية كنت أتصور معالجة هذا الموضوع سهلاً ميسورا و أني أستطيع بالإستفادة من المكتبات أن أكمل بحثي بسهولة‌، ولكن خلال المراجعة إلي المكتبات الموجودة في جمهورية إيران الإسلامية الزاخرة بأمهات الكتب‌، خاصة المكتبة الرضوية و گوهرشاد، لم أجد ما يشفي غليلي. مع أني استفدت من مراجع أفغانية باللغة الفارسية و البشتو و التي استطعت من الحصول عليها هنا و هناك أو طلبتها من أفغانستان و باكستان‌، و السعودية، و جمهورية مصر العربية. فلذلك أدركت تماما أن هذا العمل يحتاج إلي بحث ميداني، فسافرت أولا إلي الكويت و تعرفت علي عدد من الأساتذه الأفغانيين المقيمين في الكويت و سعادة سفير أفغانستان في الكويت و اطلعت علي آثارهم و جهودهم في خدمة اللغة العربية خاصة سماحة الشيخ العلاّمة الدكتور عناية الله إبلاغ صاحب الآثار الخالدة باللغة العربية و أستاذ جامعة الكويت‌، ثم رجعت و سافرت إلي أمهات المدن في أفغانستان من هراة إلي كابل و بلخ و جلال آباد و غيرها و أجريت الحوارمع عدد من الشخصيات العلمية الكبيرة منهم شيخ الحديث مولانا سيد آغا تره خيل و شيخ الحديث مولوي شينواري رئيس شوري العلماء في أفغانستان حاليا – و من حسن الحظ أن الشوري دارت في هذه الفرصة المباركة في كابل فاشتركت في بعض جلساتها و قابلت مجموعة كبيرة تزيد عن مائة و خمسين عالم دين و خادم للغة العربية من جميع أنحاء أفغانستان شمالها و جنوبها و شرقها و غربها، من أهل السنة و الإمامية و … .

كما قابلت العلاّمة آية اللّه الشيخ محمد آصف محسني زعيم الحركة الإسلامية سابقا و مؤسس و رئيس جامعة خاتم النبيين حاليا.

فكان لهذه اللقاءات القيمة أثرها في إثراء موضوع رسالتي هذه و الحمدللّه و كانت هذه بشري خير و توفيق و اطمئنان في مسيرة اللغة العربية المباركة في أفغانستان‌، هذه القلعة المباركة للإسلام. فقمت بزياره جامعة كابل خاصة كلية الشريعة المباركة‌، حصن الإسلام. و الدعوة و الإصلاح في أفغانستان، كما قمت بزيارة القسم العربي بكلية الآداب بالجامعة‌، فاستقبلوني بالترحيب و قدموا لي من المعلومات ما تفيدني في رسالتي هذه إن شاءاللّه‌.

ثم سافرت إلي مدينة بلخ (مزار شريف‌) هذه المدينة الأثرية و العلمية التي كانت قلعة الإسلام و العلم و الحضارة طوال التاريخ و قد كنت سمعت من قبل و ذلك من خلال قراءتي لرسالة كتبها الأستاذ الفاضل سماحة الدكتور عبدالستار سيرت حفظه اللّه قبل ذلك بست و أربعين سنة و أرسل إليّ بنسخة منها مشكورا من الولايات المتحدة، أن هناك عدد من القري يسكنها العرب في الولايتين جوزجان و بلخ و هم يتكلمون إلي الآن باللغة العربية العامية و ذلك بعد بضعة عشر قرنا أو بضعة قرون حسب الروايات المختلفة‌، و عشت مع هذه المجموعة من العرب عدة أيام و تعرفت علي عدد من علمائهم المتبحرين في اللغة العربية مثل: فضيلة الشيخ مولانا محمد شاه من كبار مشايخ بلخ في العصر الحاضر و عضو شوري العلماء المركزي لأفغانستان، ثم الشيخ أبي الأسفار محمد علي البلخي‌، الكاتب و المحقق و صاحب ستين أثراً حول تاريخ العرب و القضايا الإسلامية المتنوعة، و الشيخ الحافظ عبدالمؤمن – حفظهم اللّه – و حصلت علي عدد من الكتب حول تاريخ العرب و تذكرة العرب في بلخ و الكلمات التي يستعملونها في محاوراتهم اليومية‌، حيث أفردت هذا البحث في المبحث الثاني للفصل الأول من هذه الرساله‌.

ثم سافرت إلي بشاور في باکستان مقر المجاهدين و مؤيديهم من العرب في السابق و مقراً للمهاجرين الآن، فوجدت معهد أبي حنيفة و جامعة الإمام البخاري دائراً و الدرس فيها مستمر و الحمدلله. كما حصلت علي مناهج المعهد الشرعي‌، أول معهد أسس لتربية أبناء المهاجرين و المجاهدين في بشاور كما زرت بعض الشخصيات العلمية فيها. ثم سافرت إلي إسلام‌آباد للحصول علي المعلومات التي سوف تفيدني في بحثي إن شاء اللّه، و كذلك زيارة الجامعة الإسلامية العالمية إحدي مراكز تعليم اللغة العربية للأفغانيين. فوجدت أكثر من عشرين مدرسا و الحمدللّه و كذلك أكثر من 400 طالب و طالبة من الأفغان يدرّسون و يد رسون في هذه الجامعة العربية الاسلامية المباركة، فساعدوني أخويا و أرشدوني لتكميل رسالتي و أشاروا عليَّ بما فيه خير و صلاح‌. و بعد أسبوع من السفر رجعت إلي أفغانستان فمكثت في مدينة جلال آباد وزرت كلية الشريعة و القسم العربي بكلية الآداب بجامعة جلال آباد ثم زرت مركز الإصلاح الإجتماعي‌، التي أسست بمساعدة عدد من المحسنين في ساحة 5 جريب أو هكتار واحد مع جميع المرافق الضرورية لها من مسجد و مدرسة و قاعة المحاضرات و المكتبة و الإدارة و سكن الطلاب و الصفوف الدراسية‌. و قد تدار هذه المدرسة بمساعدة المحسنين و كذلك الأوقاف المرتبطة بهذه المدرسة‌، و بإشراف الآخ الفاضل الشيخ الحافظ قاري أسرار الله حفظه الله. و حصلت كذلك علي مراجع كثيرة لبحثي هذا. و أحمده تعالي بأن يسرلي تكميل هذه الرسالة التي كنت أتصورها شاقا لا قدرة لي في إنجازها بسهولة‌.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا فسهل علينا جميع أمورنا و اجعل أعمالنا وسيلة للخير و الصلاح و الفلاح لنا و لجميع أمة محمد صلي اللّه عليه و آله و سلم‌.

اما خطتي في البحث كما ذكرت، فهي تشتمل علي مقدمة و تمهيد و ثلاثة فصول‌.

التمهيد:

– نبذة عن أفغانستان‌، الإسم‌، الموقع و المساحة‌، الطبيعة‌، المدن‌، السكان‌، و اللغات‌.

– و نبذة عن تاريخ أفغانستان و دخول الإسلام و اللغة العربية و انتشارها فيها و عوامل انتشار هذه اللغة‌.

أفغانستان‌

عرفت باسم «آريانا» أو «إيريانا» من 1000 قبل الميلاد أي بلاد الشعب الآري الذي اتخذت قبائله المناطق الشمالية من جبال هندوكش موطنا لها و كانت تسمي بهذا الإسم حتي القرن الخامس الميلادي‌.

و من القرن الخامس الميلادي حتي القرن الثامن عشر الميلادي سميت باسم خراسان‌.

و من القرن الثامن عشر الميلادي أي عام 1847 الميلادي سميت باسم أفغانستان‌[1].

1- الموقع و المساحة‌

أفغانستان بلد آسيوي تقع في وسط آسيا و تحتل موقعا استراتيجيا هاما مما جعلها علي مر التاريخ ملتقي لقوافل التجارية بين الشرق و الغرب و معبرا للغزاة من الشمال و الجنوب الشرقي‌.

تبلغ مساحة أفغانستان 650000 كيلومتر مربع مقسمة إلي أربع و ثلاثين ولاية‌.[2]

2- الطبيعة‌

أفغانستان بلد جبلي محاصر بالأرض تغطي الثلوج أغلب أراضيها شتاءً، كما أن مرتفعاتها و قمم جبالها مغطاة بالثلوج أغلب أيام السنة‌. أول جبال تشكل العمود الفقري لأفغانستان و تشطرها شطرين هي جبال هندوكش التي تنبع منها معظم الأنهار التي تجري في البلدان المجاورة و جبال سليمان التي تشكل الحد الفاصل و السياسي بين باكستان و أفغانستان‌، و هضبة البامير التي تعد من أعلي الهضبات في العالم و تشترك كل من أفغانستان و باكستان و الصين في امتلاك هذه الهضبة‌.[3]

3- المدن‌

من أشهر المدن الأفغانية‌: مدينة «كابل‌» عاصمة أفغانستان، و مدينة «قندهار» التي كانت عاصمة البلاد في عهد الملك أحمد شاه الذي غير اسم خراسان بأفغانستان، و مدينة «هرات‌» التي تقع في مقربة الحدود الإيرانية ثم مدينة «جلال آباد، و مدينة مزار شريف، و مدينة الغزنة‌».[4]

4- السكان‌

سكان أفغانستان خليط من عناصر بشرية متعددة قدمت إلي أفغانستان في فترات متعاقبة من التاريخ و استقرت فيها و اتخذتها موطنا. و تتمثل الشعوب الإسلامية فيها خير التمثيل ففيهم من ينسبون إلي العرب و فيهم من عناصر الفرس و فيهم من عناصر الترك و المغل‌. و يصل عدد سكانها إلي 20500000 مليون نسمة‌.[5]

يتكون سكان أفغانستان من أربع جماعات رئيسية:‌

الف – جماعة البشتون‌، ب – الطاجيك‌، خ – الأوزبك‌، د – الهزاره‌.

و هناك مجموعات عرقية أخري منها: التركماني‌، الباميري‌، البلوشي الذين يسكنون في الولايات الجنوب الغربية المتاخمة لباكستان و إيران‌، و جماعة النورستاني الذين يعيشون في مناطق شمال شرقي أفغانستان‌[6].

5- اللغات‌

تعتبر اللغة الفارسية (دري‌) و اللغة (البشتو) اللغتين الرسميتين في أفغانستان و يتكلم بهاتين اللغتين 75% من سكان أفغانستان تقريبا إلا أن اللغة الفارسية لغة التفاهم بين جميع سكان أفغانستان‌. و تدرس بهاتين اللغتين المواد الدراسية في المدارس و الجامعات و تقراء بهما نشرات الأخبار. و بجانب هاتين اللغتين توجد لغات أخري يصل عددها إلي عشرين لغة محلية تقريبا.[7]

نبذة عن تاريخ أفغانستان‌

هذه البقعة كانت عامرة منذ زمن مترام ‌في القدم‌، و اكتسبت نماذج حياتية كثيرة‌، و حضارات متنوعة‌، و أخذ التاريخ يدرسها في مراحل ثلاث‌:

1- مرحلة ما قبل التاريخ‌

2- مرحلة نصف تاريخي‌

3- مرحلة تاريخية‌

1- هذه المرحلة ترتبط بالذين عاشوا في أفغانستان قبل الآريايين في المغارات و كانوا يقتاتون بلحم الصيد، و عثر علي أوان و آثار حجرية‌، و أسلحة و سهام‌، و مصنوعات عظامية في مختلف نقاط أفغانستان مثل‌: «دره دادل‌» و «هزارسم‌» في سمنكان «و ناهور» في غزني يتراوح تاريخها بين خمسة و أربعين ألف سنة قبل الميلاد و في «آق كبروك‌» في بلخ تناولت الأيدي أثرا حجريا و هو نموذج يرجع تاريخه إلي ما قبل عشرين ألف سنة قبل الميلاد، و كذلك عثر في «مونديكك‌» بلخ و «ديمراسي‌» قندهار و «ناد علي‌» سيستان علي آثار نحتت في الأحجار قبل سبعة آلاف سنة و كانت ظروف الحياة ترغم هؤلاء بأن يحفروا المغارات في أماكن مرتفعة و قمم الجبال لتكون حياتهم آمنة من السباع و الأعداء، و ليسهل عليهم ترصد الصيد.[8]

و هذه الآثار المكتشفة يشبه بعضها بما اكتشف في «موهن جودير و» في السند، و بعضها بما اكتشف في أسبانيا و إيطاليا و إيرلندا و وجود معادن اللَّازورد و الياقوت و الأحجار الكريمة[9] في بدخشان في هضبة «كاشان سيالك‌» و «سومر» و في أراضي بين النهرين و مصر تثبت لنا أن هذه المعادن اكتشفت قبل ستة آلاف سنة‌، و عم‌ّ استخدامها إلي أن وصل إلي مصر، و هذا يدل علي أن هنالك علاقات تاريخية و حضارية بين أبناء هذه البلاد و بين البلاد الشرقية و الغربية‌.[10]

و تبدأ المرحلة الثانية بوجود «الأناشيد الويدية‌» التي قيلت قبل اكتشاف الخط، و تناقلت هذه الأناشيد شفويا جيلا بعد الجيل و صانتها الصدور[11] و أن الآريايين كانوا يسكنون في بلد باسم «آرينا ويجه‌» و كانت لهم لغة باسم «آريك‌» و الأناشيد تعرفنا بأفكار و عقائد هؤلاء و طراز حياتهم و قد ورد بعض أسماء ملوكهم مثل‌: «كيومرث‌»، و كان لهم مجالس باسم «سبها» و «سمتي‌» و كانت لهم لعبة باسم «سوما»[12]، و ذكر في هذه الأناشيد بعض أسماء البحار الموجودة في أفغانستان مثل‌: «كوبها» كابل‌، «و كوماني‌» كومل و «وركه‌» كونر.[13]

و ا لمقارنة اللغوية تثبت لنا أن كثيرا من المفردات الويدية لها جذور في اللغة البشتوية و اللغة الدرية مثل‌: «آريا» بمعني الأصيل و النجيب و كذلك بمعني الزارع و «آر» تعني باللغة البشتوية الحديثة الأصل و كذلك تعني الزارع‌.[14]

و كانت حياة هؤلاء الآريايين بدوية … ثم تطورت و أنشأت المدن و المراكز الثابتة‌، و عندما ضاق بهم المكان هاجروا من بلدهم «آريانا ويجه‌» إلي جنوب جبال هندوكش‌، و تفرقوا في السند و شمال الهند، و كونوا هناك حضارات أخري‌.[15]

و في المرحلة التاريخية خرج هؤلاء الأساطير، و اشتملت حضارتهم علي الآداب و الفكر و العقيدة و عمت الكتابة‌، و كان الآريائيون يتجهون رويدا رويدا نحو الحياة القروية و الحضرية‌، و وجدت الملوكية بمعناها الصحيح‌، و ملكهم «يمه‌» أو «جم‌» أسس مدينة «بخدي‌» بلخ و ارتقت حضارتها في شمال جبال هندوكوش و جنوبها، و وصلت إلي وادي هلمند[16] و سميت بأم البلاد، و اهتزت أعلامها علي مرتفعات ربوعها[17]، و عاش هذا الملك 1500 سنة قبل الميلاد، و كان مصلحا مبتكرا، قد طور الحياة و هيأ تسهيلات زراعية‌، و أسس حياة اجتماعية و عمر بلاده‌، و وضع زرادشت لهؤلاء الناس دستورا معينا باسم «مزدسينا» و كان يتضمن قوانين و هدايات و فضائل أخلاقية و دينية[18] و ثبت أن مكان ديانة زرداشتية هو «بخدي‌» بلخ و سيستان[19] و أقام زرادشت دستوره علي ثلاثه أسس أخلاقية‌: التصور الحسن‌، و القول الحسن‌، و الفعل الحسن‌[20]. و بقي لنا من هذه الفترة كتاب «آفستا» و هو يسجل لنا كل ما حدث في هذه البلاد بداء من 1200 قبل الميلاد، و يذكر نظام الملك و نمط الحياة و طراز الحكومات التي توالت واحدة تلو الأخري‌، و كذلك الديانة الزردشتية التي وصلت إلي أرجاء البلاد، و ذكر في هذا الكتاب بعض أسماء الجبال و البحار و هي كلها في أفغانستان الحالية مثل‌: «مورو» مرغاب مرورود و «هراي وه‌» هراة و «هري ويني‌» دهر اوت و أرغنداو[21] و كانت آريانا تواصل مسيرتها التطورية إلي أن بزغ نجم هخامنشيين سنة 550 قبل الميلاد، و سرعان ما أطاحوا بالحكومة و احتلوا آريانا – أفغانستان‌، و فارس و أدغمتها في الإمبرطورية الهخامنشية الواسعة الأطراف، و في سنة 330 قبل الميلاد زحف الإسكندر المقدوني بجيوشه من اليونان نحو الشرق‌، فانهارت الإمبر اطورية الهخامنشية أمامه‌، و احتل بلاد فارس بسهولة ولكنه اصطدم بمقاومة محلية عنيفة في آريانا، و قال الدكتور أحمد الشبلي «و من المؤكد أن الإسكندر فتح بلاد فارس بسهولة ولکنه قابله في أفغانستان مقاومة عنية». و لما لطمت المنية الإسكندر، تفككت دولته حيث قسمها قادته فيما بينهم‌، فالذين جاءوا إلي آريانا بقوا هنا، و شكلوا حكومة يونانية باخترية مستقلة‌، حيث دامت إلي 30 سنة قبل الميلاد[22] و خلال هذه الفترة نشأت في البلاد حضارة راقية‌، ثم سطع نجم قوم «ساكه‌» الآري‌، و كان هؤلاء يعملون في جيش اليونايين و بعد توحيد القبائل الآرية‌، نزعوا الحكم من أيدي اليونانيين‌، و لم تدم حكومتهم طويلا إلي أن ظهر «كجوللاكد فيزس‌»[23] من قبيلة كوشان الآرية ذات النفوذ الواسع الإنتشار في آريانا، و وضع في أفغانستان أساس الإمبراطورية الكوشانية الكبري حيث عاشت إلي سنة 250 ميلادية‌[24] و شاعت الديانة البوذية في البلاد، و عمرت المعابد و بقي منها غير قليل من الآثار التاريخية في شتي بقاع هذه الأرض‌، و عمت تجارة الحرير بين أفغانستان و الصين و الهند و الروم[25]، و بعد سنة 250 الميلادية تسلل إليها الضعف‌، و تأكلت أطرافها من قبل الدولة الساسانية‌، ولكن ظلت بعض إماراتها في جبال و شرق أفغانستان‌، و انبرت القبيلة الهفتالية الآرية و إلي 425 الميلادية ضمت البلاد في قبضتها[26] و نشبت الحروب بينها و بين الدولة الساسانية‌، فانهزمت الدولة الساسانية‌، و قبلت شروطها و جبايتها، و في سنة 568 م تحالفت الدولة الساسانية مع الأتراك و شنوا حربا ضارية و أطاحوا بالدولة الهفتالية‌، و بقيت آثارها في كثير من نقاط البلاد، و من آثارها العملة الهفتالية التي تحمل صورة شبيهة بصور الأعراب الغلجية و الأبدالية[27]، بهذا قد انتهت الحكومة المركزية‌، و تـفردت الأقاليم المـختلفة بحـكومات خاصة إلي أن بزغت

شمس الإسلام‌، و ألقت أشعتها علي أفغانستان‌، و أصبحت جزأً من الخلافة الإسلامية‌.

و آريانا  “ARYANA” من أقدم أسماء هذه البقعة استخدم في العصور قبل التاريخ و ذكر في الأناشيد الويدية‌، و ذكر هذا الاسم في كتاب الآفستا فكانت آريانا موطن الآريايين القدماء[28]، ثم اشتهر اسم خراسان من القرن الخامس الميلادي في عصر الساسانيين‌، و (خراسان = خوراسان‌) في اللغة الفارسية) معناها المشرقه[29] أو مطلع الشمس و الساسانيون هم الذين أطلقوا هذا الاسم في عصرهم علي أفغانستان الحالية و ملحقاتها و مضافاتها لوقوعها شرق الدولة الساسانية في البلاد الإيرانية[30] و خراسان التي تحدث عنها المؤرخون و عن حدودها، هي تساوي أفغانستان الحالية و بالإضافة إلي هذا هنالك دلائل مادية ثابتة علي أن خراسان كان يطلق علي أفغانستان‌، و من هذه الأدلة هي وجود العملات و المسكوكات الأثرية التي تحمل اسم خراسان منها مسكوكات اليفتليين‌[31] أصحاب دولة هفتالية في قلب أفغانستان‌، و أن خراسان تشمل في صدر الإسلام جميع أنحاء أفغانستان الحالية‌، و أهم مراكزها كانت في الأراضي الأفغانية مثل بلخ و هراة‌، و أما اسم أفغانستان فإنه حل محل خراسان في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي بعد أن مر علي مراحل تاريخية عديدة‌، ففي سنة 1747 م اجتمعت القبائل الأفغانية و عينت أحمد شاه أبدالي أميراً لهذه البلاد الحديثة‌، و الذي تمكن من تطبيق حدود أفغانستان السياسية علي حدودها الطبيعية‌.[32]

دخول الإسلام إلي أفغانستان‌:

لما تهاوت الدولة الساسانية الباذخة تحت ضربات سيوف جند الإسلام‌، عبأً يزدجرد آخر ملوك فارس جيشا تثاقلت عليه الأرض في موقع نهاوند، و نطح الجندان‌، ولكن الهزيمة مزقت علم يزدجرد; ففضل الفرار إلي خراسان‌، و بذلك تم الفتح المبين للجيش الإسلامي‌، و تخلصوا من كل ما ينتمي إلي الدولة الساسانية‌. فسرعان ما وقفوا علي حدود أفغانستان و طرقوا باب الطبسين في حين كانت أفغانستان مجزأة بين الأمرأ و الخوانين المحليين‌، فكان غرب البلاد سيستان و هراة و ماحولهما تحت نفوذ الساسانيين سياسيا و دينيا و أدبيا فكانت اللغة بهلوية و الديانة زردشتية‌، و أما بقية أفغانستان كانت ترزح تحت نفوذ الكوشانيين و الهفتاليين و أصحاب الديانات البوذية و البرهمية و ديانات أخري‌[33]. فكانت أفغانستان «تعيش مجزأة و منفصلة و منقسمة بين حكام و أمراء و خوانين من الأفغان الآريايين المنتمين إلي الأسر و العائلات الحاكمة من القديم‌، مثل برهمنشاه و كابلشاه و زابلشاه و رتبيلشاه و غرشاه‌[34] و من أشهر الأسر التي قاومت الزحف الإسلامي و صمدت أمامه هي أسرة اللويك في الغزنة‌، و الرتابلة في زابل‌، و أسرة كابلشاهية في كابل[35]، و كانت غير قليل من المعابد موجودة في البلاد و لمختلف الأديان[36]، و أصنام باميان هي نتاج نفس العصر[37]. في هذه الفوضي السياسية و الصراعات الحامية بين الأمراء، و النشوب بين الأديان و التلاطم بين الآداب و العادات وضع الأحنف بن قيس و جيشه أقدامهم علي أرض أفغانستان‌، ففي سنة 22 هـ فتح الأحنف بن قيس مدينة هراة عنوة‌.[38]

و سرعان ما وصل إلي تخارستان في شمال أفغانستان‌، و توجه عبداللّه بن عامر و عاصم بن عمرو التميمي بجيش نحو سجستان = سيستان و فتحوا زرنج و واصلوا إلي وادي أرغنداو في قندهار، و باستشهاد عمر انتفضت خراسان و رجعت إلي سيرتها الأولي‌، و في عهد عثمان أعاد عامر فتح أفغانستان و واصل الفتوحات إلي أن اقتحم مدينة كابل ولكن البلاد قلبت ظهرا لمجن علي الحكم العربي فاضطر المسلمون لفتحها مرة أخري‌[39] و في أواخر عهد عثمان بن عفان أرسلت الخلافة بعض الفقهاء و الدعاة‌، و في مقدمتهم الحسن البصري‌، و بنوا أول مسجد علي أرض سجستان‌، و باستشهاد الخليفة عادت البلاد إلي ما كانت عليه ثم أعاد عبد الرحمن بن سمرة فتح سيستان‌، و فتح كابل في عصر علي[40] و توسعت الفتوحات في أفغانستان في العصر الأموي‌، و استقرت العرب فيها، ولكن كان القرن الأول حافلا بالضرب و الحرب بين أهل البلاد و بين القوات العربية‌، و نهج قادة العرب سياسات متنوعة لتثبيت أقدامهم‌، و انتشار دعوتهم‌، فجاء الربيع بن زياد في سنة 51 هـ بخمسين ألفا من العرب بأسرهم و وطنهم في الأرض الأفغانية الواقعة في شمال البلاد[41]، و استغرق نشر الإسلام فترة طويلة الأطراف في كافة ثغور البلاد، منها ما أبكرت في الدخول في الإسلام‌، و منها ما تلكأت‌. فمنطقة «كافرستان‌» في شرق أفغانستان تحولت إلي عبادة اللّه بعد أن غزاها الأمير عبدالرحمن خان سنة 1980 م و أصبحت نورستان[42] أي بلاد النور، كما كان ردّ الأفغان علي الإسلام قويا و عنيفا أصبح تمسكهم به أشد، و قد حقق الإسلام بغيتهم فهو الذي «جمع شملهم‌، و لمَّ شعثهم و جعلهم أمة واحدة يدعون إلي الخير، إلي الإسلام‌، و سرعان ما خفقت ألوية هؤلاء الغزاة علي أكثر البلاد المجاورة لأفغانستان‌»[43]، و أصبحت الأمة الأفغانية أمة مسلمة ظاهرا و باطنا صاحبة عقيدة راسخة‌، و حملت هم‌ّ الدعوة و الجهاد و نبذ الضيم و طرد الظلم‌، و قدمت أفذاذا نادرة في كافة المجالات‌، و نبغ فيها قواداً احتلوا جبين التاريخ‌، و لعبوا دورا بارزا في العصور الإسلامية كالبرامكة و الطاهريين و الصفاريين و السامانيين ثم الغزنويين و الغوريين و التيموريين و … .

دخول اللغة العربية إلي أفغانستان‌:

اللغة العربية قد واكبت الإسلام مع الجيش الإسلامي الذي اقتحم الأراضي الأفغانية بقيادة الأحنف بن قيس في سنة 22 هـ . هذا ما قاله من تناول هذا الموضوع و أما قبل هذا فلم نعثر علي تنويه يلهمنا معرفة بدخول اللغة العربية إلي هذه البلاد قبل الإسلام‌، و من الثابت أن العرب كانت لها علاقات تجارية مع الهند قبل الإسلام‌، و أن القوافل العربية كانت ترد الهند، و تنقل السلع الهندية من المنسوجات الفاخرة و الظروف و السيوف المعروفة بالمهند إما عن طريق البحر أو عن طريق البر، فكانت أفغانستان ممر تلك القوافل‌، و يقول الأستاذ عبد الحي حبيبي‌: كانت أفغانستان في القرن السادس و السابع قبل الميلاد طريقا معروفا لتجارة الحرير بين الهند و الفارس و الصين‌، و أن القوافل لتجار الهند و فارس و الصين و ماوراء النهر كانت تمر علي هذه الأرض إلي البلاد العربية و مصر، و كانت هناك مراكز هامة في هذه البلاد.[44]

و اعتبر الأستاذ حبيبي التجارة من أهم وسائل لتبادل الثقافات و توطيد العلاقات الثقافية فكانت أفغانستان معبرا هاما لنقل الأموال التجارية من الهند و الصين إلي البلاد العربية و مصر، فكانت المنطقة ملتقي الثقافات[45]، و قال كان هناك ثلاثة طرق لهذه القوافل التجارية و من أهمها هي التي کانت توصل نيسابور بهراة الأفغانية متجهة نحو سيستان و بست مارا بالرخج منتهية إلي بلاد السند الواسعة‌[46]. فهذا يقتضي تعارف تقاليدهم و أشكالهم‌، و تآلف لغتهم بين بعضهم البعض‌، و هذا التآلف و الإختلاط کان أكثر بالمدن و المناطق المجاورة لتلك الطرق التي تمر عليها القوافل العربية‌، ولكن علي وجه الدقيق دخلت العربية مع الجيش الإسلامي‌، و وصلت إلي كل زوايا المناطق المفتوحة‌، و عندما وجد الإسلام قنوات إلي قلوب الأفغان فسرعان ما قفزت الكلمات العربية إلي الألسنة «بزغت شمس الإسلام‌، و باسم الإسلام تقدم المسلمون في فتوحهم‌، و باسم الإسلام انتشرت اللغة العربية‌، و آدابها في بلاد الإسلام في بلاد الأفغان‌»[47] و «تشربت مختلف الشعوب القاطنة في أفغانستان الثقافة الإسلامية‌، و عكست باللغة العربية‌»[48] و يقول الأستاذ عبد الحي حبيبي‌: «لم يكن الهجوم العربي لقوته و صلابته فتحاً للأراضي‌، و سيطرة علي البلاد، بل كان فتحا روحيا و معنويا و ثقافيا بمعني أن اللغة العربية أصبحت لغة العلم و الثقافة و الحضارة‌، و نري بعد انصرام قرن علي الحكم الإسلامي علي هذه الأرض أن كتابة الشعر و النثر باللغات المحلية قد توارت و اندثرت تماما، و ظهر مئات الشعراء و الكتاب و العلماء و المحققين في اللغة العربية من هؤلاء الخراسانيين الأفغان‌، و اشتهروا في العالم العربي‌، إلي أن‌ّ زمام كثير من الأمور و الحركات الحضارية‌، و النهضات الثقافية كان في أيديهم‌»[49] و رأينا أن قادة العرب قد مارسوا سياسات شتي لتثبيت أقدامهم‌، و مل‌ء أدمغة الأمة الأفغانية بالمبادئ الإسلامية السديدة‌، فقد جاؤا بعدد من الفقهأ و الدعاة و علي رأسهم الحسن البصري – رحمه الله – و أسسوا أول مسجد بأرض سيستان‌، و كلما فتحوا منطقة بنوا فيها مسجدا، و عمروا أكثر هذه المساجد علي أماكن المعابد القديمة‌[50]، فاكتظت هذه المساجد بالسكان و الدعاة و الدارسين … و من أهم و أكبر المساجد مساجد هراة و بلخ و غزنة‌، و فصل الأستاد حبيبي الكلام في المساجد و عن نمط بنائها، و ذكر أن أبا مسلم الخراساني بني في نيسابور مسجدا يتسع لستين ألف مصل‌ٍ في وقت واحد، و كانت فيه ألف أعمدة‌، و كان فيه منبر  عديم المثال في خراسان‌[51].

و لما وصل البرامكة إلي الحكم في بغداد، فقد اعتنوا بإعمار مسقط رأسهم‌، و بفضلهم بنيت المساجد و نمت العلوم العقلية‌، و أصبحت المدن الخراسانية من نيسابور و مرو و هراة و زرنج و بلخ و بست و بغشور و غيرها مهاد العلم و الأدب[52]. ثم إن الأسر العربية التي انحدرت نحو خراسان إما للنجدة أو العمل أو الهجرة النهائية‌، لم تكن منفصلة في الحياة الظاهرة‌، و لم تكن مجتمعة في نقاط قليلة خاصة للعرب‌، و لم تختر المدن التي احتلتها الجيوش الفاتحة من المدن و القري‌، بل امتزجت بأهل خراسان «و تزوجوا نساء أعجميات‌، و قد تأقلم العرب في وطنهم الجديد، و كانوا يشعرون أنه لا فرق بينهم و بين أبناء البلاد في الوطن المشترك بينهم‌، فكانوا يحسون أنهم خراسانيون‌»[53] و اقتنوا عاداتهم و تقاليدهم و أسلوبهم في اللباس و الأكل‌، و تلقوا نمط حياتهم «و كذلك لم يكن الأعاجم من جانبهم إزاء العرب في خراسان كتلة واحدة و لا هم وقفوا من العرب موقف العداء أو النفور»[54] بل امتزجوابهم‌، و تلقوا ما عندهم من مبادئ سمحاء و تعاليم رشيدة‌، و من الثابت أيضا أن كل الناس يحاولون أن يقلدوا الكتلة المسيطرة الغالبة في شتي الجوانب‌، و يسرعون في تعلم لغتهم و اقتناء تقاليدهم قاطبة‌، و كذلك كانت الكتلة العربية‌، فالأمتان قد اعتنقتا كاعتناق قطرتي الماء، و ذابت إحداهما في الثانية فكل هذا هيّأ جوا مناسبا لنشر اللغة العربية في كافة أصقاع البلاد، و قد خرجت إلي الأزقة و الشوارع‌، و إضافة إلي هذا كانت اللغة العربية لغة الدولة و السياسة و الديوان‌.

عوامل إنتشار اللغة العربية:‌

و من العوامل التي أدت إلي إنتشار اللغة العربية في أفغانستان مايلي‌:

1- العامل الديني‌:

كان للعامل الديني أثر كبير في إنتشار اللغة العربية و ذلك أن نشر الدعوة الإسلامية كان يعتمد علي المصادر العربية و بخاصة القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة و الكتب الشارحة لهما، فأقبل سكان تلك الشعوب علي تعلّم اللغة العربية إيمانا منهم بأن تعلمها هي الوسيلة الوحيدة لفهم الدين الإسلامي الحنيف و دراسة تعاليمه و استنباط أحكامه‌. لذلك فإذا أمعنا النظر في اللغة الفارسية فإننا نكتشف أنها تحتفظ بكثير من الألفاظ و المصطلحات العربية الدينية‌، و ما تزال تستعمل في الحياة اليومية حتي اليوم و لم تستطع اللغة الفارسية القضاء عليها لأن بقاءها كانت ضرورة دينية‌.

2- العامل الثقافي‌:

مع دخول إلاسلام في البلاد الناطقة بالفارسية و منها أفغانستان‌، و اجهت اللغة العربية ظروفا ثقافيا جديدة مختلفة عما كانت عليها. و كان لابد للغة العربية أن تتأقلم في بيئتها الجديدة تلبي حاجات الناس و تستقيم علي ألسنتهم‌. و قد استلزم ذلك إحداث عملية إبدال الحروف الفارسية (الدَّرِيَّة‌ِ) إلي الحروف العربية‌. فكانت هذه نقلة كبيرة نتجت عنها غلبة الثقافة العربية علي كيان الثقافة الفارسية‌. و أبرز هذه الغلبة إنتشار الألفاظ و الكلمات و المفردات و التعابير و المصطلحات العربية في الثقافة و اللغة الفارسية (الدرية‌).

كما كان لمجئ عدد كبير من دعاة المسلمين إلي أفغانستان و قيامهم بمهمة الدعوة و التدريس و تمركزهم في أنحائها أثر كبير في إنشاء المراكز الثقافية و التعليمية من مساجد و كتاتيب و مدارس‌. نتيجة لذلك انتشرت الثقافة الإسلامية المسلحة باللغة العربية‌، و ظهر من أبنائها أناس تعمقوا في الدين و قاموا جنبا إلي جنب مع دعاة المسلمين العرب في نشر اللغة العربية و ثقافتها. و قد كانت الحركة الثقافية أنشط من أي منطقة أخري في العالم، حيث أنشئت المؤسسات الثقافية و دخلت اللغة العربية عالم التدوين. أنشئت الدراسات اللغوية و الأدبية و أصبح علماؤها أكثر حماسا و أوفر حظا في خدمة اللغة العربية‌. كما أعجب علماؤها بالثقافة العربية فدرسوها و فهموها و نسجوا علي منوالها و قلدوها في أشعارهم الفارسية و استعانوا بأوزان الشعر و البحور و القصائد العربية و كان لهذا أثر كبير في دخول عدد كبير من الكلمات في الأشعار الفارسية و قصائدها.

و نتيجة لغلبة الثقافة الإسلامية في البلاد الناطقة بالفارسية و منها أفغانستان المعاصرة أصبحت اللغة العربية لغة الدولة و إدارة الحكم في المحاكم الشرعية و المراسلات الداخلية و الخارجية و خاصة في عهد عبد الملك بن مروان الذي أمر بتعريب الدواوين و جعل اللغة العربية لغة رسمية في دواوين الدولة و صبغ الدولة الإسلامية بصبغة عربية‌. و كان لهذا العمل أثر كبير في غلبة الثقافة العربية و انتشار اللغة العربية في جميع مرافق الحياة‌.[55]

3- العامل التجاري‌:

تمتد جذور العلاقة التجارية بين العرب و أفغانستان إلي ما قبل ظهور الإسلام و ذلك منذ أن نشأت الرحلات التجارية بين شبه الجزيرة العربية و سكان البلاد الناطقة بالفارسية و الصين و الهند.

و كانت القبائل العربية تختلط بالأمم الأخري خاصة أهل الحجاز، مكة و بالأخص قريش‌، فقد كانوا أهل التجارة شمالا إلي الشام و جنوبا إلي اليمن و شرقا إلي الصين و الهند و ذلك من طريق الخط الحريري الذي يعبر من أفغانستان و غربا إلي الحبشة‌.

فتجارة العرب شرقا إلي الهند و الصين و اختلاطهم بالسكان‌، و دخول العرب المسلمين إلي البلاد الناطقة بالفارسية خاصة إلي أفغانستان بعد ظهور الإسلام كالدعاة و التجار الحاملين معهم البضائع و الأفكار، أدي إلي انتشار اللغة العربية و تسرب كلماتها. فأخذ الجانبان كثيرا من الألفاظ المتعلقة بالتجارة و الأدوات و العقاقير و المصنوعات و الأطعمة و الأسلحة و الألعاب و من الأمثلة علي سبيل المثال لا الحصر ما أخذته العربية من الفارسية ألفاظ: الكوز، الجرة‌، الإبريق‌، الطشت‌، الخوان‌، الطبق‌، القصعة‌، السنجاب‌، الدلق‌، السندس‌، الياقوت‌، الفلفل‌، الزنجبيل‌، المسك‌، البنفسج‌، الجلنار، العنبر، الكافور، الدولاب‌، السرداب‌، الطنبور، الفرسخ‌، البالوج‌، الخشاب‌، جلاب‌، الطربوش‌، الشطرنج‌، أي ستة الوان‌، التباشير، الأستوانة‌، و البركار. و ما أخذته الفارسية من العربية من الألفاظ: دكان‌، تاجر، تجارة‌، مال‌، متاع‌، ايجاب‌، قبول‌، امانت‌، عاريت‌[56].

لقد كانت للصلة التجارية بين العرب و البلاد الناطقة بالفارسية أثر كبير في نشر اللغة العربية حيث كان التجار المسلمون يجمعون بين وظيفة التاجر و الداعية المسلم مما تمكنوا من نشر اللغة العربية و ألفاظها و تعابيرها. فانتشرت تلك الألفاظ و التعابير تدريجيا و توغلت و اندمجت في اللغات المحلية خاصة اللغة الفارسية و ذلك نتيجة الإتصال التجاري المباشر بين العرب و سكان تلك البلاد.

4- العامل الاجتماعي‌

الصلاة بين العرب و البلاد الناطقة بالفارسية قديمة، لأن الخليج الفارسي الذي يفصل بين شبه الجزيرة العربية و بلاد الفرس کان علي مدي الأزمنة سبيل الاتصال بين الأمتين اللتين کانتا تعيشان علي شاطئيه. و من ثم عرفت تلک البلاد أعدادا کبيرا من العرب کما عرفت العرب سکان تلک البلاد و اختلط الجانبان بالسکان بعضهما البعض في فترات متعاقبة من التاريخ.[57] کما کان للظروف التاريخية التي حدثت في البلاد الناطقة بالفارسية و الجزيرة العربية من الحروب و الهجرات الأثر الکبير في انتشار اللغة العربية فيها و خاصة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه و اختلاف المسلمين و انقسامهم إلي شيع و أحزاب في عهد علي رضي الله عنه، و إقامة دولة بني أمية ثم الدولة العباسية و ظهور الفرق و ثورات المختلفة و إخمادها، و ما أسفر عن تلک الأحداث من حراک سکاني بين العرب و البلاد الناطقة بالفارسية، مما أدي إلي عملية المصاهرة و التلاقح الثقافي بينهم و بين العرب. و کان ذلک کفيلا بخلق علاقات لغوية جديدة و انتشار اللغة العربية.

 

و بما أن البلاد الناطقة بالفارسية لم يحدث فيها من الهجرة و المصاهرة مع العرب مثلما حدث في شمال إفريقيا إلا أن العلماء و الفقهاء و حکام تلک البلاد اهتموا بإحلال الدين الإسلامي و ثقافته و نشر اللغة العربية و نجحوا في ذلک نجاحا قل أن يوجد له نظير في العالم، و مع ذلک کان لهجرة القبائل العربية دورها.

يقول دکتور محمد امان صافي في کتابه القيم: «و من المعروف تاريخيا أن القبائل العربية المسلمة التي استقر بها المكان و المقام في أفغانستان بعد فتحها قد تركت أثرا قويا في كل جوانب الحياة فيها … قضت بدينها الإسلامي علي كل العقائد الموجودة فيها، و كما قضت بلغتها العربية علي كل اللغات الموجودة فيها، كذلك قضت بحروفها الهجائية علي هجائيات اللغات الأفغانية‌، و كان لها تأثيرها المؤثر في الحياة الإجتماعية و السياسية و الثقافية‌.»[58]

5- المساجد و المدارس‌

بعد إنتشار الإسلام في ربوع أفغانستان أصبحت المساجد من أهم المراكز التي تدرس فيها العلوم الدينية و علوم اللغة العربية التي كان البدء فيها بتعلم حروف الهجاء العربية نطقا و كتابة ليتمكن الطلبة من قرأة القرآن الكريم و حفظه ثم العلوم الأخري من النحو و الصرف و البلاغة و الفقه و الحديث و العقيدة‌.

بمكن أن نجمل عوامل إنتشار اللغة العربية في أفغانستان في الآتي‌:

1) حب الدين الإسلامي في سكان تلك البلاد و نظرتهم إلي اللغة العربية علي أنها لغة الدين الإسلامي الذي لابد من تعلمها.

2) الصلات السلمية و الحربية بين الجزيرة العربية و البلاد الأفغانية و ما نتج عن ذلك من إرسال الجنود و الدعاة‌.

3) الصلات التجارية حيث كان أفغانستان معبراً للقوافل التجاري إلي الهند و الصين و عكس ذلك‌.

4) المركز الاجتماعي الذي كانت تتمتع به اللغة العربية حيث كانت لغة أصحاب السلطان من الخلفاء و الأمراء و القواد و كان لابد لمن يريد أن يتقرب إليهم أن يتعلم لغتهم‌.

5) الصلات الإجتماعية و السياسية التي حدثت بين العرب و الأفغان بعد ظهور الإسلام و خاصة في العصر العباسي حيث حدثت عملية التزاوج بين الجانبين‌.

6) خلو الجو لتعليم اللغة العربية حيث أصبحت لغة التدريس في المراكز العلمية التي أنشأت في تلك البلاد.

7) إستقرار الجيوش الإسلامية و هجرة بعض القبائل العربية إلي البلاد الأفغانية و انضمام قسم كبير من سكان أفغانستان إلي الجيش الإسلامي و احتكاكهم بها.

8) العمل الديواني في الحكومة الإسلامية كانت بإحدي اللغتين العربية و الفارسية‌.

9) ظهور حركة النقل و الترجمة من الفارسية إلي العربية و بالعكس كترجمة ابن المقفع و أبي ريحان البيروني و الثعالبي‌.

10) ظهور عدد من الأدباء و الشعراء الفرس الذين نظموا باللغة العربية أمثال أبي نواس و مهيار الديلمي و منهم بشار بن برد الطخارستان و  قد أدخلوا كثيرا من الألفاظ العربية في أشعارهم الفارسية و الفارسية إلي العربية‌.[59]

 المراجع



1- محمد عبدالقادر، المسلمون في أفغانستان،  ص 47 .
2- افغانستان درسه دهه اخير، ص 31 .
1- افغانستان در پنج قرن اخير، ص 32 .
2- افغانستان در پنج قرن اخير، ص 32-31 .
3- افغانستان در سه دهه اخير، ص 34 .
1- افغانستان در سه دهه اخير، ص 40 .
2- أفغانستان عبر العصور،‌ ص 6 .
1- تاريخ فشردۀ افغانستان (نبذة تاريخ أفغانستان) حبيب الله رفيع – 3-4
2- معجم البلدان – ياقوت الحموي – 1/360 .
3- د أفغانستان لند تاريخ (المختصر في تاريخ أفغانستان،‌ ص: 8 .
4- تاريخ فشردۀ افغانستان (زبدة تاريخ أفغانستان) حبيب الله رفيع،‌ ص: 6 .
5- د أفغانستان لند تاريخ (المختصر في تاريخ أفغانستان) عبدالحي حبيبي – الترجمة البشتوية: محمد داود وفا، ص: 13 .
6- المصدر السابق، ص: 11 .
1- المصدر السابق، ص: 11 .
2- المصدر السابق، ص: ‌9 ،‌ و تاريخ فشردۀ افغانستان (زبدة تاريخ أفغانستان) حبيب الله رفيع، ص: 8 .
3- د أفغانستان لند تاريخ (المختصر في تاريخ أفغانستان) عبدالحي حبيبي، ص: 13 .
4- المرجع السابق،‌ص: 14 .
5- تاريخ فشردۀ افغانستان (زبدة تاريخ أفغانستان) حبيب الله رفيع، ص: 9-11 .
6- د افغانستان لند تاريخ (المختصر في تاريخ أفغانستان) عبدالحي حبيبي – الترجمة البشتوية: محمد داود وفا، ص: 14 .
7- تاريخ فشردۀ افغانستان (زبدة تاريخ أفغانستان) حبيب الله رفيع، ص: 11 .
1- د افغانستان لند تاريخ (المختصر في تاريخ أفغانستان) عبدالحي حبيبي – الترجمة البشتوية: محمد داود وفا، ص: 28 .
2- تاريخ فشردۀ افغانستان (زبدة تاريخ أفغانستان) – حبيب الله رفيع، ص: 17 .
3- المرجع السابق، حبيب الله رفيع، ص: 17 .
4- المصدر السابق، ص: 18 .
5- د افغانستان لند تاريخ (المختصر في تاريخ أفغانستان) عبدالحي حبيبي – الترجمة البشتوية: محمد داود وفا، ص: 72 و المصدر السابق،‌ ص: 18 .
1- المصدر السابق (المختصر في تاريخ أفغانستان) عبدالحي حبيبي – ص: 72 .
2- تاريخ فشردۀ افغانستان (زبدة تاريخ أفغانستان) حبيب الله رفيع، ص: 20 .
3- أفغانستان و الأدب العربي عبر العصور – الدکتور محمد أمان صافي، ص: 54-53 .
4- د افغانستان لند تاريخ (المختصر في تاريخ أفغانستان)،‌ ص: 140.
5- أفغانستان و الأدب العربي عبر العصور – د. محمد أمان صافي، ص: 55 .
6- د افغانستان لند تاريخ (المختصر في تاريخ أفغانستان) ستاذ عبدالحي حبيبي – الترجمة البشتوية: محمد داود وفا، ص: 142 ، و المصدر السابق، د. محمد أمان صافي، ص: 56 .
1- أفغانستان و الأدب العربي عبر العصور، د. محمد أمان صافي، ص: 538-540.
2- تاريخ افغانستان بعد از اسلام (تاريخ أفغانستان بعد الإسلام) – علامة عبدالحي حبيبي، 1/302 .
3- أفغانستان و الأدب العربي عبر العصور – د. محمد أمان صافي – ص: 29 .
4- تاريخ فشردۀ افغانستان (زبدة تاريخ أفغانستان) حبيب الله رفيع، ص: 21 .
5- تاريخ مختصر افغانستان (المختصر في تاريخ أفغانستان) علامة عبدالحي حبيبي.
1- تاريخ فشردۀ افغانستان (زبدة تاريخ أفغانستان) حبيب الله رفيع، ص: 20 .
2- أفغانستان من الفتح الإسلامي إلي الغزو الروسي – الدکتور محمد علي البار – ص: 16 .
3- د افغانستان لند تاريخ (المختصر في تاريخ أفغانستان) علامة عبدالحي حبيبي – ص: 100 .
4- المصدر السابق، ص: 102 .
5- الشعر العربي في خراسان – د. حسين عطوان، ص: 41 ، و تاريخ فشردۀ افغانستان (زبدة تاريخ أفغانستان) حبيب الله رفيع، ص: 23 – و أفغانستان و الأدب العربي عبر العصور – د. محمد أمان صافي، ص: 47 .
1- أفغانستان من الفتح الإسلامي إلي الغزو الروسي – د. محمد علي البارص: 486 .
2- أفغانستان و الأدب العربي عبر العصور – د. محمد أمان صافي، ص: 30 .
3- تاريخ افغانستان بعد از اسلام (تاريخ افغانستان بعد الإسلام) – علامة عبدالحي حبيبي، 1/477 .
4- المصدر السابق، ص: 2/734 .
1- تاريخ افغانستان بعد از اسلام،‌ علامه عبدالحي حبيبي، ص: 1481 .
2- أفغانستان و الأدب العربي عبر العصور – د. محمد أمان صافي، ص: 78 .
3- أفغانستان من الفتح الإسلامي إلي الغز و الروسي، د. محمد علي البار، ص: 77 .
4- تاريخ افغانستان بعد از اسلام (تاريخ أفغانستان بعد الإسلام) – علامه عبدالحي حيبيي، 2/740 .
5- المصدر السابق، 2/708 .
6- المصدر السابق – علامه عبدالحي حيبيي، 2/715 .
1- تاريخ مختصر افغانستان، عبدالحي حبيبي،‌ ص: 97-96 .
2- تاريخ الدولة العربية، ص: 468 ، نقلا عن الشعر العربي في خراسان – د. حسين علي عطوان، ص: 75 .
3- المصدر السابق، نقلا عن الشعر العربي في خراسان – د. حسين عطوان – ص: 75 .
1- عبدالمنعم ماجد، تاريخ الحضارة الإسلامية في القرون الوسطيٰ، ص: 12 ، و محمد بديع جمعة، دراسات في الأدب المقارن، ص: 63 .
1- اللغة العربية کائن حي، ص: 24 .
2- مجلة الدراسات اللغوية، المجلد 7 ، العدد 1-2 ، 1989 ، ص 9 .
1- أفغانستان و اللغة العربية عبر العصور، ص 12-13 .
1- تاريخ ادبيات ايران از قديمترين عصر تا عصر حاضر، جلد 1 ، ‌ص: 217 .

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات