حامد ندا…سوريالي برتبة حكّاء شعبي

04:06 مساءً السبت 25 يناير 2014
محب جميل

محب جميل

كاتب و صحافي من مصر.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

أعادت الهيئة المصرية العامة للكتاب طباعة كتاب “حامد ندا..نجم الفن المعاصر” للناقد الكبير د.”صبحي الشاروني” في طبعة شعبية ضمن سلسلة فنون في مائة صفحة من القطع الطويل، وتعد مسيرة الفنان الكبير “حامد ندا” من أهم التجارب الفنية في الحركة التشكيلية المصرية؛ حيث استطاع أن يغير المفاهيم السائدة في الحياة التشكيلية المصرية إلى جانب مجموعة من كبار الفنانين والذين عرفوا باسم جماعة الفن المعاصر، وقد فاز بالعديد من الجوائز أهمها جائزة فن التصوير الزيتي الأولى من صالون القاهرة مرتين: عام 1957 ثم 1959، وجائزة التصوير الثانية من بينالي الإسكندرية عام 1959، وجائزة الشراع الذهبي الأول من الكويت عام 1975، وقد سجلت أعماله على 6 أشرطة تلتفزيونية ملوّنة بين عامي 1970 و1986، لكنه توفى قبل أن يتسلم جائزة الدولة التقديرية في الآداب والفنون.

تكوينات خصبة

      ولد حامد ندا في 19 نوفمبر عام 1924 في منزل يحمل طراز عربي أصيل بشارع (التلول) بحي الخليفة قرب مسجد السيدة سكينة بالقاهرة، والجدير بالذكر أن هذه المنطقة ذات طابع معماري من الطراز الخاص، ففيها المباني المملوكية والقصور التركية والأسبلة العثمانية وبعض المقاهي التي تعتم داخل المباني ذات البواكي العتيقة بالإضافة إلى مساجد الأولياء والموالد الشعبية. وسط هذا التناغم والتداخل بين الحضارات المختلفة والزخرفة المعميارية والثقافية وجد (ندا) حاله طفلاً يتجول بين الموالد الشعبية وخيام لاعبي السيرك وحلقات الذكر الانشادية والأراجوز وصندوق الدنيا.

والد (ندا) كان ميسور الحال ويعمل شيخا لأحد مساجد الحي، بالإضافة إلى كونه شيخًا أزهريًا مفوّهًا ومؤذنًا ذائع الصيت. كانت تلك الظواهر جميعها تلتقي في بؤرة الإدراك عند الفنان الطفل الذي ترفدت عنده ثقافتي الموروث والغير موروث أو المقدس والغير مقدس. لقد تربى الفتى في بيئة متنوعة الألوان البصرية والثقافية أقرب إلى (المتحف البشري) حيث المظاهر المتنوعة والمتناقضة بين التديّن والخلاعة بين حلقات الإنشاد وبعض الرقصات بين الثقافة الدينية والخرافات المتنقلة بين أفراد الحي، بالإضافة إلى أبطال السيرة الشعبية وأمجاد التاريخ.

العراف والقط، 1948 – 1989، للفنان حامد ندا

جماعة الفن المعاصر

في سنٍ مبكرة تمكنت موهبة (ندا) من أن تقدح زناد بندقية الفن المعاصر، فقام مدرس الرسم بتوجيهه إلى نقل أعمال كبار الرسامين في العالم، وقد أكسبته هذه المرحلة خبرةً مكنته من اجتياز اختبار القبول بمدرسة الفنون الجميلة العليا فيما بعد. التحاقه بالمدرسة الثانوية يعد (الحلقة المفصلية) في حياته الفنية حيث التقى بأستاذه (حسين يوسف أمين) في الفترة (1904-1984). في هذه المرحلة كان (ندا) أكثر فناني الجماعة شقاوة ومرحا بالإضافة إلى رسوماته الجديّة التي تعبر عن واقعه الاجتماعي بالحي الفقير المكلوم الذي كان يسكنه.

الطبعة الأولى للكتاب

بدأ نشاط الجماعة في البزوغ إلى النور والحفر بإزميل صغير في رتوش الحياة اليومية في منتصف الأربيعينيات بعد أن بدأ (ندا) جنبا إلى جنب مع سمير رافع، عبد الهادي الجزار، سالم الحبشي، وأحمد ماهر رائف وآخرين عرفوا فيما بعد نطاق واسع حتى أواخر الخمسينيات باسم (جماعة الفن المعاصر)، وقد بدأت هذه الجماعة أولى معارضها الفنية تحت ريادة (حسين يوسف أمين) في قاعة مدرسة الليسيه الفرنسية بالقاهرة عام 1946 حيث قدمت 190 عملا فنيا.

ربما كان الشغل الشاغل لدى جماعة الفن المعاصر هو تشكل الشخصية المصرية وكيف يمكن ادراجها في قالب الحركات الفنية المعاصرة مع الاحتفاظ بموروثها الشعبي. بالتركيز على أعمال (ندا) في تلك المجموعة نجد أنه قدم طرحا خاصا لثنائية (المرأة/الأنثى) في كونها بذرة الموجودات وسر الكون الشاسع التي تؤسس بمبتدأها لمركزيته.

بحسب الفنان التشكيلي الكبير (أحمد فؤاد سليم) فإن جماعة الفن المعاصر كانت تشترك في ثلاثة مصادر رئيسية مهمة: أولها التعبير عن الغيبي والميتافيزيقي تحت عباءة من نسيج محلمي أحيانا ودرامي أحيانا وقد يكون ميلودرامي أيضا. ثانيها الالحاح على فكرة الوجود والعدمية والعجز أمام سؤال الموت المصيري من خلال اختيار أشخاص ومخلوقات عبثية تتكون منها الصورة الكلية. ثالثها اختيار هيئة الرجل والمرأة على الدوام في وضعية بنائية قاسية وخشنة وغالبا ما تكون منفردة كما لو أن ذلك يمثل ثروة الفكر لدى الطبقة العالية من المجتمع.

يذكر أن رائد هذه الجماعة كان يجمع تلاميذه في بيت قرب سفح الهرم بالجيزة، ويوفر لهم خامات فنية من أقمشة وألوان زيتية وأوراق، ويقيم معهم حوارا ثم يتركهم للمارسة الإبداع المطلق مع القراءة المتواصلة.

روافد وأيقونات

ليكون الفنان متميزا عليه بأن يكون مختلفا في توجهه الفني ورافده المقرءوه، لذلك نجد أن (ندا) قد ركز في مرحلة دراسته الثانوية على استكشاف العالم المحسوس بأسلوب علمي، فغلّف نفسه بأعمال (سيجموند فرويد)، (ادلر)، (هيجل)، (شوبنهاور)، (نيتشه) وغيرهم من الفلاسفة بالإضافة إلى أعمال بعض الأدباء أمثال (كافكا)، (طه حسين)، (بولدير)، و(بايرون) وربما هذا ساعده في العمل مع بعض أدباء الخمسينيات في مجلة (الثقافة) التي أغلقت فيما بعد.

لقد أسهمت مرحلة التكوين الأولى في تشكل وعي حامد ندا وتفتح قريحته الفنية، فقد اختار أن يكون موضوع (حلقة الزار) الشعبي مسارا لنيل درجة الدبلوم في كلية الفن الجميلة التي التحق بها في منتصف الأربيعينات، وقد أحضر فريق (أبو الغيط) إلى مبنى الكلية ليقيم حلقة زار داخل قسم التصوير، ومع ارتفاع هديل الدفوف وصخب الحركات الهيستيرية، نال درجة الدبلوم بإمتياز عن لوحاته التي تتمحور حول حلقة الزار والسامر الشعبي.

سر الديك المنتفخ

ارتكز أسلوب (ندا) في بداياته منتصف الأربعينيات على التهويل والمبالغة والانتقال مما هو راسخ واقعي إلى ماهو أسطوري مُتشَكِلْ، ومن هنا يبدو أن الأيقونات الرمزية بتلك اللوحات لم تكن تستند على النسبة الذهنية الثابتة فيما عرف بمرحلة (التجسيد والتكتيل) التي جعلت من الأشياء كما لو أنها ماثلة في الحقيقة يمكن ملامستها بالإضافة إلى ضخامة أجساد الكائنات التي قد تبدو مربوطة بخيطٍ إلى الأرض كمحاكاة للكسل وثقل الوزن الذي بدوره يحيل إلى فقرهم المادي والفكري والمعنوي داخل هذه البيئة. من هنا يبدو أن الديك الذي رسمه في من الخمسينيات وكأنه معادلا للرجولة والفحولة! بما له من ترسيبات فكرية في ذاكرته المخزونة، ثم يتحول في النصف الثاني من الخمسينيات إلى رمزا للأحلام والآمال، حيث يصيح في أطراف اللوحات والشوارع كمنادٍ على الثورة. كأن هذا الديك الذي يتحور من لوحةٍ لأخرى فتارة على كتف إمرأة وأخرى فوق عنق مذياع وأخيرا كعقاب جارح. إن هذا الديك لهو أقرب في الأساس إلى كونه (تميمة إيمانية) مقدسة تختصر حيوات سابقة في بيئته الشعبية الفقيرة.

موقف من الحياة الشعبية

لقد رسبت البيئة الشعبية لدى (ندا) العديد من مفردات الغيبيات والتواكل التي وظفها فيما بعد في العديد من لوحاته في تعبير مفجع عن شخصيات تواكلت ولازمت أضرحة الأولياء، وقد رسمهم بشكل مجسم مصمت ككتل من الأخشاب والنحاس الصماء، ويبدو انهم فضلوا أن يعصبوا عيونهم ويديروا لنا ظهورهم في تعبير متقشف وخشن، مما يوحي في النهاية بتلك الحالة من التشاؤم والانغلاق، بالإضافة إلى التمائم والأوشمة والطواطم، والأحجبة، ولمبة الكيروسين الرمادية التي توزع قوالب باهتة ومتسخة من الظلال والأضواء على جنابات الزير المشروخ الذي يسرب مياهه ليل نهار. ناهيك عن مشاهد القبور والشواهد، والأبراص والقطط البلدي والسحالي في تعبير جنائزي حاد.

من جانبه يعلّق الناقد (إيميه آزار) على تلك المرحلة المؤسسة في حياة حامد ندا الفنية: “إن الشخوص الصماء تمثل أشخاصا لا أسماء لهم يحتضون أحلاما جسيمة ومقلقة، ومشروعات للمستقبل يقودها القدر ويأبى عليهم تحقيقها في تعبير ميتافيزيقي”.

1984، كرسي على قمة حارة حامد ندا

لكن (ندا) كان له رئيه الخاص بشأن تلك المرحلة حيث يرى تماسا خاصا جمع بين لوحاته ولوحات راغب عياد في التعبير عن الحياة الشعبية من حيث معالجة الشخوص، الموضوعات، والمفردات. ويتابع لقد صوّر راغب عياد بموهة لا تنكر واقع الحياة الشعبية المصرية، أما أنا فقد عُنيت بالغوص إلى ما تحت الواقع ما في نفوس سكان الأحياء الشعبية من رواسب لا تلبث أن تنعكس على سطح البيئة الشعبية وسلوك وجالها ونسائها، ويمكنك أن تتبين أيضا شخصياتي الشعبية –شخصيات عجر – ليس فيها اهتمام بتفاصيل القسمات أو الملامح أو بما يميز الأفراد عن بعضهم البعض، فأنا لا أصور زيدًا أو عبيدًا، لا أصور حدادًا أو نجارًا أو فلاحًا بل أصور الإنسان الشعبي. ولا أصوره لذاته بل لأبرز موقفا إنسانيا عاما. وتعنيني الدلالات الإنسانية من خلال رؤية تشكيلية لمجتمع تكالبت عليه الرزايا منذ أمدٍ طويل. لكن فيها شيئا ما أو ربما في الجو الكابوسي المحيط بها يجبرك على التعاطف معها كما نتعاطف مع شخصيات رواية (زقاق المدق) لنجيب محفوظ مثلا. لذلك يتضح أن العالم السيريالي عند (ندا) إفرازا ذاتيا دون أن سابق دراسة! فالقراءات السابقة لمخزون علم النفس والفلسفة والأدب مع تتبع خطوط الرسم لدى فناني العالم الكبار، قادته إلى سيريالية خاصة مصبوغة بنكهة شعبية.

كتالوج (المجهول لا يزال)

إن أهم ما تستقطبه لوحات حامد ندا هو عنصر الدهشة، وهو العنصر الذي ظلّ مشعا لدى جماعات الفن المتمردة في مصر، وبخاصة جماعتي الفن المعاصر والفن والحرية. لقد أصدروا كتالوجا فنيا بعنوان (المجهول لا يزال)؛ حيث تم توزيعه في معرض (حامد ندا) الخاص الذي أقامه عام 1959 بالقاهرة، وربما يعد هذا آخر عمل جماعي للفنانين المتمردين في مصر. ولندا مجموعة من الكلمات والرسوم داخل هذا الكتالوج (الكتيب المصوَّر).

انتقل (ندا) مرة أخرى في فترة الخمسينيات إلى تغيير أسلوبه في الرسم، وقد ساعدته مرحلة عمله كمدرس للرسم في أحد المدارس الإبتدائية على اكتشاف موهبة الأطفال في الرسم وألوانهم البدائية التي تقترب من حيز الواقع مما دفعه في النهاية إلى التخلي عن فكرة المنظور والقوالب الثقيلة المصمتة والملامح الخشنة. وتحول اهتمامه إلى الحيوية والآلية الحركية بدلا من السكون والصمت، وبالفعل تخلى عن التجسيم الإسطواني للشكل، مع إلغاء المنظور الهندسي والتخلي عن الإيهام بالبعد الثالث. وأصبح التسطيح هو المسيطر على منطق التشكيل.

وبحسب الناقد الكبير د.(صبحي الشاروني) فإن هذا التحول الذي طرأ على إسلوبه يرجع إلى ثلاثة عوامل أولها: معايشة رسوم الأطفال عندما عمل مدرسا بمدرسة أحمد ماهر الإبتدائية بالغورية في عام 1953، وثانيها: استفادته من معايشة الرسم الجدارية الفرعونية العتيقة في المعابد والمقابر بالأقصر خلال عام تفرغه في (مرسم الأقصر) التابع لكلية الفنون الجميلة منتصف الخمسينيات، أما السبب الأخير فيرجع إلى اكتشافه لفنون الإنسان الإفريقي البدائي عندما قامت البعثات الفرنسية بالوصول إلى قمة هضبة تاسيلي عام 1956 بأعماق الصحراء الجزائيرية.

مناظر طبيعية

عندما تولى (ندا) في إحدي السنوات الدراسية مصاحبة مجموعة من الطلبة للخروج من أجل رسم المشاهد الطبيعية التي كان يتقنها بأبعادها الكلاسيكية، خرجت إلى النور مجموعة من اللوحات الرهيفة الصغيرة التي تميل إلى التجسيم؛ حيث تم وضع الأشياء في أماكنها الصحيحة. أعطت هذه الخطوط حالة من التوهج والانسيابية والدفء، كما حافظت على ضربات الفرشاة والأقلام للخطوط المتوترة السريعة، كما تتميز تلك المجموعة بالتماسك وقوة التصميم. لكن بداية السبعينيات حملت انقلابا في السياسة المصرية صاحبه انفتاحا اقتصاديا، خضعت فيه الشخصية المصرية الهشة إلى تغيرات عدة يغلفها البعد الإقتصادي. ومن هنا أخذت البيئة الشعبية آنذاك شكلا مغايرا بتسريب بعض البوتيكات للكماليات التي لم تكن معروضة من قبل، مثال على ذلك الفتاة التي تعلق الملابس والأقمشة والصدريات المستوردة على مشاجب الغسيل، والتي ترقد أيضا مقوّسة الظهر على أريكة في وسط الصالة بوجهٍ معتم ينظر نحو الباب وينتظر الطارق.

المجهول الغرائبي

في المرحلة الأولى استطاع (ندا) أن يستغل الخلفية كحائط يرسم عليه بعض الزخارف البدائية ويملأ شقوقه بالعديد من الكائنات والفرائس المهملة كالزواحف، والسحالي، والأبراص، وغيرها. هذه الزواحف التي كانت ما ترتبط بجدلية الجنس والإخصاب في الموروث الثقافي الشعبي، بالإضافة إلى كونها رمزا للشر الكامن المكبوت داخل النفس البشرية. في المرحلة الثانية كان لاستخدام الديك رمزية كبيرة في حياته الفنية بين الفحولة والثورة، بالإضافة إلى القط وما له من رصيد ثقافي وشعبي عند العديد من المصريين، فهو بسبعة أرواح! وله طاقة كامنة عجيبة، يتلصص في خطاه، ويسيطر عليه التربص والصمت قبل الانقضاض على غيره. وعن مصباح الكيروسين يقول الناقد الفني (إيميه آزار): “يقوم المصباح بتحديد العالم المرئي. إنه يحدد مناطق الضوء والظل التي تنتمي لعالم فردي شخصي لتبرير غموض نظرة الفنان للعناصر، وغموض ما يجهله أو يمثل في ذهنه علامات استفهام. العالم الخارجي للإنسان الذي يصوره حامد ندا هو المكان الذي تتداخل فيه كل أنواع الغموض والعناصر التي لا تنتمي إلى الواقع. فالمصباح عند ندا يمكن أن نعتبره معادلا لسجن الإنسان”.

إيروتيكية ونساء

بدأ (ندا) في رسم المرأة في الأربعينيات على هيئة منفرة انتصارا منه لفكرة الفضيلة؛ ففي إحدى لوحاته المرسومة بالأحبار الصينية والتي أنجزها عام 1946 –ضمن مجموعة الشاعر السيريالي الراحل جورج حنين – تحت عنوان شمعة الظلمات، يمكن أن نجد المرأة شقية وبائسة ذات قدمين ويدين مفلطحتين غليظتين، وشعرها أشعث يميل إلى ساحرة شمطاء جاءت من عالم غيبي. يبدو حجمها ثلاثة أضعاف حجم الرجل الذي يقف بجانبها، والشمعة تشير إلى البؤس وقبح الطلعة، ثم يعيد ترتيب هذا المشهد ويوازيه بالصندل الخشبي (القبقاب)؛ حيث تتعمق الإحساس بالسخط والإحتجاج. لم تستقر رمزية المرأة عند هذه الصورة لدى (ندا)؛ فقد جعلها في أُمًا حزينة في الخمسينيات، ثم رمزا للخصوبة والتربة والوطن في نهايتها، ثم جرّدها من الثياب في السبعينيات، ثم إمرأة عصية تقص شعرها ورتدي الملابس القصيرة وتقفز من النشوة والحلم في الثمانينيات.

تبدو النساء في معظم لوحاته نحيلات الخصر، كبيرات الأرداف في شكل مسطح ويشغلن مساحة كبيرة من تفاصيل اللوحة بالإضافة إلى صبغة جنسية خاصة رافقت أعماله في الستينيات في اتجاه قوي وواضح نحو الرموز الجنسية (الإيروتيكية) من خلال تحيق إمتاع جسدي مخلوط بحس فكاهي.

بوليفونية اللوحة

أصيب (ندا) بضعف السمع في الفترة الأخيرة من حياته مما أدى إرتفاع الصوت داخل لوحاته الفنية! فبعد صياح الديك، ومواء القطط، والمياه المنسابة من الزير، تطورت الأصوات لتخرج من إمرأة تغني في الميكريفون، أو صهيل جواد يسابق الريح، ثم الجرامافون والبيانولا كصناديقٍ للموسيقى الصاخبة. لكأنه أراد أن يكون الصوت المرتفع من تفاصيل اللوحة هو المسيطر على ذائقة المتلقي كلما إقترب من مرحلة الصمم الكلي.

تميزت مرحلة الثمانينيات لدى (ندا) مجموعة من الرسوم حول حفلات الديسكو الصاخبة، بالإضافة إلى تحوله لمراقب لحركات الناس وأفعالهم كلما أشتد به الصمم. كان هذا الصمت يسمح له بالإنصات إلى ما يموج داخل نفسه، وما يختلج في أعماقه من همس رقيق، فتأتي الصور والأشكال بحضورها التام وحيويتها المعهودة. إنها حالة كاريكاتورية تقلب الجد إلى هزل، وقد انعكس على لوحاته فزادت جرعة السخرية فيها، وقد لاحظنا أن فقد السمع الذي أدى إلى ارتفاع الضجيج والصخب والأصوات العالية في لوحاته، حوَّل أيقونة الديك إلى صيَّاح معظم الوقت، بالإضافة إلى ظهور عازفوا الأبواق النحاسية والجرامافون في مقدمة اللوحات.

في معرضه الأخير أصر (ندا) على تتمتع لوحاته بالعنصر الصوتي إلى جانب الصخب اللوني، ويتم توزيع الألوان ما بين جسدٍ وصوت، وأما الجسد فقد عثر عليه في تجسيم المرأة المتناسقة الأعضاء الريّانة صاحبة القد الرمانيّ في عمر الربيع، تنحني من أول اللوحة حتى آخرها، لتكشف عن جمال جسدها وأسراره، وأما الصوت فقد بدا في استخدام آلات النحاس الموسيقية والتي تبدو ملتوية ذات أسلاك ملتفة حول بعضها إلى ما لا نهاية. إنه عالم غريب يغلب عليه اللون الأزرق، يستمد قوته من مركبة الأحلام ولا يخضع لقوانين الجاذبية الأرضية. لوحات تشف عن توق إلى الحياة وبهجتها بالرغم من المعاناة والألم؛ حيث الأنثى تؤسس لمركزية اللوحة ويأتي الرجال في طور كاريكاتوري هزلي لا يخلو من التهكم والسخرية، حيث كل المفردات توابع والمرأة تستقر في بؤرة اللوحة.

نهاية درامية

توفى حامد ندا في 27 مايو عام 1990 بعد أن اصطدم رأسه في بالقائم الحجري لباب غرفة التليفون في المرسم الذي يقيم به وسط طلابه بمبنى وكالة الغوري الأثري بحي الأزهر، عندما انقطع التيار الكهربائي في أحد الليالي عن مصر بأكملها، مما أفقده وعيه وشجت رأسه. لقد كانت حياة حافلة مليئة بالإنجازات والمحطات يقول عنها المستشرق (جاك بيرك) – أستاذ علم الاجتماع بكوليدج دي باري- ” إن الفن الذي يخلو من السيريالية لا يعتبر فنا على الإطلاق، إنه يعني أن التعبير المعنوي مهما كان نوعه واتجاهه لا يمكن فصله عن وجود الفنان الأساسي، إذا كان هذا الفنان صادقا مع نفسه. إن هذه الصلة مع الأساس هي –إلى حدٍ ما- صلة مع الوعي الباطن، وبالتالي هناك شكلين للمطلق؛ أحدهما يستخدم الأشكال التابعة من الواقع اليومي والثاني يخلق أشكالا تكمن في ذات الفنان وأحاسيسه، وتكون ذات طابع أكثر انطلاقا. إن حامد ندا يسير على الاتجاه الثاني بالرغم من شعوره بإستحالة تحقيقه، فالإطلاق المطلق هو الذروة في التي يهدف الفن المطلق إلى الوصول إليها عندما تؤمن الصلة مع جميع الأشكال العادية من هندسية وغيرها”.

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات