مذبحة القلعة في ضمير الأدب والتاريخ

07:12 صباحًا الخميس 28 فبراير 2013
سماح أبو بكر عزت

سماح أبو بكر عزت

كاتبة بجريدة الوطن المصرية ومجلة العربى الصغير الكويتية

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الدجى يحضن أسوار المدينة 

و سحابات رزينه
خرقتها مئذنة ….
و رياح واهنة
ورذاذ ، و بقايا من شتاء
***
…. و تلاشى الصمت في وقع حوافر
و ترامى الصوت من تلّ لآخر
في المقطّم
و بدا في الظلمة الدكناء فارس
يتقدّم .. !
و بدا في البرج حارس
و جهة في المشغل الراقص أقتم
متجهّم !
ثمّ نّت في فراغ البرج صيحه
ثمّ دار الباب في صوت شديد
باب قلعة
فيه آثار و ماء و صدأ
و اختفى الفارس في أنحائها ،
صاعدا يحمل ” للباشا ” النبأ
” المماليك جميعا في المدينة ! ”
***
ثمّ يمتدّ السكون ،
و الدجى يحضن أسوار المدينة
و سحابات رزينه
خرقتها مئذنه …
و رياح واهنة
تتلوّى في تجاويف الحواري
حيث ما زال المنادي ،
يتلوّى في الحواري ،
راجفا في الصمت .. ” يا أهل المدينة :
في البكور
سوف يمضي جيش ” طوسون ”
ابن والينا الكبير
للحجاز
لقتال الكافرين الخارجين
عن موالاة أمير المؤمنين
ساكن البسفور ، حامي الأستانه
وطلول شركسية
ودمن ..
ضيعت أنسابها أيدي الزمن
وعفن ،
وبيوت ، وصخور ، وتراب
نام فيها الجوع واسترخى الذباب
وصلاة خافته
والحواري ساكته
غير شحاذ يغني للقلوب المؤمنه
ورياح واهنه
تتلوّى في الحواري الحجريه
ثم تمضي في دروب الأزبكيه
في مياه البركة الخضراء تهوي
حيث يبدو قصر مملوك جميل
روع الافرنج في يوم طويل
عندما شدوا الخيول  
فوق صحن الأزهر المعمور !

وأمين بك
آه هذا الفارس الشهم النبيل
قال : (( هيا يا جنود الله يا أهل المدينه
أنا منكم ودمي من قمحكم،
وجراحي قطرة من جرحكم،
وقراكم موطني . اني غريب
قد رعاني ذلك الوادي الخصيب
فانهضوا وامضوا معي
نغسل العار يكأس مترع
من دمائي ودماكم !))
آه .. ما أروع أصوات الجموع
عندما سارت اليه كالدموع
(( يا أمين بك ! أنت منا وتربيت هنا !

ونباح من بعيد ،
من بعد
يختفي .
في الصباح الراجف
وتدق الشمس ابواب المدينه
(( يا كريم .. ))
قالها السّقا على بيت قديم
ويموج السوق بالذكر الحكيم
ويحيّي الناس درويش صبوح
تحت يمناه تدّلت مبخره
تنفخ السوق غيوما عاطره
ثم يمضي ويصيح
(( يا كريم ! ))

خلفها حزن عريق
صوت بوق !
ـ (( عسكر الباشا ! )) وينسد الطريق ،
بخليط ،
من بلاد الأرناؤوط
وبلاد الصرب ، والأتراك .. من كل البلاد
ـ (( وسعوا يا ناس للركب ! )) وينسد الطريق
ويثيرون الغبار
عالم يركب بغله
تتهادى في وقار
نقلة في إثر نقله
تقصد القلعة للمحتفلين
والمماليك بدوا فوق الخيول العربيه
بالثياب الموصليّه
والفراء السيبريّه
ببقايا عزّهم .. مثل الشهب
يغصبون الابتسام
ويدارون الغضب

***
وتهادى الركب للقلعة هونا
يصعد التل إلى القلعة هونا
صوت بوق !
ثم رنت في فراغ البرج صيحه
ثم دار الباب في صوت شديد
باب قلعه !
فيه آثار دماء وصدأ
ومضى كل المماليك يغذون الخطى
ويثيرون الصدى
بين أسوار وابراج رهيبة
دخلوا القلعة ثم التفتوا في بعض ريبه
فاذا بالباب يرتد هناك !!!
واذا صوت الجموع
صادر من خلف باب .. من هناك
(( اطلقوا ! ))
قالها قائد جند الارناؤوط
(( اطلقوا !))
فالنار تهوي كالخيوط
ويهوي كالحجر
ورصاص كالمطر
وجنود الاناؤوط
من قريب وبعيد
من عل .. من تحت .. أيدي اخطبوط !
تطلق النار ، فكم خرّ حصان
ملقيا سيده فوق الدماء
فترش السقطة الجدران دم
وألم
ويهوي كالحجر
والخيول
حمحمات وصهيل
ترفس الصخر فينطق الشرر
والصّخب

وأمين بك جانب السور وفي يمناه سيفه
هل يفيد السيف .. آه لن يفيد
(( يا مماليك أيا أبهة العصر المجيد
قد مضيتم ! ))
قالها واغرورقت عيناه بالدمع الوئيد
والتقت عيناه في عيني شهيد
ثم يعدو بحصانه ،
يعتلي السور ويرنو فاذا الأرض بعيد
ثم تلقي عينه دمعا على وجه الحصان
في حنان
(( يا حصاني طر بنا ))
وإذا الفارس في السحب عقاب
يتهادى شاهرا في الجو سيفه
معطيا للشمس أنفه
تاركا للريح أطراف الثياب
فاذا ما قارب الأرض قفز
والحصان
صار أشلاء على ظهر التلال
(( قد نجا منهم أمين بك يا رجال !))
قالها الناس على ظهر التلال
ثم يمتد السكون
وحصان يهبط القلعة وحده
مطرقا يمضغ في صمت حزين

أبيات رائعة للشاعر المبدع أحمد عبد المعطى حجازى سكنت قصيدته ( مذبحة القلعة )التى  تصف أبياتها مشهداً توقفت عنده ذاكرة التاريخ و نقوشه العتيقة .. مشهد مذبحة القلعة التى دبرها محمد على باشا للتخلص من المماليك . و التى وقعت احداثها يوم الجمعة السادس من شهر المحرم 1226 هجرية، الاول من شهر مارس عام 1811 م ..

محمد علي والي مصر

ها هى نقوش التاريخ تتذكر ملامح ذلك اليوم البعيد .. و تروى لنا قصة محمد على باشا مع المماليك الذين حاول كثيراً اسمتالتهم و الوصول معهم لتسوية ترضى الطرفين فاشترط عليهم ان يتخلوا عن الصعيد التى كانت مقراً لهم ، واشترط ايضاً ان يلتزموا بدفع الضرائب التى تفرض عليهم ، و بعد مناورات عديدة استطاع محمد على باشا ان ينتزع منهم الصعيد ، لكن بعد عودتهم للقاهرة و استقراراهم إنشق البعض منهم فحاول ان يسترضيهم و أغدق عليهم الأموال ، ويأتى عام 1811 لتكتب ايامه سطور نهايتهم .. ففى مطلع لك العام البعيد .. وقع فى يد الباشا رسائل من البكوات تفضح خيانتهم و عزمهم على الغدر به والإستيلاء على السلطة ، حينها قرر التخلص منهم نهائيا ، وحانت اللحظة المناسبة لتنفيذ خطته ، فأذاع نبأ إعداده لإرسال حملة عسكربة للجزيرة العربية بناء على أوامر السلطان العثمانى .. و تم إعداد الحملة ، و دعى محمد على جميع المماليك لحضور الإحتفال بتقليد ابنه ( طوسون ) خلعة القيادة قبل سفره على رأس القوة العسكرية المتوجهة الى الحجاز لمحاربة الوهابيين ..

المملوك الناجي (أمين بك ) الذى هرب للآستانة

إهتم الباشا بكل تفاصيل الحفل وامر بتصميم مقاعد و ارائك خصيصاً له لها تجويف سرى يسمى (سحّارة ) فإذا ما بدأ الحفل و بعد ترحيب الباشا بهم وحفاوته الشديدة ، لم  يساور المماليك الشك فى ان يضعوا أسلحتهم فى هذه التجاويف وينصرفوا لأكل ما لذ و طاب  من صنوف الطعام ..

بدأ الموكب و سار المماليك تتقدمهم طليعة من الفرسان وابنة ( طوسون ) فى المقدمة و اجتاز الموكب ممراً ضيقاً ، عبر منه طوسون والفرسان ثم أغلق الباب من دون ان يشعر المماليك وهو عزل من السلاح ، كان وراءهم الجنود الأرناؤط الذين كانوا يعلمون أن إشارة البدء فى إطلاق النار هى إغلاق الباب ،  وأطلقت النار عليهم و قتل منهم ما يقرب من 470 مملوكاً فى  الممر الضيق و لم ينج منهم سوى (أمين بك ) الذى هرب للآستانة ..

تلك كانت شهادة نقوش التاريخ على مذبحة القلعة .. لكن ترى كيف رسم المؤرخون بريشاتهم واقلامهم .. لوحة مذبحة القلعة

فى كتابه ( الشرق الأسلامى فى العصر الحديث ) يسجل المؤرخ الاستاذ حسين مؤنس شهادته عن مذبحة القلعة ، فيلتمس العذر لمحمد على باشا فى تدبيره لها قائلاً ( كان الباشا مرغما حين دبر للمماليك المذبحة الشهيرة فى القلعة ، فقد تعذر عليه الاعتماد عليهم او الاطمئنان الى حل فى شأنهم فلم يكن له بد من الخلاص منهم على اى سبيل )

اما المؤرخ الشهير عبد الرحمن الرافعى ، فى حروف تتوهج بروح الشعر يتغلغل فى نفس الباشا و يبرر ما فعله فيقول

( يكفيك ان تصعد يوماً الى القلعة و ترنو ببصرك للأفق لتتضاءل القاهرة امامك ، إذ تراها امامك بشوارعها و ميادينها و قصورها و مبانيها ، اشجارها و بساتينها كرقعة صغيرة تكاد تكون فى قبضة يدك ، هكذا حين يشاهد الباشا من القلعة القاهرة امامها صامتة ، و يرى نفسه فى  ذلك العلو الشاهق ، تحف به الابراج و فيها المدافع متحفزة فاغرة أفواهها على المدينة الحزينة .. لا جرم ان تعتريه نشوة السلطة المطلقة فيبطش بمعارضيه و كل من يحاول الاقتراب منه ) .

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات