الركض فوق الماء

09:55 صباحًا الأحد 11 نوفمبر 2012
محمود قاسم

محمود قاسم

ناقد وروائي من مصر، رائد في أدب الأطفال، تولى مسئوليات صحفية عديدة في مؤسسة دار الهلال، كتب عشرات الموسوعات السينمائية والأدبية، فضلا عن ترجمته لعدد من روائع الأدب الفرنسي.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

 

 احتمالات

 قد تقابل إحدى شخصيات هذه الرواية في مسار حياتنا ، لكن جميع شخوص الرواية غير موجودة في الواقع .

 بصراحة .. من فوق رأسه “بطحة “

 هذه ليست رواية فضائح ، بل محاولة لكتابة غير مألوفة .

 اللا بداية

لكل منا خريطته الخاصة في تحديد الأماكن الأكثر أهمية بالنسبة ليّ , عندما يتواجد في أي مكان .

 ولعلك سوف تندهش من طريقتي في تحديد الأماكن المهمة بالنسبة , والتي تأخذ الأولوية في التعرف عليها , ورغم دهشتك , بل ورفضك التام لخريطتي , فإنك بعد أن تنتهي من التجوال في كل أركان الخريطة التي سوف أرسمها لك هنا , فسوف ستجد أنني , تقريبا , رسمت لك الأسهم نفسها التي مشيت ، في الكثير من الأحيان , باحثا عن اتجاهاتها , بل لعلنا تلاقينا يوما ما هنا أو هناك , تجاورنا , وكل منا يهدف أن ” يفك ” عن نفسه , ويخفض من وزنه , ويلقي عن جسده ذلك العبء الثقيل الذي جثم في مثانته بعض الوقت أو كله , بدا في أغلب الأحيان , إذا كان قصيرا , أطول عمرا من الحياة التي عاشها طوال دهره .

 سوف تقرأ بعضا مم سأرويه عليك عن علاقتي بها , لعلك ستصدم , أو تشعر بالغثيان والتقزز , وتتهمني بالبذاءة والسفه , والخروج عن التقاليد .

   كما لعلك سوف تطوي صفحات هذا الكتاب , بينما تتسرب إلى أنفك بعض الروائح التي ترتفع هناك , ولعلك سوف تلقي بالكتاب في أقرب كومة , وتسرع نحو الصبانة , تغتسل , تزيل عن أناملك ويديك ” صنته ” وما تخيلت أنه علق به , ولعلك تمد يديك إلى زجاجة عطر رخيص , أو ثمين , لتتأكد أنك أزلت أثر هذا الكتاب تماما ..

   لكنك بعد أن تتخلص من فعلتي الشنعاء , سوف تفعلها مثلي , بعد قليل , وتشعر بارتياح وأنت تتنهد , خفيفا , أو بصوت مسموع , وتسمع لهاثك العميق , ولعلك سوف تكتشف فجأة , أن ما حكيته لك هنا , جزء منك , أكثر مما هو حالة خاصة بي.

 أعرف تماما إنك ، عند هذا الحد من المراجعة ، سوف تخرج منديلاً ورقياً , وتمسك به أطراف الرواية , وتعاود القراءة باهتمام شديد . لأنك ستجد بين السطور توحدا حقيقيا بين كل ما عشته في تلك الأماكن , وبين المفردات نفسها التي سرت بها أنت في درب حياتك .

 لا يستطيع أي منا أن يتذكر كيف كان يفعلها لأول مرة , لكن عندما تحرك الزمن بنا . يحملنا فوق كاهله , أدركنا تماما إننا لم نكن نختار الوقت ، ولا المكان المناسبين كي تفعلها . وعرفنا دوما أن الروائح النفاذة , المصاحبة لفعلتها كانت بالنسبة لأمهاتنا أقرب إلى العطور النادرة , وأن رائحة المسك , التي لم أشمها طوال حياتي , سرعان ما تتبخر , وتتلاشى في الجو , ويبقى عبق ما نفعله مصدرا لتضخيم الإحساس بالأمومة لدى النساء اللاتي أخرجتنا من أجوافهن .

 الغريب أن الرائحة التي ظلت تصحبنا دوماً ، تجددت , دون سابق إنذار , وبلا موعد محدد .

 لا أعتقد أن أحدا منا , يزعم أنه يذكر جيداً , أو ببصيص من ضوء الذكريات كيف فعلها , بإرادته لأول مرة , ولا المكان الذي حدث فيه ذلك , لكن المؤكد أن أحد الأبوين , أو الأشقاء , عندما شاهدني , أفعلها , أو شاهدك , عن طيب خاطر , وبواعز من نفسي , أحس بسعادة وهو يردد :

–         آه .. الآن .. صار كبيرا .

   ها ااااااااااااه ….

   مما دفع الشاب الذي إلى جواري أن يقول بمزاح واضح :

–         ياااااااااااااه … كل هذا خبأته في قلبك … يا صبرك ..

   علت قهقهته في المكان , فتضاءلت ضحكتي أسفلها , ضحكة مفاجئة , انطلقت من أعماقي , تعبر عن خجل ملحوظ من عمق تلك التنهيدة التي انطلقت دون إرادة مني , وأنا أنهي ” عملتي ” إياها , لم أكن أقصد أبدا … وددت أن أقولها , لكن جاري الذي راح يشد الياى الخاص ببنطلونه قطع قهقهته , لبرهة , وقال :

–         هذا بيت الراحة , فاسترح كما تشاء .. إن لم تسترح هنا , فأين يمكن للمرء أن يفعلها ؟

استكمل قهقهته , ووجدتها فرصة لاستكمل تنهيدة أقصر عمرا .. قال :

– هل تعرف إننا نقضي هنا خمسة بالمائة من أعمارنا .. دون أن ندري ..

   لا أعرف بالطبع من أين جاء بهذه النسبة , ولماذا ليست ستة أو سبعة بالمائة , أو أقل أو أكثر بكثير .. تذكرت لفوري ما قاله لي حد رؤسائي السابقين , إن بيت الراحة الخاص به , مزدحم بالمجلات والصحف , والكتب , وإنه المكان الأنسب للقراءة بصفاء ليس له مثيل … وددت أن أحكي لهذا الشاب الغريب , القصير بشكل ملحوظ , ما ردده علي رئيسي الأسبق , لكنه سألني :

–         هل عددت كم مرة نذهب كل يوم إلى هذا المكان … ” بيت الراحة “

   وجدت نفسي في مكان غير مناسب لمثل هذا الحوار , وأفكار غريبة تتوارد إلى ذهني , عن اصطياد الرجال في مثل هذه الأماكن , ولماذا غريبة , وجدران مرحاض سينما الهمبرا , قد امتلأ بعبارات ورسوم تؤكد أن الحوائط ليست فقط دفاتر المجانين , مثلما يقول المثل , بل أيضا هي مكان للتعبير عن الكبت , والهياج الجنسي , والحرمان , والرغبة في اصطياد الشواذ .. قال , كأنه وجد في تنهيدتي المليئة بالزفرات فرصة للتعبير عن أفكاره :

–         أم يبدو أن كافة الموظفين جعلوك تأتي لتتبول عليهم هنا بدلا من أن تسب لهم كل عقائدهم وجها لوجه ؟

    تمتمت : ربما .. لا .. بالتأكيد …

   اكتشفت إننا وحدنا في دورة مياه مليئة ببقايا الطين المتخلف عن شباشب وقباقيب موظفين ملأوا المكان قبل قليل , عندما دخل أحدهم وقد فتح ” ياى” بنطاله قبل أن يدفع بكتفي , ويصل إلى هدفه ليتخلص من مياهه الدافئة في مثانته ..

   شدني الشاب إلى الخارج , وأشار إلى الغرف المتناثرة في دائرة البناية , وقال بصوت مسموع :

–         قل لي , من الموظف , أو من هي الموظفة التي كانت سبباً في كل هذه التنهيدة ؟

   لم ينتظر إجابتي , نظر إلى الوريقة التي في يدي , وقال :

–         جواز سفر .. آه .. هارب جديد من الوطن …

   قلت . عقد عمل مجز … لا يمكن رفضه ..

  تمتم في أسى : لا يمكن رفضه .. لا يمكن رفضه … هذه العبارة دمرت الوطن …

   بدا كأن شخصا آخر يخرج من أعماق صاحب القهقهة الذي شد مني وريقة استلام جواز السفر , وهو يشدني إلى الغرفة التي خرجت منها قبل قليل لأدخل بيت الراحة… أول مكان سألت عنه بعد ولوجي هذه البناية المكدسة بأشباه البشر .. قال مشيرا إلى ” حكمت ” التي طلبت منى أن أصبر عشرة مرات ( بالتقريب ) .

–         يا مدام حكمت , هل تعرفين ماذا فعلتين بهذا الشاب , وكيف عبر عن مشاعره نحوك هناك ؟

   ضحكت موظفات الغرفة , قالت إحداهن :

–         يا ضنايا … ماذا حدث لك ؟

   قال ” سمير ” حسبما نادته زميلته قبل أن أخفي ابتسامتي :

–    أعرف أن مثل هذه التنهيدة لا يفعلها المرء في حياته سوى مرة واحدة … أخبرني هل هي تنهيدة , أم زفرة , أم صرخة من الأعماق .. أم ؟

   قالت ” حكمت ” وزميلها ينصحني بالجلوس إلى جوارها :

–         على فكرة … يا أستاذ .. وقعت بين يدي من لا يرحم ..

   علقت زميلتها الجالسة على يمينها : سمير … يفخر أنه أديب فاشل …

   وقف يضرب على صدره في إعجاب , وقال : ليسانس تاريخ , شاعر فاشل , بلا فخر … هل تعرف … ما هي قصيدتي القادمة ؟

   لم أسأله , أكمل : ” تنهيدة … في …. بيت الراحة ” …

   تجلجلت القهقهة في الغرفة , وعلت ضحكات النساء اللاتي أطلقن عليه السباب واللعنات المازحة , ” خيبك الله يا سمير ” , ” المدير سوف يعطينا جزاء ” , قالت ” حكمت ” :

–         المدير ليس هنا , ذهب إلى الوزارة …

   همست في أذني : معذرة يا أستاذ … تأخرت في تسليمك الجواز , لأنني …

   لعلها نست أنها قالت الجملة نفسها أكثر من مرة , قبل أن أنطلق إلى دورة المياه , لأعبر عن إحباط أصابني , سألتني موظفة أخرى :

–         هل معك عقد العمل ..؟

رددت : سأستلمه بعد غد … عندما أريهم جواز السفر …

   سألت ” سمير ” : إلى أين … ؟

   قلت : هناك … في بلادهم … بلاد الأثرياء …

   أخبرته عن اسم المجلة التي سأعمل بها , قال :

–         آه .. أنت صحفي …

   قلت ربما … أنا كاتب …

   برقت عيناه : اقترب مني , وهمس : هل استلمت عقد العمل … بكم ؟

   يبدو أنه لم يسمعني وأنا أقول أن العقد سيكون متاحا بعد غد , قال في حماس :

–         لا تقبل أقل من عشرة آلاف في الشهر …

    ” عشرة آلاف ” … أي عشرة آلاف فيهم .. دولار .. جنيه مصري … يورو .. إسترليني , ريال .. درهم … لم يحدد بالضبط ..

–         ألا ترى أن هذا الرقم مبالغ فيه … ؟

تبدو أرقامه في العلو الشاهق نفسه لضحكته , ومداعباته الماجنة المثيرة في خفة ظل ملحوظة . يتكلم بتلقائية وهو يتنقل بين المكاتب , يبدو كأنه يبحث عن شيء يفعله وقد انشغلت بعض النساء عنه , بينما ” حكمت ” تدفعه بيدها , كأنها تحاول إخفاء شيء ما عنه , وهو يوجه كلامه إلي :

–         أعرف كتاباً , في مصر يأخذون ضعف هذا المبلغ , وهم هنا في وطنهم .. بدون غربة ..

   وددت أن أبوح له بالرقم الحقيقي المتفق عليه في العقد الذي سأوقعه بعد غد , قرابة أربعة آلاف جنيه , لصحفي يعمل هنا تحت التمرين , نشرت له بعض القصائد في مطبوعات الثقافة الجماهيرية

   أشار إليّ بسبابته , فيما يشبه التهديد , والتحذير ألا أقبل أقل ما يعادل خمسة عشر ألف جنيه مصري , ومسكنا مناسبا لأعزب “

–         لست متزوجا .. أليس كذلك .. إياك أن تتزوج ,و إلا سيكون حالك مثل أزواج هؤلاء الزميلات .

   رمته إحداهن في حده :

–         سمير دع أزواجنا في أحوالهم … زوجي أحسن رجل في الدنيا ..

   كأنه مثل مسرحية هزلية تافهة , وقف وسط الغرفة , وأشار مجددا بسبابته , وقال:

–         قبل ساعة كانت تبكي لأن زوجها أكثر الرجال بخلاً في المدينة .

   رمته في حدة متكررة :

   مد سمير يده فجأة في درج مكتب ” حكمت ” , وأخرج جواز سفر , دقق فيه , وقال :

–         عندها حق … المدير العام ليس هنا …

   شدني من يدي وأخرجني من الغرفة , تلاحقه سخريات زوجة الرجل الأكثر بخلاً في المدينة , مشى بي في الممر , وقبل أن يدفع بنفسه إلى ” بيت الراحة ” مّد لي ببطاقة زيارة , وقال :

–         قابلني في السابعة مساء … عند هذا العنوان .

   وجدت نفسي أتصفح البطاقة , بينما اختفى داخل دورة المياه , رحت أقرأ محتويات البطاقة , العنوان المطبوع , أسفلها يشير إلى مقهى في ميدان ” باب اللوق ” , وإلى مواعيد تواجده هناك … قرأت ما في البطاقة قرابة ثلاثين مرة , هي المدة التي غابها في الداخل , هيء ولى إنني سمعت صوته وهو يفعلها , بعد أن أغلق عليه أحد الأبواب , دخلت المكان وصحت :

–         سمير … ماذا تفعل ؟

   كأن كان يتوقع سؤالي , أو لعل أحدا فعل معه الشيء نفسه من قبل , قال بصوت مسموع وهو يضحك :

–         اعملها … خلاص … خلصت …

   عندما فتح الباب راح يتنهد بارتياح , وقال :

– حلوة .. فعلها أمر رائع …

   سألته في جدية ، هل هذا هو عنوانك ؟

   رد بطريقته : اسمع .. لا تقبل اقل من عشرة آلاف جنيه … مفهوم ..

   اثنان وثلاثون عاما .. دون أن أتمكن من نشر سبعة قصائد , ووعد بالعمل في إحدى الصحف الصفراء , وعقد عمل بقرابة أربعة آلاف جنيه … هل يتردد المرء في رفض أو قبول . لا خيار ولا اختيار , ثمانية وأربعون ألف جنيه سنويا … وخلال عشر سنوات قرابة النصف مليون جنيه , وفي عشرين عاما أستطيع أن أكون مليونيرا … صحيح إنني سأدفع عشرة في المائة لمدة عام للسمسار الذي دبر لي العقد, لكن بالتأكيد , هذا هو أول الطريق كي أكسب من الكتابة …

   أطلق عليّ تحية المساء , سحب زجاجة البيرل من فوق المائدة , التي لم أشرب سوى نصفها , ومشى أمامي كي يجلس في ركن أكثر هدوءا من المقهى الواسع , المزدحم بالزبائن , دخلت وراء ستار متهالك , لأجد نفسي أمام منظر لم أتوقعه , زجاجات بيرة , وأطباق مليئة بالفول السوداني , والترمس . ودخان دفعني للسعال , والخروج من المكان كي يشدني سمير مرة أخرى إلى الداخل : وهو يقول :

–         الق تحية المساء على أساتذتك يا أبو بولة …

   حطم كل الحواجز بيننا ,خاصة وهو يراني ابتسم راضيا لهذا الاسم الجديد , مد لي بجواز سفر وقال :

–         لا تقل شكرا .. وقعت على استلامه بدلا عنك …

   قبل أن أقرأ اسمي على الصفحة الداخلية , أشار إلى الرجال الثلاثة الذي ملأوا المكان بأدخنة الشيشة , والسجائر , وقال :

–         قلت لك ألق تحية المساء على أساتذتك …

   رددوا جميعا بما يشبه الكورس : ورحمة الله وبركاته …

   قال يعرفهم بالوافد إليهم :

–         عبيط جديد … وافق على خمسة عشر آلاف في الشهر يا أستاذ عدنان …

   لم يكن للأستاذ عدنان أن يفسد أنفاسه المنطلقة كي يعلق بكلمة واحدة على ما ردده سمير حولي من أكاذيب ومبالغة , سألني هذا الأخير فور أن جلست :

–         ماذا تشرب ..؟

   أشرت إلى زجاجة البيرل , بدا كأنه أدرك شيئا :

–         هل تناولت جمبري في العشاء من قبل ؟

   كأنه يعرف الإجابة , كما بدا من سؤاله , أكمل :

–    الدور الليلة على كمال وجدي .. شلة المفاسد .. تدعوك الليلة على أول جمبري في حياتك … لو قبلوك معهم ستدعوهم يوما على جمبري … يعني اعمل حسابك من الآن , يوما ما ستدفع ثمن وجبة عشاء … ستة كيلو جمبري .. كل واحد يلتهم نصف كيلو … دون السلطة ..

   لم أستوعب , على وجه السرعة , ما يحدث من حولي , كل ما استطعت أن أفهمه أن سمير استطاع أن يدبر لي جواز السفر في اليوم نفسه , وهو الذي لم أكن أعرفه قبل ست ساعات من الآن , وحسب عباراته المتلاحقة , فإنني لا يمكن أن أخرج له أيا من المبالغ المتناثرة في جيبي , وهو الذي يتحدث عن دعوة ستة كيلو جمبري الذي لم أذق له طعما من قبل , ليس لأنني لا أقدر على شرائه فقط , بل أيضا لأنني نباتي , لا أميل إلى أكل كل ما به روح ودماء ..

أردت أن أنسحب من غرفة الدخان هذه , وأن أنطلق لأبلغ أمي أن سفري إلى بلاد المال صار وشيكا , لكن سمير وضع أمامي الشيشة التي طلبها بالتليفون المحمول قبل وصوله إلى المقهى بقليل , وقال :

–         احبس أنفاسك … ينتظرك عشاء فخم هذه الليلة …

   أردت مداعبته :

–         ونساء …

   ضحك وأشار إلى رفاقه :

–         اطمئن .. كل هؤلاء فقدوا الأهلية … السكر , والضغط , والتوتر , والإحباط .. وعرايا النت …

   همست : زميلتك … زوجة أبخل رجال المدينة ….. حلوة …

لكزني في كتفي , وهو يدفع لي بطرف المبسم : ذوقك زفت … سوف تنضم قريبا إلى هؤلاء الأعفة …

   قلت : هل يمكن أن أذهب وأخبر أمي … ؟

   دفع لي بهاتفه المحمول , نصحني أن أتصل بمن أريد ، لم أشأ أن أخبره , إن أمي ليس لديها هاتف في دارها . لم تعد لدي الحجة لمغادرة المكان , لاحظت أن هناك ” مبولة ”  صغيرة في ركن الغرفة . فضلا عن واحدة أخرى دخلتها قبل قليلا , وأنا أنتظره .

   بدون سابق إنذار , أشار إلى جواز السفر البارز في جيبي , وسألني :

–         هل تعتقد إنك جئت إلى هنا مصادفة … انظر إلى هذا الرجل ؟

   بدا كأنه يود أن يقوم بدور شرير الفيلم , وهو يشير إلى ” عجبان ” وهو يزفر هذا الكم من الدخان كأن يفرغ كل ما بجوفه من محتويات , ردد :

–         عجبان .. أصابه العجز .. لم يعد بقادر على القيام بمهمته .. وأنت أنسب من يحل مكانه ..

–         تقززت من نفسي وأنا أراني أستنشق كل هذه الأدخنة المتعددة  الألوان , سألته :

–         ما الحكاية بالضبط ..؟

   مرة أخرى , أشار إلى جواز السفر , ونصحني أن أمزقه , قائلا :

–         عندما رأيت أوراق استخراج الجواز الخاص بك , قلت لنفسي ” هو الشخص المنشود ” .

   سألته :

–         ماذا تريد بالضبط … ؟

   سحبني خارج المقهى , روعني كل هذا العدد من العشاق المحرومين فوق سور الكورنيش الذي بدأ يشهد اعترافا لم أتخيله في حياتي .. امتزجت كلماته بقضم كوز الذرة الذي دفع جنيهن لبائعه دون أن يسأله عن ثمنه , قال :

–    عدنان , قرر التمرد على ولي نعمته … ليس عجبان وحده .. بل الآخرين … كلهم … أصابتهم الشيخوخة , والزهايمر …

   استطاع بحكايته المزعومة تقريبا أن ينسيني عادتي في البحث عن بيت راحة أسرع إليه عندما تشتد بي الحاجة , فالحكاية بالفعل غريبة , وهو يسألني :

–         ثمانية رجال … هل خمنت ما هي وظائفهم ..؟

   هززت رأسي , وضع ذراعه أسفل ذراعي , كأن مودة قديمة تربط بيننا , وكأننا لم نتعارف فقط منذ ساعات , عرفت منه أنهم ليسوا على الاستيداع مثلما يؤكد بياض شعر أحدهم , وصلعة الآخر , وقدرة الثالث على سحب أكبر قدر من الأنفاس , وعدد زجاجات البيرة التي تناثرت حول الرابع , ورائحة منفرة انبعث من الخامس وهو يصافحني عند مغادرة المكان , قال محدداً :

–         إنهم تقريبا حكومة الظل , حكام البلد الخفيين ..

   سحبت يدي كمن قرصته أكبر حية على ظهر الأرض ,وقلت :

–    إلا السياسة , أنا أجبن مخلوق في الأرض .. صفعة واحدة كفيلة بالتخلص مني , لا , بل نصف صفعة , هذا إذا كان هناك ربع صفعة ..

   استعاد قهقهته التي تساءلت قبل قليل هل هي اصطناعية , وتأكدت مجددا إنها خرجت من الأعماق وأنا أسمع أحد جنود الحرس النهري يردد :

–         يا بخت الرائقين ..

   قال :

ـ لو صمموا عم في رأسهم .. ستكون كارثة ..

   من الطبيعي أن أسأله عن أبعاد الكارثة , هل سيحولون كل هذه الأدخنة المنبعثة منهم إلى مفجرات نووية يخيفون بها الولايات المتحدة , فيرسلون إلينا بخبير أسلحة الدمار الشامل ويثبتون أن مصر نجحت في عمل أول قنبلة من الدخان ذات أثر فعال على العالم .

   شدني من يدي , كي نعود المسافة نفسها التي مشيناها لندخل إلى المقهى , أطلق تحيته وسأل :

–         أخبار الجمبري … يا غجر ..

   داس على أزرار هاتفه , وجاءه من يؤكد أن العشاء على وشك الوصول .. أشار إلى غجره :

–         هيا .. قبل أن يبرد الجمبري ..

   قبل أن نصعد الشقة التي تعلو المقهى مباشرة , اشترى الطبعة الأولى من صحيفة طالع عناوينها على عجالة , بينما أقدام الرجال الثمانية الثقيلة تضرب الدرجات وتسبقنا وأنا أكاد أتخيل بطيء وقد حشرت بالجمبري لأول مرة في حياتي , أشار إلى الجريدة , وهي يعطيها لي , قبضت عليها , وهو يسألني :

–         هل تود مقابلة الكاتب الرئيسي في الصفحة الأولى … ؟

   هززت رأسي بالإيجاب … سألني مرة أخرى : هل ترجع عن قرارك بالسفر لو قابلته ؟

   لم أستطع أن أعرف هل أهز رأسي إيجابا أم نفيا . إلا حين سألني , كأنه يرمي فوق كاهلي بالسؤال تلو الآخر :

–         هل ترجع عن السفر لو نلت مكانه . ؟

حسب معرفتي به طوال هذه الساعات , فأنا لم أر سمير يدخن سيجارة , أو يتجرع من زجاجات البيرة , أو حتى يتعاطى الشيشة , إنه يمزح , لكنه مزاح يوجع الأمل , ويوقظ الأوجاع . دخلنا من باب شقة واسعة مفتوح , رأيت في داخلها جدران الكتب وقد زاحمت المكان كله .. لم يشف تساؤلاتي التي لمعت في عيني دون أن نظن بها , لا يمكن لأحد من الذين يزحمون المقهى بأسفل أن يتصور أن فوقهم مباشرة , تتكدس كل هذه الجدران من الكتب القديمة والحديثة . التي كشفت عن هيئتها عندما داس صاحب الشقة فكري على زر الإضاءة كأنه يستعرض ممتلكاته الغريبة .

   سألت : هل قرأ أحد في هذه الدنيا كل هذه الكتب .. ؟

   ردد صاحبها : ليست كل الكتب للقراءة . هذا الركن للرجوع إليه عند اللزوم.. هذه مكتبة للعمل …

   لكزني سمير وهو يشير إلى صاحب الشقة الذي اقترب من فريسته الجمبري , وتحسسه بإصبعه , همس في أذني :

–         إنه هو ..

–         من تقصد .. ؟

–         الكاتب الرئيسي … في هذه الجريدة …

–         من .. عاصم النيال ..

   أطلق قهقهة التي أثارت انتباه صاحب الشقة , وقال :

–         بعد الأكل … وفر ضحكتك إلى بعد الأكل .

   مستفزا قلت : ليس هذا هو عاصم النيال

   لم يشف تساؤلاتي المليئة بالدهشة , احتوتنا مائدة أرضية , جلسنا حولها جميعا , رحت أنظر إلى صاحب الشقة , محاولا العثور على إجابة لأسئلة تتردد في داخلي . علت أصوات المضغ , وتقطيع أجزاء الجمبري , راهن سمير علي أنني لا يمكن أن أجد مثل هذا الدفء في أي مكان في العالم , كأنه يذكرني أن قراري بالسفر سيحرمن طزاجة أسماك البحر الغالية , قال :

–         هل تعرف في أي مكان أنت ؟

   رد بدلا عني :

   بدا كأنه يتعمد أن يفقدني لذة تناول هذا النوع من الجمبري لأول مرة في حياتي . وهو يؤكد أن صاحب الشقة هو الكاتب الرئيسي في الجريدة , قال :

–         هل تريد أن تسمع الحقيقة …

   سألت : هل هناك حقيقة .. ؟

   جاءت الإجابة غريبة , حين قال سمير موجها كلامه إلى صاحب الشقة :

–         يا أستاذ .. هل يمكن أن نسمع منك حكاية الجائزة والمحاضرة …

   وهو يلتهم القطعة الأخيرة من الجمبري , قال :

–         أقسمت ألا أفشي سري أمام غريب ..

   قال سمير : هذا ليس غريبا , إنه العضو الجديد … تحت التمرين

   جعلني سمير , دون أن أدري عضوا تحت التمرين في جماعة الجمبري , وهو يقول :

–         على كل .. ليس على شارب البيرة أي حرج … عندما يزول تأثيرها , أستغفر الله كأنك لم تقل شيئا ..

   ردد صاحب الشقة :

–         بل أخاف إذا رويت شيئا أن يضيع تأثير كل ما شربت في المقهى …

ورغم خوفه , جلس يتكلم , إليّ وحدي , بينما تناثر رفاق حول موائد الشطرنج الصغيرة ولعل ما ردده صاحب الشقة كان يصل إلى أسماعهم , فيهز أياديهم , وهم ينقلون القطع فيرمون بجنودهم , وملكهم خارج النرد .

 

الأول

كاتب صحفي

نال هو الجائزة

وحضرت أنا الندوة

   نودي على اسمه الميمون , بفخر واعتزاز ملحوظين , قام من مكانه , فك أزرار سترته , وبثقة ملحوظة , صعد إلى المنصة كي يصافح الرجل الكبير , وتعمد أن يتكلم إليه , كأنه يطلب منه شيئا , أو كأنه يوحي إلى كل الحاضرين أن هناك علاقة وثيقة بينهما , استلم شهادة التقدير ، رفعها في الهواء , ليتيح لحاملي الكاميرات أن يلتقطوا ما يشاءون من صور لجريدته , ولبقية الصحف , وكان عليه أن يترك فرصة لزميل آخر له , نال كتابه الجائزة الكبرى في نهاية العام أيضا …

   في اليوم التالي . صدرت إلىّ الأوامر المباشرة , من مديرة مكتبه . أن أذهب إلى الندوة . جلست مكانه أمام مائدة الندوة لمناقشة الكتب الفائزة في نهاية العام , وراح مدير الندوة يردد :

–    يعتذر الكاتب الكبير عاصم النيال عن عدم حضور الندوة لمناقشة كتابه .. ويحضر النقاش معنا , الأستاذ عامر مفتاح .

ثقبت أذني تلك الصفة , كأنني أسمعها لأول مرة , أو كأنني أكتبها أيضا لأول مرة , ” الكاتب , الكبير ” … كاتب … وكبير .. , ترى هل يفهم مدير الندوة معناها الحقيقي, قد منى الرجل بصفتي أستاذ , لا كاتب , ولا كبير …

   ترى هل ” عاصم النيال ” كاتب , كبير , لأنه رئيس مجلس إدارة مؤسسة صحفية كبرى , مزدحم بالمسئوليات , وأرصدة البنوك , ويمتلك مقادير حيوات كل هؤلاء البشر الذين يعملون تحت إمرته , المتأهبين لنهش كل لحمي بدمه , لو انتابتني الرغبة أن أطلب حتى في أن تكون أنا صفتي الأساسية ” الكاتب الكبير ” , وإنني عاطف الأشموني الحقيقي مؤلف الجنة البائسة , المسماه الآن ” صدمات الزمن ” . التي يجب أن أستعرض صفحاته ككتاب , وأتحدث إلى هؤلاء الحاضرين , الذين تبدو الصدمة على وجوههم لعدم حضور قائدهم الندوة , جاءوا جميعا يملأوون القاعة , لإثبات أن جمهور ” الكاتب الكبير” ملأ المكان , وأثار الحوار , في عيونهم الكذب والنفاق , ويعرفون الحقيقة التي يتبادلونها في همس , دون أن يجرؤ لسان واحد على البوح بها , ربما لأن من بينهم عشرة على الأقل تنطبق عليهم هذه الصفة ” كاتب ” دون أن يعرف أحدهم حقيقة ما يكتبه الآخر . مثلي في الخفاء ..

   أنا المواطن ” عامر مفتاح ” , رئيس قسم التحقيقات السياسية في المؤسسة الصحفية الكبرى ، فقط أحضر بضفتي الوظيفية لمناقشة الكتاب الحاصل على الجائزة .

   جاء وقت إعلان الحقيقة إذن , أن أقول الحقيقة كلها , أن أجعل هؤلاء ” كتبة الظل” أكثر شهرة مم يتصورون , فقط أن أقول إنني المؤلف الحقيقي لـ ” صدمات الزمن ” , وإنني أيضا مؤلف ثلاثة من الكتب الخمسة عشر التي تم إيداعها في دار الكتب , موقعة بأن مؤلفها هو ” عاصم النيال ” , وسوف أجزم لهم إنني أعرف أربعة من المؤلفين الحقيقيين لهذه الكتب ,

   حان الوقت لأقول إنني الكاتب الرئيسي للمقالات السياسية للأستاذ , وإن ناجي الصباح هو كاتب العدد اليومي , وإن رجاء إصلاح كاتب المقال الفني , وإن سحر عماد الدين تكتب بالتبادل , المقال الفني , مع رءوف صبيح .. و …

ردد مدير الندوة للمرة الثاني :

–         نستمع إلى كلمة الأستاذ عامر مفتاح , نيابة عن الكاتب الكبير …

    حدث ما سبق إن عهدته , في مثل هذه المواقف مرات عديدة , إن ” اندمج ” وأتوحد مع الأستاذ , أن أتخيله , وقد لبسني , أو إنني صرت هو ” .. مع فارق واحد إنني يجب أن أتقبل أن يناديني الناس باسم آخر هو ” عاصم النيال ” , ولماذا هو اسم آخر أليس هو في حقيقة الأمر اسمي المستعار , أو اسمي الحقيقي , وقد استخدمه رئيس مجلس الإدارة نيابة عني .؟

   استبد بي حماس ألفته , وأنا أتحدث عن كل ما كتبته بفهم واعي , متعمدا الا أنظر إلى عيون الحاضرين الكاذبة , حتى لا توقظني من حالة التقمص التي صرت عليها كالعادة , إلى أن انتهى كلامي , دوت الصالة بالتصفيق , لشخصين معا , أو ربما لشخصه فقط , شخص حاضر , استطاع أن يقرأ من الورقة التي كتبها على إنها من صياغة الكاتب الكبير , وآخر أبدع فيما كتبه وحلله حول القرن الحادي والعشرين الذي بدأ بصدمات سبتمبر وأفغانستان , والعراق التي أضيفت إلى صدمات القرن القديم ، وعلى رأسها فلسطين التي لن تجد حلا سياسيا قبل نصف قرن قادم ..

   وبدأت أسئلة البطانة حول الكتاب , وما جاء فيه عن أفكار , لم تكن أسئلة حقيقبة , بل تقديس لكل سطوره , وأفكاره الجديدة , فكرا , وأسلوبا , ( آه من أسلوب هذه ) , إلى أن أفسد هذه الندوة سؤال حقيقي أربكني أكثر مم أفعل لكل بطانة القاعة :

–         هل ما جاء في الكتاب هو رأي الأستاذ عاصم النيال أم رأي شخص آخر .؟

   بدا السؤال أشبه بفيروس كومبيوتر من النوع الذي يدمر كل موانع الفيروسات في أي جهاز , ويحول الشاشة إلى صفحة بيضاء ولا أمل في أن تضم سطرا واحدا من المعرفة , لا أستطيع أن أتذكر ما قاله مدير الندوة ردا على السؤال القاصم للظهر , لكن كل ما أجزمه إنني دفعت ثمن هذا فاتورة ثمان زجاجات ويسكي تناولتهم فوق معدة جوفاء بمجرد أن خرج بي سائق المؤسسة من ساحة الندوات , واتجه إلى أقرب فندق في أطراف المدينة …

   هل يجب أن تحدث للمرء مراجعة للذات ؟, ها … وما قيمتها , وسط كل هذه الزجاجات الغالية الثمن , المدفوعة ثمنها بالدولار , وعلى فاتورة المؤسسة .. هل من حقي أن أنهار إلى هذا الحد , أو أن أراجع نفسي . وأكتشف أن بداخلها , وفي ركن صغير منها ذلك الشاب الذي دوخته أزقة القاهرة وأرصفتها , قبل أن أصبح محررا تحت التمرين في المؤسسة ؟

   قررت أن أوقف هذا الشكل التقليدي من الاعتراف , وأن تكون الكتابة على طريقتي أنا , وليس هو ..

  سؤال : هل كنت تحلم , وأنت تسكن في ذلك الزقاق , أن تتناول ثمان زجاجات ويسكي , على نفقة المؤسسة ؟

   جواب : أحلم … أبدا .. لأن هذا النوع من الأحلام لم يكن يجول بخاطر أي شخص , كل ما يمكن أن أحلم بتحقيقه , هو أن أستعير الجريدة من مكتبة الهيئة التي التحقت بها عقب خروجي إلى الاستيداع من الجيش في صيف 1975 . المرتب سبعة عشر جنيها , والصحيفة بقرش صاغ , أي أن ثلاثين جريدة , لمعرفة أخبار الدنيا , التي لا تلبث أن تتحول إلى مواد للثرثرة بين الموظفين , والموظفات الذين تتناثر الأطعمة , وورق الصحف فوق مكاتبهم , ويرمون بآرائهم حول ما تكتبه الجرائد إلى بعضهم البعض , أحلم , لم يكن لدي حلم محدد , كان أملي هو أن أنهي خدمتي العسكرية , وأن أخرج إلى عالم المدنية , أرسلوا لي بقرار للتعيين في إدارة الخدمات في إحدى المؤسسات الاجتماعية , رغم أن شهادتي تؤكد إنني يجب أن أعمل سفيرا , أو قنصلا , أو حتى مساعد قنصل . أحلم . كان الحلم الحقيقي هو أن أظل مقيما في هذه الغرفة لأطول فترة ممكنة , أربع حجرات , تختنق بستة عشر طالبا , يمثلون أكثر من سبع كليات , وثمان محافظات , خمسة من الوجه البحري , وثلاثة من الوجه القبلي , ينظرون إليّ كثيراً كنموذج يجب أن يحتذي به , يقرأ كيرا , ويختفي في بعض الأساسيات إلى حيث لا يعرف أحد .. سأقول أين كنت أذهب … كنا نلتقي هناك , لنأكل , ونشرب , ونعلن سخطنا على الانفتاح البذيء الذي ملأ الأسواق بعلب الكمبوت ، وثلاثة وعشرين نوعا من العطور الغالية ، والعدد نفسه من المياه الغازية الحقيقية ، التي استطاعت أن تطرد أنواعا رديئة ، لم تتجاوز أن تكون مياه مذاب بها سكر ، من السوق ، و…

  سؤال : هل تذكر أول مقال كتبته لرئيس التحرير عاصم النيال ..؟

   الجواب : أليس من حقي أن أتحدث عن كيف دخلت المؤسسة ..

  سؤال : أنت تتحدث بتفاصيل أكثر .. لعل الخمر لعبت برأسك .

   الجواب : التفاصيل أمر عبقري ، أنا لا أكتب مختصرا لحياتي ، أريد أن أحكي تفاصيلها … نعم .. أذكر متي كتبت المقال الأول لعاصم النيال ، لكنني أذكر أول يوم دخلت الصحيفة .. تم ذلك علي يد واحدا من كبار الكتاب الاشتراكين في الصحيفة ، ذهبت إليه مع واحد من شلتنا التي كنت أقضي معها بعض الأمسيات ، نتوحد معا في أن السادات هو أسوء خلف لعبد الناصر ، وأنه سوف يؤجر البلاد إلي الأميركان بالتقسيط المريح … في مكتب الكاتب الاشتراكي الكبير ، قام بتوقيع قرار صغير ، يفيد أن الشاب عامر مفتاح يصلح أن يكون محرراً تحت التمرين ، وأمر بتخصيص مكان لي في صالة التحرير التي اكتظت بعشرات من الذين جاؤا إلي المكان عبر خطابات توصية عقب تخرجهم من الجامعة ، أو انتهاء مدة خدمتهم العسكرية … في تلك الفترة ، كان عاصم النيال مجرد محرر في شئون الإسكان ،سريع الحركة ، لا يكاد يجلس فوق مكتبه . كان أكثر المحررين الذين تأتيهم مكالمات هاتفيه وبلغة أيامنا لو كان الموبيل منتشرا في تلك الآونة ، لاختصر زمانه إلي واحد من عشرة ، لكنه كان الأسرع بإيقاع زمانه، يعرفه الوزير شخصيا ، ورؤساء قطاعات الإسكان في الوزارة ، والمسئولون عن الإسكان في كل المحافظات ، يستطيع أن يدبر لك مسكنا في أي مكان توده بأسعار معقولة ، وخلو رجل مناسب ، وكم ناشد رؤسائه وده ، وطلبوا منه خدمات لأنفسهم ،  ولكثير من معارفهم ، لم يكن يتأخر أو يرفض طلبا ، أو حني يتقاعس عن تنفيذه ، كأنه كان يبني هذه الشقق من ورق ، أو كأنه يحمل معه مصباحه السحري ينفذ ما يطلب منه بأسرع وقت ممكن .

   لذا ، لم يكن غريبا ، أن يتولى رئاسة القسم في لحظة مفاجئة ، والغريب أنه تكفل بكل مصاريف جنازة رئيسه الأسبق ، الذي أصابته ذبحة صدرية عقب صدور القرار ، وطلب من المؤسسة تحويل كافة مصاريف الجنازة ، والمكافأة الأخرى كأموال نقدية لأسرة الفقيد . هذا الموقف ، لم يجعل الآخرين ينظرون إليه كقاتل لرئيسه الراحل ، بل تهامسوا فيما بينهم أن القاتل الحقيقي هو مهارة عاصم في عمله وحب الناس له ، وأن أي شخص في مكانه لا يمكن أن يوقف مسيرته .

   في هذه الفترة ، كنت قد تجاوزت مرحلة المحرر المستمع الذي يضع السماعة علي أذنيه ، ليعرف أخبار الدنيا من الإذاعات ، واستطعت أن أكتب اسمي علي أول خبر منشور في الصفحة الأولي ، وبعد ستة أشهر نشرت أول مقال سياسي لي في عشرين سطر داخل صفحة الرأي … وبعد عام ، كان مقالي عن الهدف الاقتصادي لزيارة القدس، قد منع من النشر تماما وشطب بالقلم الأحمر للرقيب.

   سؤال : هل تذكر المقال الأول الذي كتبته لعاصم النيال

   الجواب : صار عاصم النيال نائبا لرئيس التحرير ، صمن سبعة نواب واحتفظ برئاسة قسم الإسكان في الجريدة ، وازدحمت أعماله ، وخدماته داخل الجريدة ، وخارجها ، وصار له تليفون خاص بالسيارة التي خصصتها له المؤسسة ، وسمعت أن أحد زملائي يردد أنه ليس لديه وقت لينام ، فكيف له أن يكتب العمود اليومي الذي يحمل اسمه ، وهنا بدأ الهمس .. وسمعت أن صلاح عويثة هو الذي يكتب العمود يوميا ، وأنه قبل هذا كنوع من التنفيس عن إيقافه عن العمل ، حاول من نقل لي هذا الرأي أن يعطيني الدليل ، فصلاح يسكن الآن بشقة كبيرة بالمعادي والمؤسسة خصصت له سيارة تنقله طيلة يوميه ، وأن سيارته الجديدة تركها لأسرته ..

   لابد أن تشعر بالغبطة ، والحسد تجاه كاتب موقوف عن الكتابة صار هذا هو حاله بل أن الإشاعات طالت هدي صفوت ، السكرتيرة الجديدة لمكتب عاصم النيال ، وهي التي تخرجت من الكلية نفسها ، سمعت من يردد أن الفرصة قد راحت من صلاح عويشة إلي هدي ، التي تكتب لرئيسها المباشر كل ما ينشر باسمه في الجريدة ، من أخبار ، ومقالات ، وتصريحات …

  إلي أن كانت المفاجأة ، أن رأينا صورته علي الصفحة الأولي وأن قرارا بترقيته ليتولى رئاسة مجلس الإدارة ، ورئيس تحرير الجريدة ، لم يكن في الأمر مفاجأة ، للبعض ، فهذا أمر متوقع بين لحظة ، وأخري ، لكنه حين تولي المنصب كان دون الأربعين بثلاثة أعوام ، قيل يومها أن القرارات الجديدة تؤيد اختيار الشباب الكفء ،

   يعني هذا بالنسبة للجميع صعود نجم كل من هدي صفوت ، وإعادة صلاح عويشة إلي مهمته القديمة ، ومحاولة مصالحة للعديد من الذين تم إيقافهم عن العمل . كل بطريقة تترأي الإدارة الجديدة معي ، كان القطار سريا في مكتب هدي صفوت التي قالت لي:

– الأستاذ علي سفر دائم .. وأنت مرشح لكتابة الرؤيا السياسية …

   تصورت أن عفوا عاما قد أصابني وأن اسمي سوف يملأ الصفحات ، كما حلمت طوال أيام الأرق التي صادفتني أثناء الانقطاع الذي استمر أربع سنوات وخمسة أشهر ، وعشرين يوما ، قالت :

– بدون توقيع !!

   وقبل أن أعلن عن دهشتي قالت بصراحة .

– حذا ري أن يعرف أحد انك من مكتب الرؤيا السياسية .

   وقبل أن أتصحف الشيك الذي دسته في مظروف ابيض عليه اسم المؤسسة قالت :

– هذا أول اختبار لك …

  كان المبلغ الذي صرفته من خزينة البنك التابع للمؤسسة يعادل عشرة أضعاف ما يحام به امرؤ يوافق أن ينشر مقاله بدون توقيع ، لذا ترددت عشرة مرات قبل أن اندهش وأنا أري اسم عاصم النيال فوق مقالي مصحوبا بصورته ضاحكاً ، كان ينقص المصور أن يطلب منه إخراج لسانه لإغاظتي ، لكنني لم أحب له أن يدفع لي مصاريف جنازتي من جيبه ،لو أصابتني ذبحة صدرية ، وقبل أن أتردد ، كان سيارة المؤسسة تنقلني إلي شقتي الجديدة المهداة من المحافظة ، والتي قيل لي أن أساسها أحضر خصيصاً من دمياط .

   سؤال : إذن ، كان الثمن كافيا كي لا تعرف التمرد …؟

   الجواب : بل كان الثمن أكبر من أن يكون كافيا ، لم يكن هناك ثمن واحد ، بل عشرات من الأثمان : مكافآت ، تذاكر سفر ، رحلات ، بدلات ، مكتب فخم ، هدايا منزلية ، وأحيانا فتيات جميلات ، كي تتشجع ، وتكتب الفصول الأولي من كتاب     ” رؤية الغد ” .. كي ينشر مسلسلا في الصفحة التاسعة كل أسبوع .. علي الطرف الأيسر للصفحة ، صورة للأستاذ ، وهو يضع عويناته المقعرة ، وبشعره المصبوغ قبل الأوان ، وتحت الصورة ببنط كبير : رؤية : عصم النيال ، وفي الوقت نفسه ، بدأت صحف خليجية ولبنانية عديدة في نشر الحلقات مع الحرص علي أن المؤلف والكاتب هو صاحب الرؤية عاصم النيال .. قد تسألني : هل كل الحلقات بقلمك ، كلها .. كلها .. وهل راجع عاصم النيال ضميره ألم تلتقي به يوما .. سل كما تشاء .. لكن الإجابات المدهشة أنه لا يكاد يعرفني ، وربما لا يعرف سوي اسمي كما أنه حين يراني في أحد الاجتماعات لا يكاد يستجمع ملامحي . كل ما يربطني به هو وريقة التعليمات التي تقدمها لي هدي وبها إشارات إلي النقاط الرئيسية في الحلقات ، لا أعرف من هو صاحب هذه الإشارات ، لكن يعطي لنفسه الحق في أن ينسب إليه كل هذا طالما أنه صاحب الأفكار الأساسية التي لم ألتزم بها قط . في العشرين حلقة التي جاءت خطابات عديدة تمتدح فيما جاء فيها ، أرسلت الرسائل كلها إلي صاحب العمل ، وولي نعمتنا ، عدا ثلاث رسائل ، فيها انتقادات وإشارات إلي أخطاء في المعلومات وبعض التواريخ المغلوطة ، مما يعني أن إحدي هذه الرسائل قد قرأ بتمعن ..

  وطوال ثلاثة أيام ، لم يكن ليّ سوي البحث عن وسيلة للرد المقنع علي ما جاء بالرسائل ، حرصت هدي علي عدم نشرها ، وكأن الخطابات لم تصل قط إلي الإدارة لكن بعد عدة أسابيع ، استدعتني هدي ومدتني بمظروف كبير ، وقالت باختصار :

– هذه بروفات ” رؤية الغد” .. اقرأها ، وصحح أخطأها كما جاء في ردك … لا نريد خطأ واحد في الكتاب …

   زجاجات الخمر ، وصناديق التفاح ، والهدايا المتراكمة ، وربما تهديد بأن كل هذه النعمة قد تزول عند ظهور خطأ واحد . دفعني كل هذا إلي ملازمة شقتي منعزلا عن العالم .. لأنتهي من مراجعة الكتاب سبع مرات قبل إعادته إلي صاحبة الشأن التي رمت بالمظروف فوق طرف من مكتبها الكبير ، وهزت رأسها بما يعني الشكر إلي أن جاءني صوتها عبر الهاتف :

– الكتاب جيد ، عدا سبعة أخطاء معلوماتية ما كان لمثلك أن يقع فيها .. شكراً .. مع السلامة

   سؤال : ماذا كان شعورك وأنت تري النسخة الأولي من الكتاب …

   الجواب : سؤال ساذج ، ويحتاج إلي إجابة أكثر سذاجة ، وهل يجب أن يكون هناك شعور في مثل هذه الحالات . لنقل أنني لم أشعر بشيء .. بالمرة .. إذا أردت أن يكون هناك انطباع فهو التعود , الأكثر , بدت النسخة غريبة عني تماما , وأنا أراها, لم أشأ حتى أن أتصفحها , لأرى ما بداخلها , هل توجد كلمات في سطور , وبعض الصور , ومقدمة , وكلمة غلاف , مثل كل الكتب , أم أن هذا قد تم مسحه , إذا كان قد حدث ذلك , فقط في ذاكرتي ’ لذا فإنه لم تكن لدي أي مشاعر تجاه الكتاب , لامعة , ولا حارة , لم أمصمص شفتي مثلما تفعل بعض النساء عند الدهشة .. السبب إنني لو أحسست بأي شيء , فالنتيجة ستكون سيئة , أشبه بمن يفيق من التخدير كي يتألم بأعلى الأصوات , فلا يستطيع أحد أن ينقذه , كل ما فعلته أن شرعت في كتابة حلقات جديدة , أنا صاحب فكرتها , تحمل عنوان ” الشرق والغرب . صراع بلا نهاية ” , قالت هدى وهي ترى الأربع الأوائل من هذه الحلقات :

–         سأعرضهم على هيئة التحرير … انتظر .. لا تكمل الكتابة …

    ولأول مرة لم أطيعها , استكملت الكتابة , وانتهيت مع ستة عشر حلقة في عشرة أيام .. اكتشفت أن الغيظ هو أشد تأثيرا من الخمر , وإنني أحاول أن أثبت إنني أستطيع أن أكتب , وأن هذا الممنوع من نفسه , يمكنه أن يفعل شيئا …

   استدعتني هدى عن طريق الهاتف :

–         تعال بسرعة .. عندي خبر عاجل من أجلك .

   لعل إدارة التحرير وافقت على كتابي (هـ ) الجديد , سوف تكثر النعم المنتظره التي ستهل علي , طرقت بابها بأدب , أطلقت عليها تحيتي المعتادة , وجسدي كان ينتفض , مدت لي بصحيفة أجنبية , وقالت :

–         أنت تجيد الإنجليزية .. أليس كذلك ؟

   لم أرد عليها , بدأت في قراءة عرض للكتاب في صحيفة أمريكية , سألت :

–         خيرا … ؟

   ردت : هناك عرض بترجمة الكتاب , ونشره في صحيفة ” هارد تايم ” .. ومطلوب منك اختصاره إلى النصف [ وبحروف ثقيلة قالت : بالإنجليزية ] …

   وصار عليّ أن أدبر اثنتين وسبعين ساعة كل يوم لأنجز كل ما هو مطلوب مني , مراجعة الكتاب , واختصاره إلى النصف , ودفعه إلى قسم الترجمة في المؤسسة , ومراجعة البروفات التي ترسل لتوها إلى إدارة الجريدة الأمريكية , وفي الوقت نفسه لا أتوقف عن كتابة فصول أخرى من الحلقات الجديدة .

سؤال : هل تعرف أن الصحف الأمريكية تدفع مكافآت مجزية بالدولار مقابل نشر هذه الكتب في حلقات ..؟

الجواب : أعرف كل شيء … قلت لك إنني كنت أفعل مثل الكومبيوتر , قبل أن يصل النت بشكله الحالي . كنت أدوس على زر ” مسح ” دون أن تنتابني أي مشاعر .. لم يكن عاصم النيال رجلاً فظاً , ولا غليظا , ولا ناكرا لحقوق الآخرين , جاءتني مكافأة على ما أديته من عملي , وذات مساء , سألت نفسي أسئلة كثيرة , وتوصلت إلى إجابة مقنعة للغاية …

   ما فائدة الاسم .. أنا أؤدي عملا , وأنال عليه أجرا .. وقد ارتضيت لنفسي بهذا النوع من العمل , هو عمل بمقابل , مثل كل عمل آخر . له مقابل مادي , هل يكتب الطبيب على بطن المريض , إنه الذي أجرى له العملية , هل يوقع المهندس على باب العمارة إنه صممها , هل يعرف أحد منا , من هو الذي صمم الهرم و أو نحت تمثال  رمسيس . أو بنى برجي التجارة المنهارين أمام الأطراف البعيدة للمحيط الأطلنطي ؟

تعليق : إذن , اقتنعت مع مرور الزمن , وزيادة الإغراءات التي تحصل عليها بأن موقفك صح .. ؟

إجابة : أبدا , لم أقتنع ، بدليل إنني الآن فيما يشبه لحظة الاعتراف , تسألني , فأجيب, لمجرد إنني أحسست أن مغفلا جديدا سوف يدخل هذه المملكة المليئة بالمتناقضات,

تعليق آخر : لعلك خائف من أمثالي أن يحلو مكانك , لأن ظروفنا أسوأ , ولأن قدراتنا أكبر …

إجابة : ربما نعم , لن أكذب عليك , ولا على نفسي , في مثل هذه اللحظة , لعلها اللحظة الأكثر صدقا في حياتي , أنا أعيش في الظل , ويعيش عاصم النيال في النور الحقيقي , يحصل على عائد كبير , أكبر من هذه الدنيا , لو صنعنا حزاماً من الأوراق المالية التي تأتيه من كافة الاتجاهات شهريا , ولففنا هذا الحزام حول الكرة الأرضية , لاستطاع أن يحوطها مرتين , أنا لا أحسده , فهو رجل كريم , يمنح من حوله الكثير من مكاسبه , أي إنه يقتسم معهم الكعكة , ومع ذلك فإن الحزام الذي أخبرتك به يمكنه أن يلف حول الأرض مرتين .. لكنني أحس أنه يحتفظ في جعبته ببعض من مجد أستحقه , فالنقود قد صرفتها , لكن المقالات موجودة , والكتب تحمل اسمه , وغدا , أو بعد عام , سنموت , ولن يعرف أحد أن لي نصيباً من هذه الكلمات المكتوبة .

   لم تسألني عن الجوائز , وهو سؤال توقعت أن تطرحه , فهو الشيء الذي يحزّ في نفسي , أرجوك أن تسألني عن الجوائز , إنها تغيظني , اسألني إذا كنت تود أن تعرف حقا .

سؤال عن الجوائز …

إجابة : منذ ثلاثة أعوام , كان الأستاذ , كعادته , في رحلة إلى أقصى الأرض , كان عليه أن يغيب عن مكتبه , وطنه , الذي يحمل اسمه , دون أن يشاهده الأقلية , وكان على هدى أن تدير كل شيء , كأنه موجود , ولما لا , وهو موجود عبر التليفونات الدولية , والاتصالات , والبريد الاليكتروني , اعتدنا على هذا الإيقاع من الحياة , لكن يبدو أن مكالمة مهمة جاءت إلى هدى . استدعتني على وجه السرعة :

–         تعال معي .. يريد الأستاذ أن يكتب سيرته الذاتية , ليلقيها في كلمته إلى الجامعة ..

   سار أمامي , وفتحت باب الأستاذ , الذي أتشرف بدخوله لأول مرة في حياتي , هل لك أن تتخيل المفاجأة التي تصيب رجلا اقترب من الخامسة والخمسين يومذاك , أم أدعك تتخيلها , سأقول لك ماذا هناك في كلمات تلغرافية مختصرة , حتى أعيد على نفسي هول المفاجأة , وصدمتها , مكتب من الخشب , إذا وقفت أمامه يكون الجالس على الناحية الأخرى , على مسافة ثلاثة أمتار , نصف بيضاوي , عليه أعلام صغيرة تمثل كافة البلاد التي زارها , في الكرة الأرضية التي يمكن أن نلف دخله حولها بحزام , وعلى الجدران حزمة من الصور للأستاذ وهو يجري حواره مع رؤساء هذه الدول , يبدو مبتسما , وهو يوجه عينيه إلى المصور , مؤكدا أنه كان هناك , حريصاً على مصافحة الرئيس الذي يقابله , بدت الغرفة الأقرب إلى قاعة كأنها تضيق بكل هذه الصور , وغيرها , وبأطقم المقاعد المتناثرة بشكل هندسي يعكس ذوق هدى الرفيع , والتي لاحظت دهشتي , وهي تبحث عن أوراق يجب أن أخذها لأكتب السيرة الذاتية للأستاذ , قالت :

    ـ غرفة جميلة … أليس كذلك ..؟

   تمتمت : هذه أول مرة أدخل هنا ..

ببرود رددت : معقول …

بدهشتي قلت : لم أتخيل إنها بهذه الفخامة . تليق بالأستاذ فعلا

   كانت في عجلة من أمرها , وعليها أن تجد وريقة بعينها , كي أستوحي منها كلمة الأستاذ التي يجب أن تصله خلال ساعة , راحت تبحث , بينما اقتربت عيناي من إحدى الصور , أو لعلها سقطت بشكل متعمد على كتابي الرابع ” صدمة الغد ” وهو بين يدي الملك , بعد أن أهداه إليه الأستاذ , شيء ما دفعني أن أقترب من الصورة , لأبحث عن اسم المؤلف المكتوب على الغلاف , شيء ما جعلني أتصور أن الكتاب قد يحمل اسمي , أو يحمل اسمينا بالاشتراك , لم تر عيناي سوى ” عاصم النيال ” , وصورته في الطرف الأعلى من الغلاف , عاجلتني هدى :

–         هذه هي الأوراق …. خذها …

     وكأنها راحت تتعجلني لأخذها , وأخرج من تلك المملكة , فجأة , دق جرس الموبايل , الموجود فوق مكتبها ، أسرعت حاملة الأوراق إلى الخارج , وتركتني في دهشتي , حاولت من جديد أن أتأكد من الاسم الموجود على الغلاف ” صدمة الغد ” لكن قبل أن أفعل , وقعت عيني على ركن الجوائز , فاستحققت أن أندهش أكثر … شهادات وكؤوس , وأوراق , وصور للأستاذ يستلم الجوائز , ومصافحات لكبار المسئولين , وصك من الذهب مخصص لتكريم صاحب الكتاب الخامس ” انهيار الأمم ” ثم الأستاذ يبتسم بسعادة , وهو يعرض أمام المصور , الجائزة الكبرى التي نالها عن ” سقوط البروج المشيدة ” .

   وسط الرنين المزعج لهدى , وهي تناديني من خارج القاعة الملكية , ثم ترد على هاتف آخر جاءها , لم أر سوى اسم واحد فوق هذه الجوائز , هو عامر مفتاح , بدت الصور كأنها مرآة تعكس وجه شخص لم أعد أعرفه , في الخامسة والخمسين من العمر , يقف وسط الرؤساء والملوك , يصافحهم الواحد تلو الآخر , ويمنحهم كتبه ومؤلفاته …

   أيقظتني الملعونة هدى من غفلتي الصغيرة العميقة , وهي تصرخ فيّ بدون حرج أو مراجعة :

–         الأستاذ يتعجل الكتابة … يريدها خلال ساعة …

   بدت كأنها تتعمد أن تطردني من هذه الجنة المسروقة , في أدب بارد , كأنها تستعطفني أن أكتب , وأنا أنظر إليها في عتاب . تغير أسلوبها في معاملتي , فجأة , وضعت التليفون المحمول جانبا , وقالت :

–         معذرة يا أستاذ عامر .. كما ترى .. أنا وحدي اليوم , والمطالب كثيرة …

سؤال : أتوقع شيئا مهما , وأنت تكتب السيرة الذاتية للأستاذ , أليس كذلك …

الجواب : ألم أقل لك إنني أخاف منك , أنت صورة جديدة , ووقحة مني … فعلا , حدث هذا … عندما عدت إلى مكتبي , طلبت من سكرتيرتي , روضة , أن تغلق كل أبواب الدنيا دوني , وأن توصد الباب حتى أفتحه , وطوال ساعة كاملة , لم يكن في غرفة مكتبي سوى عامر مفتاح , يكتب سيرته الذاتية , في أبلغ ما وصل إليه من عبارات , ومفردات لغوية , تحدثت عن ُكتاب الفكر الاشتراكي الذين أثروا فيّ , وعن العلقة الساخنة التي طالتني , وأنا في مظاهرات عام 1968 , وعن الغرف الضيقة التي عشت بها , وعن نجاة التي خطبت لعيد في قسم التاريخ , دبر لها مسكنا , وحياة أفضل , وعن سارتر الذي جعلني أفهم الحياة أفضل , وعن روايات دوستويفسكي , وأفكار البيركامي , وسيزيف الذي لم يتوقف حتى الآن عن صعود الجبل حاملا صخرته , ثم نزوله كي يأتي بها مرة أخرى وهو يعلم إنها سوف تسقط , وتكلمت عن مؤلفاتي الحقيقية الخمسة ابتداء من ” رؤية الغد ” , وحتى كتابي التاسع ” سقوط صدام أم سقوط الوطن ” ,

   وجدت قلمي  ينسال , لاعترف إنها كتبي , لأول مرة … طرقت روضة الباب :

–         السيدة هدى تتعجل المقال ..

   صرخت في وجهها :

–         لم أنته بعد …

   مرة أخرى قالت , بعد قليل : هات ما كتبته … أطبعه …

صرخت : لم أقل بعد كلمتي الأخيرة …

   يبدو إنها فهمت , سلمت المقال منقوصا إلى روضة , التي أرسلته لفورها عبر البريد الاليكتروني , ورحت أرتجف , تمنيت أن تراجعه , أو أن تراجعني , وألا ترسله , ورأيت مستقبلي الأسود , وأنا موقوف عن العمل , مطرودا من المؤسسة , مغضوبا علي لأنني تجرأت , وفعلت ما فعلته , واعترفت ببعض الحقيقة , سوف يكتشف الأستاذ أن السيرة التي ذهبت إليه كي يقرأها فخورا تخص شخصا آخر , لا يعرفه , وأن ذلك قد يوقعه في مشاكل عديدة , قد تدفعه إلى إلغائها , وهو الذي يعتمد عليها بقوة , لكنه سيضطر إلى أن يلغيها , ففيها كثيرا مم يعيبه , وسوف يتصل بهدى عقب الحفل , لاعنا أسلاف أجدادي وأخلاقهم , آمرا بطردي بلا عودة , والاستعانة بشخص آخر من مئات الموجودين في المؤسسة الذي يعرفون إنني الكاتب الأول للأستاذ .

   في العاشرة مساء , ظهر رقم هدى على هاتفي , فارتج كيان الهاتف من أصابعي المرتجفة , وأنا أتوقع تسوقولي حياتي , أغلقت عيناي , كي أتقبل مصيري المنتظر , وسباب لم اسمعه من قبل في حياتي , اختنقت كلمة ” ألو ” في جوفي ,حين جاءني صوتها :

–    شكرا يا أستاذ .. الأستاذ يشكرك … سوف يتكلم إليك بنفسه , صباح الغد … الكلمة كانت رائعة .. نالت تصفيقا حادا … أنت عبقري يا أستاذ …

ليلتها اكتشفت لأول مرة أن لغتنا العربية عاجزة عن أن تعبر عن المشاعر المتناقضة التي تصيب شخصاً مذبوحاً , في مثل حالاتي , توقع أن يقصوا له رقبته بمقص عملاق , فإذا بهم يضعون فوقها أكليلا من الكذب والنفاق ..

يا إلهي .. سرق عاصم النيال سيرتي الذاتية , واستعذبها , ونال بها نجاحا إضافيا , ونسبها لنفسه …

   بعد مكالمته اللطيفة معي صباح اليوم التالي , وهي المرة الوحيدة التي سمعت فيها صوته في الهاتف , قررت أن يصير اسمي , وإلى الأبد , عاصم النيال ,دون أن أذهب لأدون ذلك في السجلات المدنية , وبدأت أكتب بشخص جديد مختلف تماما عن عامر مفتاح الذي طردته من جعبتي .

 ***

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات