عن المكسيك والشعر و….فلسطين

06:30 مساءً الإثنين 29 أبريل 2024
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

بقلم أحمد عمر زعبار (شاعر وإعلامي تونسي مقيم في لندن)

الإثنين 18 مارس 2024

هي زيارتي الثانية إلى المكسيك.. زيارتي الأولى كانت سنة 2019 بدعوة من مدير مهرجان

Ignacio Rodríguez Galvánخورخي كنتريراس هيريرا الذي كنت قد تعرفت عليه قبلها بسنة خلال المهرجان العالمي للشعر بهافانا -كوبا-  

انطلقت الطائرة من مطار هيثرو بعد العاشرة ليلا بقليل , الرحلة 12 عشرة ساعة متواصلة, وصلنا الثلاثاء 19 مارس الساعة الثالثة صباحا ( فارق التوقيت بين لندن ومكسيكو سيتي 6 ساعات) الرحلة كانت مريحة رغم أني لم أستطع النوم ولا القراءة بحكم أن الجميع كان نائما وفضلت أن لا أشعللمبة الضوء فوق رأسي حتى لا أزعج المسافرين النائمين في كراسيهم قريبا مني. 

عند الوصول وقبل النزول بقليل أسمع صوتا يناديني.. ألتفت ورائي.. أتفاجأ بوجود الصديقة الشاعرة الفلسطينية المقيمة بتركيا الإعلامية أسماء الحاج.. تعرفت على أسماء خلال المهرجان العالمي للشعر في كوبا سنة 2018 وأصبحنا أخوين/صديقين من أول لقاء.. عفوية وطيبة وتلقائية ورغم أنها إعلامية مرموقة فإنها بقيت نقية وبعيدة عن التكلف والتصنع تنكشف لك دواخل شخصيتها من تلقاء نفسها ودون عناء.. كانت مفاجأة سارة فعلا خصوصا وأن السيارة التي تقلنا الى النزل تأخرت وكان علينا أن نثرثر بلا نهاية وبحماس حتى أني لم أشعر بالتعب مطلقا ولا بالرغبة في النوم رغم أني لم أنم لأكثر ثلاثين ساعة (من الإثنين صباحا إلى الثلاثاء صباحا إضافة إلى 6 ساعات فارق التوقيت).

الثلاثاء 19 مارس 2024 الساعة منتصف النهار

في النزل تمت الإجراءات بسرعة.. وضعت حقيبتي في الغرفة ونزلت لأستكشف الأماكن والشوارع القريبة.. مدينة تزايوكا حيث يقام المهرجان شوارعها تشبه إلى حد كبير من ناحية الهندسة والنظافة وواجهات المحلات شوارع تونس ومصر والمغرب والجزائر.

عدت إلى النزل بعد حوالي الساعة لأجد أسماء الحاج في البهو, اتفقنا على الخروج لشراء بعض الأغراض.. دخلنا محلا مقابل النزل لشراء بعض المكسرات, كلانا يلبس الشال الفلسطيني, عاملتنا صاحبة المحل بود واضح وبفرح.. سألتنا: أنتما من فلسطين أجبتها أنني من تونس وأخبَرَتْها أسماء أنها فلسطينية تقيم في تركيا.. وحين جاء دورها للتعريف بنفسها تفاجأتُأنها يهودية مولودة في كيبوتس في “إسرائيل” لكنها أكدت أنها مع السلام وأن ما يحدث من قتل للفلسطينيين أمر غير مقبول وأن الصراع عبثي,اسمها دماريس, عاملتنا بود فائق وغير مصطنع.. تركنا ما اشترينا معها في المحل وواصلنا مشوارنا ثم عدنا لأخذ الأغراض فاستقبلتنا بود ظاهر ومحبة لا تكلف فيها.

بهو النزل السابعة مساء

أخبرني مدير المهرجان خورخي كونتراريس هيريرا أنه ذاهب إلى مطار العاصمة مكسيكو سيتي التي تبعد حوالي الساعة عن تزايوكا لاستقبال الشاعرة الفلسطينية د. حنان عواد وكان يحمل معه العلم الفلسطيني من الحجم المتوسط (متر ونصف على نصف متر).. فخورخي مناصر للقضية الفلسطينية ولكل قضايا التحرر وكان منذ بداية المواجهة بين غزة وكيان الاحتلال قد عبّر أكثر من مرة على صفحته في الفايسبوك عن دعمه لفلسطين وغزة وكنت قبل انطلاق المهرجان بأشهر حين دعاني للحضور اقترحت عليه دعوة الشاعرة د. حنان عواد مستشارة المرحوم ياسر عرفات القائد التاريخي للشعب الفلسطيني وكانت النية أن نؤكد حضور فلسطين وقضيتها في المهرجان.. أخبرت د. حنان بالأمر فوافقت تلقائيا وكان أول ما قالت: نحمل فلسطين معنا سيكون لفلسطين حضور أساسي وقوي في المهرجان.. تعرفت على الشاعرة د. حنان عواد خلال المهرجان العالمي للشعر في مديين كولومبيا.. مناضلة مختلفة, من طينة فلسطينية لا تشوه, لم تغيرها السياسة ولم تغرها المناصب, مازالت كيومها الأوّل في مشوار النضال حماسة ونشاطا, أكثر من نصف قرن من النضال, لا تفارقها فلسطين ولو لدقائق يكاد يكون انشغالها الوحيد في حياتها شعبها ووطنها, لم تخطئ بوصلتها ولم تتنازل ومازالت تحرس مبادءها الأولى, مبادئ الثورة الأولى, ولا زالت سريعة التأثر بكل ما يحدث لشعبها ويبدو أنها تقيس كل أمر وتنظر إلى كل أمر من خلال فلسطين ومن خلال حق شعبها الفلسطيني في الحرية والكرامة وهي كإنسانة كريمة, طيبة, رقيقة وتحسن التعامل مع الجميع.

انتظرتها في الفندق إلى حد الساعة ال 9.30 لكنها تأخرت ولم تأت.. علمت منها بعد ذلك أنها أمضت بعض الوقت مع السفير الفلسطيني الذي كان بانتظارها في المطار ما تسبب في تأخرها في الوصول إلى النزل 

الإربعاء 20 مارس 2024

اليوم هو اليوم الأول لانطلاق فعاليات المهرجان.. بدأت الفعاليات بزيارة جامعة UTVAM بمدينة تزايوكا وصلنا حوالي الساعة ال 11.00 صباحا..في الهواء الطلق وقبل أن ندخل إلى القاعة حيث الطلبة لقراءة اشعارنا,قدّمنا مدير المهرجان خورخي لطاقم الجامعة ثم قامت رئيسة بلدية تزايوكاالجميلة سوزانا انخليز Susana Angeles بزراعة شجرتين (الأولى رمزا للتضامن والثانية رمزا للأخوة) وألقى مدير المهرجان كلمة كان من ضمن ما ورد فيها تحية للشعب الفلسطيني ونضاله من أجل الحرية.. ثم طلب من الشاعرة أسماء الحاج أن تغني.. أسماء تتمتع بصوت جميل جدا وكان بإمكانها أن تصبح فنّانة لو ارادت ذلك لكنها اختارت الإعلام.. أسماء غنت في فرقة تشبه الفرق الأوبرالية في حفل كبير في تركية أمام عدد من وجوه المجتمع والسياسة أعتقد أن أردوغان كان من ضمن الحاضرين .. وطبعا كعادتها دائما غنّت أسماء لفلسطين. 

داخل حرم الجامعة بدأت الفعالية بكلمة وقصيدة للشاعرة الفلسطينية د. حنان عوّاد وكانت قصيدتها عن فلسطين.. عند انتهاء قصيدتها سحَبَت شالا فلسطينيا ووضعته على كتفي رئيسة البلدية أمام تصفيق وحماس الطلبة الذين ملأوا القاعة.. رئيسة البلدية بدا عليها الفرح بالشال الفلسطيني فذكّرت بدورها في كلمتها التي رحبت فيها بالضيوف بنضال الشعب الفلسطيني وكفاحه المتواصل.

أراقب بإعجاب نشاط وحركات رئيسة البلدية, تحادثنا قليلا قبل الدخول إلى حرم الجامعة والتقطنا بعض الصور.. جميلة ومهذبة, ابتسامة رقيقة وفائقة الجمال تسبق نظرتها إليك, تشع طيبة وجمالا وصدقا, تخفي ابتسامتها الجميلة خجلا خفيفا, تلقائية ولا يبدو عليها تصنع السياسيين ولا سعيهم للظهور بمظهر من يسعى لإرضاء الآخرين من أجل غايات شخصية.. ظاهرها صورة عن اعماقها, أبرز ملامحها الطيبة وابتسامة ساحرة, لم أُخْفِإعجابي بها… أهديتها شالا فلسطينيا ووضعته على كتفيها فرحبت بطيب خاطر وشكرتني وحملتُ أثر ابتسامتها معي ولازلت أحمله.

لفت انتباهي خلال قراءات اليوم الأول الشاعر Jorge Antonio Garcia Perez الذي قرأ قصيدة بكى في نهايتها من شدة التأثر حتى دمعت عيناه وأكمل قراءتها بصعوبة, تعرفت عليه بعد ذلك وعرفت أنه أكاديمي وكاتب وشاعر وعازف ومطرب معروف في المكسيك وأن القصيدة كانت عن عذابات أهله السكان الأصليين خصوصا العذاب والشقاء والقهر الذي تعرضت له وعاشته المرأة والذي عايش بعضه بنفسه في قرى السكان الأصليين وقال لي أن قراءة القصيدة أعادت إليه ذلك الشعور بالقهر الذي عاشته الأمهات وكأنه يعيشه الآن من جديد… تطرق الحديث إلى الظلم والقهر وأبدى إعجابه الشديد بقصيدتي التي قراتها منذ قليل ” لا نحب الحروب”.. أسعدني ذلك خصوصا أن القصيدة قوبلت بتصفيق حار من الطلبة الحاضرين.. لكن الحقيقة هي أن النية كانت أن أقرأ قصيد “هنا تونس” لأن يوم الافتتاح صادف ذكرى استقلال تونس التي تحتفل اليوم بعيد استقلالها ال ال 68لكن يبدو أني نسيت القصيد في الغرفة فاضطررت لقراءة “لا نحب الحروب”وقصيدا آخر بعنوان “لماذا” جاء فيه

لماذا نخوض معاركَ وهمٍ

ونحنُ الضحايا ونحن الجنودْ

نخوض معارك ليست لنا

ونشعلُ نارا ونحن الوقودْ.

خلال فترة الاستراحة تقدم إلينا أنا وأسماء الحاج شاب مكسيكي في الرابعة والعشرين رحب بنا وعرّف بنفسه: اسمي هيرالدو طالب بالجامعة والمسلم الوحيد بمدينة تزايوكا. لم أستغرب إذ لا توجد أية مظاهر للإسلام في المدينة.. أصبح هيرالدو جزءا رئيسيا في رحلتنا يرافقنا في كل نشاطاتنا ضمن الفعاليات وخارج الفعاليات, بلغة إنجليزية مقبولة إلى حد ما  كان يشرح لنا كل ما نريد معرفته ويوفر لنا كل ما نريده, أصبح واحدا منا نشاركه مشاغلنا ويشاركنا كل نشاطاتنا.. أحب فتاة مسلمة ودخل عن طريقها إلى الإسلام.. لكن العلاقة لم تتواصل ولم نسأل لماذا يبدو أن الأمر ينكأ جرحا يحاول هيرالدو نسيانه.

الثانية بعد منتصف النهار

خلال فترة الاستراحة أبلغنا هيرالدو أنا وأسماء الحاج أن إحدى القنوات التلفزيونية ترغب في استضافتنا لإجراء حوار.. انتظرنا دقائق قليلة قبل أن يجهز استديو الجامعة المجهز خصيصا للحوارات التلفزيونية.. كانت الأسئلة حول الشعر والثقافة وكان طبيعيا أن نُذكّر بفلسطين أكثر من مرّة وأن نشيد بنضالها المشروع من أجل الحرية…

الثامنة ليلا.

تونس 3 – المكسيك 0

خرجت للتمشي في الشارع الرئيسي.. أحس كأني بأحد شوارع مدينة تونسية, ما زالت توجد حركة بالشارع (تهدأ الحركة حوالي الساعة العاشرة) اكتشفت مطعم أكلة سريعة يبيع الشوارما, هو المطعم الوحيد  الذي تشبه الشوارما عنده الشوارما العربية وليس على طريقة سندوتش “الطاكو” المكسيكي.. دفعني الفضول لتذوقها.. خلال الانتظار سألني العامل من أي بلد أنت, قلت من تونس.. لم يعرف ولم يسمع عن تونس لا هو ولا العاملان الاخران.. قلت في إفريقيا.. شمال افريقيا فلم يعرفوا لا افريقيا ولا شمالها… قلت تحبون كرة القدم؟ قالوا نعم طبعا فأول فريق في المكسيك تأسس في ولايتنا هو فريق ريال دي مونت بعشوقة.. قلت كأس العالم الأرجنتين 1978؟ قالوا نعم نتذكر.. قلت تونس 3 – المكسيك 0 فنطق ثلاثتهم آآآآ  si si si الآن تذكروا وعرفوا تونس.. ابتسمتُ, أخذت الشوارما التي جهزت الآن وخرجت.

الخميس 21 مارس 2024

انطلقت الفعاليات الساعة 11.00 صباحا بحديقة الشاعر… (Jardin Del Poeta) وسط تزايوكا..كنت على المنصة مع أسماء الحاج ود. حنان عواد (الشعراء العرب الثلاثة.. البعض كان يقول الفلسطينيون الثلاثة) كانت البداية معي. قلت بإسبانية مكسرة: بلدي تونس تحتفل بعيدها الوطني, عيد استقلالنا لذلك سأقرأ قصيدا عن بلدي.. قرأت “هنا تونس” وقصيدا عن اليمن ومأساة الحرب… سررت أن التي قرأت قصائدي بالإسبانية شاعرة من بورتوريكو اسمها لوس (Luz María López) التقيتها أوّل مرة في مهرجان كوبا الدولي سنة 2018 وتواصلت العلاقة إلى اليوم… لوس كتلة من النشاط وطاقة لا تنبض في المجالات الثقافية خصوصا الشعرية.. تحس بألم الآخرين كأنه ألمها وأول من يمد يد المساعدة لمن يحتاجها… (Luz) وتقرأ لوس تعني نور والواضح أنّ اسمها تعبير عن روحها فروحها من نور فعلا… أسعدني أنها حين جاء دورها لقراءة قصائدها بدأت بقراءة قصيدة عن فلسطين, انطلاقا من مأساة غزّة, أخبرتني أن القصيدة كتبت سنة 2015 وأنّ حضور فلسطين في المهرجان من خلال الحطات والأعلام وإشارة عدد من الشعراء لما يحدث في غزّة جعلها تستحضر القصيدة وتقرأها خصوصا أن شيئا لم يتغير لصالح الفلسطينيين.

في الوقت الذي كانت فيه لوس تقرأ أشعارها تقدّم مني هيرالدو وقال لي أنشاعرا في الخلف يسأل إن كان بإمكاني أن أهديه الشال الفلسطيني. فأعطيته شالا كان معي, لف به رقبته وشكرني..

حين أتمّت لوس قراءتها شكرتها على تضامنها مع الشعب الفلسطيني فبان على وجهها حزن واضح وقالت إنها تتألّم فعلا لما يحدث.. أحسست بيني وبين نفسي بحرج أني لم أكتب عن غزة منذ بداية حرب الإبادة ضد أهلها وتحول الحرج إلى غضب من نفسي.. لكني كنت أعلل نفسي أن الوجع والقهر مما يحدث في غزة كان أقوى وأوسع وأشمل من أن أقدر على احاطته بكلمات قصيدة.. ربّما في يوم من الأيام لكن الآن كلما حاولت الكتابة عن غزة أجدني عاجزا غاضبا متألما مقهورا.. عجزاٌ كأنه موت الأحياء

**

– تفاجأت بحضور دماريس صاحبة المحل الذي اشترينا منه أغراضنا أول أمس, اليهودية المولودة في كيبوتس في إسرائيل… عانقتني وعانقت أسماء بحرارة.. جاءت خصيصا لتعبّر لنا عن تضامنها معنا ومع القضية الفلسطينية وأبناء غزة.

انتهت فقرة القراءات الصباحية حوالي الساعة الثانية.. المسافة بين حديقة الشاعر والنزل حوالي 4 دقائق مشيا على الأقدام.. في الطريق أوقفتني فتاة في بداية العشرينات من عمرها, قالت بخجل واضح: أنا طالبة جامعية, استمعت إلى قصائدك يوم أمس في جامعتنا.. أتمنى أن تسمح لي بالتقاط صورة معك وأن تهديني بعض قصائدك إن كان ذلك ممكنا.. لم تكن معي قصائد مطبوعة لكننا التقطنا أكثر من صورة.

عند وصولي إلى النزل وجدت الشاعر Jorge Antonio Garcia Perezبانتظاري أخبرني أنه مضطر لمغادرة المهرجان نظرا لالتزامه بالمشاركة في نشاطات أخرى في عدد من المدن المكسيكية, أخبرني أيضا بحماس وبفرح أنه تواصل مع عدد كبير من المعاهد في المكسيك وأرسل لهم قصيدتي “لا نحب الحروب” لقراءتها ومناقشتها مع تلاميذ وطلبة المعاهد الثانوية وأكد لي أن عددا من الأساتذة ومدراء المعاهد وافقوا على إدراج القصيد للقراءة والمناقشة في عدد من المعاهد.

الجمعة 22 مارس 2024 العاشرة والنصف صباحا

نقلتنا الحافلة الصغيرة إلى معهد Conalep Tizayuca .. كان صباحاحافلا بحضور فلسطين.. حضر السفير الفلسطيني محمّد سعدات الذي وجهت له إدارة المهرجان قبل أيّام دعوة للحضور كضيف شرف.. بدأت الفعاليات بتجميع الطلبة والتلاميذ في ساحة المعهد. لم نقرأ عليهم أشعارا..تحدث مدير المهرجان إلى الطلبة.. ذكر فلسطين ونضال شعبها وما يحدث في غزة ورحّب بالسفير الفلسطيني وبالشاعرة حنان عوّاد مؤكدا أنها مناضلة عاصرت القائد التاريخي للشعب الفلسطيني ياسر عرفات وأنها كانت مستشارة له.. أسعدني كثيرا أن عددا كبيرا من شباب المعهد رفعواأياديهم بشعار النصر لفلسطين أكثر من مرّة (شعار V رمز Victoire) صفقوا لكلمة د. حنان عواد ولكلمة السفير وطلبوا التقاط صور معنا بالعلم الفلسطيني.. طلب مدير المهرجان من أسماء الحاج أن تغني فغنت كالعادة لفلسطين… بعد الاجتماع والتقاط الصور تفرق الشعراء إلى مجموعات صغيرة من شاعرين أو ثلاثة وتوزعنا لقراءة أشعارنا على الطلبة داخل فصول الدراسة… بالنسبة لي كان اهتمام التلاميذ وحرصهم على المتابعة والاستماع ثم طلب التقاط الصور ملفتا للانتباه.

مديرة المعهد Karla Gutierrez استحقت الشكر على ترحيبها بنا.. كانت في غاية اللطف ولا تفارق ابتسامتها الجميلة وجهها وهي تحادثنا.. اهديتها الشال الفلسطيني.. شكرتني بامتنان ظاهر والتقتنا صورا يرفع فيها العلم الفلسطيني فوق رؤوسنا.  

الخامسة مساء

نقلتنا الحافلة إلى متحف Museo Interactivo Etnoecologico Ignacio Rodriguez Calvan.

قبل بداية الفعالية طلب مني الشاعر Ricardo Varela Jimenez إجراء حوار إذاعي حول الشعر.. لم يكن حوارا طويلا تعمدت أن أذكر فيه تونس وفلسطين وأن أبدي اعجابي الحقيقي (وليس مجاملة) بالمكسيك وتاريخها ومواقف شعبها مع نقد خفيف قد أعود إليه لاحقا.

خصصت الأمسية للاحتفاء بالشاعر الإيطالي إميليو كوكو Emilio Coco.. الطقس معتدل والجلسة في حديقة المتحف على ضفة بحيرة اصطناعية صغيرة.. مساء بدا انعكاس ألوان الأضواء على المياه كقوس قزح بأكثر من سبعة ألوان.. كأن الألوان موسيقى بصرية..  جو شاعري بامتياز اكتملجماله بوصلات من الرقص المكسيكي المميز وأغانٍ من التراث المكسيكي أطربتنا بها Erin Zarate.. صوت جميل، روح جميلة، مخلوقة من الحب والجمال والسحر، صوتها يلامس القلب وحضورها يضيء الروح… تحدثنا قليلا بعد انتهائها من الغناء وكان واضحا تواضعها وأدبها.. رقيها في الحديث والتعامل أذهلني رغم صغر سنها.. لم تتجاوز ال 17 سنة.. تحادثت قليلا مع والدها وكان واضحا تأثيره الأخلاقي في ابنته.

السبت 23 مارس 2024

تبعد اهرامات Teotihuacán حوالي نصف ساعة إلى 45 دقيقة عن مدينة تيزايوكا.. انطلقت بنا الحافلة الصغيرة حوالي العاشرة والنصف صباحا.. بعد حوالي 5 دقائق من الانطلاق توقف السائق ونزلنا أمام سجن مهجورCarcel Distrital Tizayuca… أغلق السجن من سنوات ويبدو أنه كان سجنا رهيبا وفيه قسم للنساء لا يفصل بينه وبين قسم الرجال أي فاصل… قيل لي إن الحكومة تفكر الآن في تحويله إلى متحف.. خارج السجن الموجود على الشارع العام كتب الشاعر Armando Alanís Pulido على الحائط بخط عريض Sin Amor todo es inutil (بدون حب كل شيء عديم الفائدة) ربما تكون الترجمة الأصح: بدون حب لا شيء له معنى أو لا شيء له فائدة… أخبرني الشاعر ونحن نلتقط الصور بعد أن أنهى الكتابة أنّ ما كتبه يأتي ضمن مبادرة توعوية Accion Poetica وهي مبادرة تشمل العديد من مدن المكسيك والعديد من دول المنطقة.

الواحدة بعد منتصف النهار

على غير ما توقعت.. الأهرامات في منطقة Teotihuacán تختلف كثيرا عن الأهرامات المصرية ولا تشبهها إلا في الشكل الهندسي ويبدو أنها اختلفت عنها حتى في الغرض من تشييدها..  أهرام الجيزة المصرية شيدت منذ أكثر من 4500 سنة كمقبرة لخوفو وأسرته في حين أن الأهرامات المكسيكية تعتبر حديثة نسبيا مقارنة بالأهرامات المصرية حيث أنها بنيت منذ حوالي 2700 سنة وأنها كانت تمارس فيها عمليات تقديم القرابين البشرية إلى الآلهة إلى جانب كونها قد تكون مقابر أيضا… ما لفت انتباهي هو آثار المدينة التي بنيت بين هرمي الشمس والقمر.. المسافة بينهما أكثر من نصف كيلومتر بقليل.. الواضح أن الأزتيك خططوا لبناء المدينة جيدا وأنها لم تبنى بطريقة عشوائية.. هناك تناسق وهندسة شبه صارمة وفن وجمالية.. وهذا ليس غريبا.. اسم المدينة بلغة الأزتيك يعني المكان الذي خُلِقِ فيه الآلهة فقد كان أكثر الأماكن قداسة لديهم وكانت القرابين تُقَدّم للآلهة كل 20 يوم.

أمام هرم “القمر” طلب مدير المهرجان خورخي من مجموعتنا (فقد انقسمنا لأكثر من مجموعة كما يحدث في مثل هذه الرحلات) طلب أن يلقي كل شاعر كلمة او أن يقرا قصيدا… كنّا 10 شعراء إضافة إلى هيرالدو.. شعراء من المكسيك, كولومبيا, السويد, تركيا/ فلسطين وتونس.. قرأ الشعراء قصائدهم وغنت أسماء الحاج لفلسطين.. قصائدي المخزنة على جهاز الهاتف لم تفتح فألقيت كلمة قصيرة عن اعجابي بمجتمعات أمريكا اللاتينية وهو إعجاب حقيقي بدأ مع اكتشافي للقارة خلال أول زيارة لي إلى هافنا سنة 2018 خلال مهرجان كوبا العالمي للشعر وتأكد مع كل زيارة إلى القارة بعد ذلك.

الخامسة مساء- حديقة الشاعر مرة أخرى

وجدت لوس بانتظاري أمام النزل لترافقني إلى حديقة الشاعر حيث تختتم الفعاليات ولوس هذه ليست الشاعرة البورتريكية التي أنشدت شعرا لفلسطين هي (Luz) أخرى, فتاة في الثانية والعشرين من العمر لا علاقة لها بالمهرجان حضرت أمس خلال القراءات ربما بدافع الفضول.. عرّفتني بنفسها والتصقت بي كظلي, أظن أنها اعتقدت أني غني قادم من بلد أوروبي وتصورت أن علاقتي بها قد تكون مفيدة لها… طلبت مني أن اكتب فيها قصيدا أو مقطعا شعريا.. أنا رجل تجاوز الستين وهي فتاة في قمة عنفوانها في بداية العشرينات من عمرها.. لم أجد ما أكتبه لها… خطر بباليمقطع قصير بلهجتنا التونسية فكتبت:

لوس يا لوس يا لوس

لا عندي سلطة لا فلوس

حتى في أمور الجنس 

بصعوبة نعنّق ونبوس 

راقد لا يصحى لا يفيق 

خذلني ها(…. ) المتعوس

المسكينة اخذت مني الورقة بفرح ظاهر معتقدة أني كتبت فيها شعرا

-القراءات في الهواء الطلق على الشارع ويبدو أن هذا أمر عادي وطبيعي في دول أمريكا اللاتينية حيث يحترم الجميع الأنشطة الثقافية ولا تتعرض لأي إزعاج.. يتوقف بعض المارة قليلا للاستماع ثم ينصرفون لشؤونهم.. تفاجأت بحضور مواطن من عامة الشعب تبدو عليه ملامح فلاح أو عامل يومي بسيط قدّم نفسه: اسمي ترابريتو تشافاز مندوزا.. قال لنا أسماء الحاج وأنا أنه يحب فلسطين ويتمنى أن يذهب إل هناك وطلب منا الشال والعلم الفلسطيني.. التقط معنا بعض الصور وهو ممسكً بفخر بالعلم.

نتنياهو الأرجنتين

قرأ عدد كبير من الشعراء قصائدهم.. ثلاثة منهم قرأوا قصائد لفلسطين.. الشاعر المكسيكي ذو الأصول الفرنسية Francis Mestries والشاعر الأرجنتيني Carlos J. Aldazábal الذي عبّر عن غضبه من موقف رئيس بلاده من القضية الفلسطينية بالقول أكثر من مرّة: إن رئيس بلادي Javier Milei فاشستي وإرهابي إنّه نتنياهو الأرجنتين… الشاعر الثالث لم التقط اسمه ولم اره بعد ذلك.

مع نهاية القراءات واقتراب العودة إلى النزل تقدم مني ثلاث شعراء من المكسيك وكولومبيا وفنزويلا وطلبوا مني أن اهديهم الشال الفلسطيني.. حملت معي إلى المهرجان أكثر من 12 شالا ذهبوا كلهم هدايا لمن طلبوها حتى بقيت بلا شال أرتديه.. لأول مرة خلال المهرجان أجد نفسي بلا شال على أكتافي, أقلقني ذلك, كأنّ شيئا ينقصني أحسست بعدم الراحة.. أحسست بالعراء.. طلبت شالا من الشاعرة حنان عوّاد فلم تتأخر أعطتني شالا كان معها.. هي دائما ما تقول لي أيها التونسي أنت فلسطيني.. يفرحني كلامها… أنا قومي عربي وأشعر بفخر انتمائي لتونس وحبي لفلسطين.

العاشرة ليلا .. هل أنت سفير فلسطين؟

رغبت أسماء الحاج في شراء بعض الأغراض والهدايا قبل العودة فأخذنا هيرالدو إلى أحد المحلات المفتوحة ليلا.. المحل في شارع فرعي يبعد قرابة ال 15 دقيقة عن النزل.. ونحن في المحل ننظر إلى السلع لنختار ما نريد,دخل شاب وفتاتين تتراوح أعمارهم بين ال 20 وال 25 سنة.. لاحظت أنهمينظرون إلينا في تردد.. تقدّم الشاب.. رحب بي بأدب فائق وسألني: أنت السفير الفلسطيني؟ أجبت مبتسما لا لكني كنت معه اليوم.. قال أنتما إذن من شعراء المهرجان؟ أجبنا نعم… قدموا أنفسهم (الشاب اسمه برناردو ولم أعد أذكر اسم الفتاتين).. نظر إلى صديقتيه وقال بأدب: يشرفنا جدا لو سمحتما لنا بالتقاط صور معكما.. نحن مع فلسطين وقضية الشعب الفلسطيني قضيتنا.. حين أخبرتهم أسماء أنها فلسطينية, كاد الفرح يقفز من وجوههم… التقطنا الصور وودعونا بحرارة دون شراء أية أغراض من المحل فقد دخلوا خصيصا من أجل التعبير عن تضامنهم معنا ومع فلسطينوليس للشراء.

الأحد 24 مارس 2024

اليوم أُوَدّع تيزايوكا وأعود إلى لندن.. أفقت باكرا.. رغم أني نمت متأخرا بعد عودتي من حفل الاختتام الذي كان موسيقى ورقصا وغناء.. الرقص التقليدي في أمريكا اللاتينية احتفاء بالجسد والحركات في تناسقها تأكيد لجمال الجسد وطواعيته للغواية على عكس الرقص الغربي في أوروبا الذي أرى أنّه في مجمله كأنه ردة فعل على الواقع ونوع من تفريغ الجسد مما تراكم فيه من قلق وغضب وتعب نتيجة ثقل وطأة الحياة اليومية.

الحادية عشرة صباحا 

في الحافلة من تزايوكا إلى مطار العاصمة مكسيكو سيتي.. كنا 6 أشخاص, شاعر كولمبي وزوجته + أسماء الحاج وهيرالدو الذي يرافقنا للمساعدة ولأنه أصبح صديقا وليس مرافقا فقط + أنا وبجانبي الشاعرة السويدية سُنّي أورورا (نعم اسمها سُنّي ولا علاقة لذلك لا بالطوائف ولابالأديان)..

أوقات المغادرة والوداع دائما ما تكون المشاعر فيها مختلطة ومتشابكة بحيث يصعب تحديد شعور واضح وصريح.. أشعر بفرح لرؤية ولقاء شعراء أصدقاء قدامى (اوكتافيو. خورخي. لوس. أسماء الحاج. حنان عواد) لكن لحظات توديعهم وشعور الفراق ينغص صفاء البهجة.. أيضا هناك إحساس بسعادة التعرف على شعراء جدد واكتساب صداقات جديدة.. أشخاص تراهم لأول مرة وتجدهم أقرب إلى روحك من أناس تعيش وتعمل معهم, كأنهم جزء من إنسانيتك, يضيفون إليك إحساسا بجمال الحياة وبهاء التنوع الإنساني… كأنك تبحث عن اكتمال الصورة وتجد أنّهم جزء جميل وضروري في تلك الصورة.. رومي الشاعر الشاب الذي اختارت له أمه الاسم تيمنا وحبّا في مولانا جلال الدين الرومي (قد يبدو الأمر غريبا لكنك تكاد ترى نورا يشع من رومي وتكاد طيبته ولطفه يشع على من حوله).. البترا ء(Petra) وهذاليس اسمها الحقيقي إنما اختارت أن تسمّي نفسها البتراء حبّا في مدينة البتراء الأثرية الأردنية… راؤول وزوجته.. راؤول روح حرة ومرحة وكذلك زوجتهللي (Lilly)+ جوناتان الشاعر المكسيكي الثائر + وجيزيل الجميلة الكوبية الساحرة الهائمة في الروح وآفاقها والتي تسعى إلى تحويل الشعر إلى روح وإلى أن تجعل من الروح سؤالا/إجابة شعرية..

أصدقاء آخرين.. سنّي أورورا + أنطونيو كمبوس فيلاكوميز + خوزي نتارينأكوينو + ريكاردو فاليرا + كارلوس ألدازبال + الرائعة ديانا أليزا جوافيز…لا يتسع المجال للحديث عنهم.. ربما في مرّات قادمة فالصداقات هنا حقيقية. 

العلاقات هنا دافئة وتغلب عليها العفوية والتلقائية والناس منفتحون على الآخر عموما.. أعيش في لندن منذ أكثر من 30 سنة وأشعر أني أقرب إلى المكسيكيين وأبناء أمريكا اللاتينية مني إلى الإنجليز والأوروبيين.. ليس لي صديق انجليزي حقيقي واحد في حين ان أصدقائي من أمريكا اللاتينية يكاد يساوى عددهم عدد أصدقائي العرب.. لا أحس بالغربة بينهم أو بالكلفة والتكلف.. أجد نفسي بينهم واحدا منهم طباعا وتفكيرا وإحساسا… أحاول البحث عن تفسير لإحساسي بالانتماء إلى مجتمعات أمريكا اللاتينية.. 

لقاءاتي بأبناء القارة وتواصلي مع شعرائها وكتابها ومثقفيها نبّهني إلى أمر لم يخطر ببالي من قبل.. لماذا نقسّم العالم سياسيا وحضاريا إلى شرق/جنوب في مقابل غرب/شمال.. دول أمريكا اللاتينية لها خصوصيتها الحضارية الممتدة جذورها في تاريخ يمتد آلاف السنين تاريخ عرف حضارات ومدنيات متقدمة بمقاييس زمنها.. هم ليسوا شرقيين وليسوا غربيين.. ليسوا شمالا ولا جنوبا بمفهوم التقسيم السياسي الذي فرضته أوروبا ونردده كالببغاوات دون وعي أو نقد أو تحليل. لماذا نحسبهم على الغرب الاستعماري وهم أقرب إلينا من الغرب ويناضلون مثلنا للخلاص من هيمنته؟

**

أتذكّر كلمة الرئيس المكسيكي بورفوريو دياز الذي عاش في القرن التاسع عشر أتذكرها وأبتسم في سخرية: “مسكينة المكسيك بعيدة عن الله قريبة من أمريكا” لست متأكدا من أن مشاكل المكسيك سببها البعد عن الله لكن الأكيد أن القرب الجغرافي الملاصق لأكبر قوة امبريالية استعمارية هو أحد مصائب القدر ويشكل تحديا حقيقيا لأية أمة.. إلى جانب الزحف الاستعماري الذي أدى بين (1845-1848) إلى ضم تكساس والاستحواذ على الأراضي المعروفة الآن باسم كاليفورنيا وأريزونا ونيو مكسيكو وأجزاء من كولورادو ووايومنغ هناك غزو اقتصادي وإعلامي مازال متواصلا إلى اليوم ولن ينتهي لأن ذلك من طبيعة الحضارة الغربية القائمة على مبدأ البقاء للأصلح والأصلح من منظورهم طبعا هو الرجل الغربي.. الرجل الأبيض.. إنه عبء الرجل الأبيض The White Man’s Burden الذي تبنته ولا زالت تتبناه القوى الاستعمارية من أجل سحق كل حضارة وسرقة ثرواتها.. مازال الإعلام الغربي إلى اليوم بكل وسائله ومازالت السينما الأمريكية ترسم لنا صورة الأمريكي اللاتيني كتاجر مخدرات أو رئيس عصابة إجرامية أو ساحر يمارس السحر الأسود, حتى الواقعية السحرية في الأدب اللاتيني حولتها السينما الأمريكية إلى سحر أسود وتخلف فكري ومعتقدات بدائية.. الغرب الذي بدأ تاريخه الحديث منذ 500 سنة تقريبا (قبل ذلك كان عصور ظلام امتدت قرونا) الغرب جزء كبير من تاريخه المعاصر مبني على الاستعمار والسيطرة وإبادة الشعوب وإلغاء الآخر.. يُشوه عمدا صورة أي حضارة أخرى ليسمح لنفسه بإلغائها.. المكسيك ودول أمريكا الجنوبية هي ضحية النظرة العنصرية الغربية والأمريكية.. لا اومن ولا يمكن أن اومن يوما بتفوق عنصر بشري على آخر .. علميا لا يوجد عنصر بشري (نقي).. نحنكبشر وكمجتمعات وكحضارات نتكامل لنكتشف معنانا الحقيقي فهذا الوجود وهذي الحياة لا يمكن ان يستوعب معناها دين واحد أو مذهب واحد أو فكرة واحدة كل ثقافة وكل حضارة وكل مجتمع ينظر من زاوية محددة إلى وجود بلا زوايا.. ثقافة الآخر تضيف لنا ولا تنقص تؤكد حضورنا ولا تلغينا لأننا في النهاية كُلٌّ مكون من أجزاء. وهذا ما يترسخ أكثر فأكثر في كل سفر إلى أي دولة من دول العالم وفي كل زيارة إلى أمريكا اللاتينية

الواحدة بعد منصف النهار – مطار بينيتو خواريز الدولي مكسيكو سيتي

أمامي 3 ساعات قبل انطلاق رحلة العودة إلى لندن.. أتذكر أول لقاء لي بمدير المهرجان خورخي كان ذلك سنة 2018 في المهرجان العالمي للشعر في كوبا.. قرأ بعض أشعاري المترجمة في واحدة من الأمسيات.. وسنة 2019 كنت أحد المدعوين للمهرجان الذي يشرف عليه.. خورخي يعيش للشعر وللجمال.. تواصلت صداقتنا وبفضله تعرفت على الكثير من جوانب ثقافة المكسيك وثقافة أمريكا اللاتينية. شعوب أمريكا اللاتينية يشبهوننا ويؤمنون بقضايانا العربية أكثر من بعض العرب.. للثقافة عندهم أهمية كبرى وهي ليست أهمية كلامية خطابية كما هو الحال في مجتمعاتنا إنما الثقافة جزء من سلوكهم وجانب هام من نضالهم. 

الثقافة هنا وجه من وجوه النضال ويبدو أن النضال في المكسيك كما في كولومبيا كما في دول أمريكا اللاتينية ما زال حيا وما زال يواكب حركة المجتمع.. وهو ليس نضالا ضيقا ومحدودا مقتصرا على البلد المعني.. ليس مقتصرا على المكسيك أو كولمبيا أو فنزويلا أو كوبا.. نضالهم في مجمله إنساني, من أجل الإنسان المظلوم في كل مكان وإن كان المنطلق الأول هو النضال من أجل تحرير الوطن من الفساد والقمع والهيمنة الأجنبية, ربما لأن منطلق نضالهم في أوجِهِ كان مبادئ الحركات اليسارية ولم يبتلوا مثلنا بالطائفية وضيق الأفق والسير نحو الماضي عوض النظر إلى المستقبل.

ما رأيته هنا في تزايوكا من وقوف مع القضية الفلسطينية سواء من قبل الشعراء أو من قبل تلامذة المعهد وطلبة الجامعة أو من قبل المواطن العادي ما رأيته يفوق فعلا اهتمام بعض الشعوب العربية بفلسطين وأهلها.. أن يطلب منك الشعراء العَلَم أو الحطة الفلسطينية ليحملوها بفخر كامل أيام المهرجان كرمز للنضال والالتزام بالقضية وأن يأتيك مواطن عادي في الشارع شاهد الشال الفلسطيني على أكتافك ليعبّر لك ليس فقط تضامنه مع الشعب الفلسطيني بل انتماءه للقضية الفلسطينية وأن يُطلب منك التقاط صور معك بالعلم الفلسطيني فهذا أمر يحق أن يشعرنا بالفرح.. شخصيا اشعر بالفخر وأشعر أنّي بين أهلي… هذه القارة أرض خصبة للقضية الفلسطينية ولقضايا العرب وهم في اغلبهم ليسوا محايدين بل متعاطفون معنا ومع قضايانا لأن المجرم ضدنا وضدهم واحد.. المجرم في الحالتين واحد والضحية هم ونحن معا.. هنا لفلسطين ولقضايانا بعد انساني حقيقي.. أشعر بقهر حارق موجع وانا أرى كيف نخون أنفسنا كعرب ونمارس الانتحار البطيء من أجل عيون الهيمنة الأمريكية.

الخامسة مساء

يجلس بجانبي رجل خمسيني وبجانبه زوجته.. وطبعا مع انطلاق الطائرة في رحلة تتواصل 12 ساعة يبدأ الحديث بالتعارف.. مكسيكي ذاهب في زيارة إلى باريس ثم إلى ألمانيا لزيارة ابنته التي تعيش وتعمل هناك.. واضح أنه مثقف… هو وزوجته يعملان في مجال التعليم الأكاديمي… سألني عن زيارتي للمكسيك وحين اخبرته قال بفرح أنت شاعر والتفت لزوجته قال بحماس إنه شاعر.. صافحني قائلا تشرفنا وتشرفت المكسيك بحضورك.. 

مَرّة أخرى أجدني دون رغبة مني منساقا إلى مقارنة غير عادلة بينا وبينهم.. الشاعر عندهم محل احتفاء وقيمة مضافة والشاعر عندنا محل سخرية من العامة ومحل سخرية في المسلسلات والأفلام.. هو شخص نصف عاقل نصف مجنون يحدث نفسه ويحدث الآخرين بكلام غير مفهوم.. عيونه تائهة رومانسي وضائع في الحب.. كم يوجد لدينا من مسلسل أو شريط سينمائي يؤرخ لحياة شاعر عربي معاصر؟ اعتقد أن العدد صفر مُكرّر.

لندن 25 مارس 2024

منذ عودتي من مهرجان ميديين بكولومبيا السنة الماضية وانا أبحث وأتمنى أن أجد ناقدا عربيا مختصا للبحث في خصوصيات الذائقة الشعرية في أمريكا اللاتينية ومدى اقترابها وتشابهها بالذائقة العربية.. وأجدني الآن بعد عودتي من المكسيك أكثر إصرارا على إيجاد ناقد مختص.. أجد استحسانا وإعجابا حين أقرأ قصائدي من الشعراء ومن الجمهور الحاضر وعدد منهم يطلب قصائد بعينها.. بعض الشعراء يشيدون بالصور الشعرية المستعملة… هل لأن ذائقتنا الشعرية متقاربة ومتشابهة خصوصا أن قصائدي في معظمها صورها الشعرية متأثرة بالشعر العربي وتراثه القديم والمعاصر.. أنا لا أستسيغ كثيرا منطق أغلب الشعر الغربي التائه في غموض واشكال لا تمت لي بصلة لا من قريب ولا من بعيد. أتمنى فعلا أن يوجد ناقد مختص يفتح أمامنا آفاق ذائقة شعر وشعراء أمريكا اللاتينية ومقارنتها بالشعرية العربية.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات