جوردي إستيفا: ملاح (بحر العرب) في السَّلطنة

03:02 مساءً الأربعاء 26 مايو 2021
د. طلعت شاهين

د. طلعت شاهين

كاتب وناقد مصري. مترجم عن الإسبانية، مستشار النشر لدار سنابل للكتاب في القاهرة

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

 فصل من كتاب “عرب البحر”،  تأليف: جوردي استيفا، ترجمة: د. طلعت شاهين

ما أن هبطنا في عمان، حتى رحبت بنا رائحة الياسمين النفاذة. ورغم أن الوقت كان شتاء فإن درجة الحرارة كانت تقترب من الثلاثين درجة. من أعلى السلم فاجأني شكل الجبل الأخضر الصخري، الذي يصطف بموازاة الشاطئ وتبدو قممه الذهبية التي تزيد عن الثلاثة آلاف متر فوق سطح البحر، تحت أشعة الشمس الأولى. تماما كجبال اليمن، فإن جبال عُمان تصطاد أمطار الرياح الموسمية، والتي يجري توجيهها بحكمة كبيرة عبر الأفلاج، إنه نوع من الري وتحويل المياه الدقيق، الذي جعل إمكانية استمرار الحياة في أحدى مناطق العالم الأكثر جفافا، وسرعان ما سمح لنا عاملو المطار بمغادرة الطائرة والسير على أرضية الممر حتى مبنى المطار، أدرت وجهي لمشاهدة سلسلة من النخيل ذكرتني بتلك التي كانت تصطف على شاطئ بحر العرب، والذي كان يظهر على حافته قرص ضخم احمر اللون.

مباني المطار كانت حديثة وتخدم الهدف منها، تماما كما هو معروف عن صورة سلطنة عمان والتي رغم اسمها الأسطوري، فإنها كانت أقل أسطورية وأقل فخامة من دول الخليج الأخرى، أحد العاملين من أصل هندي كان يحرك مبخرة يصدر عنها سحابة معطرة وحلوة تنتشر في أرجاء صالة الوصول لتذكر الزائرين أنهم وصلوا إلى بلاد البخور.

في قسم الجوازات كان ينتظرني شخص في السبعينيات من عمره قصير القامة وممتلئ الجسد له لحية ويرتدي الملابس العمانية التقليدية، بفاروجا مفعمة بالعطر ملتفة حول عنقه، وعلى رأسه عمامة من الكشمير وعلى عينيه نظارة قاتمة لا يرفعها عن عينيه إلا لمسح عينه الوحيدة المريضة. كان يحمل ورقة كرتونية مكتوب عليها اسمي واسم شخص آخر، وما أن قدمت له نفسي حتى انطلق بصوت عال:

-أهلا وسهلا.

حاج عمرو الذي كان موظفا في وزارة الإعلام بالسلطنة سوف يكون مرافقي طوال أيامي الأولى في عُمان.

والشخص الأخر الذي كان ينتظره، صحافية أمريكية لا يمكن تقدير عمرها تسافر عبر بلاد المنطقة لتتحدث مع “حكام دول الخليج الذين يواجهون تحديات القرن الواحد والعشرين”، كما قالت لي. مرت الإجراءات سريعا، وبعد دقائق قليلة كنا في السيارة الفخمة للوزارة في طريقنا باتجاه مسقط.

-عُمان أول البلاد العربية التي تشرق عليها الشمس- قال لنا حاج عمرو، فيما كنا جميعا ننظر عبر النافذة إلى ذلك القرص المتوهج الذي كان قد ارتفع فوق سطح بحر العرب.

عرب البحر للكاتب الأسباني جوردي استيقا – ترجمة وتقديم: د. طلعت شاهين

بالضبط، فقد كنت في البلد العربي الأكثر شرقية، إنها حالة جغرافية فريدة سوف تكون حاسمة في تاريخه لأنه منفصل عن باقي البلدان الأخرى في الجزيرة العربية بتلك السلسلة الجبلية المسماة الجبل الأخضر، والربع الخالي، الصحراء الأكثر قسوة في العالم، ودائما ما ربط عُمان مستقبله بالبحر الملاصق له، جغرافيا كان مقدمة للوصول إلى شواطئ الهند، ونقطة الانطلاق باتجاه أفريقيا. مسقط، على سبيل المثال، كانت أقرب إلى بومباي منها إلى القاهرة، وموقعها على المحيط الهندي ونجاحها في أعمال البحار أهلها لتكون بلدا مختلفا ومفتوحا على التأثيرات الهندية والفارسية والأفريقية.

كانت سيارة الوزارة تنطلق بسرعة كبيرة على الطريق المحاط بالحدائق والذي يؤدي إلى العاصمة.. وكانت هناك كتيبة من المهاجرين من شبه القارة الهندية يرتدون ملابس العمل الزرقاء، بينهم بعض السيخ، يبذلون جهدهم في الحفاظ المناطق الخضراء، فكانوا يغيرون زهور الغلاديس ويشذبون الشجيرات مختلفة الألوان، كان هذا أول ما لفت انتباهي، فقد كنت معتادا على شرق متراخي فيما يختص بمسائل النظافة، لقد كانت هنا النظافة ظاهرة، فتذكرت كلمات صديقي المصري صنع الله إبراهيم الذي ذهل بمجرد نزوله من الطائرة هنا بالحرص على تنسيق ونظافة كل شيء، ولأنه لم يشاهد ورقة واحدة ملقاة في الشوارع، عندما حكى لي ذلك، أخذت الأمر على أنه مبالغة منه، ولكني أرى الآن أنه صحيح تماما، من هذه الناحية فإن عُمان كانت سويسرا الشرق.

الأحياء الأولى من المدينة كانت تتشكل من بيوت بيضاء تنزلق بين الجبال العارية والبحر، تحتل الوديان، أي المسارات الجافة للأنهار، ومن وقت لآخر، بعد المرور بفراغ، يمكن رؤية خزانات الغاز والبترول على حافة البحر التركوازي. وفي أحيان أخرى كنا نقترب من الجبال العارية، على قمتها رادارات ضخمة وإيريالات، حيث تصعد إليها الشاحنات العسكرية مثيرة سحابة من الغبار.

ومسقط الكبرى تتكون في الواقع من عدد من التجمعات الحضرية محددة المعالم، أقيمت خلال الثلاثين عاما الأخيرة نتيجة للنهضة المعمارية المصاحبة لظهور الذهب الأسود.

-لم يكن هنا أي شيء من هذا- شرح لنا حاج عمرو، كما لو كان يقرأ تفكيري- عندما كنت صبيا، كانت مسقط مسوّرة ويغلقون الأبواب عند حلول المساء.

ترى ماذا يقول السلطان السعيد، والد السلطان قابوس الحالي، لو أنه رفع رأسه؟ خلال فترة حكم السلطان سعيد حافظ على عزلة عُمان تماما كما فعل أئمة اليمن، حرّم لبس النظارات ولعب كرة القدم والمدارس. كان البلد يعيش غارقا في ظلام القرن التاسع عشر، وفقد مستعمراته فيما وراء البحار والتي كانت تشمل مومباسا وزنجبار أو لامو، ولم يكن يخلوا من الصراع على السلطة وكان مغلقا تماما أمام تأثيرات العالم الخارجي. ولم تخرج السلطنة من ليلها الطويل حتى نهاية الستينيات بعد الانقلاب الداخلي الذي قاده ابنه ضده، السلطان قابوس، الذي تمكن من استغلال دخل الغاز والبترول الحديث الاكتشاف، وجاء بالحداثة إلى هذا الركن من شبه الجزيرة العربية.

إلى جانبي، كانت الصحافية الأمريكية التي قطعت أخيرا حديثها في تليفونها الجوال وبدأت تهتم بمستقبل النظام، فالسلطان لم يبين أبدا ميله إلى الحياة العائلية وليس له أبناء، ومحاولاتها لجذب حاج عمرو إلى الحديث فشلت أمام صمته المطبق، لأنه إن كان هناك موضوع يمثل محرّما في السلطنة فقد كان هذا الموضوع، والمراسلة الخاصة لقناة CNN ليس أمامها سوى أسبوع واحد لتمسح المنطقة بكاملها.

-غدا أسافر إلى البحرين وبعدها إلى قطر، وفي اليوم التالي إلى الكويت. ثم يجب أن أعود بعد ذلك إلى اتلاتنا لأعود للسفر مجددا إلى سنغافورة…

جوردي إستيفا على غلاف أخبار الأدب

عاد هاتفها إلى الرنين من جديد، ولكن هذه المرة، بعد أن ألقت نظرة على شاشته لم تجب. بالطبع لم ترغب في إضاعة الوقت وبدأت في فرط مسبحة الأسئلة الموجهة إليه والتي تلافاها موظف وزارة الإعلام حاج عمرو واحدة بعد الأخرى بدبلوماسية ولم يقدم سوى شرح أنه في كل عام، صاحب العظمة، يجول في أقصى أركان البلاد ليعرف تطلعات شعبه، ويفتح أبواب عرشه على الطريقة التقليدية العربية، مستمعا إلى الشكاوى والمطالب.

الصحافية الأمريكية حكت لي، دون أن تنتظر شرح حاج عمرو، أن صاحب العظمة كان قد قرر أنه بعد وفاته على رجال عائلته أن يصلوا إلى اتفاق حول خليفته خلال ثلاثة أيام، والذي يجب أن يكون رجلا من العائلة الحاكمة آل سعيد، وإن لم يتوصلوا إلى اتفاق- أوضحت دون أن تنتبه إلى قلة اهتمامي بتفصيلات الموضوع- فإن على وزير الدفاع أن يفتح مغلفا يترك فيه السلطان قابوس اسم خليفته على العرش.

-وحضرتك، ما الذي جاء بك إلى هنا؟- سألتني بينما كانت تطالع رسائل هاتفها الجوال.

حدثتها عن اهتمامي بعرب البحر.

-أرجو ألا يكون كل شيء قد بقي مدفونا تحت الطرق السريعة والمراكز التجارية- همهمت، أمام مرور البنايات والتجمعات السكنية التي كانت تمرق أمامنا عبر النافذة- أريد أن أزور البلاد كلها والبحث عن قباطنة السفن الشراعية القدامى الذين كانوا يتبعون طرق الرياح الموسمية- أضفت- سأبدأ بزيارة ظفار، بلاد البخور، وبعدها أواصل عبر شاطئ عُمان. ثم انتقل إلى أفريقيا لأمسح السلطنات القديمة التي كانت في زمنها تشكل جزءا من الإمبراطورية العُمانية ثم أنهي رحلتي في زنجبار.

-يا له من أمر مدهش؟- ردت دون أن تترد كلماتها الروتينية التي أوضحت عدم اهتمامها دون أن تنتبه، كنت مقتنعا إنني كنت أتحاور معها.

في النهاية، لم يكن العرب بالنسبة لها سوى حفنة من البدو المقلقين زوي العادات البربرية، لا هم لهم سوى الرحيل في الصحارى؟ ومن تحتهم يمتد بحر من البترول الذي لا غنى عنه الذي يشكل أرقاما متتابعة تجري أسفل شاشات تلك القنوات التليفزيونية بسرعة متناهية والتي تنطلق إلى جميع بلدان العالم، حيث لا تصل إليها ولا حتى إشارات تليفزيونات البلاد المحلية.

ماذا يعني الإعلام بالنسبة لتلك القنوات الإخبارية؟ كنت أفكر بينما كنا نقترب من المدينة. “الخروج بحثا عن صور لمعلومات معدة مسبقا، لتؤكد مجددا على ما هو راسخ من معلومات مغلوطة؟ مواصلة الإبقاء على الأوضاع التي تقول أن العربي يوازي البدو الرحل، الحضارة المندثرة، والعادات البربرية، الغير قابلين للتعايش مع عالم اليوم، وأنهم لا يزيدون عن كونهم جماعات من الإرهابيين؟

بينما دلت رموشها الاصطناعية التي تكاد لا تخفيها أنها فقدت الاهتمام بالحوار.

-زنجبار…!- تنهد الموظف- أنت قلت إنك سوف تذهب إلى زنجبار؟ إنها بالنسبة لنا مكان خاص جدا، لقد أمضيت طفولتي هناك، لكننا تركنا تلك البلاد المباركة بالضبط قبل الثورة الزنجية، التي انتهت بالقضاء على العرب. لقد شعر أبي مسبقا أن الأمور تتطور نحو الأسوأ، وأحيانا نتحدث السواحيلية في البيت.

بعد ثورة 62، كثير من الزنجباريين من ذوي الأصول العربية لجأوا إلى إمارات الخليج، وليس إلى عُمان، حاضرة الإمبراطورية القديمة، التي كانت لا تزال تحت سيطرة السلطان الذي كان يحافظ عليها منغلقة بعيدا عن العالم. بعدها بعدة سنوات، ابنه قابوس، السلطان الجديد، منحهم الجنسية وأعادهم من المهاجر، والتي كان أمنا وسلاما على الدولة. لقد كانوا أناسا معدين بشكل جيد: أطباء ومهندسون ورجال إعمال…

 إنها تذكرني بشكل ما، بالتأثير الذي نتج عن وصول الجمهوريون الأسبان إلى المكسيك.

الطريق السريع، الذي تحول الآن إلى مجرد شارع حضري، واصل عبوره ممرا مائيا، أو عاد من جديد لاختراق مجموعات سكنية كتلك التي كنا تخترقها من وقت لآخر، كانت هناك مجاري تروي تماثيل كبيرة تمثل الرموز المعروفة عن عُمان، وأكثرها تكرارا “دلة” قهوة عربية فائقة الضخامة،  وطرفها المنحني على هيئة منقار صقر ومحاطة بفناجين كما لو كانت دجاجة محاطة بصغارها. وأيضا يمكن رؤية رموز أخرى طريفة: صندوق ملئ باللآلئ وتيجان ذهبية ومجوهرات أخرى من الجص الملون، كما لو كانت كنوز على بابا، وسفن شراعية تشبه سفينة السندباد، وتماثيل تمثل غزلان صحراوية أو ماعز جبلية… وسرعان ما ظهرت تشكيلات معمارية معقدة تؤكد على أهمية الماء بنوافيرها، بحيرات ومجاري، وحتى شلالات رائعة، بالطبع كلها اصطناعية، والتي كما قال لي حاج عمرو تضاء ليلا بأشعة الليزر.

سواكن… المدينة النائمة (فصل من كتاب “عرب البحر”) للكاتب الأسباني: جوردي استيفا ترجمة: د. طلعت شاهين

كان كل شيء يبدو نظيفا، الحدائق كانت رائعة والبنايات تبدو عليها العناية وحتى أجهزة التكييف وخزانات المياه كانت مموهة بالأزرق السماوي على الطريقة العربية، في مكان ما كنت قد قرأت أن السلطان كان يزور الأحياء المختلفة متخفيا ليتأكد شخصيا من حالة الشوارع: الإضاءة والنظافة.

فاجأني في البداية رؤية هنود وفليبنيين يعبرون الشارع في غير الأماكن المخصصة للعبور، ولكن لم يكن غريبا لأنني لم أشاهد ولا إشارة ضوئية واحدة، ولا كباري أو ممرات تحت الأرض للمشاة في مسافة لا تقل عن ثلاثين كيلومترا. وذلك لأن مسقط، مثل مدن خليجية أخرى، لم تكن مصممة للسير على الأقدام. فالنسق الأمريكي الحضري مهم ومن لا يمتلك سيارة لتنقلاته يجد نفسه مجبرا على اتخاذ طرق ملتوية أو أن يخاطر بحياته بعبور الطرق السريعة.

هنا وهناك ترتفع مساجد رائعة.

-هذا المسجد الأكبر في السلطنة- قال حاج عمرو، مشيرا إلى مسجد لا يزال تحت الإنشاء، والتالي مستوحى من المعمار العثماني، يذكر بقبته ومآذنه المرتفعة بمسجد استنبول أو بمسجد القلعة بالقاهرة، وهناك في البعيد يرتفع مسجد ثالث مستوحى من العمار الفاطمي الخالص، لكن كل هذه المساجد تعود إلى العقد الأخير.

-نحن نقترب من حي الوزارات- أشار حاج عمرو.

مبنى حكومي يتميز بتيجانه المذهبة وأعمدته المستوحاة من معبد ادفو، وزارة أخرى، بشرفاتها التي تبدو كقلعة من الرمال، تذكر بالقلاع العُمانية.

نعبر المكان بالسير على قناة محاطة بالأشجار التي تخترق جذورها الأرض وتمتد نحو البحر، لنقترب من منطقة القرم السكنية، التي تطل على شاطئ رائع من المياه الشفافة، تصطف العديد من الفيلات ذات الطابع العربي بقبابها ونوافذها السماوية والتي تنتشر على لسان بحري يتعمق في بحر العرب، وتحيط بها حدائق مزهرة من الياسمين والنخيل وأشجار السدر والسرو…  وشجيرات كثيفة مثل تلك الحشائش الصحراوية التي تنمو بقوة حين يجري ريها بماء وافر.

-والآن نحن ندخل إلى منطقة روى التجارية،- قال حاج عمرو.

إنه حي لا شخصية محددة له، مكون من بنايات مرتفعة تعلوها لافتات دعائية لهيتاشي وتويوتا أو سوني، حيث توجد المقار الرئيسية لكبريات المصارف والشركات، فاجأني وجود القليل من اللافتات المكتوبة بالعربية، معظمها مكتوب باللغة الإنجليزية، والمعروف أن خمس السكان تقريبا من أصول آسيوية، وبشكل خاص من شبه القارة الهندية، والذين يحتلون أعمالا في معظم الطبقات، من أول الكناس وحتى عضوية مجالس إدارة الشركات المهمة.

رواق التسوق، دار الأوبرا السلطانية، مسقط

وعند الوصول إلى ساحة يطل عليها واحد من تلك التماثيل الكبيرة، ولكن هذه المرة توجد به جرة كبيرة ينطلق منها سرسوب ماء يحرك ساقية معقدة التركيب، اتجه السائق ناحية اليسار ليقف تحت مظلة ممتدة، لقد وصلنا إلى الفندق.

جاء على الفور صبيان هنديان يرتديان ملابس خدم الفندق الأحمر والذهبي، أخذا الحقائب في عربة نقل الحقائب، والتي كانت ذهبية بالطبع، دخلنا في صالة ضخمة جدا من الرخام تقف فيها عربة صحراوية ضخمة معروضة على منصة دوارة، والمناخ العام، كما سوف أكتشف بنفسي في كل الأماكن في عُمان، كان باردا، لأن المكيفات كانت مبرمجة لتشعر كأنك في ربيع سويسري، والفارق بين درجة حرارة الداخل والخارج يمكن أن يصل إلى ما بين 15 و 20 درجة، قدمت جواز سفري إلى عاملة الاستقبال الهندية الجميلة وجلسنا في أحد الأركان، كانت هناك أركان عُمانية منتشرة حافلة بالوسائد، ومزينة بـ”دلة قهوة” من النحاس المصقول، وعبر القناة التي تبث الموسيقى كانت تنبعث موسيقى قيثارة فلامكنية.

قدم لنا حاج عمرو فنجانا من القهوة الممزوجة بحبات الهيل، هو لم يشربها لأننا كنا في شهر رمضان، شربت أنا الفناجين الثلاثة المتعارف عليها في التحية دون نسيان تحريك الفنجان الأخير، كما تعلمتها قبل خمسة وعشرين عاما من صديقي عبد العزيز. لأنه ما لم أقم بهذه الإشارة، فإن العامل كان يمكنه أن يظل يقدم لي القهوة وقبل أكثر من ثلاثة فناجين كان علامة على الجهل، تماما كرفض شربها من البداية، أو طلب زجاجة مياه غازية أو ترك المكان دون تحية وداع، تاركا بقايا عطر قوي كما فعلت صحافية السي ان ان. إذا كان هناك من لا يريد شرب القهوة، يكفيه أن يقرب الفنجان الأول من شفتيه ثم يهزه على الفور. فليست هناك حاجة إلى شربه، يكفي تقريب الفنجان من الشفتين، حتى لا يبقى الطقس ناقصا ولكي يشعر المضيف بالراحة.

-آه…- قال حاج عمرو براحة- أرى أنك تعرف عاداتنا، هل جئت إلى هنا من قبل؟

-لا، لا، لكني قبل سنوات زرت بلادا مطلة على البحر الأحمر….

من غرفتي في الطابق السادس عشر يمكن تأمل الحي معدوم الهوية ببناياته البيضاء التي يتناقض لونها مع لون الجبال الحمراء التي تبدأ في فقدان نتوءاتها وتنخفض كلما اقتربت الشمس من المغيب، فتحت ستائر النافذة واستلقيت على السرير، لقد كان كل شيء سهلا، بعد بريد كارلا الاليكتروني، طلبت مساعدة سلطنة عمان لكتابة كتاب. وكما يحدث دائما، عندما أفقد الأمل في تلقي رد، وجدت رسالة مسجلة على مسجل تليفوني:

-انا هيلين رينير، ممثلة وزارة الإعلام بسلطنة عمان في جنوب أوروبا. درست السلطات طلبك وقبلوا دعوتك في رحلة عبر البلاد، فقط عليك أن تحدد التاريخ.

سرعان ما غلبني النعاس. مؤكد مرت ثلاث ساعات قبل أن يدق جرس الهاتف.

-صباح الخير.

-من هل أنت عاصم؟

-أليس حضرتك السيد…؟

-بالضبط، لكني لا أعرفك.

-آسف لأنني لم أذهب لاستقبالك في المطار- قال ذلك الصوت-لكن حضرتك لم تحدد ساعة وصولك بالضبط، ولا حتى الفندق، وان لم يكلفني كثيرا من الجهد العثور عليك، لان الصحافيين ينزلون جميعهم تقريبا في هذا الشيراتون.

 كان عاصم صحافيا مصريا، مدير تحرير لمجلة ثقافية لها وضعها من الاهتمام في العالم العربي، كنت قد حاولت الاتصال به دون أن أتمكن من ذلك، فكل فاكساتي ورسائلي الالكترونية لم تجد إجابة. والآن، يتصل بي عاصم، كما قال لي، بمبادرة منه.

-اتفقنا- أجبته- هذا المساء في الخامسة في استقبال الفندق.

ارتديت ملابسي وخرجت للتنزه عبر أجنحة الفندق. الصالة الداخلية، بنوافيرها وشلالاتها والشجيرات المذهلة المحيطة بها، هناك أركان بأرائك حيث يجلس من يبحثون عن الراحة بعيدا عن الأعين العديد من رجال الأعمال اليابانيين، والهنود، والشوام، والصينيين، والأمريكيين، والأوروبيين لهم أركانهم لإجراء مباحثات عمل مع زملائهم العُمانيين. هؤلاء، مسلحون بالباجدات الالكترونية الحديثة، يبدو كما لو كانوا يتبارون فيما بينهم بنصاعة بياض دشداشاتهم. كيف يحصلون على هذا البياض الناصع، كنت أتساءل، وكيف يمكن الاحتفاظ بذلك النقاء طوال ساعات النهار في محيط ملئ بالغبار.

في البار، حيث لا يقدمون طوال شهر رمضان سوى العصائر كانت هناك مجموعة من الفتيات الفلبينيات تترجمن من الإنجليزية موضوعات معروفة “لف از ان اير” و”يللو ريفر” أو “راسبوتين”، قبل الوصول إلى “سيبوني” و”كيثاس، كيثاس” أو “بيسمامي موتشو” وقائمة طويلة من الكلمات اللاتينية. في الفناء الرئيسي، يعرض محل الحلوى كوسان مستورد من باريس، ويعرض محل الزهور زهورا فارسية واوركيديا كولومبية وزهورا أفريقية غريبة بأسعار تساوي أسعار الذهب، في فاترينة إحدى المكتبات يبرزون كتب وليفريد زيسيجير، وكتب شروح مخصصة لرجال الأعمال الأوروبيين مثل “دو او دو نوت”، (ما يجب أن تفعله وما لا يجب أن تفعله) ترى كيف على الواحد منا أن يتصرف في أركان رجال الأعمال في العالم العربي، طالعت أحد تلك الكتب للتعرف على ما بها: الكتاب يشرح إن كنت ترغب في التوصل إلى اتفاق جيد، على الواحد منا أن يهتم بالتعارف، بتحية مضيفه والسؤال عن صحته وصحة أسرته، قبل الحديث عن أي موضوع آخر في مجال الحديث العام، قبل الدخول في موضوع العمل، ولا تتحدث أبدا في موضوع يتعلق بالسياسة أو الدين، ويحذر أنه يجب ارتداء ملابس فضفاضة، ولكن ألا تكون قصيرة، وألا يضع ساقا على ساق، أو تضع باطن قدمك في وجه مضيفك حين يُطلب منك أن تجلس على الأرض في إحدى الخيام خلال بعض الاحتفالات التقليدية. وغير مرغوب على الإطلاق تقبيل النساء على خدودهن، وأما الرجال فهذا ممكن، وإمساك أي رجلين بأيدي بعضهما هذا لا يعني أنهما من الشواذ، بل ذلك علامة فقط على المعزة والصداقة، ويشرح أيضا أنه خلال اجتماعات العمل فإن التهامس غير محبوب لأنه في هذه الحالة يعني أن الطرف الآخر يمكنه أن يقوم بنفس العمل. وينتهي الكتاب بأمثلة عن صفقات ناجحة انتهت بالفشل بسبب تناقضات الفهم الثقافي.

خرجت إلى خارج الفندق ولكن الحرارة الخانقة التي أشعرتني وكأنني على وشك الاختناق، عدت إلى البار، وهناك كان ينتظرني عاصم ضاحكا، برفقة هاني، سوري أشقر ولطيف من نفس المنطقة التي ولد فيها كارلوس منعم (رئيس الأرجنتين وقتها) وقال بكل فخر عندما عرف جنسيتي:

-آه، أسبانيا- همهم بينما كان عازف القيثارة يتجول بعزفه في موسيقى ارانخويث، لا تزال يحتفظ العرب بفكرة أسبانيا الأسطورية، الجنة المفقودة عن الأندلس الأسطورية.

-الحمراء وقرطبة وجارثيا لوركا والمعلم رودريجو… – عدد هاني الأسماء باحترام كبير.

ابتسمت، كنت أعرف إلى أين سوف يأخذنا هذا الحديث الذي تكرر معي ألف مرة ومرة عن التقارب بين الشعبين، قبل خمسة وعشرين عاما في الخرطوم والقاهرة كان يمكنني الدخول في مثل هذا الجدل بحماس. ولكن مع نهاية السبعينيات كانت أسبانيا لا تزال بعيدا عن القبول بها في أوروبا، فكانت ترى العالم العربي بعين القبول، فالفارق في مستوى الحياة مع المغرب دون أن نذهب بعيدا، لم يكن قد تضاعف بعد عدة مرات، وبعد أن أصبحنا أثرياء وأولئك العرب الذين كانت تربطنا بهم علاقات عديدة تحولوا إلى جماعات خطرة، يبذلون كل ما يستطيعون لعبور مضيق جبل طارق ويغزونا من جديد، وحتى مثقفيهم أصحبت لديهم الجرأة لتذكيرنا من وقت لآخر بماض مشترك وصل في شبه الجزيرة الايبيرية إلى أقصى تقدمه المعرفي في تلك الفترة، بالضبط عندما كنا ننتمي إلى ثقافة واحدة.

-هل تريد الذهاب إلى مكان محدد؟- سأل عاصم فيما كانت الفلبينيات تتدخلن معنا في الحديث.

-نعم، أحب التعرف على المدينة القديمة والميناء القديم. فأنا حتى الآن أعرف إن كنت في سنغافورة أم في جوهانسبرج، أنتما أول عرب أتبادل معهم الحديث منذ السادسة صباحا.

-أنت تقول المدينة القديمة؟- تبادل عاصم وهاني نظرات الدهشة- مسقط ليست دمشق أو القاهرة- قال هاني- هنا لا يوجد سوى القليل لرؤيته.

رمال وهيبة، صحراء سلطنة عُمان

-لم يبق من المدينة القديمة الشيء الكثير- أضاف عاصم- إن كنت قد جئت إلى عُمان لمشاهدة العمارة القديمة، سوف يكون الأمر صعبا عليك، إن لم تكن مهتما بالقلاع.

يبدو أن تخيلاتي ذهبت بعيدا جدا، لقد تخيلت مكانا حالما أقرب إلى الجنة. بوتسودان وزنجبار… لقد تخيلت مدينة مسوّرة تنعكس على سطح المياه التركوازية حيث تتقدم على سطحها السفن الشراعية، كنت أتخيلها بيضاء بميناء ممتد تنطلق منه شوارع قديمة كتاريخها.

لم أكن مخطئا جدا، فقط أن تلك المدينة كانت قد اختفت إلى الأبد، ربما كان يمكنني أن أنجز مشروعي قبل خمسة وعشرين عاما، حيث كان يمكنني تذكر مذاقها القديم، ولكن الأسوار التي كانت تُغلق مع حلول المساء تماما مثل العديد من البيوت التي كانت مقامة على جانب الكورنيش، الكورنيش البحري، تم هدمها، يا له من أمر غيب- فكرت- من يريد أن يشاهد العمارة التقليدية العُمانية سيجد نفسه مضطرا إلى السفر إلى مدن إمبراطوريتها القديمة، لامو وزنجبار ومومباسا، تماما كما لو كان هناك من يهتم بدارسى المعمار التقليدي الأسباني عليه أن يزور هافانا وكرجانة أو وسط ليما، لأنه لم يبق من الإمبراطورية القديمة سوى الأحياء القديمة في اشبيلية وكادث.

لحسن الحظ، أن المشهد لم يكن محزنا كما كان في دبي، والتقدم لم يتمكن من القضاء على مجموعة من البيوت الكبيرة بقبابها، والتي بقيت مثالا على تلك العمارة الخاصة بمنطقة المحيط الهندي بتأثيراتها العربية والهندية والفارسية والتركية والبرتغالية… وميناء “المطرح” لا يزال يحتفظ أيضا بسحره القديم، وبيوته البيضاء المحيط بها قلعتان على الصخرة، بأبراجهما المستديرة وألوانهما الذي يشبه بيوت الرمال.

سرنا على الكورنيش.

-تبدو كما لو كانت بومباي- قال عاصم.

وحينها انتبهت إلى أنه بالضبط يكاد يكون كل السائرين من الهنود، وأيضا كان هناك بعض الفلبينيين وكثير من البلوش بقمصانهم الطويلة وبنطاليهم التي تشبه بيجامة النوم، لقد كانت هناك علاقات قوية مع بلوشستان، وبعض موانئها خضعت أيضا لعُمان في الماضي.

“لكن، أين العُمانيون؟” تساءلت.

نظرت من على الدرابزين المطل على الميناء وأصابتني الدهشة، بدلا من الماء القذر أو الراكد الذي تخيلته، كانت أعمدة الإنارة تضئ بحرا شفافا يظهر للعيان إزاء الرصيف. بعض الهنود كانوا يصطادون من على الكورنيش، وآخرون كانوا يلقون بفتات الخبز، تراهم ممسكين بأيدي بعضهم البعض، يتسامرون، من المؤكد أنهم يتذكرون أهلهم، الذين تركوهم في قنواتكيرالا، وكانوا يتصرفون بتلك الطفولة التي تبدو على الرجال عندما تمر عليهم أشهر دون أي لقاء مع الجنس الأنثوي كما يحدث في السجون ومعسكرات الجيش. كانوا يتمددون ويستمتعون أخيرا بنسمة هواء بعد يوم من العمل المتواصل.

عندما وصلت إلى غرفتي وجدت صحيفة تم إدخالها من تحت عقب الباب، وبما أنني لم أستطع النوم، بعد تغييرات مواعيد النوم الحديث، ملأت البانيو وطالعت الصحيفة بكسل، كان نبأ افتتاح أسبوع التسوق، والذي يعرض فيه كل مركز تجاري سيارة فارهة  للفائزين باليانصيب، وجدت معلومات لفتت نظري بشكل كبير وذكرّتني بقصة شرقية في عهد خلافة بغداد. وتحكي القصة كيف أن مدينة عامرة أفنيت عن آخرها بسبب نقطة عسل.

يحكون أن تاجرا ثريا وصل إلى مدينة كبيرة وعلى استعداد لشراء أي نوع من أنواع التوابل وأي منتجات أخرى، كان برفقته حاشية من الخدم والحمالين وبرفقة أيضا إبن أخيه، والذي كان وريثه الوحيد والذي من بين هواياته أن اهدوه قطا فارسيا ثمينا أزرق اللون، وفي أحد خانات التوابل الأكثر فخامة في السوق، أراد التاجر أن يتذوق عسل النحل الجبلي اللبناني، وعندما قرّبه من فمه، سقطت قطرة منه على الأرض. في تلك اللحظة فإن القط الأزرق الذي كان حتى تلك اللحظة يقرقر بين ذراعي الفتى انطلق قافزا على الأرض وبدأ في لحس ذلك العسل، الذي كانت شهرته قد امتدت عبر الصحارى والجبال. هذا الفعل البسيط كانت له نتائج مشئومة، لأن كلب التاجر، وهو الحيوان المكروه عند العرب وإن كان لا غنى عنه لحراسة التجارة، نبحه، وقفز على القط والذي بعد معركة غير متكافئة، ضربه ضربة قاتلة. شتم التاجر الثري صاحب الخان الذي رد عليه بأن هذا القط لم يكون حيوانا بل جنيا. زادت حدة الكلام حتى وصلت إلى الاشتباك بالأيدي، أحدهما طالب بتدخل رجاله والآخر أيضا، وبدأت معركة سرعان ما امتدت بطول الشارع كله، وجاء الغرباء الذي ينزلون في الفندق واستاءوا من احتقار السكان وأهل تلك المدينة، فعبّروا عن حنقهم وغضبهم المكبوت، ودون أن يعرفوا أي شيء عن السبب الذي كان وراء هذه المأساة، وبعد يومين من القتال، عندما وصلت قوات شرطة أمير المؤمنين لم يكن قد بقي من المدينة سوى أعمدة الدخان التي يصل ارتفاعها إلى السحاب.

حسنا، شيء مشابه كان قد حدث قبل قليل، طبقا لما ورد في “تيمز عُمان” حدث في الكويت، ولكن الحادث وقع بين الطبقات السفلى من الشعب، كل هذه المعركة بدأت بسبب خلاف عبثي على طبق خزفي. حدث مع مهاجر مصري دخل محل بنغلاديشي فلمس طبقا دون قصد فسقط قطعا متناثرة على الأرض. حينها أخرج البنغلاديشي كل غضبه وحنقه المتراكم من الاحتقار الموجه إلى شخصه في هذا المجتمع الطبقي، والذي لا يتمتع فيه المهاجرون بأية حقوق، وردّ المصري على الشتائم ووصل الأمر إلى الصراع بالأيدي، وطلب أحدهما مساعدة أبناء بلده، والآخر استدعى أصدقاءه من خلال تليفونه الجوال وبدأت معركة حامية الوطيس استمرت لعدة أيام، حتى تدخل الجيش لقمع الطرفين.

القصتان يفرق بينهما شيء واحد، لغز الحدوتة يحاول تبيان كيف أن السبب شيء عابر، بينما الحكاية الواقعية تبين أن المقموعين يتواجهون فيما بينهم.

جاء حاج عمرو للبحث عني في الثامنة صباحا ليأخذني لمقابلة وكيل وزارة الإعلام، رجل طويل القامة يرتدي دشداشة محكمة على جسده وعمامة من الكشمير. استقبلني في مكتبه الفخم الذي تتصدره صورة للسلطان قابوس.

-ما الذي تحتاجه حضرتك لكتابة كتابك؟- سأل.

-في البداية، أحب أن أسافر إلى الجنوب، إلى ظفار وبعدها أريد أن أزور بعض مناطق الداخل والساحل.

حكيت له نيتي في البحث عن عرب البحر، في رحلة يمتزج فيها الجغرافي بالتاريخي.

-وأنصحك بأن تزور أولا الأبراج الاسطوانية في وادي تايجان، إنها آثار قديمة جدا، بنتها حضارة غريبة اختفت، متى تريد السفر إلى هناك؟ غدا؟

رفع سماعة التليفون، وأصدر أوامره بالمطلوب.

في بلاد من الصعب زيارتها، مع ذلك فإن كل طلب من طلباتي تمت الاستجابة له، تذاكر السفر بالطائرة، التصاريح، السيارات الصحراوية والمرافقين… لقد انفتحت أمامي كل الأبواب. ودعته، في الخارج كان المناخ حارا بشكل مزعج، تكاد تصل درجة الحرارة إلى الخمسين، الهضبة التي كانت مقامة عليها الوزارة تطل على منطقة ميناء القرم بمياهه اللامعة كمرآة سحرية، تعد بحديقة مريحة واسماك ملونة.

مبنى تحرير مجلة عاصم يوجد أيضا في حي الوزارات نفسه. مكتب في طابق أرضي متداخل وحديث، بارد ولا شخصية له، كان مؤثثا بشكل محكم، حكى لي عاصم أنه كان يعد مقالا عن بونويل وعدد خاص عن لوركا.

-وأنا شاعر أيضا- قال بتفاخر.

كانت على الطاولة رسوم لرسامي كاريكاتير مصريين، مثل صلاح عناني، الذي تعرفت عليه في مقهى ريش، وأيضا رسوم مائية لعدلي رزق الله، الذي كثيرا ما كان يجلس على زهرة البستان يلعب الطاولة ولوحات لعادل السيوي الذي ورث عني شقتي في شارع محدد صدقي. التواصل بيننا بدأ في التنامي، عاصم الحضري مؤهلا مهنا بشكل جيد، كان واحدا من المثقفين المصريين الذي وجدوا أنفسهم مجبرين على البحث عن مستقبل أفضل في بلاد الخليج، معظمهم من المدرسين وأساتذة الجامعة والصحافيين وإن كانوا هم من يديرون المجلات والصحف فعليا، فلم يكونوا يحتلون اسميا المناصب العليا حتى لا يكشفون عن أن أبناء الجزيرة العربية غير مؤهلين لذلك.

وتلك المجلة لم تكن استثناء. فرئيس التحرير شخصية زئبقية تجنب وجودي، لم أشاهده سوى عشر دقائق تقريبا، يمضي معظم وقته في السفر إلى لبنان ولندن ودبي أو القاهرة، وعندما يأتي إلى مسقط يقضي معظم وقته في فندق البستان، الذي يعتبر من أفخم فنادق منطقة الجزيرة العربية، إلى أن تفوق عليه فندق برج العرب في دبي، مكون من مبنى من المعدن والزجاج على شكل شراع سفينة ويزيد ارتفاعه عن المائة متر، وهو الفندق الوحيد في العالم من ذوي النجوم السبع. وغرف الفندق المدهشة بها صنابير من الذهب وبه العديد من المطاعم بها أطعمة من مختلف دول العالم، أحد تلك المطاعم يقع تحت سطح البحر، ومن خلاله يمكن مشاهدة مشاهد بحرية مختلفة من الأحياء المائية بالخليج: فرس البحر وأسماك الشعاب المرجانية الصغيرة وسمك أبو موسى وحتى أسماك القرش…

بالنسبة لعاصم، المحرك الحقيقي للمجلة، لا يوجد لديه وقت، يقوم بعمل التوضيب بحرفية كبيرة، يكاد يحمل على عاتقه وحده أمور التحرير ومع ذلك يجد وقتا ليكتب شعرا عميقا وحساسا، يؤمن بالصداقة ويراسل أناسا من معظم دول العالم، مسلم متدين ومنفتح ومتسامح، ويمكن الحديث معه في أي موضوع، حلمه أن يتمكن من العودة إلى مصر وإدارة مجلة ثقافية، ولكن الراتب بالجنيه المصري لا يكفي لإعالة أسرته بكرامة، المكونة زوجة جامعية من منطقة الدلتا ومكتوب عليها في عُمان أن تلعب دور سيدة البيت ومربية لطفلين.

قدمني عاصم للطيب، أحد المحررين العُمانيين الذي سرعان ما دعاني إلى زيارة مسقط رأسه في الباطنة، إحدى المناطق الأكثر ازدهارا في عُمان، حتى أتعرف على، كما قال، قباطنة قدامى وأناس مرتبطون بالبحر.

-سأعرفك على- وعدني- الأستاذ محمد، مؤرخ صديق للعائلة، يمكنه أن يشرح لك الكثير من الأشياء عندما كانت سحر الميناء الأكثر أهمية في الإسلام، وكانت سفنه الشراعية تصل إلى الصين نفسها، وكان ذلك في القرن التاسع.

رن صوت الفاكس، في إحدى مدارس القاهرة القديمة يدعونه لقراءة شعرية. قدم لي عاصم الورقة وتنهد. واعترف لي أنه يشتاق إلى مصر، وكان حريصا ألا يسمعه الطيب، واعترف لي أنه في الحقيقة ليس لديه أصدقاء عُمانيين.

-مثقفو هذا المكان يعيشون في تناقض، بين عالمين- همس- يحلمون بسماع موزارت والزواج من امرأة معاصرة ومثقفة، واحدة من تلك الشقراوات الأجنبيات من هاتيك اللاتي يلتقون بهن في نوادي السينما أو في صالات المركز البريطاني، ولكنهم في النهاية يتزوجون من التي تختارها لهم عائلاتهم، ويعودون لقضاء نهاية الأسبوع في مدنهم الأصلية، حيث يسيطر النظام التقليدي القديم للقبيلة ويهربون من وقت لآخر مع أصدقائهم إلى دبي للترويح عن أنفسهم.

بينما كان يرافقني إلى باب الخروج، قال لي:

-لقد حدثت نورا عنك، زوجتي، وعليك أن تأتي الليلة لتفطر معنا إفطارا رمضانيا.

في الخارج كانت شمس منتصف النهار، والجبال المحيطة ترتفع كحائط خانق.

-أفكر أحيانا أن قلوبهم مثل هذا الصخر.

قال، ففهمت أنه يقصد العُمانيين.

كان عاصم يعيش في شقة في حي الجواير، وبما أن الوصول إلى هناك من الأمور المعقدة، تواعدنا على اللقاء في أحد المركز التجارية المنتشرة هناك، والتي تعتبر نقط اللقاء الأكثر شعبية في مسقط الكبرى، في ذلك المبنى الخالي من النوافذ، بفناء داخلي ضخم بنوافيره وشلالاته، وسلم ميكانيكي ضخم يوزع سيلا لا يتوقف من العُمانيين والفلبينيين والأوروبيين إلى حيث توجد السيارات الفاخرة التي تقف على سطح دائري لا يتوقف.

تلك المراكز التجارية تحتوي على محلات عطور، هناك يبيعون اوماج أحد العطور الأكثر غلاء في العالم في زجاجات البخور والباتشولي والعنبر   والياسمين والصندل والعنبر الرمادي والمزيج، وبشكل خاص، عطر زهور الصخر، زهرة غريبة جدا، وطبقا لما يقوله باعة العطور، تنبت فقط في مناطق ظفار وحضرموت وسوقطرة الوعرة، ذلك العطر الغريب كان معبأ في زجاجات غريبة مثله تحاكي الخنجر العماني. وأوماج دي ارجنت كان أرخصها وكان يباع بمائتي وخمسين دولارا، وأكثرها سعرا الاماج دي اور كان معبأ في علب من الذهب عيار 24 قيراط وسعره ثلاثة آلاف دولار.

وقفت للحظات مشوشا في محاولة لتمييز عاصم بين هذا الكم الهائل من البشر الذين يقومون بمشتروات يوم عيد الفطر، عيد نهاية رمضان، وفجأة شاهدته إلى جوار محل لبيع المعجنات، مشيرا بذراعيه، حياني بحرارة كما لو لم نكن قد التقينا منذ زمن بعيد.

-يالا نورا تنتظرنا.

أوقفنا سيارة نقل ركاب صغيرة، وبعد عدة كيلومترات، خرجت السيارة من الدوار لتدخل حيا نظيفا مكون من بيوت بيضاء. توقفت في ساحة حيث كانت توجد عدة مغاسل ومحل تيك اوي تاهي وآخر تركي. دخلنا في إحدى تلك البنايات التي كانت كلها متشابهة، وفي المصعد التقينا بفليبيني وزوج من الشرق، كان يفصل بيننا الأطفال، وكانت شقة عاصم كبيرة ومكيفة الهواء ومزينة بورق البردي وتماثيل لنفرتيتي ورمسيس، وصور من النيل والقاهرة القديمة.

كانت شاشة التليفزيون الكبيرة تعرض مسلسلا مصريا يتابعه كل الناس بشغف كبير، حيث الزوجة المرفوضة من زوجها الطبيب، نتيجة سوء تفاهم نابع من حسد منافسة لها ومجموعة من المصادفات السيئة من الصعب شرحها الآن، إضافة إلى تلك الأيام التي فقدت فيها تلك الفتاه البصر لتستعيده في النهاية أم لا، ولكن لا ينتهي كل شيء هناك، لأنه ما أن يحدث حتى يكون عليها أن تواجه خطيبها السابق، الذي كان بالصدفة يحل محل زميل له في ذلك المستشفى ولم ينتبه إلى أنه خلف شاش العملية الجراحية يوجد وجه فتاة عمياء مجهولة، ولكنه يجد نفسه في مواجهة وجه خطيبته، والتي من وجهة نظره كانت خائنة، ومع ذلك لم يتمكن هو أبدا من نسيانها. وكل البلاد تنتظر هذا اللقاء.

-هل حدث شيء؟- سأل عاصم.

-ليس بعد- أجابت ابنته، أموره، مراهقة جذابة ذات عينين واسعتين كعيني غزال قليلا ما تجدها في وجه فتاة مصرية- أعتقد أنهم يؤخرونه فقط لجمع مزيد من المشاهدين. لقد أمضوا الحلقة كلها يذكرون من جديد كيف تعارفا خلال الصيف في الإسكندرية، وزيادة على هذا اكتشفوا وجود أخ لها قد عاد إليهم بعد أن اعتقدوا أنه مات في الحرب حتى يطيلوا الحكاية أكثر من هذا.

-يا أولاد- قال عاصم- ألن تحيوا ضيفنا؟

مدت أموره يدها دون أن ترفع عينيها عن شاشة التليفزيون، وخالد، طفل في العاشرة من عمره تقريبا، تعلق برقبتي.

-سوف تأتي نورا حالا، لأنها تعد لنا كل شيء.

كانت نورا امرأة طويلة القامة ببشرة بيضاء جدا وهي المسئولة عن عيني ابنتها الواسعتين، كانت ترتدي قفطانا واسعا، رحبت بي وقالت لي إنها طبيبة نفسية، وابنها ابنة أستاذ جامعي متخصص في الانثروبولوجيا وكثيرا ما سافر أبوها لعمل دراسات في السودان، وهذا ما فتح الطريق بيننا أمام حوار مطول عن تلك البلاد التي كنت أعرفها جيدا، والتي كانت لها أهمية كبيرة عندي، وبعدها اعترفت لي أنها في عُمان تقضي معظم النهار في البيت بسبب الضغوط الاجتماعية، وأنها تحلم بالعودة إلى القاهرة لتشعر أنها حرة، ويمكنها مواصلة دراسة الدكتوراه عن فلاحي الدلتا.

-إن شاء الله في العام القادم بعد الأجازات سأبقى في مصر مع الأولاد وأكمل أطروحتي. وعاصم موافق على هذا.

بقيت بنظرة منطفئة تتأمل صورة من القاهرة تمثل النيل بجسوره وناطحاته، منهاتن الشرقية الممنوع عني زيارتها منذ خمسة عشر عاما، فجأة انطلقت صفارة حلة تطبخ بالبخار المضغوط فاختفت نورا لتعود بعد دقائق لتفتح الباب الأكورديون المؤدي إلى صالون كبير يستخدم كغرفة طعام حيث كانت تنتظرنا المائدة: أطباق الملوخية ونوع من أنواع السبانخ اللذيذة، وبامية، وسلطات مصرية، وطحينة، وبابا غنوج، وتبوله، وحمص، وورق عنب محشي بالأرز واللحم، وكوسة محشية أيضا، ومحشي كرنب، وكباب مشوي، وأرغفة خبز عربي، وعدد لا يحصى من أنواع الحلوى من كل الألوان والأشكال المتخيلة، ودورق كبير من الكركديه، محلى بالسكر.

بعد هذه الوليمة، جلسنا أمام التليفزيون، خالد، الابن الأصغر، بدأ في استخدام الريموت، وأدار رؤوسنا بعدد لا يحصى من القنوات التركية والعربية والفارسية والهندية والبولندية، وحتى التليفزيون الجيليقي ظهر على الشاشة، إلى أن عثر على قناة MTV آسيا، التي تقدم الكليبات الموسيقية المأخوذة عن فيلم بومباي، زوج من القرود في حالة هياج جنسي تطارد بعضها على أشجار بمكان جبلي ربما يكون في سيملا أو الهيمالايا، بين الصرخات والتعارك المثير للخجل. أخذ عاصم الريموت ليترك التليفزيون بدون صوت وأدار جهاز الموسيقى لنستمع إلى اللبنانية فيروز تغني موشحاتها الأندلسية الشهيرة.

-هل تعجبك؟- سأل عاصم.

رفعت يدي بطريقة قد يفهم منها موافقتي أو عدم موافقتي، كما لو كنت أقول له مجاملة؟ فقد كانت فيروز نني عين المثقفين المصريين وإن كنت أنا أفضل أم كلثوم، رغم أن صديقي وكيل النيابة مصطفى عبد العزيز كان يعتبرها أفيون الشعب، لأنها في بكائياتها الطويلة تغرس فيهم استحالة النضال ضد المكتوب، وبالتالي تساعد على تغييب الجماهير، فيروز المسيحية المارونية كانت أسطورة أيضا: ملتزمة بالقضية الفلسطينية، ومع أنها ملتزمة سياسيا من الناحية الموسيقية ليس لديها شيء مهم ومعظم أغنياتها مأخوذة من الفولكلور.

بينما كانت فيروز تغني للمرة الألف الموشحات القرطيبة التي تعود إلى القرن الحادي عشر، ولمجرد التكرار تحولت إلى شيء عادي، بينما كنت أستعد لأحكي لأصدقائي رؤيتي الأولية عن البلاد عندما ألقت عليّ نورا سؤالا مباشرا لم أكن أتوقعه:

-كيف ألقي عليك القبض في مصر؟

بوغت للحظات، فأنا لا أحب الكلام عن ذلك الحادث في بلد عربي آخر، فالواحد منا لا يعرف أبدا مع من يتكلم، وأنتهيت إلى تفهم أنه طبقا للمكان من الأفضل كثيرا الاحتفاظ بالصمت، وأيضا، الأمر متعلق بجرح قديم لم يندمل بعد.

-لا تخاف- قالت نورا، متبادلة النظرات مع زوجها- فنحن لسنا من المخابرات- وضحكت.

-معذرة يا نورا إنه سؤال مباشر- تدخل عاصم- لا تندهش إن كنا قد سمعنا من يتحدث عن ما حدث. فأنت تعرف أن لنا أصدقاء مشتركين، وبعضهم من الكُتاب، وأحدهم على الأقل كان رفيقك في السجن. إضافة إلى أن كل هذا كان معروفا في تلك الفترة بين المعارضة.

-وكيف عرفتم، لقد حدث هذا في منتصف الثمانينيات- ثم بعد إحساسي بالثقة- عندما كان الاتحاد السوفيتي يشكل تهديدا، كان مبارك في حاجة إلى أن يقدم للأمريكان ملفا عن مكافحة الشيوعية ليبرر الدولارات التي كان يتلقاها، ولم تجد المخابرات شيئا أفضل من ضمي إلى مجموعة من الأشخاص المتفرقين كانوا يسببون إزعاجا لهم، ومن بينهم الكاتب إبراهيم عبد المجيد، تحت قضية افتراض محاولة قلب نظام الحكم، وأنا- تنهدت- طبقا لما نشرته الصحف كنت حلقة الوصل الأساسية. ونشرت الصحافة الكثير والتليفزيون أيضا، وبعد فترة أمكن بيان أن كل هذا لم يكن له أساس من الصحة.

-وماذا كنت تفعل أنت بين كل هؤلاء الناس؟- سالت نورا بفضول.

-أنا كنت حلقة الاتصال الخارجي- ضحكت الآن بطلاقة- حسب روايتهم كنت مكلفا بجمع الأموال من التروتسكية العالمية، تخيلوا، وطلبوا معاقبتي لا أذكر بكم عاما سجنا بالإشغال الشاقة في الصحراء…

-الله- صرخ عاصم- لكن لماذا؟

-حسنا، أحد رجال المخابرات أراد أن يثبت، ربما أنه يستحق الترقية، فاخترع عملية التآمر، فاعتقلوا أربعة من المثقفين، وكانت هناك أيضا طبيبة نسوية وبعض الزعماء الطلابيين وسجنونا في سجن القناطر.

-يا نهار أسود، حيث يسجنون كبار المجرمين.

-أما دوري أنا بينهم- نظرت إلى نورا في عينيها- مفترض إنني لم أكن أعرف ماذا كنت أفعل أنا في مصر. فقد كنت أعمل وأكسب بشكل جيد، ورغم أنني كنت أعمل في مكانين بشكل جيد، كمترجم في وزارة الزراعة ومذيع في إذاعة القاهرة، قسم اللغة الأسبانية، ولم أكن أعيش على طريقة الأجانب، فقد كنت أفضل أن أمضي أوقات فراغي في حي الحسين أو مع أصدقائي في الأتيلييه، وكنت أذهب أيضا إلى مقهى ريش وزهرة البستان، اللتان تعتبران مركز اليساريين. وأيضا من وقت لآخر كنت أختفي في الصحراء بالقرب من ليبيا لأنني كنت أقوم بعمل مسح عملي عن واحة سيوه، وكل هذا وضعني في محل الشبهة، وأنتم تعرفون أن المخابرات ترى الجواسيس في كل مكان، وأيضا عليّ أن أعترف أنني كنت ثرثارا، وكنت أتحدث في المقاهي بشكل صريح في أي موضوع دون أي احتراس، ودون أن انتبه لمن يدخن النارجيلة في المقعد المجاور، في النهاية، عندما كانوا في حاجة إلى “صلة وصل خارجية” لاستكمال عملهم، ربما فكروا فيّ على الفور، فانا كنت خواجة مقهى زهرة البستان. هذا الأبله بدلا من قضاء وقته في بار الهيلتون أو حمّام سباحة ميناهاوس، يفضل تضييع وقته مع جهلة الصحراء أو مع أعداء الدولة في مقهى الحارة.

-اخترعوا المؤامرة أم أنهم كانوا أغبياء كما هم دائما؟- سأل عاصم.

-بص، منذ حوالي عامين قررت نسيان مناخ القاهرة. في السنوات الأخيرة كان كل شيء غريبا، والمجتمع القاهري أصبح كل يوم أكثر انغلاقا على نفسه، وأصبح أكثر تطرفا. لهذا، عندما كنت أستطيع، كنت أهرب إلى الواحات لالتقاط صورا عن الحياة اليومية بالأبيض والأسود. الحياة التي كنت أعيشها هناك كانت حلما بالنسبة لي، وعندما كنت أحتاج لبعض المال أسافر إلى القاهرة وأعمل لعدة أسابيع، وبعدها أعود إلى الصحراء وأتجول بين القرى الصغيرة. كنت أريد أن أمسك بروح المكان، روح ذلك العالم الذي يقف على حافة الاندثار، والذي عاش قرونا محكوما بأزمنة أخرى، والذي لم يعد كما كان، لقد كان عالما مثيرا للدهشة.

-لا تقل لي أنهم اعتقلوك في الصحراء- كانت نورا تبدو مهتمة بجدية.

-تخيلي، لقد كانت صدمة لي عندما وصل رجال الشرطة في فجر ملعون إلى الفندق وهم يشهرون الكلاشينكوف، في فندق واحة الداخلة، وأخذوني إلى التحقيق، كنت مع شقيقتي وزوجها، لأنني وصديقي مرسي سلطان قررنا تأجير بيت هناك، وهما جاءا لقضاء بعض الوقت معنا، لقد قضوا على كل شيء، من حسن الحظ أن شقيقتي كانت واعية في تلك اللحظة، وعندما كانوا على وشك الاستيلاء على الحقيبة التي بها أفلام التصوير صرخت: “هذه حقيبتي، هذه حقيبتي”، فجفل هؤلاء الجنود المتخلفون وأعادوها إليها. ولكن الصور التي كنت قد التقطتها في اليوم السابق على اعتقالي خلال زوبعة في الصحراء، ضاعت إلى الأبد، لا زلت أتذكر تلك الصور لسور قلعة قديمة تحت سحابة من غبار رمال الصحراء، كان ينتظرني في قسم الشرطة ضابط حاول أن يقول لي شيئا بعينيه اللتين كانتا تعكسان دهشة من كل هذا، بصي: في تلك الفترة كانت الواحات مكانا حساسا لقربها من الحدود مع ليبيا وكان الأجانب مجبرين على تسجيل أنفسهم في أقسام الشرطة التي يمرون بالقرب منها، أنا لم أصادق رجال الشرطة أبدا، ولكن ذلك الضابط الذي كان موجودا هنا كان مختلفا، كان شابا ومثقفا، قدمني لزوجته، وشربنا الشاي معا، ومنذ ذلك اليوم، تناولت الطعام معهما في بعض الأحيان، وكنا نتسامر من وقت لآخر، مؤكد أن وجوده هناك كان عقابا له لأنه مكان صعب ومختلف، وعرفت فيما بعد لماذا وجه إليّ نظرته بهذه الطريقة خلال التحقيق، فقد كانوا قد نشروا في كل صحف اليوم السابق أنباء تتحدث عن القبض على خلية تروتسكية تهدف إلى إثارة القلاقل وحرق الأعلام الأمريكية والإسرائيلية خلال معرض القاهرة للكتاب. وجاء اسمي في الصحف، ولكن كيف يمكنني أن أكون في القاهرة وفي واحة الداخلة، على بعد ألف كيلومتر في وقت واحد؟ إنه عبث، وضابط الشرطة كان يعرف هذا، ولكنه لا يستطيع فعل أي شيء لأنه كان منفيا تقريبا. وإلا لماذا يضعون شخصا ذكيا مثله في ركن قصي من مصر؟

-لكن، بماذا كانوا يتهمونك بالضبط؟- سأل عاصم.

-لم يقولوا أي شيء، بعدها استولوا على سيارتي وأخذوني إلى واحة الخارجة، في اللحظات الأولى فكرت أن كل هذا جاء نتيجة سوء تفاهم، وأنهم كانوا يبحثون عن أجنبي آخر، وقرروا أن يقدموني كضحية، ربما كانوا يبحثون عن لص آثار. فقد كانوا قد حدثوني قبلها بيوم واحد عن مكان مثير للدهشة، لقد كان عبارة عن قبو محفور في الصخر، مغلق ببوابة حديدية عليها قفل صدئ، ويمكن من خلال قضبان البوابة رؤية توابيت من العصر الفرعوني القديم وكثير من الأشياء المتناثرة، لقد كانت هناك أشياء كثيرة ليس لاكتشافها لأنها موجودة ومعروفة ومطلوب فقط تصنيفها وحفظها في بلدكم.

ولكني عرفت بعدها أن الأمور تتعقد عندما طلبت دخول الحمّام فأرسلوني برفقة شخص يشبه الغوريلا وقف إلى جانب الباب ليمنعني إن حاولت الهرب، لم أعد أفهم شيئا، لقد كانوا يتحدثون مع القاهرة عبر أجهزة لاسلكية ويقولون:

-لقد عثرنا عليه، لقد عثرنا عليه.

-ثم انطلقنا في أسوأ رحلة في حياتي، في سيارتي الخاصة كان يرافقني أربعة من المسلحين بكل أنواع الأسلحة، كما لو كنت الإرهابي الشهير كارلوس. كنت أجلس في المقعد الخلفي، بين شخصين يمسكان بي وهما نائمان بينما كنا نتجه إلى وادي النيل. عند وصولنا إلى القاهرة أخذوني إلى مبنى وزارة الداخلية في شارع الشيخ ريحان، تماما أمام بناية من الشقق المفروشة التي كنت قد عشت فيها لفترة عندما طردتني مدام جامي من شقة محمد صدقي. وهنا أيضا كانوا قد اقتحموا شقتي لأنهم صادروا كل ما أملك ولم أعرف بعدها عنها أي شيء: كاميرتان من نوع نيكون وأخرى صغيرة ماركة روللي، وعدة أشياء أخرى، وأفلام وكتب والكثير من كراسات المذكرات الشخصية، وأشرطة كاسيت من الموسيقى التي سجلتها في الصحراء، ومجموعة من مقتنياتي من أغاني أم كلثوم… وضعوا القيود في يدي ثم اقتادوني في سيارة شرطة إلى سجن القناطر. فتشوني تفتيشا ذاتيا، وحينها فقط انتبهت إلى خطورة الوضع.

-أنت تدعي أنك لا تعرف لماذا أنت هنا؟ تدعي أنك لا تعرف؟ هنا ينتظرك أصدقاؤك الروس- ثم انطلق الحارس في قهقهة طويلة مكشرا عن أسنانه الصفراء.

كان شريط فيروز قد انتهى ووقف عاصم ليديره على الوجه الآخر. عندما كنت أحكي كل هذا كان بدني يقشعر. نظرت إليّ نورا بعينيها الحيويتين.

-لم أعد أتذكر أي شيء من كل هذا منذ فترة طويلة- قلت.

-لا تحكي لنا إن كان هذا يشعرك بالألم؟- أجابت نورا.

-لا، لا يهم، لا يهم، من الأفضل إخراج كل هذا من داخلي- رشفت رشفة شاي- كانوا يأخذوني كل يوم إلى النائب العام للدولة. مقيدا إلى أحد هؤلاء الجنود الذين يرتدون الملابس الخشنة السوداء التي تبدو دائما أكبر من حجمهم أو أقل من حجمهم بكثير. أنتم تتخيلون أنهم من فلاحي الدلتا أو من الصعايدة الذي يعيشون بالكاد برواتبهم الضئيلة، ولكنهم يجدون طعامهم على الأقل ويزورون أسرهم مرة كل عامين، عاملوني دائما بشكل مختلف وتفهم، وانتهى بهم الحال إلى أن حكوا لي قصص حياتهم، كل الاتهامات الموجهة إليّ كانت بلهاء، واستطعت تكذيبها واحدة بعد الأخرى، أحد الاتهامات إنني ترجمت تروتسكي إلى اللغة العربية الفصحى، أو أنني كنت أدرب أعضاء الخلية الثورية على الكاراتيه،.. ووصلت بهم البلاهة إلى تقديم صحف ومجلات التايم والنيوزويك كأدلة اتهام ضدي لأن صورة القذافي كانت على أغلفتها.

-هل أخذ التحقيق كثيرا من الوقت- سأل عاصم.

-استمرت التحقيقات لعدة أيام، وأخيرا سألني وكيل النيابة إن كنت أعرف أحدا من المخابرات وأنه حدث بيني وبينه خلاف، وأنه أراد أن ينتقم مني، كنت قد زهقت من تلك الأكاذيب فأجبته بأنه يضعني في موقف صعب، لأن هؤلاء الأشخاص لو كانوا ينتمون إلى المخابرات كيف لي أن أعرف؟ وسرعان ما انتبه وكيل النيابة إلى أن المسألة كلها عبث، ومؤكد أنه كان يعرف هذا من أول يوم، ولكن البيروقراطية كانت بطيئة، وربما لم يكن يريد أن يواجه الشرطة، فأنتم تعرفون أنه في الأنظمة الدكتاتورية تختلط كل السلطات في بعضها البعض، أفرجوا عني بعد خمسة عشر يوما ولكني كنت أعرف ما معنى كل هذه الأحداث، وكما حدث بالضبط فيما بعد. فقد كانوا يذكرون به المعتقلين دائما، واحد منهم، أحدهم ليس مهما ذكر اسمه، كان يخفي عينيه الدامعتين خلف نظارته السميكة، فقد كان يتجنب النظر إليّ طوال فترة الاعتقال، فيما كنا أصدقاء لفترة طويلة، ترى هل كان هو الذي أبلغ عني؟ لكن، أبلغ عني بأي شيء؟ أعرف أن الشرطة تهدد أحيانا من خلال تقديم أسماء، وكثير من الناس يموتون خوفا حتى يتركوهم في سلام، ويبدأون في إطلاق سراحهم دون تقديم أية تبريرات.

“في صباح أحد الأيام، بعد جلسة تحقيق مرعبة، قالوا لي إنهم سوف يسمحون لي بمغادرة السجن، ولكن يجب أن أظل في مكان معروف في حالة طلبي لأي تحقيق جديد، وكان عليّ أن أوقع على إقرار بألا أغادر البلاد بل وألا أغادر القاهرة خلال شهر كامل، وأخذوني من جديد إلى شارع الشيخ ريحان، مبنى وزارة الداخلية، وهناك استقبلتني شخصية مهمة في مكتب فخم يمكن من خلاله رؤية البناية التي كنت قد عشت فيها، كل هذا الاهتمام لمعرفة تفاصيل حياتي بينما لم ينتبهوا إلى أنني عشت لعام كامل أمام أنظارهم.

-سيجارة؟- قال لي.

“قبلت السيجارة، كان هذا الشخص يبدو كقائد للشرطة في ذلك الفيلم المرعب مثل تلك الأفلام التي كان يلعب بطولتها عادل إمام والتي تسخر منهم.

-لقد أخطأنا في اعتقالك- بينما كان يشعل سيجارته الكليوباترا الفاخرة ويطلق حلقات من الدخان في الهواء- ونحن نقدم لك اعتذارنا.

بعدها لا أذكر إن كان قد قال ذلك أم أنني تخيلت أنه فعل، لكني أقسم أنه حاول التلميح بذلك:

-نعم لقد أخطأنا، لكنك تعرف، فإن الشرطة لا تخطئ أبدا.

وفجأة قال:

-يجب عليك مغادرة البلاد خلال أربع وعشرين ساعة، حقيقي ماذا تعرف عن صديقتك بيانكا لونغي.

“تسمرت في مكاني، صديقتي بيانكا، التي شاركتها السكن في عدة شقق وسافرت معها في رحلات عديدة بالواحات، عادت إلى مصر خلال تلك الفترة، لماذا يحدثني عنها؟ ترى هل هو مجرد تهديد إن لم أغادر البلاد؟

-لكني وقعت على إقرار يلزمني بعدم مغادرة القاهرة خلال شهر على الأقل- كان ردي عليه- وإذا غادرت البلاد فإن هذا مخالف للقانون، والعدالة.

“أصابني ذلك الرجل بالرعب بنظرته:

-العدالة؟ العدالة هي نحن، عليك تنفيذ ما قلته لك، لقد وصلت بيانكا قبل يومين على طائرة الشركة الإيطالية قادمة من ميلان.

“لم يكن ذلك تهديدا فقط، فقد كانت حقيقة فهم الآن يحكمون قبضتهم عليّ، فقد أجبروني على ارتكاب جريمة بترك البلاد بكامل إرادتي افتراضا وبذلك يمكن للعدالة ان تطلبني خلال شهر من بالقاهرة لأسباب روتينية. ومرت في ذهني أفكار عبثية، أعرف كيف من السهل تزييف الأدلة والاعترافات الكاذبة خاصة في ظل نظام لا يعرف الحريات الأساسية، وربما سوف يخطرون جميع المداخل الحدودية بهروبي وبذلك يلصقون بي اتهاما جديدا بأنني حاولت الهرب من مصر، كنت خائفا ولكني حافظت على برودة أعصابي لاتخذ استراتيجية ثابتة:

-لقد قلت لي حضرتك الآن إنني برئ تماما وإنكم أخطأتم باعتقالي.

–نعم، لكن عليك بمغادرة البلاد، ويمكنك العودة فيما بعد، وإن عدت عليك أن تأتي لرؤيتي. وحينها سوف أقول لك مع من تلتقي ومع من لا تلتقي.

-بص حضرتك، لقد عشت في مصر لخمس سنوات، وأنا أحب هذا البلد، واخترته لأعيش فيه، فاتركني على الأقل لمدة 48 ساعة لأودع القاهرة القديمة، والأهرامات… فقط أطلب من حضرتك هذا، وأقسم لك إنني سوف أغادر بعدها.

“قبل هذا وحينها، بدلا من الاستمتاع بهذه المنحة التي قدموها لي، ذهبت مرغما للإقامة في فندق الميريدان تنفيذا لنصيحة محامي بالإقامة هناك، وذلك لأنه فندق حديث ولن التقي بأي من أصدقائي. لم يكن لديّ سوى القليل من الوقت وربما لن أبقى ولا حتى 24 ساعة. كان الحال يبدو كفيلم من أفلام الجاسوسية الرديئة: كان هناك اثنان يراقباني، يصعدا معين في الاسانسير، يدخلان الغرفة المجاورة. وعندما كنت أخرج، يخرجان مصادفة هما أيضا. التقطت التليفون وطلبت حجز مقعد على أول طائرة متجهة إلى أوروبا، لقد كان الشرطي هذا سعيدا بأنه أوقعني في شراكه، ولكن بسبب الاستراتيجية التي اتبعتها لم يكن قد تمكن من إرسال أوامر البحث والاعتقال. لا، لن اجعلهم يقبضون علي. أسرعت إلى المطار، صعدت الطائرة وهبطت في زيوريخ بعدها بساعات قليلة. كانت تمطر جليدا، كان ذلك في فبراير 1985. إنه تاريخ لن أنساه ما حييت. ذلك التاريخ الذي قسّم حياتي لسنوات طويلة إلى نصفين، لقد كان تاريخا يجب أخذه في الاعتبار، ما قبله شيء وما بعده شيء آخر، وظللت لسنوات طويلة يسيطر علي الإحساس أن الزمن قد توقف عنده، وأن الوضع تأخر أم تقدم سينتهي في النهاية إلى حل، وأنه يمكنني العودة إلى مصر مرة أخرى، ومع ذلك ظلت السنوات تمر. “كنت أقول: “مر علي اليوم نصف عام منذ أن طردوني من مصر”، “اليوم مر عام، عامان، ثلاثة أعوام… ومرت سنوات مات فيها كثير من أعز الأصدقاء وكانت الذكريات تخفت حتى مر ذلك التاريخ دون أن أتذكره. ظللت صامتا لبعض الوقت، متأثرا، لقد كانت هذه المرة الأولى التي أحكي فيها هذه الحكاية. كنت أرتعش.

-ألا ترون أن التكييف زائد عن الحد قليلا؟- سألت.

-نظرت إليّ نورا بتفهم.

-هل ترغب في كأس من الويسكي؟

-نورا، بحق الله نحن في رمضان- عنفها عاصم- هل جننت؟

-وماذا في هذا؟ هل ستشربه أنت؟ إنه له هو، إنه خواجه، هو له قواعده الخاصة به- أضافت بنوع من العتاب.

وقف عاصم ليفتح الستائر، بينما أخرجت نورا زجاجة كوتي ستارك من الدولاب وأعدت لي كأسا كبيرا بالثلج، لم أفكر أبدا أنني سوف أستمتع بكأس مثل هذا في بلاد شبه الجزيرة العربية، وبشكل خاص في شهر رمضان، كان قد مر عليّ زمن طويل دون أن أقرب الكحول، لذلك فإن هذا الكأس سرعان ما أشعرني بلذته.

-أنا الآن أفضل، وأيضا سعيد بأنني شرحت لكم علاقتي ببلادكم.

لم أستطع النوم في تلك الليلة، كانت الذكريات تنفجر في رأسي. بقيت ممددا في السرير، مشدودا إلى ذكريات الحرية الكبيرة التي كنت أتمتع بها في مصر قبل اعتقالي، لقد كنت سعيدا هناك، وكان لدي إحساس بأن ذلك ما كان له أن يدوم إلى الأبد، كنت أرى الصحراء كأنها لعبة يابانية كبيرة، إما أن تظل تلمع في ذهني إلى الأبد أو أنها سوف تنتهي بهروبها مني، وكان هذا هو ما حدث معي.

أضأت النور، لقد كنت قد تعبت من التقلب في السرير وهاجمتني خيالات كنت أعتقد أنني نسيتها، تماما كالاستيقاظ في أول يوم بالسجن عندما ظهرت الشمس على جدران الزنزانة، كفيلم تعبيري، كانت ظلال القضبان الحديدية، أو عبقرية أحد زملاء الزنزانة، الذي استخدم قالب طوب وكعب معدني ليصنع فرنا اتسخين الماء وبذلك يمكننا أن نستحم، فقد كنا في عز الشتاء، وكان السجن باردا ورطبا، وفي أحد الأيام سمعنا ضوضاء أعقبها إطلاق رصاص، كما لو كانوا قد صرعوا هاربا، في تلك الليلة، في الطابق العلوي، حيث المحكومون بأحكام طويلة، أقاموا حفلا كبيرا بالغناء والتصفيق. قالوا لي إنهم كانوا يحتفلون بعرس بين سجين قديم وفتى صغير لص لم يكن في وسعه سوى قبول أن ينكحه “زوجه”.

وأخيرا غالبني النعاس ونمت حالما، فتمكنت من العودة إلى القاهرة. وفجأة وجدت نفسي، في مقهى الفيشاوي بحي الحسين، حيث رأيت السيدة العجوز، التي كانوا يطلقون عليها لقب “الفستقة”، والتي كانت واحدة من العرافات الأكثر شهرة في كل المدينة، اتخذت طريقها وسط الطاولات الرخامية وجلست تحت إحدى المرايا المذهبة الكبيرة. إنها عجوز كالزمن، كانت ترتدي قفطانا أسود واسعا وتلف على رأسها عمامة من اللون نفسه. فكانت تبدو صورتها كعجوز تنتمي إلى عصر النهضة، كنت أنا أتأملها من خلال المرايا المتقابلة، صورتها تتماوج مع دخان النارجيلة، بينما كنت أتفحص الزبائن القليلين الذي بقوا حتى تلك الساعة من الليل، كنت أرجو ألا تلاحظ العجوز وجودي، كنت أفضل أن تختار ضحية أخرى غيري لتحكي له رؤيتها المستقبلية، ولكن كان الوقت قد فات: سرعان ما لمحتها بعينيها التي تشبه قطة سكرانه بالكحول، وقفت فجأة نظرت فيما حولها ثم توجهت إليّ مباشرة، ودون أن تنتظر حتى مجرد إشارة بقبول وجودها، اقتربت وجلست إلى طاولتي، وبعدها بلحظات، بحركة سريعة تكاد لا تلحظ، أخذت فنجان القهوة الذي كنت قد شربته قبل قليل، ووضعته مقلوبا على الطبق، ثم عدلته فظهرت خطوط بقايا القهوة المرسومة على جدران الفنجان. رفعت عينيها نحوي، ولكن تقاطيع وجهها تغيرت في تلك اللحظة، وحتى ملابسها تغيرت، فلم تعد الآن ترتدي الأسود: كانت ترتدي قميصا مطرزا أبيض اللون، تماما كفلاحة بلقانية، وجونلة طويلة جدا وملونة، وتخفي شعرها تحت منديل مزركش الألوان، لقد تحول وجهها إلى وجه غجرية رومانية من تلك اللاتي كنت أشاهدهن في طفولتي، ابتسمت لي مبينة أسنانها الذهبية وبينما كانت تشير بأصابعها الطويلة إلى خطوط المستقبل، فتحت شفتيها المغضنتين الموشومة لتلقي عليّ ما تراه:

-من المحتمل أن تصل إلى ما تصبو إليه. سوف ترحل في عُمان وشواطئ الزنج (الشاطئ الإفريقي الشرقي). وقد تصل إلى زنجبار بحثا عن عالم لم يعد له وجود. ولكن تذكر- رفعت سبابتها- مهما ذهبت بعيدا، فإنك سوف تعود في يوم من الأيام إلى القاهرة أم الدنيا.

(ملاحظة المحرر: الكتاب الروائي غير مصور، والصور هنا من مصادر مختلفة لنقل القاريء لأجواء المكان)

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات