بالقرب من عبلة الروينى

11:57 صباحًا الثلاثاء 19 مارس 2013
حسن عبد الموجود

حسن عبد الموجود

قاص وكاتب صحفي من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

عبلة الرويني ضيفة ورشة الزيتون في أمسية تكريمية دعا لها الشاعر شعبان يوسف

المحرر: يكتب حسن عبدالموجود بورتريهاته الشخصية بلغة السينما وإيقاع الشعر وحبر القلب وعين المتأمل، لذلك وجدت هذه الصفحات صدى، سواء منا كقراء، أو من أصحابها، وإن قسا عليهم بذاكرته الحديدية التي تعيدهم لسير أولى، أو بفكاهة مصرية باذخة. هذا هو أحدث بورتريه عن الكاتبه (عبلة الرويني) التي احتفى بها أصدقاء العمر في ورشة الزيتون، في أمسية دعا إليها الشاعر شعبان يوسف:

الابتسامة تسبقها، الوجه الطفولى أطلّ علىّ لأول مرة فى 99 من وراء باب أخبار الأدب. كنت أجلس إلى مكتب زميلى حازم الحديدى حينما دفعت الباب، ودخلتْ محتضنة مجموعة من الأوراق ومبتسمة، موزعة الابتسامة بالقدر نفسه على الموجودين، وبالطبع عرفتها على الفور، ولكنها احتاجت إلى شهور لتبدأ معى حديثاً مباشراً. قال لى الروائى جمال الغيطانى إنها تعدّ ملفاً عن الشعر فى الجريدة، وطلب منى أن أتعاون معها، وأنجزت بصحبة زميلتى الروائية منصورة عزالدين الكثير فى هذا العدد الخاص، وفوجئت بالغيطانى يقول لى إنها لم تكف عن الثناء علينا، والإشادة بكتابتنا، فلم تتدخل تقريباً فيما كتبناه، ولكنى لا أنسى أبداً حينما دخلت عليها مبتسماً وأنا أقول لها “خلّصت حوار رفعت سلام”، وقالت لى “كويس جداً”، وقلت لها “على فكرة هو بيسلم عليكى جداً”، فردت ضاحكة “جايبلى سلام عصفور الجناين”. شعرت بالإحراج ولم أفهم، هل مشكلتها مع رفعت أم معى أم أن الأمر مجرد “إفيه” خطر على بالها؟!
كانت تختفى مثلما تظهر، ولو مرت شهور فإنها تعود كالمرة الأولى بنفس ابتسامتها الطفولية، كانت تهاتفنى فجأة لتقول لى إننى كتبت شيئاً جيداً، أو لتطلب منى مراجعة شىء يخصها لأنها لن تستطيع الحضور. لا أستطيع أن أقول إننى كنت قريباً منها مثل وائل عبدالفتاح أو محمد شعير، ولكننى كنت أشعر بصلة ما بيننا طوال الوقت، ولكنها أطفأت تلك الفكرة حينما هاتفتها مرة فى العاشرة والثلث مساء، وبعد السلامات سألتنى “فيه حاجة؟”، فقلت لها “كنت بسأل عليكى”، فردت “يعنى مصحينى من النوم عشان تسأل عليا بعد نص الليل”؟، وفى اليوم التالى لم تترك أحداً فى الجريدة إلا وحكت له ذلك الموقف، أننى أزعجتها بعد منتصف الليل. ظلت تلك العقدة معى حتى رأست تحرير الجريدة، واكتشفت أنها تسهر أحياناً، فقد كانت تتصل بى لتسألنى عن شىء يخص العمل فجأة فى أوقات متأخرة، وفكرت أن أذكّرها، ولكن كان شىء غامض يدفعنى إلى تأجيل ذلك، ربما خوفاً من أن تفهم الأمر بشكل خاطئ. لم أفكر فى الانتقام حقيقة، مع أنه كان مشروعاً.
فى منزلها، وأثناء عزومة أقامتها لطاقم الجريدة، كانت تراقب أى شخص يذهب إلى المكتبة، حينما يمسك أحدهم بكتاب كانت تقترب منه وتحدثه عنه، واكتشفت أنها لم تكن تفعل هذا لتعلّم أو لتتعالم، وإنما كانت تخشى أن يتسرب كتاب بدون أن تدرى، ويبدو أن صبرها نفد بسرعة معى أنا بالذات، لأنها جاءت إلىّ وقالت لى بشكل مباشر “رجع اللى فى إيدك يا حسن”. 

أحد الأعداد التي أصدرتها (أخبار الأدب) برئاسة تحرير عبلة الرويني: انحياز للثورة واحترام للمهنية

فى فترة رئاستها للتحرير أتيح لى أن أقترب منها كثيراً، فقد كنت أراها بانتظام، وكانت حواراتنا تمتد لأوقات طويلة. كانت مربكة جداً فى الحقيقة، فهى أولاً تتعامل باعتبارها المخرج الفنى الأول للجريدة. عذّبت الفنان محمد جمعة حتى استطاع إنجاز الماكيت الجديد، وعذبت الفنان إسلام الشيخ فيما بعد طويلاً فيما يخص رؤيته للماكيتات. كانت تركز على بعض الصفحات، التى تهتم بها بشكل شخصى، وهى فى الأغلب ذات علاقة بالفن التشكيلى. كانت تقترح وضع الصور فى أماكن معينة، وفى اليوم التالى ورغم تنفيذ رؤيتها إلا أنها كانت تبدى دهشتها بسبب ما تراه أمامها. ما هذا؟! أنا لم أطلب ذلك؟! هناك شىء أفضل بكل تأكيد؟! تخيل نفسك القارئ ووجدت هذا أمامك؟! من المؤكد أنك ستصاب بالصدمة؟! ماذا سيقول الناس عنا؟! يا خرابااااى، هناك شىء أفضل بكل تأكيد، وفوجئت ذات مرة أنها تسحب ورقة بيضاء من أمامنا وبدأت ترسم موضوعاً بالقلم الأسود كأنها تصمم ماكيتاً، وحينما أمسكت البروفة صاحت بعفوية “جميلة جداً”. عبلة لم تكن تتحدث عن نفسها أبداً.
ليس هذا فقط ولكنها كانت تأخذ القرار وترجع فيه ربما خلال خمس دقائق. مثلاً أنا أخرج لأبلغ الزملاء بقرار، ثم يخرج زميل آخر بعدها بدقائق ليبلغهم بالقرار الجديد، ثم يخرج الثالث، وينتهى الأمر باجتماع فى غرفتها تدافع فيه عن وجهة نظرها فيما يتعلق بالقرار الأخير تحديداً، وتؤكد أن الزملاء هم من دفعوها إلى تغيير رأيها، لأن المناقشة معهم كانت تفتح سككاً جديدة، وبالطبع كنا نبتسم، ومع التكرار نشعر بالغضب، ولكن لا فائدة لغضبك لأن ما يدور فى رأسها سيمشى فى النهاية. قالت لك ذلك ولكنها اكتشفت خطأها بكل بساطة، وهى لا تقبل بالخطأ وعلى استعداد للاعتراف به ولكن على حساب تحملك وصبرك وصحتك.
غضبها طفولى أيضاً. لا يمكنها أبداً مداراة انفعالها، وهى ليست من الأشخاص الذين يبتسمون لك، وهم غاضبون منك. ستجد الوجه الطفولى عابساً. عبلة صامتة صمتاً مرعباً، وستكتفى بإيماءة من رأسها لتحييك. ما الجرم الذى ارتكبته إذن؟! أنا لم أقتل صفحة من الجريدة؟! أنا لم أدمّر باباً؟! ولم أخط بقدمىّ المتسختين فى “البستان”؟ بالتأكيد هى غاضبة لأنها لم تر اسمك فى الجريدة منذ أسبوعين أو ثلاثاً. لأنك تأتى متأخراً بانتظام. هى ليست موظفة بالمعنى الذى يمكن فهمه من كلامى، ولكنها من الكائنات التى تستيقظ صباحاً جداً وتتخيل أن العالم بأسره ينبغى أن يفعل مثلها. حسنُُ سنجتمع، وتبدأ هى بالإمساك فى فريسة معينة تنتقيها بذكاء، فريسة لا تستطيع الفكاك، وتجمع بين الخطيئتين، خطيئة التأخر وعدم الكتابة لمدة طويلة، ولكن ستمر المشكلة لتتجدد فى أقرب فرصة.

الشاعر شعبان يوسف والكاتب بلال فضل أثناء أمسية تكريم عبلة الرويني

كان لديها أيضاً هاجس مرعب، هاجس صورتها. دائماً تتخيل أن هناك صورة لم تلتقطها عدسة فنان ستكون الأفضل. عدسة تلتقط روحها، كانت أحياناً تبتهج بصورة اكتشفتها فى أرشيفها، وتقول لى “أنا عاجبانى الصورة دى، أحسن من الكئيبة اللى بتتنشر، أنا أصلاً مش عايزة صورة ليا بس دى تمام جداً”، وتضع يديها لتخبئ جزءاً من الأعلى والأسفل، كأنها تقصها لتمنحنى إحساساً بأن هذا هو الجزء الذى سيُنشر وتسألنى عن رأيى، فأقول لها “جميلة جداً”، فتقول لى “بس هيا مش عاجبانى فى الحقيقة”. نعم؟! كنت أقولها فى سرى مبتسماً وأغادر.
ولكن دعونا نتحدث قليلاً عى عبلة التى أضافت إلىّ كثيراً على مستوى العمل. كتبت بورتريهاً عن حمدى أبوجليل صديقى التاريخى، ولم يكن فى ذهنى حقيقة أن أكمل. ولكنها أبدت إعجابها الشديد بما كتبته، وسألتنى لماذا لا أكرر ما فعلته؟ لماذا لا أكتب ذلك الجيل بتلك الطريقة؟! قالت إن هناك ضرورة للمزج بين حالتيهم الكتابية والإنسانية، وطلبت منى أن أبدأ ببعض الأسماء، ومن اختارتهم كانوا يناسبوننى تماماً، فقد قررت فى تلك اللحظة ألا أكتب إلا عمن أحبهم وأعرفهم جيداً. كنت لا أريد أن أكتب عن شخص مجهول بالنسبة إلىّ. لست مستعداً لمحاولات الاكتشاف على الأقل فى اللحظة الراهنة، البداية ستكون موفقة لو أنها كانت على مستوى حمدى. المعرفة تتيح لك أن تعبر عن أفكارك بسهولة. كما أننى أريد أن أنقل الأفكار التى تعلمتها من أصدقائى إلى الناس. كنت لا أخشى أمامها من فكرة أننى أكتب عن أصحابى لأنها تعرف قدرهم جيداً، وليس فى ذهنها تلك الحسابات الصغيرة التى تصيب البعض بالهوس. كنت أكتب وهى تبدى ملاحظاتها، وتطلب تعديلاً ما. كانت تدخلاتها فى الأغلب ودودة. كانت تهدف إلى تحسين وتعميق الصورة عن الشخص. قالت لى فى إحدى المرات، لم أشعر أنك تحب هذا الشخص. هناك شىء ناقص. ربما ذكريات. ربما تفاصيل غائبة لا نعرفها. تبدو وكأنك كتبته بدون رغبة منك. وهكذا أعدت كتابة البورتريه بالكامل. كانت تتصل بى لتخبرنى بمن اتصل بها ليثنى على ما كتبته، وبالطبع كان ذلك حافزاً إضافياً للمواصلة، ولكن بعد مغادرتها تابع معى المهمة ياسر عبداللطيف وأسامة فاروق. الإثنان الأكثر تحمساً لفكرة البورتريهات، وبفضلهما تطورت الفكرة إلى كتاب كامل عن جيل التسعينيات.
ما زلت أستدعى عبلة باستدعاء أغلفة الجريدة فى عصرها، الأغلفة التى صممها الفنان أحمد سعيد. كل غلاف يعبّر عن موقف. عن شىء جمالى. كانت الجريدة نصير الثورة فى ذلك التوقيت، وواصلت خطها فى دعم الدولة المدنية ضد دولة كفار قريش. أطالع عنوان “لا سمع ولا طاعة” على الغلاف، وأشعر بالسعادة لأننا قلنا لهؤلاء وقتها إنهم لا شىء. نحن لا نسمع كلامكم لأننا لسنا منكم ولأنكم لستم منا. غادرت عبلة مرفوعة الرأس، لأنها لم تعرف أبداً الانحناء.

حسن عبد الموجود يقرأ شهادته

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات