زينب حفني : هل أتاك حديثي؟

06:31 مساءً الأحد 26 مايو 2013
زينب حفني

زينب حفني

كاتبة و أديبة سعودية

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

(6)

لم أزل أذكر هيئة صافي عندما كانت في بداية مرحلة مراهقتها. تكبرني بسبع سنوات. عندما كنّا نحضر للقاهرة في الإجازات الصيفيّة، تأتي على الفور لزيارتنا. كنتُ أقف مشدوهة بجمالها الصارخ. شعرها الغزير الخصلات، البندقي اللون، الذي ينساب متموجاً لمنتصف ظهرها. رقبتها الطويلة المعقودة بجيد منبسط وصدر ساطع مثل كرتي لهب. طولها الفارع. قوامها المتناسق المائل إلى النحافة. أرادفها المتماسكة بمؤخرة صلبة تتراقص بحذر عند مشيتها. بشرتها البضّة المشربة بحمرة. ابتسامتها الرائعة التي تنفرج عن ثنايا كالدرر. عيناها الواسعتان المغروستان بفصيّن لم أعرف لحد اليوم لونهما إن كانا عسليتين أم رماديتين أم هما مزيج من اللونين!!  الكل كان يُبدي إعجابه بحسنها. يعتقد من يقع بصره عليها من الغرباء، أنها من سلالة الملوك. يحتار من أين ورثت فتنتها الأخّاذة! كانتُ خالتي عزة تضحك قائلة:

“لقد توحمّت على الأميرة فوزية أخت الملك فاروق. كنتُ  في صغري كلما تأملتُ صورها في المجلات والجرائد، أدعو ربي بإلحاح أن يهبني عندما أتزوّج بنت في حلاوتها. فحقق أمنيتي”.

كانت صافي كلما عبّر أحد بحسن نيّة عن إعجابه بجمالها، تضحك ضحكة صافية ممزوجة بنغمة مُغرية، مصطبغاً وجهها بحمرة خجل. زوج خالتي من أعيان مدينة دمنهور. جذبه صخب القاهرة وضجيجها الليلي. أستقرّ فيها قبل أن تحضر صافي للدنيا. ظلّ حريصا على علاقته بأقربائه. يزورهم في المناسبات العائلية وفي الأعياد السنويّة. ترك أملاكه التي ورثها أبّا عن جد في يد أبناء عمومته ليرعوها. عندما تزوجت صافي كنتُ في العاشرة من عمري. كان حفل زفافها أسطوريّا.  أقيم بفندق هيلتون النيل. أحياه الفنان محمد العزبي والفنان أحمد عدوية. زفّت العروسين الراقصة سحر حمدي التي كانت في أوج شهرتها. أستمرّ الحفل حتّى ساعات الفجر الأولى. أتذكر ضاحكة كيف كنتُ أذهب لدورة المياه لأغسل وجهي بماء بارد كلما شعرتُ بالنعاس. ظلّ حفل زفاف صافي حديث المجتمع لعدة أيام. ثوبها الذي أوصت عليه من إحدى دور الأزياء الكبرى بباريس. شعرها الذي قام بتصفيفه مصمم الشعر الشهير “غريب”. كان زوجها وابن عمّها هو الآخر وسيم الملامح، بهي الطلعة، قامته الرياضيّة الواضحة في بذلته “اليسموكن” السوداء. لا أعرف لماذا لم أكن أحبُّ هشام زوجها. عندما كان يأتي أحيانا بصحبتها وهما مخطوبان، كنتُ أتحدّث معه باقتضاب. لم تكمل صافي سنة في بيت زوجها. انتشرت شائعات كثيرة حول طلاقها. هناك من كان يقول بأن زوجها أكتشف ليلة العرس بأنها لم تكن بكراً. وآخرون كانوا يُرددون بأن هناك رجلاً آخر شغل قلبها وأدّى بها إلى طلب الطلاق. والبعض أخذ يُروّج أنّ زوجها ليس رجلاً! كانت أمي كلما تناهى لسمعها واحدة من هذه الإشاعات، تقول حانقة “الناس فاضيه ما عندهاش الّلا الكلام في سيرة فلان وعلاّن”. عندما عادت صافي لزيارتنا في إجازتنا الصيفيّة التالية، لم تكن صافي التي عهدتها. أشياء كثيرة تغيّرت فيها. الأحزان حفرت أخاديدها على صحن وجهها. تلاشى الدلال الذي كان يُغلّف صوتها. انطفأت لمعة السعادة في عينيها. ما أن أكملت صافي أعوامها الخامسة والعشرين حتّى أصبحت زوجة ثانية لرجل يكبرها بعشرين عاما. صديق مقرّب لوالدها ومن مسقط رأسه. هلّل والدها في داخله. رأى بأنها زيجة مناسبة، وخرساً لألسنة المتربصين به. حرص أن يمنح ابنته خيار الرفض أو القبول. أبدت موافقتها دون أن تنظر لوجهها في المرآة وتعرف قدر فتنتها. خاف زوجها من ترك هذا الحسن دون حراسة. آثر أن تقيم في القاهرة بالقرب من والديها. أبقى زوجته الأولى وأبناءه في دمنهور. صار وقته مقسوما بين المدينتين. اكتشفت صافي بعد أشهر معدودة من الزواج، أن زوجها أجرى عملية “البروستاتا” منذ عدّة سنوات. أحسّت بالقهر. بكت بحرقة. رغبت بشدة أن تكون أمّا. أعلنت لأباها رغبتها في الطلاق. وقف لها بالمرصاد، متعللا بأنه لم يُجبرها على هذا الزيجة. رضخت لواقعها على مضض. لم يستمر الزواج الثاني طويلا. كان القدر يُراقب من البعد خيباتها المتتالية. قرر رغم أنف الجميع فك أسرها. مات زوجها بعد سنتين من زواجهما في حادث سيّارة مروّع وهو عائد إلى القاهرة. لم تحصل صافي على شيء من أرثه. كان قد كتب كل أملاكه باسم زوجته وأبناءه. ترك لصافي مبلغا محترما باسمها في البنك، وعدة قطع ثمينة من المجوهرات، وشقّة الزوجيّة الواقعة بمدينة نصر التي لم تزل تُقيم فيها لحد الآن. كان قد أشترى الشقة باسمها هدية لزواجهما القصير المدى. كعادة كل الآباء رفض والدها بشدة أن يدع ابنته تعيش بمفردها. خاف من القيل والقال ومن طمع الطامعين. أقفلت شقتها. عادت تمضغ أحزانها بمنزل أبيها، في حجرة رحبة المساحة، تمرح فيها الذكريات المريرة وتفتقر زواياها الأربعة لحرارة الحب الذي لم يعرف طريقه لحياتها.

(7)

سلّمت صافي مفاتيح فيلا والدها لأخيها فريد. عادت لتعيش في شقتها بعد رحيل والديها. أعتزم أخوها فريد الاستقرار في مدينة دمنهور. رأى أن يُتابع أملاكه بنفسه. باعت له صافي نصيبها من إرث والدها. وضعت ميراثها كوديعة في أحد البنوك، لتستفيد من عوائدها في تصريف أمورها الحياتيّة. اقتطعت جزء منها لتشغيلها في تجارة الأسهم. كانت قد حصلت على دبلوم من أحد المعاهد المتخصصة في فن الديكور. استطاعت أن تجني بعض المال من عملها في هذا المجال. بشهادة معارفها وصديقاتها كانت تحظى بذوق رفيع، ولديها دوما أفكار مبتكرة. في وقت فراغها الطويل، تتسللي بمداعبة قططها الأربع السياميّة. تتسلل كل صباح إلى مخدعها، وتدسُّ أجسادها تحت فراشها مدغدغة قدميها. تحضنها صافي بحبور. تحسُّ أنها تعوّضها عن أشياء كثيرة تفتقدها. تحضر بين حين وآخر هيئة أخوها في فكرها. تركب سيارتها في اتجاه دمنهور. تقضي عطلة نهاية الأسبوع معه ومع أسرته الصغيرة المكونة من زوجة محبة ودودة وولد وبنت. تُمازحها زوجة أخيها. تهمس في أذنها “هل عمتْ عيون الرجال عن هذا الجمال؟!”. تبتسم صافي في وجهها. تكتم حيرتها بين حناياها.

كان الشارع ذلك الصباح الباكر يغصُّ بالمارة العابرين. زعيق أبواق السيارات تُوقظ النائمين. وقفت صافي أمام المغسلة لتزيل آثار النوم عنها. نظرت بلا مبالاة إلى انعكاس صفحة وجهها في مرآة الحمام. اكتشفت أنها لم تعد تلك الصبية التي كان الكل يتغنّى بجمالها. فُوجئت أنّ الزمن قد خدعها واستغّل بياض سريرتها. أنّ سنوات طويلة قد مرّت على حملها لقب عزباء، كأنها تعرّضت لحادثة أفقدتها ذاكرتها ثمّ عادت إليها صدفة بعد كل هذه المدة الطويلة. سخرت من سذاجة فكرها. أدركت أن عجلة السنون قد مضت بها دون أن تلاحظ آثارها، مثل لحظات النوم التي ندسُّ فيها أجسادنا تحت الغطاء ولا نشعر بالساعات المهدورة، إلى أن نستيقظ ن سباتنا على وخزات الزمن تلكأ خاصرتنا وتُفاجئنا بضرباتها الموجعة. ذلك النهار كانت صافي قد بلغت الأربعين بالتمام والكمال. فقدت شهية البهجة بقدوم يوم ميلادها. قررت من لحظتها أن تُوليه ظهرها. أن لا تُحي ذكراه بعد اليوم. رمت في كيس القمامة كل الشموع التي كانت تحتفظ بها بأدراج دولاب المطبخ. صنعت لنفسها كوبا من الشاي الأخضر. أخذت ترتشفه في هدوء. تضخّمت أوداجها. تهدّلت شفّتها السفلى. أخذت ضربات قلبها تتسارع. انفجرت فجأة في نحيب حارق. اقتربت الساعة من الواحدة ظهرا. شعرت باختناق وبحاجة رئتيها إلى هواء نقي. ارتدت  بدلة رياضة قطنية بيضاء اللون. لبست حذائها الرياضي الأسود. جمعت شعرها على شكل ذيل حصان. مررت خط كحل أسود على أعلى جفنيها، ووضعت ماسكرا خفيفة على رموش عينيها. كان الطقس ربيعيّا بمنتصف شهر مارس. الشمس تظهر على استحياء في السماء. يختفي ضوءها بين حين وآخر خلف السحب ثم تعاود الظهور بثقة. لم تأبه صافي بكلمات الغزل التي كان يُلقيها مجموعة من المراهقين المارين بجوارها. كانت تهرول في الطريق والنسيم العليل يُعاكس وجهها. شاع في قفص صدرها الارتياح. توقفت أصابع الماضي عن العبث بأستار فكرها. دلفت في طريق عودتها إلى محل الزهور القائم في الجانب الأيمن من مدخل بنايتها. اعتادت بين حين وآخر شراء باقة من الزهور، وتُعبّئها في الزهريّة الكريستال الموضوعة على الطاولة التي تتوسّط غرفة الجلوس. كانت الساعة تُشير إلى الثالثة. حركة السيارات مشلولة مع تكدّس حركة المرور. المحل خاليا تقريبا إلا من صاحبته التي تجاوزت الخامسة والستين، ولم تزل تُصرُّ على إدارته بنفسها بعد وفاة زوجها. يساعدها صبي لم يتجاوز العشرين. حيّتها صافي. ابتسمت السيدة لها. اختارت صافي كعادتها باقة من الورد البلدي الأحمر القاني، وألوان أخرى مختلفة من زهرة البنفسج. لحظة خروجها أصطدم جسدها بجسد رجولي. سقطت الباقة من يدها. تناثرت أعوادها على الأرض. أخذ يُكرر أسفه . أصرّ أن يشترى لها باقة أخرى. رافقها لخارج المحل. قال لها بنبرة خالية من الخبث، وابتسامة عفوية تعلو وجهه:

“بدون مقدمات، اسمي رأفت. هل تقبلين دعوتي على فنجان قهوة أكفّر بها عن خطيئتي في حق ورودك؟!”.

شاعت في وجهها ملامح الاستغراب. تابع كلامه.

“قد تعتبرين دعوتي وقاحة وقلة حياء مني، لكن أقسم لك بأنها المرة الأولى في حياتي التي أطلب من امرأة لا أعرفها مثل هذا الطلب. اعذريني كان يجب أن أسألك عن اسمك أولا!!”.

تأملته صامتة. نبّشت بحذر في زوايا عينيه. لم تلمح في أرضيتهما تلك النظرات الشهوانيّة التي ملّت رؤيتها وتُثير استياءها. الفت عينيه تعوم فيهما معانٍ نقيّة لم ترها من قبل في عيون الرجال الحائمين حولها، الذين حاولوا سنوات رمي شباكهم عليها. ملأت فؤادها الطمأنينة. لم تمنح نفسها مهلة للتفكير. أطلعته على اسمها. وافقتُ على عرضه سريعا. لا يهمها إن شكّ في نظافة سلوكها، أو حكم عليها بالتهوّر. كان على الرصيف الأخر من البناية يقع مقهى صغير اعتادت على ارتياده. اقترحت عليه المكان. جلسا في أحد الزوايا. طلبت كوب كابوتشينو وطلب لنفسه قهوة إكسبرسو. أمضيا ساعة حكا لها باقتضاب ملخّص عن حياته. أنه شريك مع مجموعة من الأصحاب في معرض للسيارات. جلّ وقته يقضيه في الالتقاء بأصدقائه المقربين، في واحد من المقاهي الشهيرة المطلّة على النيل، لتدخين النارجيلة التي يعشقها. يهوى السفر لمدن لم يطأها من قبل. يرى في السفر فوائد كثيرة، من أهمها الإطلاع على ثقافات الشعوب الأخرى. ضبطها تمر بنظرها مروراً سريعاً على  يديه،. ابتسم. حرّك أصابعه، قائلا:

“لستُ خاطب ولا متزوّج ولم يسبق لي الزواج”.

عادت نظرة الاندهاش ترتسم على محياها. أكمل حديثه “لن أضحك عليكِ وأقول لك عبارة الرجل الشرقي الشهيرة بأنني لم أجد بعد المرأة التي تفهمني!! سأكون صريحا معك إلى أبعد حد. أنا من مؤيدي العزوبيّة بشدة. لا أؤمن بمؤسسة الزواج. لكن من يدري ربما أصادف امرأة ترمي بنظرة ساحرة من عينيها كل قوانيني في عرض البحر وأتزوجها في غمضة عين”.

لفتت انتباهها أناقته. كان يرتدي بنطالاً كحلي اللون، وقميص مقلّم بألوان فاتحة. تتدلّى من رقبته سلسلة سميكة من الفضة. يبدو في الخمسين وإن كان قد أخبرها لاحقا بأنه قد تجاوز هذا السن بسنوات قلائل. مستوي البنية. معتدل الطول. حليق الشارب واللحية. يتميّز بسبلة ظاهرة فوق شفّته العليا.لم تغضب من صراحته. سمعتُ على مدار عمرها عن زيجات غريبة لم يُخطط لها أصحابها، وانتهى بهم الأمر إلى الدخول بيسر في قفص الزوجيّة. سمعتُ أيضاً عن قصص حب عميقة، انتهت بأنهار من الدموع وذكريات مريرة. وعاصرت قصص أخريات تعرّضن للخديعة، بعد أن غرقن في لجج الحب، وقدّمن أجسادهن على أطباق من ذهب.

احتارت في سبب انجذابها السريع لهذا الرجل!! أرجعت هذا إلى تبسّطه في الحديث. خفّة ظلّه!! أريحيّة طباعه. أدركتُ مع مرور الأيام أن الحب الحقيقي لا يحتاج إلى مبررات منطقيّة كي يسطو على قلب المحب، بل هناك أيدٍ مجهولة تمتد لإنارة سراج القلوب المنكسرة. تكررت لقاءاتهما الخارجيّة مابين غداء وعشاء على ضفاف النيل. بعد ثلاثة أشهر من تعارفهما دعاها إلى بيته. قالها بتلقائيّة كعادته. لم تُمانع. حرصت أن تذهب إليه في كامل أناقتها. لبست طقماً أرجواني اللون، كانت قد أشترته مؤخرا. عبارة عن قميص بأكمام يصل إلى مفصل الذراعين، وتنّورة تقف عند الركبتين. وضعت مكياجاً بسيطا. رمت شعرها خلف ظهرها. كانت تقع شقته بحي المعادي. عمارة حديثة عالية الطوابق، بشارع قريب من الطريق العام. طاف بها يومها أرجاء شقته. كانت أكبر حجما من شقتها. ثلاث غرف واسعة. مفروشة بأثاث يجمع بين الكلاسيكي والمودرن. يرى الواقف من شرفتها الوحيدة البحرية الموقع، منظر كورنيش النيل يطلُّ من بعيد. جلسا على الأريكة. بدا مشغولا بمتابعة مباراة بين فريقي الأهلي والزمالك.

سألها بحماس “أنتِ مع من؟”.

أجابته باسمة “لستُ من متابعي كرة القدم، لكن أنا مع فريقنا القومي عند أي مباراة له خارج مصر”.

أقترب منها. أحاط خصرها بذراعه. نظر في صفحة وجهها قائلا:

“كم أنتِ جميلة ياصافي”.

بلا أي مقدمات جذبها نحوه. وجدت شفتيه تُطبقان على شفتيها في قبلة طويلة. استعذبت دفئهما. استحلت ريقه. تخدّرت أعصابها. لم تُحاول التملّص منه. كانت قد طرقت أبواب قلبها مشاعر لم تزرها من قبل. طوال مراحل عمرها لم تعش مثل هذه اللحظات الشاعريّة. كانت تراها فقط على شاشات السينما، وتتابعها في المسلسلات المكسيكيّة المدبلجة. وجدت نفسها تسبح في الفضاء الواسع بمظلة “برشوت” مفتوحة، ليس لها رغبة في لمس الأرض. ازدادت التصاقاً به. شعرت بيده تحلُّ أزرار قميصها. تحاول الوصول لرمانتي صدرها. أمسكتُ بمعصمه. هبطت بمظلتها  على ارض الواقع. قالت له باستعطاف:

“رأفت، أرجوك لا تستغل لحظات ضعفي. أنا لا أؤمن بالعلاقات الكاملة خارج إطار الزواج”.

أزاح يده. لمعت صفحة وجهه. قبّل جبينها. سألها بنبرة حانية “أنا جّدا جائع. ألا تشعرين بالجوع؟”.

أومأتُ برأسها.

“هل أنت ماهرة في إعداد الوجبات؟! ما رأيكِ أن تعدّي لنا معكرونة بالصلصة الحمراء، مع طبق من السلطة الخضراء. أريد أن أذوق صنيعة يديكِ”.

شاعت تعابير السرور على صفحة وجهها. طبعت قبلة سريعة على صدغه. هرعت صوب المطبخ. انهمكتُ في إعداد وجبة العشاء. هاجت عواطفها.  تدحرجت دمعتي فرح من مقلتيها. كم افتقدت طوال عمرها مثل هذه اللحظات الدافئة.

**********************

منذ ذلك اليوم لم يُحاول رأفت اختراق جسدها. أحترم إرادتها. ظلّت براكين أنوثتها تفور في أعماقها، كلما دفنت رأسها في صدره. تحسُّ بلهيب رغباتها يتأجج في جسدها، كلما نفذت إلى خياشيمها رائحة جلده. تهيج رغباتها عندما تستنشق عبق أنفاسه. تتمنى أن يضرب قوانينها بعرض الحائط. أن لا يعبأ بتمنّعها. أن يسنّ لعلاقتهما قانون مغاير. تعود فتستجمع شتات نفسها. تلجم شبقها وتعطشها لفحولته. تُغطّي وجهها في أحضانه. تعبث بشعيرات صدره. تُصبّر نفسها بسيل قبلاته ومداعباته الجريئة التي تُوصلها لذروة النشوة. تعود إلى البيت. تدعو ربّها في صلاتها أن يجعله هذا الرجل من نصيبها. بعد سنتين عجاف من الحرمان والانتظار الطويل والحب المعلّق بين السماء والأرض، حصلت المعجزة التي كنتُ تنتظرها. دعاها ليلتها على العشاء في مطعم (الموون دِكْ) الكائن بسطح الباخرة (بلو نايل). كان الطقس ليلتها خاليا من الرطوبة المعتادة المصاحبة لفصل الصيف. نسمة خفيفة تعمُّ أرجاء المكان. الفرقة بدأت تُغنّي  “I will always love you “(5).  كان كلاهما يحبُّ هذه الأغنية كثيرا. طلبها للرقص. لفّ ذراعه حول خصرها، شبك أصابع يده الأخرى في أصابع يدها. غاص بنظراته في صفحة وجهها. قال لها باسما وبنبرة يُغلّفها الحب:

“صافي. تتجوزيني!”

أحسّت بالأرض تميد تحت قدماها. دقّات قلبها تتسارع كأنني خارجة من سباق “ماراثوني” طويل. دموعها أخذت تترقرق في

————————————————————–(5) أغنية شهيرة للمغنيّة الأمريكيّة السمراء (ويتني هيوستن)، وقد صدرت عام 1994م

أرضيّة عينيها، باحثة عن ملجأ تُخبّئ فيه فرحتها. صارت تردد دون وعي

“موافقة. طبعاً موافقة”

أخبرها أنه حكى لأخته التوأم قصّته معها وكل شيء عنها. متى وقع في حبّها. فرحها  بقراره. طلبها المتواصل بالتعرّف عليها. تشوقها لرؤية المرأة التي قلبت حياة أخيها رأسا على عقب. متابعا بأنه أتفق مع أخته على أن يتناولا غداً طعام الغداء معها ببيتها.

لم تصدّق ما سرده لها. أعتقدت أنها تستمع لقصة امرأة غريبة، تعيش في مدينة وزمن آخر. هل من الممكن أن يكون القدر سخيّا وكريما معها لهذا الحد؟! في طريق عودتهما للبيت، ظلّت مطبقة على كفّه. قال لها ضاحكا:

“لا تخافي، لن تستيقظي غدا من نومك فتجدينني قد تبخّرت مع ندى الفجر. أريد أن أعيش معك مائة سنة لأعوضّك عن كل سنوات الحرمان والوحدة التي عشتها. أنتِ تستحقين رجلا ليس فقط يُضحّي بحريته من أجلك، بل يٌقدّم لك حاضره ومستقبله وهو مغمض العينين دون أن ترتجف جفونه”.

كانت الساعة تدقُّ الواحدة بعد منتصف الليل، حين وقف بسيارته أمام مدخل عمارتها. أتفق معها أن يمر عليها في الغد عند الواحدة ظهرا. قبّل يدها. وعدها أن يُوقظها برنّة واحدة على هاتفها النقال. دلفت إلى الداخل وقلبها يقفز فرحا بين ضلوعها. أحسّت كأنها مراهقة صغيرة ما زالت براعم الحب تتفتح في تربة فؤادها. لم تستطع النوم. ظلّت تتقلّب في فراشها. لم تصدق أن الدنيا قد أزاحت أستار الأحزان عن حياتها، وأنها تقف على خشبة مسرح عمرها لتؤدي دور العروس في مسرحية واقعية هي البطلة الرئيسيّة فيها. حمدت ربها أنها عثرت على بلسم الحب قبل أن يفوت الأوان، وتطوي عجلة الأيام صفحتها مع قائمة غيرها من البائسات. تمضمضت عيناها بالنعاس مع خروج الشمس من مخبئها السري، ورمي شباكها الضوئيّة على الأرض. خرّت صريعة في حضن النوم. صحت قرب الظهيرة. أحسّت برخاوة جسدها. استحلت رقدتها في فراشها. تثاءبت. مطّت ذراعيها. حملت في يدها هاتفها  النقال الموضوع على الكوميدينو بجانبها. كانت الساعة تُشير إلى الواحدة والنصف. لم تجد إشارة لأي مكالمة منه. أحسّت بقلبها يغوص بين ضلوعها. ضغطت على رقمه المدوّن. جاءها الرد بصوته الرخيم المسجل على بريده الصوتي “أنا غير موجود حاليا. بإمكانك ترك اسمك ورقم هاتفك وسأعاود الاتصال بك لاحقا”. كررت فعلتها عدة مرّات. القلق وصل ذروته معها. خطر لها الاتصال على مكتبه. تنبّهت أنّ اليوم عطلة أسبوعيّة. تذكّرت بأنها سجّلت رقم هاتف منزله في نوتة الهواتف. ظلّت تُقلّب صفحاتها. تنفّست الصعداء. أخيرا عثرت عليه. ضغطت أزرار الهاتف بيد مرتعشة. رد عليها صوت نسائي غريب. استجمعت شجاعتها. طردت هواجسها، سألتها

“الأستاذ رأفت موجود؟!”.

“الأستاذ رأفت تعيشي إنتي. مات صباح اليوم”.

أغلقت السمّاعة بسرعة. شعرت كأنّ سيارة نقل ضخمة تسير مسرعة قد صدمتها وسحقت جسدها بالرصيف. هل من الممكن أن يتلاعب بها القدر إلى هذا الحد؟! هل حظها العاثر قرر أن يتمسك بتلابيبها إلى آخر محطة في عمرها؟! شعرت  بسخونة تنبثق من أعماقها. عرق لزج ينزُّ ُمن أبطيها ومن فروة رأسها. دخلت إلى الحمام. ملأت المغطس بماء دافئ. غاصت بجسدها فيه قرب ساعة. ظلت طوال تلك الدقائق تُحدّق في المغسلة. تعدُّ قطرات الماء المتساقطة من فتحة الحنفيّة. جففت جسدها. ارتدت منامة قطنية من قطعتين مطبوعة برسومات من الزهور. كانت دقائق الساعة قد دلفت إلى التاسعة مساءً. تنبّهت إلى أن وقت صلاة العشاء قد مضى. قامت وتوضأت وصلّت في خشوع. ختمت صلاتها بالتسبيح ودعت بعده لرأفت بالرحمة والمغفرة وأن يسكنه الله فسيح جنّاته. اتجهت بعدها صوب المطبخ. أخرجت بيضتين من رف الثلاجة. قامت بسلقهما والتهامهما مع شريحة من الخبز البني المحمّص. كانت تسمع صوت أسنانها وهي تطحن قطع الخبز. الصمت المطبق من حولها أخذ يُثير ارتيابها. وقفت تغسل الأطباق. نظفت طاولة المطبخ من بقايا العشاء. تذكّرت أن هناك بعض الملابس المتسخة في سلّة الغسيل. حشرت أمعاء الغسالة بها. كانت عيناها تلاحقان حركة الملابس في دورانها من خلف زجاج الماكينة. داهمها صداع شديد أخذ يضرب رأسها. ظلّت جالسة على الكرسي إلى أن كفّت الغسالة عن إصدار الضجيج. وضعت الملابس المغسولة على طاولة الكي. اتجهت صوب غرفة الجلوس. جلست تتابع مسلسلها المكسيكي المدبلج المفضّل لديها.  دقّت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. تنبهت لواقعها المزري. في مثل هذا الوقت ودّعت رأفت بالأمس. شتّان ما بين حاضرها وأمسها! كم كانت البارحة تُحلّق في أفضية السعادة، واليوم ألم الفراق ينهش بقسوة طبقات جلدها. انزلقت بجسدها تحت اللحاف. نظرت إلى الجانب الخالي من فراشها. تحسسته بكفّها. لسعتها برودته. قرصت أصابع الوحدة فؤادها. أفاقت تلك اللحظة من صدمتها. أدركت أنها قد فقدت الرجل الوحيد الذي أحبته بصدق وبكل جوارحها إلى الأبد. راحت تستعيد تفاصيل لقاءهما الأول عند محل الزهور إلى لحظات الوداع الأخيرة. سرت رعشة أسى في مفاصلها، كأن سرب من النحل أنقضُّ عليها وأخذ يمتصُّ دمها دون أن يرأف بحالها. انفجرت في البكاء بصوت عالٍ، مرددة.. كما أنا امرأة مسكينة، سيئة الطالع.

صبيحة اليوم التالي قامت متثاقلة من سريرها. تتلفّت حولها بعينين مجهدتين طحنتهما الفجيعة. ظنّت لوهلة أنها عاشت بالأمس كابوساً مفجعاً. تنبهت لمأساتها. ارتدت فستاً أسود مقفول من فتحة الصدر وبأكمام طويلة، يقف طوله إلى ما بعد ركبتيها. عقصت خصلات شعرها بشريط أسود. قصدت بيت رأفت. كانت أخته تجلس في صدر الصالون على الأريكة الكبيرة التي أعتادت الجلوس عليها مع رأفت. ترتسم على وجهها خطوط حزن عارمة. كان الشبه بينها وبين رأفت كبيراً. لطالما حدّثها عن أخته التوأم. عن تقاربهما العاطفي والفكري. سلّمتُ عليها وجلست في صف المعزيين. كانت نظرات صافي ساهمة. شاردة عمّن حولها. رائحة رأفت تملأ أرجاء الشقة كأن روحه لم تُغادرها، مخترقة خياشيمها بضراوة. لم يدر في خلدها يوماً أنها ستدخل بيته كمعزيّة فيه. ألقت نظرة من مكانها على غرفة نومه المغلقة. كثيرا ما استلقت بجواره على السرير. يتركها تغفو على ذراعه. تصحو من إغفاءتها فتجده يتأمل باسماً صفحة وجهها. تمنّت لو استطاعت فتح حجرته والتمدد على فراشه ولثم وسادته. أعادت في مخيلتها صور لقاءاتهما. أمسياتهما. أحاديثه العذبة. نكاته التي كان يرميها على مسامعها كلما حضرتها نوبات الحزن وما أكثرها.لمحت نارجيلته منصوبة في الزاوية، تندب في صمت رحيل سيدها. كان يحلو له تدخين نارجيلته وهي جالسة بجواره على الأريكة. علّمها كيف تصنعها. غدت ماهرة في تحضيرها. وجعها قلبها من فرد مشاهد الماضي. همّت بمغادرة المكان. لمحت أخته تُلاحقها بعينيها. قدِمت ناحيتها. أفسحت لها مكان بجوارها. سألتها وشعاع الفضول ينبثق من حدقتيها

“أنتِ صافي، أليس كذلك؟!”.

أومأت صافي بالإيجاب.

حضنتها بقوة، قائلة:

“لقد كان صادقا في مشاعره تجاهك و..”. توقفت عن الكلام.  لم تتمالك نفسها. انفجرت في البكاء. تبادلتا الآهات والحسرات.

سألتها صافي بصوت مكلوم “كيف مات؟! لا أصدّق موته!! لقد كنّا بالأمس معاً”.

“كان رأفت رحمه الله قد قام منذ ثلاث سنوات بوضع دعّامات لقلبه. حذره الطبيب من  التدخين. كلما أتى لزيارتي أترجّاه أن يُنصت لإرشادات طبيبه. كان يردُّ عليّ ضاحكاً “محدّش بيموت ناقص عمر”. حدّثني مؤخرا عن قراره الزواج منك. كنتُ سعيدة لأجله. أن هناك امرأة استطاعت تبديل نظرته للزواج، وتطليقه بطيب خاطر حياة العزوبيّة”. تابعت بنبرة موجوعة “أنتِ تعرفين حبّه للتريّض صباحا. سقط على الأرض فجأة وهو يعدو عند كورنيش المعادي. عندما نقلوه إلى المستشفى كان قلبه قد توقّف نبضه.  الموت ترصّد له. سُلبه فرحته قبل أن يُعلنها للدنيا”.

 شعرت صافي بقلبها يتدلّى من مكانه، ويقفز في أرجاء المكان بحثا عن روح رأفت. انفرطتْ في نحيب جنائزي.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات