عندما تمسك رواية للأديب السوداني المعروف أمير تاج السر، فأنت حتما تتوقع التالي: شخصيات متعددة رئيسية وفرعية يموج بها العمل، مفارقات قدرية باعثة على الدهشة، حس ساخر يظلل أجواء العمل ويحمل بصمة الراوي، لغة غير متكلفة واشارات واضحة وذكية لمواطن الخلل في مجتمعاتنا العربية.
في روايته الأخيرة (366) والتي كان اسمها الأولي (رسائل المرحوم) يعمد تاج السر لتأصيل نفسه الساخر في الرواية وتأكيد براعته في جمع المفارقات الفاقعة، التي يتشكل منها لب العمل و تتفرع حياة أبطاله.
مدرس الكيمياء الذي يعيش أجواء العشق المتدرجة منقادا لوهم امرأة عابرة لا يعرف عنها شيئا، رآها ذات خميس في حفل زفاف قريبه،يكتب لها رسائل لن تصل، طالما بقيت هي مجرد طيف ملتصق بذاكرة رجل أربعيني وحيد لا يجد ما يستحق الاستمرار وسط خواء روحه وضجره المتصاعد، تأتي حبال العشق الموهوم لتنتشله من الاعتيادية – موقتا – وتغرقه في سوداوية لا نهائية مبللة بأمل مستحيل.
« لقد فكرت في مسألة عشقك المتشعبة بصورة مؤسفة يا أسماء، فكرت أن العشاق ليسوا أنماطا رزيلة، متعطلة عن العمل، كما يتصور الناس العاديون، هم موظفون في جهة ما، الجهة التي لن تمنحهم مرتبات شهرية بالطبع، ولكن قد تمنحهم رتبا في الشعور لا يحلم بها الجنرالات العسكريون أنفسهم».*
(أسماء) المعشوقة التي لا تظهر طوال العمل، الفتاة التي تتحول للعنة تطارد ذاكرة مدرس الكيمياء البسيط، ليس هناك ما يمكنه فك اشتباك قدر المستلب الذي فقد اتزانه بقدرها المجهول!
هي بعيدة و نائية، وهو مصر على البوح اليومي عبر مذكرتاه لمدة عام كامل عن أدق تفاصيل حياته والتعبير بشفافية عما يؤلمه في بيئة تحول فيها لغريب، عزل نفسه عن الآخرين اراديا وأسس عالما افتراضيا لمعشوقة لن يتجاوز حضورها حفل زفاف ذات خميس ماض.
وبينما ينغمس البطل بعالم (أسماء) الشاسع الخيال، يبدأ في التصدي لمحاولات عرقلته و انزاله لأرض الواقع، حيث الوظيفة الراكدة والجيران المزعجين، والأصدقاء المضطربين، و المتطرفين والقتلة، ومحدثي النعمة، وغيرهم من الأنماط التي يعج بها المجتمع وتحيط بالبطل، المعزول في شرنقة الهوى المضطرب.
«أنا المرحوم. الميت معنويا حاليا، و الفيزيائي قريبا جدا، أقرب مما تتخيلين. أسرعت الى دفتري حيث أكتب 366، وقعت باسم المرحوم على آخر فقرة كتبتها. وقضيت ليلي سياحة مرة في وسائل الخلاص».*
رواية مشوقة رغم نهايتها الباعثة على الأسى فمصير البطل طوال العمل كان معلقا بمصادفة سعيدة تجلبها الأقدار دون تخطيط، رغم ذلك فضل تاج السر أن يترك العاشق الحالم وراءه عالما يغص بالعنف والحزن و البؤس ولو كانت فيه العصية (أسماء)!
* المقاطع من رواية (366) للروائي أمير تاج السر، الدار العربية للعلوم ناشرون 2013

Tweet