فتنة المتواري: إصدار جديد للناقد الفنان د. مصطفى عيسى أحمد

06:40 مساءً الأحد 11 أبريل 2021
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

تحرير مبدئي في صيغة المتواري

صدر منذ أيام كتاب الفنان الطتور مصطفى عيسى أحمد، المعنون (فتنة المتواري) وبتقديم من الناقد التونسي والباحث الجمالي دكتور محمد بن حموده، عميد المعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس – سابقا- وعميد المعهد العالي للموسيقى. الكتاب صدر ضمن منشورات مؤسسة بتانة في طبعة ممتازة. الكتاب كما يقول عنوانه الفرعي “بحث في جذور الفعل الفني”، واستأذنا مؤلفه لنشر مقدمته لهذا المبحث المعمق

د.مصطفى عيسى أحمد

I

     ما هو الفن؟ هو سؤال مهم للاستهلال به، لكونْه يتعرض لدور الفنان الذي يضطلع به ويقدمه كصاحب رؤية خاصة، ثم لكوْنه يتعرض لملاحظة مهمة أيضاً، يختص بها جمهور المتلقين، الذين ينتظرون من اللوحة أو العمل الفني – أياً كان نوعه  وأسلوبه – أن يقدم لهم صوراً يمكنهم التعرف عليها، ومن ثم قد يجدوا فيها، ما يقابلهم فى العالم المرئي أو يلمسوا في ثناياه ترديداً لما يحرك أسئلتهم.

     لذلك قد تتوالى الأسئلة التي تبحث في أصل العمل الفني ومصدره، منشأه وأساسه النفسي، أو هذا البُعد المتواري خلف الفعل الفني، حتى إننا لا نفتأ نتحدث عن أحد الأعمال وكأننا نتحدث عن الأعمال الفنية جميعاً. غير إن ثمة مصدر باطني يقنن الفروقات لا شك في ذلك، طالما تفاوتت الظروف الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من مؤثرات، مما يجعل أسئلتنا تجنح صوب التماس المتغيِّر، فتتغير الإجابات والمُسلّمات. إلا إن ما يبقى مُختزلاً في الكل هو بمثابة بحث في الباطني المؤثر، والتعبيري الجامح الذي يتجاوز السطح المحسوس، والذي يتطلب خبرة وحِنكة في التماسه.

   إذن، علينا أن نعي فيما يخص الفن – وعبر فرضية أولى – أنه لا فرق بين مبدعٍ ومتلقي، فالدائرة تحتوي كليهما وتحيط بهما عبر لحظتين متتاليتين. ومع التسليم بوجود فرضية ثانية تصنع مسافة بين الأثنين، أضحى السؤال السابق، سؤالاً قديماً قِدم تلك العلاقة بين الفنان ولحظة إبداعه الخاصة، ومُوغل بالمثل في التاريخ الذي يشمل الطرف المُستقبِل، إلا إنه يظل قادراً على تجديد نفسه، من آنٍ إلى آخر، بل إن قدرته قد تفوق حجم ما يقدمه لنا، لارتباطه بوجود حياة أخرى لا ندركها فى كل حين، ولأننا أيضاً على يقين بأن شيئاً ما، غامض ومجهول، يأتينا دوماً في غير انتظام ليدع بين أيدينا سؤالاً عصياً، ويرحل.

    على إن هذا يتم بالحدس، بصفته فعل تراكمي قد يدركه بعض الأفراد، فتتبدى في تراكماته أسلوب حياة وثقافة ما، من المُفترض بها أن ينالها شيء من التغيير أو التطوير الذي يحمل معه تواتر الزمن وحتمية المُفارقة بين الماضي والآني. كما إنه فى الواقع، فعل انتظار مقترن بالثبات أحياناً، ومُهمَش فى حركته وجدواه قياساً على قناعة الكثيرين به وتفاعلهم معه. لهذا يجب أن يتحرك هذا الخط الدائري إلى الخارج، وأن يتناقض مع عامليّ السرعة والزمن، مقابل أن يغدو الجمالي أكثر قرباً من عصره، وأكثر بُعداً عن النمذجة التي تحاصره وتُقَولِبه. في مقولة أخرى، يأتي هذا الفعل وفي حَدِه الأدنى ابتعادُ عن طرح العالم المرئي في صورته الشكلية، بحيث يسقط الجمالي في مغبَّة تلقين الأحرف الأولى للإنسان الراغب في التعرّف على العالم من حوله، وتَعلّم لغته السرية.

     هل في الأمر ثمة مخاطرة وارتهان إلى حدْس خاسر، ونحن نصعد درج التعرّف على مساحات التلاقي بين الفنان والمتلقي؟ لا يمكن القطع –  وخاصة مع غالبية جمهور المتلقين – بربح سريع أو مُحقق. إذ إنه ربح مرهون بشروطه التي تتنوع بين المحتوى الثقافي والاجتماعي والسياسي والديني والأخلاقي والاقتصادي، كماً وكيفاً. بين صنعة النُخبة وتعلّق المجموع بها. ومن ثم تظل القيمة الإيجابية للأثر الفني بمثابة كيان مُقَنن، وأشبه ما يكون بحديّ المعادلة بين البدء والانتهاء. ففي الأولى هو أشبه بطفل في حاجة إلى رعاية – وإنْ ظل بانتظار مستقبل ما، أمامه بخطوة أو خطوتين – ربما لمسافة أبعد في الزمن، حتى يمكن تلوينه واستعراض خطواته بشكل تصاعدي. وفي الثانية هو أقرب لأن يكون كهلاً بحاجة أيضاً إلى رعاية، وإنْ كان علينا القطع بأن خطواته ما فتأت تستقبل دروبها إلى الأسفل.

     في كلا الحالتين سوف نصادف مغبة ما، أو مشاعر حذرة قد تلقي بظلها في هذا الخلاء الممتد بين قطبين. على أن التمسك بالمفارقة الأولى قد يصنع حيزاً قابلاً للاتساع، حتى وإنْ تولدت شروطه اللامرغوبة من داخله، ولعل الرهان قد ينقلب إلى حدس لا يعرف الخسارة، ليصبح العالم المرئي عندئذ بوابة للعبور إلى المتواري في الأثر الفني، مما يمكننا من فهمه واستيعابه كطرف لا يقبل وجوده المُقايضة أياً كانت، سوى في حالة الجهل بأهميته. بالأحرى يجب إعطائه فرصة الاستحواذ على مشاعرنا وعقولنا والتأثير فينا، من أجل أن يصير هذا الجزء الغامض فعالاً وإيجابياً، فتتراسل الرسائل التي تسكن الطبيعة وذواتنا سواء بسواء.

    نعم، نحن ندرك وجودنا، ككائنات مرئية تتسع لها دائرة تعاطيها مع الموجودات كافة، كلما أوغلت في الزمن. وبالقطع تتسع دائرة خبراتها وحجم ذاكرتها، بالقدر الذي يعطيها فرصة للتكيف مع الفعل الآني، استناداً إلى مُشابهة قائمة مع فعل ماضي، وغالباً هي تمثل بالنسبة لها ركيزة يُعتد بالوقوف أمامها، إضافة إلى استشرافها لمستقبل ذات الفعل في حال تكراره.

   لهذا فإن ما نكرره في الفن هو رغبتنا التي سوف تُختَزل في عمل فني، يرتكز في جوهره إلى ماهيتنا كأجساد وذوات، باتت ترغب في تغيير الواقع إلى الأفضل، وفي خلق مبادرات أكثر وضوحاً، وأكثر تعبيراً عنا إنسانياً. والحقيقة أن المرئي المُتحرك يصارع دوماً هذا المتواري- خلف أبداننا وخلف معطيات الحياة – وكأنما ثمة جدل مقيم في مسافة ما بين  الداخل والخارج، ولا ينفك يستحث في تكراره رغبات تصحو من بعد أفول، ومن ثم فهي تُدرَج في مُعطى جديد لا يختلف في مكوناته عما كان في السابق، وإنْ كانت بذور التفاوت بين السابق والآني، على ضآلتها سوف تتحول سريعاً إلى كائن ضخم مزدحم بالأسئلة، مما قد يضطرنا إلى تفريغه في إجابات من نوع مختلف، فلا ينال الفرحة حين اكتماله إلا عبر حيز ضيق من الزمن.

   في ازدحام الصور والأسئلة، تتبلور قدرتنا على التكيف مع الآخر/ الخارج، كحدٍ مشروط بلا تعسف، من المُفترض به أن يصيب هدفه، وأن تغدو نقاطه التي يضعها في تاريخه بمثابة وحدة واحدة، تُجتزأ من خلايا إما متشابهة أو متنافرة، وفي كل الحالات سوف يصنع هذا التنافر والتناقض مساراً للفن الذي لا يفتأ يكتب للإنسانية تاريخها وفضولها في التعرف على حقيقة المتواري خلف صورنا وفي ثنايا الموجودات من حولنا. من أجل ذلك كانت إحدى سمات المتواري هذا، هي ألا يعطي نفسه في  موقف الكشف سريعاً، وإنْ حدثْ، فهو يقدم جزئية ضئيلة منه، وكأنه يقدم إحدى خلاياه الدقيقة فقط، بينما يشكلّ عصيانه على التجلي بشكل كامل، نوع من الفقر البين، سيكون مرجعه ضعف حدسنا الإنساني به، ثم ثقافتنا التي قد لا تُنير حيزاً أكبر لأجل تكاتف البصر والبصيرة، فتظل رؤيتنا بمثابة رؤية أحادية، لا تمسك بكافة الأطراف عن ثقة ويقين، بضرورة الجزء لأجل اكتمال الكل وبلورة صورته.

   لعلنا الآن نتحدث عن المتواري بلسان مُعَطلّ عن استيعاب المعنى، مما يجعلنا نسأل: هل هذا المتواري يمثل كيان في ذاته رغم جهلنا به وإدراكنا لحدوده؟ بالأحرى: هل هو جزء من مجهول الأشياء التي نغوص فيها ونرتجف أحياناً من خِشيتها وإحساسنا بسطوتها وتفوقها في أذى الآخرين؟ أم إنه الوجه الآخر للمرئي، ذو السطح الرقيق الذي يشف عن ما هو تحت القشرة؟ ثم هل هو شىء خاص بنا، كبشر فقط  دون سائر الكائنات؟

   الحقيقة، لكُل موجود، وجهه الآخر المتواري، فلا فرق بين بشر أو جماد. فقط ما يحرك هذا الوجه المتواري في الأشياء تجاه فعاليته هو جزؤنا نحن، بصفتنا الطرف الذي يمثل الإدراك والفعل ورَدْ الفعل، وبحيث يكون اكتساب الوجه المتواري في الأشياء لشرعيتها وبزوغ فعاليتها منبثقاً من تحركنا نحن تجاهها في ظل أي مؤثر كان، وفي أية ظروف كانت، حتى إننا لا نبرح نتفاعل مع الأشياء في لحظات متواترة وجليلة، لا تتوانى عن كشف عن جمالها، إنْ راودتنا نحن لحظة صدق، أو إنْ استعضنا عن البصر بالبصيرة.

    في هذا الكتاب يبدو الانفصال بين أبوابه ملموساً، من حيث اختزالها للنوعي في الفنون البصرية، فثمة حقائق ستبدو ظاهرياً وإلى حد ما، غير مترابطة، إلا إن اجتماعها يتم عبر بوابة المتواري المحفز على الفعل الفني. لذلك فمن تشبيه المتواري إلى قناع الوجه، مروراً بذاكرة المكان وتأويل اللون، ووقوفاً أمام لغة الصمت والجماد، فبواعث اللقية التي تحتوي المصادفة والفطرة من بعد، وانتهاءً بأسئلة ما بعد الحداثة، تمر الأجزاء منفردة، وكأنها تحيا في عوالمها الخاصة، المُرتبكة في ذاتها. وبينما نوشك على الاقتناع بكينونة هذا الخاص وانفراده بعالمه، لا نلبث أن نكتشف أن هناك ما هو قادر على جمع كل هذا المتنافر في بؤرة واحدة، مؤسسة على فتنة المجهول المتواري خلف الفعل الفني، أو كخطوط تتقاطع، وتتحرك باتجاه نقطة وحيدة تشكل المركز والأساس في هذا الفعل. ورغم ذلك، لازلنا نسأل عن هذا المتواري الذي يحرك كل هذه الخطوط، ويجمعها من حوله، أو يستقطبها في مركزه.

     فهل هي رسالة مُحتمُ وصولها إلى الآخر، حتى إنها تشكل بالنسبة لنا نوع من التعالي والزهو بأنانيتنا؟ أم إنه الاستثناء الذي يكمن بداخلنا، فلا يبلغ مراميه بوضوح سوى في عدد قليل من البشر؟ أم تُرى هو ذاك البعد الروحاني في الفن، أو الضرورة الباطنية التي قال بها كاندينسكي من قبل قرن مضى، فأعلى من شأنها لدى كل باحث عن حقيقة هذا الفن وجوهره.

     لعلنا لن نشك في كوْن هذا المتواري سوف يظل أبعد من كونهِ ظلاً محصوراً ومرهوناً بحركة وجودنا نحن في المدى، إذ إننا نبحث عنه في الكائنات أجمع، كصيغة يكتمل عبرها هذا الكيان الإنساني الذي نزهو به. ولما كان هو – قياساً على حجم معارفنا – مجهول الحركة والحجم، استناداً إلى فيزياء المرئي ذاته، فقد تم تفريغه ممن يخص هذا الملموس والمقروء في المرئي، أياً كانت ماهيته، حتى بدا لنا على النقيض. وما محاولات اختزاله في مادة من خلال المرئي نفسه، إلا خضوعاً لسطوته هو، أي إنه الفاعل والمفعول به في آنٍ، إلى تلك الدرجة التي قد تُفرِّغ هذا المرئي من محتواه، لنقف عند سطحه،  فنجعل منه مجرد وعاءً ليس إلا، ولعلنا نتحفظ في استخدامه أحياناً، كي لا نصيبه في مقتل ونبدد قدراته في اجتذابنا نحوه، وفي مرات أخرى نُسِقط كافة الاعتبارات في إمكانية احترامه، وتقبله في لحظات إبداعنا، كصنف من أصناف التابو الذي لا يُمَس، وكأننا نتحرك جيئة ورواحاً بين المقدّس والمدنّس اللذين يشكلان خلفية أساسية في معطيات المرئي والمتواري، وفي أسلوب تعاملنا معهما.

     تنفرط إذن عقود المرئيات، وتتشظى إثر اغتيالنا لبِنيّتها الشكلية. والحقيقة أن الحافز الكامن هناك، هو المتواري نفسه الذي يُصاب، ويُصيب أيضاً في نفس الوقت، إذ إننا نمارس الفن وكأنه قدرنا الذي ينبغي على الخارج احترامه، والانحناء له، ورغم تصورنا المتعالي، يستوقفنا الخارج / الآخر، كشريحة منفصلة عن مادته وعن محتواه، متسائلاً، إنْ كنا نحن – كفنانين – مُضلِّلين أو مُضلَّلين؟

     لذلك سوف أستعير جملة ستَرْد في المتن، وهي “الأيقونة العارية بدون إطار زمني”، والتي لا يربطها بهندسية المربع الأسود والمربع الأبيض، سوى هذا المجهول الراغب في عدم تعريف نفسه أو تقديمها وفق شروط متفق عليها بين الفرد والمجتمع، وأتساءل بدوري: هل نمثل نحن- وبالفعل – تلك الأيقونة العارية؟ ثم مَنْ مِن الطرفين قد ينحاز للتواجد في هذا المربع الأبيض الذي صاغه كازمير مالفيتش على مساحة القماش وأعطاه العنوان السابق؟ ثمة تناقض مبعثه اللون، علَّه يُغري باقتحام الحد الفاصل بين الشك واليقين، كي يصبح للفن معنى في الحياة، ويغدو المتواري أفصح في التعبير عن مكنون الصدور، تماماً كما تبقى الفكرة ذاتها كحجر أساس في محتوى تلك الأيقونة المُلتبسة ببِنيّة الهندسي. 

    يأتي سؤالي السابق بضمير المُخاطِب، الذي يعكس ضمير النخبة، وليس ضمير الجماعة في مفهومها العريض، وبينما يشتبك كل من الطرفين في جدل صاخب، قد نصادف صيغة من صيغ التعالي المتبادل، الذي يصل حد التنافر. والحقيقة أن ما يجمع بينهما دونما دراية هو هذا المتواري الذي يكمن في السؤال متعدد الأوجه والألسنة. فهو لم يعد سؤالاً مُنتخباً أو مُحدَداً، ومن ثم صار وضوح الأبيض في مربعه المجازي، بمثابة محاولة لاكتساب الصفة، أو بحث عن مسوغات التعبير عن الذات الفردية وروح الجماعة في آنٍ، وكأنما ما يحرك الكل هو اللاشعور الجمعي الغارق في الزمن، بعيداً عن أية تفرقة  تتوحد مع الجنس أو اللون.

   ربما لم يكن مسعى كاندينسكي هو تضليل الجماعة، حينما بحث في روحانية الفن والضرورة الباطنة، بقدر ما كانت محاولة منه في تقديم المشتبه به في الأساس النفسي المتجذر في الفرد، والمشتبه به في إفساد الجمالي – أحياناً – وتفريغه من إرثه القديم، ولذلك كان اللامرئي لديه، هو المُنجَز في العمل الفني كحقيقة قابلة لأن تزدان وتزهو بهذا اللامرئي فقط. وبينما يصنع اشتباك المرئي مع الواقع أطروحة مثالية للفن وصوره لدى الغالبية من المتلقين، بل ومن بعض الفنانين أنفسهم، يصر كاندينسكي على مثالية هذا اللامرئي الكامن في الأشكال المتحولة عن طبيعتها، كاستجابة ضرورية لا يعيها سوى الفنان الذي يحتفي بداخله أكثر مما يحتفي بواقع الأشياء، أو حال الجماعة.

   تلك حقيقة، لأننا نُدرك عن قناعة، أن لكُلٍ منا سؤاله الخاص الذي يؤرقه، ولكُلٍ منا رونقه الذي يراه ببصره وبصيرته، وكأنه لا يقبل التجميل أو الإضافة. يتم هذا عبر لحظة زمنية غير مُحدَدة، قد تقبل بالتغيير والانقلاب على ذاتها بُغيّة استكمال المشهد الفني على شاكلة المُتخيَّل في تلك اللحظة المثالية، أو ربما التنصل من جذوره بشكل درامي منفلت، يقنع باستلهام قنوات الأنا، أكثر مما يخضع لأنساق معرفية وإرث الأسلاف. وبالنتيجة يكون للسؤال المطروح نهاية، بقدر ما تعطي من تفاؤل واتساق مع الواقع المستمر فيما بعد اللحظة الآنية، بقدر ما تحمل من مفارقات، تضعه في مصاف الشواذ فكراً ونتيجة.

   عبر هذا التقلّب بات المتواري يسكننا ككائن مقيم، فلا نفتأ نراه في غير وضوح، ونستشعر وجوده بيننا دون قدرة منا على احتوائه أو الإحاطة به دائماً، وكأنما هذا الكائن، لم يكن في لحظة ما، مُتعيناً بين أيدينا وفي مرمى أبصارنا، ولذلك فنحن نخاطبه غالباً في توجس الخائف من الظلمة، أو بالأحرى لعلنا نُسرِف في التودد إليه كي يتعين لنا كاملاً، واضحاً.

   في المتواري إذن، وجود منفي كرهاً، وليس اختياراً، يأتي غالباً على العكس من المرئي الملموس، ومن ثم كان تصالح كُلٌ من المرئي واللامرئي في – جسد – العمل الفني لا يحمل نوعاً من المفاجأة بالنسبة للغالبية، خاصة ممن يعتقدون في المحسوس والمُدرَك، وينبذون بالتبعية كل مجالات الخيال والتخيَّل، رغم إدراك الجميع بوجود الثاني وبآلية عمله. وبينما يظل هذا المتواري، أمامنا يقتات من حياتنا ولا يفصح عن نفسه، إلا إننا ندركه تبعاً لخصوصية ما بداخلنا، ونتلقفه في إجابات تبدو أحياناً منقوصة وبحاجة إلى الاكتمال.

    لذلك فإن ما يطرحه متن هذا الكتاب لا ينفصل أو يبتعد كثيراً عن طرح كاندينسكي، سوى في كون اللامرئي قد يشي باستحالة الإمساك به، ويظل بعيداً مادياً ومعنوياً، من منطلق النفي الكامل لوجوده، ويصبح التقولّ به بمثابة طُرح غير مُجاز، رغم حتمية وجود الوجه الآخر للمرئي. على حين يفترض المتواري تعيين هذا الوجود أو إدراكه على غير اكتمال في كل لحظة، ومن ثم فهو يطرح الوعي به ككائن هناك مختبىء، مخفيُ ومُظَلل بغمام سوف يُكشف عنه في لحظة تالية. إننا دائماً في لحظة انتظار. أي أن ثمة يقين بوجوده، وبالوصول إليه، قادر على توليد نوع من التراحم أشبه بصلة القربى التي لا تنفصم عُراها، رغم ما قد يعتريها من فجوات أو ينال منها في لحظة. إنه جزء من حقيقة مُعترفُ بها حتى أن تكاد تماثل إعتقادنا في وجود المرئي. إنه أقرب لمفهوم المحتجب في فلسفة هيدجر في الفن.

   ورغم قبولنا بفرضية وجود اللامرئي مقابل القناعة بوجود مرئي، قياساً على تضاد الحالة، إلا إن المتواري يبدو أكثر فصاحة في تأكيد تلك الفرضية أيضاً، وكأنها الوجه الآخر للعملة، والتي لا يجب التشكك في وجودها، بل ومحتواها، قياساً على لغة خاصة بالفرد تنحاز به إلى رؤى وحالات مختلفة الجذور والتأويلات، أي أنه اختلاف في المعطيات والنتائج. وربما كان السبب الرئيسي في تحولات الفن وأشكاله يكمن في هذا الجذِر الذي ينبت نباتاً يأتي مُفارقاً في طعمه ولونه وحضوره بين الجمهور على مدار تاريخ الفن.

   ما يجب الاعتراف به أن ثمة التباس قابل للتواجد في ثنايا هذا المتن، أساسه التراوح بين مصطلحي اللامرئي والمتواري، وإنْ نالهما التطابق أحياناً، ظل هذا التطابق كما نراه غير مكتمل، إذ إن ورود اللامرئي في السياق مرهون بوجوده فيما هو مقتبس، فلا يمكن التعرض له بالتعديل، خِشيّة التعدي على حق الآخر في طرحه، ومن ثم أصبح مقبولاً به في سياق الحديث، طالما كان من ورائه تفسير يقدم هذا الآخر في صورة مكتملة، وفي ذات الوقت يتضمن ما نود التأكيد عليه في مسار هذا الكتاب.

غلاف أول

II

     إذن، فعبر الأجزاء المكوِّنة للمتن، تنصرف اللغة إلى البحث في دقائق هذا المتواري، من خلال استقراء الأشياء والكائنات، وكي تكتمل المقولات في سياق يحمل دلالته، صار من المفيد أن نتعرض  للنموذج الفني، وللتجربة التي تكشف جذور هذا الفعل الفني، فتضعه كحالة يمكن تكرارها عبر آخرين، ويمكن القول أن إضافة التجربة الفنية لبعض الفنانين، لم يكن بها تزيداً، قد يثقل كاهل المتن، بل إنها جاءت كجزء تطبيقي ينير وجهة نظر خاصة ويبلور تتبعها لأبعاد هذا المتواري، وما قد يحمل من رمزيات ودلالات متفاوتة، مع عدم إغفال أن ثمة خبرة جمالية لدى كلٍ منهم، بمقدورها أن تصنع الفرادة والتميز بين تجربة وأخرى.

   إن وجهة النظر قابلة للتعدد، ومن ثم فهي تظل قابلة أيضاً للاحتفاظ برونقها وتجلياتها، وتحايلها في استكناه أبعاد المتواري الذي يسكن داخل الفرد وداخل الأشياء بالمثل. فالوجه وهو يغالب الكثيرين كمفردة، إنما يخرج عن نمطيته ومألوفه، إذ يقابل رؤى قادرة على تحريك الساكن وعلى مزج الأنا والآخر في فعالية اللحظة. وبنفس القدر يتخلل إحساسنا بالمكان وانغماسنا فيه طَرحٌ يزدان بقدرته على التفاوت والاختلاف من فرد إلى آخر، ولهذا يظل التجاوب مع المتواري حصيلة خاصة وبقعة مميزة لا تتسع إلا أمام الوجدانات المُشِعة والمُنفتحة على رحابة الفن وماهيته. كما أن الولوج إلى غاية اللون وتأويلاته صار أحد الأسس التي لا يقبل الفن التخلي عنها، وهو ما يتأكد مرة أخرى على ضفاف الطبيعة الصامتة، وفي معنى اللِقيَّة الفنية ومحتواها. وأخيراً يشكل البحث وغواية التطرف أو الانفلات والتجاوز، عمقاً يغترف منه تاريخ الفن الحديث والمعاصر، تجارب تضطلع بعبء تقديم الآني واللحظي العنيد على الأفهام وعلى التواصل مع الوجدانات البشرية. ولعل هذا التاريخ الفني وهو يكتب ذاته، قادر على كتابة تاريخاً موازياً للمتواري القابل للتعدد والانسلاخ عن ماضيه القريب لصالح جملة أكثر اقتراباً من روح هذا البدن أو ذاك.

III

     تشهد لغة الفن بوجود هذا اللامرئي المتواري في جسد الإنسان والكائنات، مثلما تشهد العقيدة  الدينية بحياة أخرى غير منظورة، بل إنها تظل محوراً للخيال الذي يترصد تفاصيلها ودقائقها، فهي حياة غير مُمارَسة أو منقولة، وبينما يتم رسم صورتها، يكون الواقع المرئي والمحسوس مقياساً تُقاس عليه تلك التفاصيل. ولهذا وجدت براحها بالمثل في بِنيَّة الأسطورة والخرافة وفي سائر تجليات العقل الإنساني، على امتداد عمره حتى اليوم.

    إذن، فالاختلاف موسوم بقدرة المرء على القناعة بالآخر أو رفضه، خاصة فيما يختص به الفكر. ولذلك تنتقي الفلسفات على تنوعها ما يتناسب مع رؤاها، أو بالأحرى مع رؤى أفرادها الذين يتبنون ترويج شعائرهم في المجتمع، وبظنهم أن الصواب يحالفهم دون غيرهم.

   من ثم سوف نتعرض بدون إسهاب يفسد السياق إلى هذه الاختلافات، التي تطرح رؤاها في جذور الفعل الفني –  كفعل إنساني متمايز، وربما في سيرة صاحبه – والذي يشكل محور الكتاب وأساسه، وإنْ ظلت هناك وجهة نظر خاصة، تبحث في جذر هذا الفعل الفني وما ورائه، فهي لا تبعُد عن كونها محاولة منا في رؤية المتواري كشيء حتمي لا يمكن انكاره، ومن ثم التماسه في المحسوس واللامحسوس، في الظاهر والباطن.

     في البحث عن المتواري رؤية خاصة، لا تستند على فرضيات مسبقة، بقدر كونها تشكل مسعى فنان لا يحترف الكتابة والنقد، كحالة منفصلة عن الإبداع، مما يجعل لرؤيته مذاق التجربة التي تتردد لدى الآخرين. إنها بحث في جماليات حساسية جديدة للفن. ومن ثم تظل في حاجة إلى تعضيدها بما سبقها من آراء هؤلاء المتخصصون، وما أظن بوسعنا أن نطاولهم في قامتهم التي شيدوها بالصبر على المعرفة والاستغراق فيها.

غلاف أخير

    ثمة إشارة هامة، إذ أن متن هذا الكتاب قد انتهي قبل قرابة الأربعة عشر عاماً، أي في العام 2005 وحدث أن صادف هذا الكتاب حظ سيء في كيفية طباعته على مدار أكثر من عقد، ولعلها كانت فرصة جيدة أن أراجع مادته الأصلية والعمل عليها بما يتناسب مع واقع تجدد في المشهد الفني أتاح لي إضافة أسماء وفنانين جدد إلى المتن ذاته. بيد إن ما أسعدني على المستوى الشخصي واعتبره إضافة تتضامن في أحد أشكالها مع منهجية هذا الكتاب إنما يتمثل في التقديم الذي وضعه لي صديقي الباحث في جماليات الفنون التشكيلية محمد بن حموده وهو الأستاذ والعميد السابق للمعهد العالي للفنون والحرف في صفاقص، في الجمهورية التونسية. في هذا المقام أتوجه بجزيل شكري لهذا الباحث العلامة في تخصصه، والذي طالما عرفته منصات المؤتمرات الدولية العربية باعتباره أحد الأقلام الهامة في نقد الفنون البصرية، في المشهد الفني العربي على مدار العقود  الثلاثة الماضية.

                                                                                 الأسكندرية في مارس 2019

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات