سالي الزيني: فنانة تشكيلية بقلب المشهد

12:56 مساءً الجمعة 25 مارس 2022
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

ما هو الدور الذي تؤديه الملصقات للأفلام؟

إنها تمثل بذرة لشجرة ذاكرتهم الجمعية، حيث يكبر مزاج مشترك، فيتحول  الفيلم والجمهور إلى كيانين في تجربة موحَّدة، وكأن الملصق هو الجسر بين الطرفين؛ جسر  ينشرالقصة أو أحد فصولها ومشاهدها، ليجذب الانتباه ويثير الترقب، قبل الفرجة، ثم يحدقون في الملصق مرة أخرى، بعد مشاهدة الفيلم، لتعيد مكوناته المصورة إثارة مشاعر أقوى بداخلهم، وليتحول الملصق، من صورة ثنائية الأبعاد،  تربط الجماهير والفيلم خارج الشاشة إلى أداة لتفسير الفيلم.

هنا نجد أنفسنا أمام (المشهد) للفنانة سالي الزيني، وهو معرض فردي قدمته هذه التشكيلية المصرية المتفردة مؤخرا، تستعيد فيه رؤيتها الخاصة للفيلم من خلال رسم ملصق جديد. معرض يجمع بينها كرسامة مبدعة، وكأكاديمية أحد أدوتها البحث والتأريخ، فهي أستاذ مساعد بقسم الجرافيك في كلية الفنون الجميلة بالزمالك، وقد وثقت تلك الرحلة التي اختارتها من خلال تدوين اسم النص وفقرة منه تمثل المشهد الذي حددته، ورصدت تاريخ الفيلم موجزا، سواء بذكر تاريخ إنتاجه، أو طاقم عمله من مخرجين وأبطال، وبالتأكيد مؤلفه. فهي تكتب مثلا عن فيلم (لا أنام – 1957)، الإخراج: صلاح أبو سيف، الحوار: السيد بدير، صلاح عز الدين، صالح جودت، البطولة: فاتن حمامة، يحيى شاهين، مريم فخر الدين، عمر الشريف، عماد حمدي، هند رستم، رشدي أباظة، التصوير: محمود نصر، عبد الحليم نصر، حسن داهش، الموسيقى التصويرية: فؤاد الظاهري، الإنتاج: عبد الحليم نصر – إتحاد الفنانين، الفيلم مُصنف في المرتبة 29 ضمن قائمة لجنة المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة لأفضل الأفلام المصرية، وواحد من أول عشرة أفلام مصرية ملوّنة.”

هكذا نجد بطاقة موسوعية منمنمة، تستحضر ذاكرة الفيلم وجمهوره معًا. وهذا هو جوهر المعرض، فالفنان ليس استعراض موهبة وحسب، وإنما هو أيضا باحث في تاريخ الفن، وعليه أن يقوم بدوره كمثقف عضوي، لا يلقي بالألوان في الفراغ أو على سطح اللوحة دون تأصيل للعمل.

فرحت بالمعرض، وحزنت أيضا، لأنني كنت أتمنى لو ضممت بعض الأعمال التي ظهرت فيه، إلى كتابي (نجيب محفوظ | السارد والتشكيلي)، الذي صدر في 2018 وقدمت فيه خلاصة عشر سنوات من البحث في مشروعات فنانين تشكيليين عملوا على النتاج الروائي للأديب الكبير، ليحولوها إلى أعمال تشكيلية، سواء عبر الأغلفة أو الرسوم الشارحة، مثل الحسين فوزي، وجمال قطب، وحلمي التوني، وسيف وانلي، ومحمد حجي، وغيرهم من أيقونات الفن التشكيلي في مصر، وكنت سأسعد لأضم أعمال سالي الزيني المبهجة، إلى تلك الباقة، لما تميزت به، ولأنها ستكون الفنانة الوحيدة بين كتيبة من الفنانين!

يمثل ملصق الفيلم (الأفيش / البوستر، كما يسمى عادة) دعوة صناع العمل السينمائي إلى المتلقي / المشاهد، لقراءة سريعة لمحتواه، سواء بالتركيز على اسمه، أو اسم مؤلفه، أو مخرجه وأبطاله، وكذلك لاستنطاق مشاهده الأشهر والأكثر جذبا. 

كتب كيرهيوستن Kerr Houston، أستاذ تاريخ الفن في معهد ماريلاند، عن الدور الذي تقوم به ملصقات الأفلام في القاهرة، فإذا كانت الأفلام لها دورها في الخطاب السياسي خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين، فإن بنات عمومتها؛ الملصقات، التي تنتشر على واجهات السينما في القاهرة، وعلى جدران الشوارع ولوحات الميادين، قدمت خطابا موازيا.

أنتجت هذه الملصقات من قبل رسامين محليين وممارسي الطباعة على المعدن، وصدرت بالعديد من الأحجام القياسية ومضاعفاتها لعدة آلاف. تتنافس هذه الملصقات لاجتذاب عين المشاهد مع مئات اللافتات واللوحات الإعلانية الأخرى، في شبكة حضرية كثيفة مزدحمة بالإعلانات والعلامات. وبطبيعةالحال، فهي ملصقات عمرها قصير، تغطى بسواها أو تزال في غضون بضعة أسابيع. وفي حين أنها مجرد إعلانات، إلا أنها تقدم صورة “فنية” عن المناخ الاجتماعي والسياسي.

حضور هذه الملصقات يوازي حضور المرأة في البيئة الحضرية، وإذا كانت الملصقات تركز في البداية على أبطال ذكور، فإن صورة المرأة في الملصقات التي قدمت أفلام تلك الحقبة، ومن بينها سينما محفوظ، تعكس تطورا كبيرا في النظرة إلى النساء، اللائي يظهرن على الملصقات بدءا من منتصف القرن،مستلهمة من صورة المرأة اللعوب والمغوية في السينما الهوليوودية وملصقاتها. 

في كتابات أوني ويكان UnniWikan الأنثروبولوجية عن ملصقات الأفلام المصرية نقرأ كيف اعتاد الجمهور على تلك الملصقات في مدينةالقاهرة عام 1969 تصور جانبا من المكان (شرفة، نافذة، إلخ) مع حضور جزئي أو كلي لجسد المرأة، مثلما تظهر حميدة في ملصق الفيلم (1963) المأخوذ عن روية نجيب محفوظ (زقاق المدق) التي كُتبت في 1947م. هكذا أصبحت صور النساء لازمة ، تظهر وهي تكشف جزءا من الجسد، ممتدة ساقها، هنا، عار كتفها هناك، وتغيرت الملصقات “العفيفة” التي راجت في الأربعينيات، كما رأينا على سبيل المثال في سلسلة أفلام ليلى مراد، ففي عام 1941 تبدو ليلى بنت الريف فتاة متحفظة، ولكن ليلى بنت الشاطيء في 1959 ، تظهر فتاة أكثر لياقة وانفتاحا واثارة.

وقد اهتم الناقد السينمائي محمود قاسم بجمع ملصقات الأفلام المصرية، ومقارنتها مع نظيراتها الأجنبية، وهو يراها لوحة تقدم موجزا للفيلم، بأجمل ما فيه. وفي كتابه “أفيش السينما المصرية” يكتب بالمقدمة يذكر أن الملصقات هي في المقام الأول لوحاتٌ مرسومة، بين رسوم توضيحية كاريكاتورية أو شارحة، أو مصورة.

 يجسد (المشهد) ذلك كله، والفارق إنها لوحة رسمت بعد نحو نصف قرن أو عدة عقود من خروج الفيلم للحياة، وكأن المعرض إحياء للحقبة، روحها، حراكها، طابعها، شخوصها، قصصها، وحريتها أيضا.

لم تقف سالي الزيني عند أفلام نجيب محفوظ، الأكثر شهرة، وإنما استعرضت أعمالا أخرى لكثيرين من مجايليه واللاحقين به، وكأنها مقريزي تاريخ السينما في الفترة التي واكبت متابعتها. كان ما يربطها بالفيلم الملصق الشائع، وبعد قراءة النص، ومشاهدة الفيلم، وجدت لديها بعدًا آخر، سواء كان ذلك مشهدها الأثير في الفيلم، أو نقطة التحول التي تراها جديرة بالتصوير بطزاجة الأكليريك والخامات الأخرى. إنها مفتونة بالسينما، لكنها تعرف أن الفيلم يخاطب الحياة، وألوانها أجمل ما تخاطب به الحياة.

نقرأ لدى لطيفة الزيات، في (الباب المفتوح): “تلقيت خطاباً من “محمود” يُخبرني فيه أن خطبتكِ ستُعلن، وبالأمس.. كتبت لكِ خطاباً مجنوناً ثم مزقته.. أتصدقين إنني مازلتُ أحبك !!واليوم أشعر بأني بحالٍ أفضل تمكني من التفكير السليم ولذلك أكتبُ إليكِ لأهنئك فأنا سعيدٌ لكِ يا عزيزتي لإنكِ أستطعتِ أخيراً أن تدفعي الباب وأن تنطلقي و لابد أنكِ تمضين الآن في الطريق المفتوح، واللمعةُ في عينيكِ والإشراقةُ في وجهك..إن الخطأ الوحيد ألذي أرتكبتهِ هو أنك جعلتيني أراكِ.. وأنكِ جميلة..، وأنكِ رقيقة..، وإنكِ.. أنت…”إن “ليلى” لا تملك من إرادتها شيئا سوى أن تثبت عينيها – في حفل خطبتها إلى الدكتور “فؤاد” الذي اختارته بعقلها مؤثرة السلامه – على تلك “الذبابة” التي سقطت فالفنجان محاولة الخروج جاهده إلى أن خارت قواها فماتت..”القصة تحولت في ١٩٦٣. إلى فيلم يحمل الاسم نفسه، من بطولة: فاتن حمامه، صالح سليم، محمود مرسي، حسن يوسف، وإخراج: هنري بركات، وتصوير: وحيد فريد، وقد نال جائزتي أفضل ممثلة وأفضل فيلم من مهرجان جاكارتا السينمائي”.

شقاوة سالي الزيني تبدو في طفولة التعبير، كأنه عبث ذكي، فهي في ملصق (الباب المفتوح)، تكتب على المظروف بلونه الأزرق (جواب أزرق)! ولن يخلو من الورد، مكونها الأثير في معظم أعمالها، وكأنه أبجديتها التي تعينها في التعبير، أكثر من أي لغة أخرى. وهي – بشكل أو آخر – تتقمص شخصيات الملصقات، أليست هي تمثل دور التلميذة المستكينة على ذلك الغلاف؟ أليست هي التي تغني “باسبوسة” متعمدة إضافة الألف لنستدعي أغنية شادية (حميدة) بطلة (زقاق المدق) في (المشهد). واستخدام (التوللي) الحقيقي، في الطرحة، كما تفعل البنت مع دميتها وهي تزينها!

علينا أيضا ألا نغفل ملاحظة البطولة النسوية المطلقة لملصقات (المشهد) التشكيلية، ليست هناك حاجة لعبارات زاعقة عن نصرة المرأة، ولا شعارات طنانة عن حقوق المرأة، لأن سالي الزيني – بهدوء ونعومة مطلقة – وضعت المرأة في مكانتها كبطلة. هذه هي المفردات التي تجعل الرسامة مثقفة عضوية، فاعلة، فالداخل للمعرض، أو المتصفح للوحاته، سيكتشف الحضور الطاغي للمرأة، وكأنها تقوم إن الستينيات كانت متأججة بالحياة، لبروز المرأة في جنبات هذه الحياة، أدبيا وفنيا. هنا يكون الاختيار انتماء وولاء واتجاها، وهنا يكون المضمر علانيا .

أي الأغنيات سنستمع إليها ونحن نتجول بين اللوحات، أو نشاهدها لاحقا حيث غطتها صحف ومجلات كثيرة، واستضافت رسامتها منصات إعلامية أكثر. ربما يكون عبد الحليم حافظ، وصوته يتناوب التعبير عن الحب والتجربة الاشتراكية!

ستتحول لوحات (المشهد) تدريجيا إلى التغلغل في الذاكرة، لتكون بديلا للملصقات الأصلية، ليس فقط لصدقها، وإنما لروحها العصرية. وربما نراها في بطاقات لدى باعة الهدايا التذكارية، لنكتب عليها رسائلنا المشفرة إلى الحبيبات، رسائل مضفرة بالفراشاتالمحلقة، والورود الملونة، وعبارة لا أنام!

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات