السخرية والكوميديا في الفيلم السياسي المصري

08:56 صباحًا الأربعاء 15 مايو 2013
محمود قاسم

محمود قاسم

ناقد وروائي من مصر، رائد في أدب الأطفال، تولى مسئوليات صحفية عديدة في مؤسسة دار الهلال، كتب عشرات الموسوعات السينمائية والأدبية، فضلا عن ترجمته لعدد من روائع الأدب الفرنسي.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

مشهد من فيلم: حتى لا يطير الدخان، للمخرج أحمد يحيى

فى ثقافتنا التقليدية، فإن انتقاد الحاكم، هو العمل الكارثى الأكبر الذى يقوم به المواطن، خاصة الفنان، الذى يملأ انتقاداته، وآراءه الافاق، والأزمنة، ولأن الحاكم يملك مقادير القوة المتغطرسة، المتعددة من أجل ردع من يجرؤ على انتقاده، فقد فكر مئات المبدعين طويلاً قبل أن يقدموا على هذه الخطوة: السخرية من الحاكم.

واتقاء لهذا الشر المرتقب، لجأ الكثيرون إلى التملق، والاطناب، والمديح المبالغ فيه، الا انه مع مرور الزمن، واتساع دوائر الاتصال، فإن الشجاعة غلبت الكثير من السينمائيين فى تقديم آرائهم الخاصة، وفى الحكم ومن يمثله، ولجأ الفنان إلى الرمزية تارة، ثم إلى السخرية والتعتيم تارة أخرى..

وفى العقد الأخير من حكم حسنى مبارك، كثرت الكوميديا السياسية الساخرة، وامتزجت فى الكثير من الاحيان بالفانتازيا، والحقيقة أن الحاكم وحده لا ينسب إليه هذا الشرف، فمن حسن حظ المبدعين أن تولى الرقابة فى هذه الفترة مثقفون أصحاب مواقف، وأباحوا على مسئولياتهم ما لم يتاح للمتفرج المصرى أن يشاهده، وكان على أبو شادى، ومدكور ثابت على رأس هذه الأسماء.

لذا ففى هذه الفترة، شاهد الناس افلاما تحتوى على جرأة سياسية ملحوظة، فى البداية، كان من المسموح انتقاد أى مسئول فى الحكومة، وأى جهاز فى دائرة الحكم، ما عدا الرئيس نفسه، وأسرته، وأيضاً القوات المسلحة، التى كان الرقيب يدفع إليها بأى سيناريو قد يمس بمكانتها وسمعتها.

وعليه، فإن الكوميديا السياسية، قد تصدرت فى أفلام عديدة للمؤسسة البرلمانية –مجلس الشعب – الذى تم انتقاده دوما من خلال الصعود الاجتماعى، والاقتصادى والسياسى لبعض الأشخاص الذين رأوا أن قصر الطريق إلى الفساد، هو أن يصيروا أعضاء فى مجلس الشعب، وقد تصدت الكوميديا السياسية لهذا الصعود، فرأينا أفلاما عديدة تصور الفساد الحقيقى لدى أعضاء هذا المجلس. ولعلنا لا ننسى ذلك العضو الوقور، الذى يردد عندما يتم العثور على كيس هيروين فى حقيبته، أثناء عودته من الخارج “سحلب”، فهذا العضو فى فيلم “اللعب مع الكبار” استغل حصانته البرلمانية، وحمل كيسا من “البودرة”، وكأن الفيلم يبلغ متفرجيه أنه كم ممن لديهم الحصانات، يحملون الممنوعات، باعتبار أن الموضوع الرئيسى حول الفساد الذى يمارسه كبار رجال الدولة، أيا كانت مسمياتهم الوظيفية، عدا الرجل الأكبر.

وقد تم التركيز على البرلمانى، باعتباره رجل سياسة، فمنهم الوزراء، ورجال الأعمال، وأصحاب النفوذ، والغريب أن هذا القدر من الانتقاد الساخر قد صار أكثر تركيزاً فى أفلام قام ببطولاتها عادل إمام، مما يدل على جماهيرية هذه الأفلام، وعدد مشاهديها، ومن هذه الأفلام “حتى لا يطير الدخان” لأحمد يحيى 1984، ثم الفيلمان الأول والثانى من “بخيت وعديلة”، خاصة الفيلم الثانى.

ففى الفيلم الأول، فإن هناك اشارة عابرة أن رجال العصابات تسللوا إلى قاعة البرلمان وصاروا أعضاء فى المجلس، وجاءت التفاصيل فى الفيلم الثانى، الذى سمى “الجردل والكنكة” وهما يرمزان بشكل ساخر إلى الرمزين الانتخابيين لكل من بخيت وعديلة، اللذين يحلمان بالعثور على شقة يتزوجان فيها، فإذا بهما يدخلان دهاليز عالم الانتخابات، والمافيا التى تسيطر على “سوق” الترشيحات والفوز.

الموضوع الأساسى فى هذا الفيلم، هو الانتخابات التى أتاحت لأغلب التيارات الدخول إلى البرلمان، وباعتبار أن كلاً من المرشحين “بخيت وعديلة” قد رشحا نفسيهما طمعاً فى الشقة، فإنهما يمارسان لعبة قذرة، مصاغة فى إطار من الفكاهة والسخرية، ترى أن هناك رشاوى انتخابية، وعروض مغرية، بالمال من أجل التنازل عن الترشيح. وتربيطات بين الخصوم لاتاحة فرص الفوز، أو الخسارة.

وقد رأينا فى الفيلم، كيف يقبل رجال السياسة على الانتخابات، ومنهم رئيس مجلس إدارة إحدى الشركات، ووزير يود الحصول على المقعد بأى ثمن، ومثل هذا الوزير موجود بشكل ساخر فى أفلام أخرى عديدة، لعل أبرزها الحملة التى قادها فتحى نوفل، لإنجاح الوزير فى فيلم “طيور الظلام” لشريف عرفة عام 1995.

فى فيلم “الجردل والكنكة” يحاول بخيت وعديلة الولوج إلى اللعبة، دون أن يكون لهما سند، فيلجآن إلى المبالغة، كأن يرتادا سرادقات المرشحين، وقد تنكروا فى ملابس التيار الذى أعد هذا الصوان، ففى الحملة التى تمثل التيار الدينى، فإن بخيت يضع لحية مستعارة، ويرتدى جلباباً أبيض، أما عديلة فتضع غطاء ارأس، وتبدو شديدة الحشمة، ويصعد بخيت إلى المنصة كى يتكلم، فيزايد على مطالب الناس، ويبدو ساخراً فى مواقفه ومطالبه.. ويتم تأدية هذا المشهد بشكل ساخر، هزلى على شرف الانتخابات.

وهذا الفيلم عبارة عن مجموعة من الاسكتشات المتتابعة لما يحدث فى مهرجانات الانتخابات، وهو أمر يدعو إلى السخرية، رغم مرارته، وقسوته، فمن أجل البحث عن أصوات ناخبين، يذهب المرشحان إلى منطقة عشوائية فى حى غير معروف فيه أية عشوائيات، وهو “الجمرك” بالاسكندرية، وذلك باعتبار أننا أمام حى شعبى، يعيش فيه الفقراء، وهو الحى الذى يسكن فيه بخيت، وبالتالى فإن بخيت ليس بحاجة إلى الدهشة، أو محاولة التنويه إلى قذارة الحى، وأن سكان المكان لا يكادوا يعرفون شيئا عن العالم خارج جدران بيوتهم، هذا المكان العشوائى الذى يذهب إليه بخيت وحده، دون شريكته عديلة، ملىء بالمدمنين، والفقراء، وجميعهم ليست لهم بطاقات انتخابية، وبالتالى فإن المرشحين الآخرين لا يقتربون منهم، حرصا على أن أهمية المواطن فى صوته الانتخابى ليس الا.

وقد سخر الفيلم من اللعبة الانتخابية كلها، وفى المشهد الختامى للفيلم، فإننا نرى أن الأعضاء الذين تم انتخابهم هم من طراز بخيت وعديلة، وايضا هناك اعضاء من التيارات الدينية بالاضافة إلى تجار مخدرات، وهناك اللصوص المهربون الذين سرقوا حقيبة، بها اربعة ملايين دولار، فى الفيلم الاول من السلسلة، كما أن هناك مدير بنك مختلس، ومهربأطلق لحيته، وكأن الفيلم بذلك يؤكد أن المجلس حالة من السخرية السياسية جمعت كل هذه المتناقضات معاً.

وعلى طريقة الوزير وعضو مجلس الشعب، رأينا وقائع فيلم “الواد محروس بتاع الوزير” اخراج نادر جلال عام 1999، ايضا فى اطار من الكوميديا السياسية، الساخرة، فالفيلم يصور الوزير على أنه مرتش، يستغل نفوذه، وهو ايضا عاشق للنساء، يتزوج بفتاة شابة بعيدا عن أعين زوجته، وقد رأينا فى هذا الفيلم أشد وسائل الانتقام غرابة فالمجند محروس، الذى عمل لفترة فى مكتب الوزير، وعرف أسراره، ووشى به، قد تعرض للضرب من قبل رجال الوزير، فأقسم أن ينتقم منه، ورشح نفسه لدخول البرلمان، وهناك صار يقدم الاستجواب تلو الآخر ضد الوزير، وتمكن من اسقاطه فى مشاهد مليئة بالهزلية، حيث أن حروس نفسه يصير أكثر فسادا من الوزير، فيتزوج مطلقته الشابة، وتصير له أربع زوجات.

السخرية فى السينما طالت كافة أشكال السياسة وصار رجال الدولة المرموقين محل سخرية فى افلام منها “طيور الظلام”، و”معالى الوزير”، وبعد أن طالت الأفلام بالسخرية أبرز رجال السياسة، وأظهرتهم على أنهم يستحقون السخرية، كان لابد من التصعيد نحو رئيس الجمهورية ولعل هناك مشهدا قصيرا فى فيلم “4 فى مهمة رسمية” لعلى عبدالخالق، يعكس التصرفات الرعناء للوزير الذى يزوره الموظف فى منزله، فيتكلم إليه الوزير بوقار شديد، حتى إذا أتى للرجل خبر اقالته، وتغيير الوزارة، حتى انقلب إلى شخص ملىء بالعصبية، وعدم الاتزان وطرد المواطن من منزله فى عدم لياقة ملحوظة.

بدأت الافلام الكوميدية، وغيرهما، فى التعامل مع الرئيس بشكل مبجل، ومحترم، باعتبار أنه القائد، وممنوع المساس به إلا بكل تقدير واحترام، وكانت هذه الصورة المنشودة فى مجتمع ازدادت فيه المعارضة، وصار من المسموح انتقاد كل أعضاء الحكومة، إلا الرئيس فهو يجب ألا يمس.

جواز بقرار جمهورى

بدا ذلك واضحا فى فيلم “جواز بقرار جمهورى” لخالد يوسف عام 2001، فقد قبل الرئيس أن يحضر حفل زفاف لاثنين من المواطنين، وجها إليه الدعوة للحضور، يسكنان حيا شعبيا ملىء بالفقراء الذين يجهزون آلاف العرائض عن أحوالهم ومشاكلهم، كى يقرأها حين ميسرة، ولم يكن الرئيس محل سخية فى الفيلم، بل هو حسنى مبارك، بوقار ملحوظ مما يعنى أن القيادة السياسية تشارك الناس فى أفراحهم.

وقد شجع هذا النوع من الأفلام أن يقحموا شخصية الرئيس فى أفلام أخرى، ورأينا هذا الرئيس فى أفلام كوميدية، من أبرزها “طباخ الريس” عام 2010.

إلا أن أبرز رئيس تمت السخرية منه، رأيناها رجلا عجوزا، يملأه المرض، والهرم فى فيلم “ظاظا” الذى حذفت الرقابة بقية اسم الفيلم “رئيس جمهورية” حين العرض، الرئيس هنا يسمى الحناوى، والفيلم هنا أقرب إلى التخيل السياسى الكوميدى، فالمواطن الذى يجد نفسه مجبرا على الترشح أمام رئيس الجمهورية العجوز، كان كل حلمه أن يحصل على شقة كى يتزوج بها، لكن رئاسة الجمهورية تريد عمل “تمثيلية” حول الديمقراطية لتمرير الانتخابات، وفوز الرئيس العجوز مبكراً، من الواضح أن الفيلم كان واضحاً فى رسالته، فالرئيس الشيخ يخاف كثيرا من الديمقراطية الحقيقية، والبطانة التى حوله تصور له الأمور بشكل غير حقيقى، وينجح ظاظا فى أن يصير رئيس جمهورية، يبدو سياسياً كاجوال فى تصرفاته، ويتعامل مع القضايا السياسية والدبلوماسية على طريقة ابن البلد، إلى أن يتم اغتياله على أيدى قوى أجنبية.

ملصق فيلم الديكتاتور

وقد تساهلت الرقابة كثيرا مع هذه الافلام، وطالما أن هناك فانتازيا، ممزوجة بالسخرية فإن الممنوعات تقل حدتها، ويتم تسريب الفيلم للعرض العام، وكما اشرنا، فقد احتاج الأمر إلى رقيب له موقفه، وجاء رقيب جديد مثقف هو سيد خطاب.. ورأينا فيلم “الديكتاتور” الذى وصف كيف يكون الرئيس وولداه فى بلد ديكتاتورى.. لا يهم اسمه، قدر ما يهم أنه يتعرض للثورة ويتمرد الشعب عليه، ويساعد رئيس دولة بمبوزيا وابنه إلى كوخ، يعذبان فيه على يدى أحد أبناء الشعب.

الديكتاتور هنا يبطش بمن يرفض أو يعترض على أوامره، ويخشاه الجميع انه يسمى شنن، يرث ولداه السطوة، أحدهما يهتم بالاقتصاد وجمع المال، أما الثانى فهو يهتم بالسياسة والنساء.. انه يتصرف بشكل غير مسئول، يتلذذ بتعذيب الشعب، وتحوط المشكلات حياته، فهو يتصور أن أنقلابا سيقوم ضده، لذا، فانه يبطش بمن حوله، ولا يثق فى أحد، ويقوم دوما بتغييرهم، حتى يحدث انقلاب فعلى، ويطالب الشعب باعدامه عند محاكمته.

لا شك أن مزج هذه الافلام بالكوميديا، قد توائم كثيرا مع الصعود الملحوظ للكوميديا فى تلك السنوات، وعكس الوسيلة الامثل لتعامل السينمائى مع الممنوعات كأ، يردد: نحن نمزح.. ليس إلا

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات