وراء كل قناع قصة غامضة

11:03 صباحًا الأربعاء 12 يونيو 2013
محمود قاسم

محمود قاسم

ناقد وروائي من مصر، رائد في أدب الأطفال، تولى مسئوليات صحفية عديدة في مؤسسة دار الهلال، كتب عشرات الموسوعات السينمائية والأدبية، فضلا عن ترجمته لعدد من روائع الأدب الفرنسي.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

فينيسيا، قناع الجوكر

فى البدء.. كان القناع.

يعنى هذا أن هناك علاقة ما بين الانسان والآخر، وبين وجهه الحقيقى، ووجه صناعى يتخفى وراءه وانه يرفض أن يقدم هذا الوجه الربانى الى الناس، فيسعى الى عمل وجه بديل، يراه الناس، خاصة عند ممارسة الطقوس العقائدية، والاحتفالات الاجتماعية.
بدأت الحكاية بالنسبة لى فى صيف عام 2002، اثناء احدى زياراتى الصيفية الى جينيف، حيث اعتدت الاقامة لمدة شهر قريبا من الجامعة، وكانت نافذتى تطل مباشرة على سوق لاباليه تباع فيه اشياء كثيرة استعمال ثان، الملابس، الكتب، الاجهزة الكهربائية، وايضا اقنعة سوداء غريبة الشكل، ثقيلة الوزن، لم ألق اليها بأى اهتمام، الى ان تعرفت على شاب من ساحل العاج، حدثنى بكلام كثيرة عن مهنته وفى البداية لم افهم منه شيئا.. الا بعد ان اخذنى الى صالة ضخمة بالفندق، يقيم بها اكثر من عشرين شابا جاءوا من كافة أنحاء افريقيا، حاملين هذا العدد الكبير من الاقنعة لبيعها فى المدينة، ومن يومها حرصت على متابعة ما يعرض فى السوق من اقنعة، طالما

أفريقيا، قناع من بنين

سألت الشاب الافريقى عم باعوه، وكانت للدهشة مكانتها، كانما هناك زبائن بأعينهم يأتون فى أوقات بعينها للشراء.
ومن يومها، وأنا أحاول فك هذا اللغز، ما مكانه، الاقنعة فى ثقافة الشعوب، خاصة البدائية، وكان اللغز يزداد غموضا يوما وراء آخر.. وظل مشهد تجار الاقنعة يطاردنى حتى الآن، ولاشك وأنك حين تقرأ هذا المقال، فإن مئات الشباب الافارقة يعرضون آلاف الاقنعة بكافة تصميماتها، ويجدون من يشترى فى أسواق غريبة الهوية.
انه فن عتيق، ومنتشر، عرفته الشعوب البدائية، منذ بدء التاريخ، وحتى الآن، ولعله أحد الفنون الذى لم يشهد تطوراً ملحوظا، فالقناع الذى تم ابتكاره منذ مئات السنين هو نفسه، او شبيه به، القناع الذى يباع فى هذه الأسواق.

أفريقيا، قناعان من الخشب

حيث توجد المجتمعات البدائية فى القارات، التى لم تعرف الحضارات، توجد الأقنعة يقتنيها الناس، ولعل هناك من الفنانين من يقوم بعمل تصميمات جديدة، والدليل على ذلك العدد الكبير من الاقنعة، الذى شاهدته فى ذلك العنبر، حيث اختلط الشباب بأقنعتهم التى جاءوا بها من بلادهم لبيعها فى أوروبا.

قناع ذهبي تنكري احتفالي مزين بالريش الأسود

أول ما يمكنك أن تدركه ان فن الاقنعة ليس فرديا، بمعنى انه يعكس فكر مجتمع بأكمله، بناسه، وعقائده، وأفكاره، وان أغلب أبناء هذا المجتمع يضع الاقنعة فى احتفالاته الاجتماعية، هذه الاحتفاليات التى تتضمن الغناء، والرقص، والابتهال، ولاشك أن عمل أى قناع يعكس أن هذا المجتمع مرتبط بالفن التشكيلى، فهذه الاقنعة تجمع بين التشكيل، والحفر، والألوان، ولاشك أن هناك تناسقا ملحوظا فى الحفل بين ملابس الناس وأدواتهم الموسيقية، والاقنعة، لكن المشكلة أن اسم صانع القناع يظل مجهولا للابد كما أن أول ما يمكنك أن تدركه أن هذه الاقنعة لم تأت من الحاضر، بل ان الناس قد ورثته عن الاباء والاجداد، يحمل حنينا الى الماضى، ويعيد صياغته، هذه الاقنعة مأخوذة من الطبيعة قد تكون على شكل انسان، او وجوه حيوانات، وقد يعكس هذا أن الانسان البدائى استخدم مثل هذه الاقناعة كى يمنح نفسه قوة الكائنات التى يشكل القناع على غرارها، مثل وجوه الأسود، أو الأحصنة، وكأنما القناع هو استحضار لقوى الطبيعة الشافعة، أو لأرواح الموتى أو الطواحين التى تبعث فى البدائية، أو لاشخاص لهم مكانتهم الاجتماعية.
وسرعان ما ربطت بين هذا الفن الذى أميل اليه، وبين السينما، أو الأدب، التى اعشقها فمسألة الاقناعة البدائية موجودة فى السينما بشكل ملحوظ، ولا شك أن السينما الأمريكية استعانت بأقنعة بدائية، متشابهة غالبا، كى يضعها الخارقون، فى قصص الاستربس التى امتعتنا فيما يسمى بثقافة الألبومات من ناحية، ثم عندما تحولت الى عشرات الافلام ابطالها هم زورو، سوبرمان، باتمان، سبايدر مان، والشيطان الجرىء وايضا الشبح، بل ان الامر وصل الى المصارعين المحترفين فى الافلام والحلبات.

أقنعة الياكا، تركيبة معقدة

اذن، وحسب موسوعة الويكبيديا، فالاقنعة هى واحدة من عناصر الفن الافريقى، التى اثرت فى الفن الاوروبى، خاصة الفنون الحديثة التى ولدت فى القرن العشرين، وقد تأثر بهذا الفن ابرز المدارس مثل التكعيبية، والوحشية، والتعبيرية، التى استلهمت الكثير من هذا التراث، ومن أبرز الأسماء التى تعاملت مع الأقنعة هناك سيزار، وكلود مونيه وبيكاسو وجوجان وبراك، وفان جوخ، الذين أجمعوا على أن الفن الافريقى له شخصيته وتميزه وطابعه الخاص، حيث ان الاقناعة كشفت عن بساطة التعامل مع “الاشياء” والطبيعة، وهى الأفكار نفسها التى نادى بها الفنانون الذين كانوا من طلائع القرن العشرين.
الفنان الافريقى لايولى اهتماما بقضية الضوء والظل والنسب، لأن فنه لا يحاور الشكل بقدر ما يحاول أن يبنى شيئا له علاقة بالرمزية والتعبير البسيط عند الانسان الفطرى.. وقد بينت الدراسات أن القناع الافريقى يعكس الملامح المتكاملة للانسان الذى عاش منذ آلاف السنوات فى القارة، لكن الاهتمام الزائد بها قد صار فى أفضل حالاته، عندما وضع الفنانون التشكيليون اعينهم على هذه الاقنعة، وسعوا الى جلبها، واقتناءها، ولعل هذا يفسر الزخم الذى تتواجد به اللوحات فى أسواق الفن، وأسواق العاديات الاوربية.
يجمع بين الطرفين الرمزية، حيث يحاول الفنان ان يتقمص أرواح الاجداد، وابراز الافكار والنصائح القديمة وبثها للأجيال المتلاحقة.

قناع لاعبي رياضة الهوكي!

لاشك أن السينما استفادت بدورها من هذا الفن، ونحن لا نتكلم عن ظهور الاقنعة فى بعض الافلام التى تدور احداثها فى افريقيا، مثل فيلم “الماجوسى” اخراج جاى جرين المأخوذ عن رواية للكاتب البريطانى جون فاولز، حيث يتخذ كل انسان لنفسه قناعة ليحاور به الآخر من وراءه.. فالماجوسى رجل يعيش فى أفخم بقاع اوروبا بعقلية البدائيين الذين عاشوا فى الأدغال.

قناع فانديتا الثائر الأشهر اليوم

واذا كانت الاقناعة قد لعبت دورا فى المسرح المعاصر عند الطليعيين، فإن السينما لعبت دورا أساسيا فى تصوير أهمية الاقنعة فى حياة الناس خاصة المغامرين.
وأمامنا نماذج عديدةم ن افلام قامت فكرتها الاساسية على القناع، منها فيلم “الرجل ذو القناع الحديدى” 1996، المأخوذ عن رواية لالكسندر ديماس، و”قناع” اخراج بيتر بوجدانوفتش عام 1985، وهو غير فيلم “القناع” الذى اخرجه شوك راسل عام 1994، وبطولة جيم كارى بالاضافة الى فيلم “فانديتا” اخراج جيمس ماكستيج عام 2005.
فى هذه الافلام نرى قصصا حية، أى ليست من نوع الرسوم المتحركة، ولكل قناع هنا وظيفته التى تختلف من فيلم إلى آخر.. فالقناع فى الأفلام المأخوذة عن ديماس أقرب فى شكله الى الافريقى، هو قناع حديدى، جامد، مصنوع من الحديد الساخن، ويلتصق مباشرة بالوجه، من أجل اخفاء وجه الامير الحقيقى، يظل صاحبه ملتصقا به طوال حياته، صار جزءا منه، ولا يسعى الى نزعه لأن هذا سوف يكشف التشوه الذى أصاب الوجه، وفى فيلم “القناع” رأينا تشكيلا من قناع جامد، لكن ما إن يضعه المرء على وجهه، حتى تأتيه المرونة، ويصبح جزءا متحركا مع الوجه يضحك بسخرية، هو مشوه لكنه مقبول، وارتداء هذا القناع يكسب صاحبه قوى خارقة بحيث يتمكن من التغلب على كافة خصومه، أى أننا أمام قناع حى فى طبيعته، وقدراته، وفى فيلم “فى مثل فاندينا.. للمخرج جيمس مكتيج فان “ف” شخص غامض، يرتدى قناعا لشخص يبتسم ابتسامة عريضة تخفى ملامحه الحقيقية، وهو الذى يسعى الى تغيير الواقع السياسى فى دولة متخيلة هى أقرب إلى بريطانيا عام 2038، بعد أن صارت دولة شمولية، وهذا القناع اتخذه بعض المعارضين فى مصر رمزا لهم فى الشهور الأخيرة.
وفى عالم الاقناعة والفن هناك ايضا شخصية “زورو” التى انتقلت من مجلا وألبومات والت ديزنى إلى السينما فى انحاء متفرقة من العالم، القناع هنا يتسم ببساطة ملحوظة فهو اقرب إلى عوينات، سنراها فيما بعد فى قصص، وافلام الشبح، والهدف بالطبع عدم اخفاء جزء من وسامة دييجو، الوجه الآخر لزورو.. الذى يضع ايضا قبعة سوداء فوق رأسه، هذا القناع اسود، مثل الليل الذى يمارس فيه “زورو” مغامراته، ضد قوى الشر، وذلك بعكس الحصان الابيض الذى يركبه حيث أن القناع والقبعة هنا، جزء من ملابس المغامرات التى يرتديها زورو الذى نجحت افلامه دوما، وهذا القناع البسيط، اشبه بكافة الاقناعة الموجودة على وجوه ابطال قصص “مارفل” فى الكوميكس والسينما.

أنطونيو بانديراس وكاترين زيتا جونز في النسخ الأحدث من زورو

وزورو، والشبخ، أسبق فى التواجد من شخصيات مارفل، لكن هذه الاخيرة، صارت اكثر شهرة وقبولا، فهناك مجلات دورية لهذه الشخصياـ، وهناك اكثر من محاولة لعمل مجموعات افلام متتابعة لشخصيات “مارفيل” وهى من جديد: سوبرمان – بات مان – سبايدر مان – وشيطان الليل، بالاضافة إلى “كابتن امريكا” و”رجل اشعة الاكس” والقناع هنا خفيف، له لون جذاب، درجة قانية من الاحمر، على شكل عنكبوت فى حالة الرجل العنكبوت، واقرب الى الوطواط فى حالة الرجل الخفاش، وهذه الاقناعة مرتبطة بقدرة هؤلاء الابطال على الاتيان بأمور خارقة، هى من طبيعة الحيوانات والحشرات، كالطيران، لذا فإن القناع يعطيها ملمحا غامضا، خاصة فى حالة وقوع الشخص الأصلى فى الحب فالمفروض ان هناك كيانا مزدوجا لشخص، الاول لانسان عادى، قد يكون موظفا، او طالبا وعندما يتحول الى الكيان الخارق، فهو يظل حريصا على اخفاء هويته بالقناع اياه.
ابتدع شخصية سوبرمان الرسامان جيرى سيجال وجوشوستر عام 1933، عقب الازمة الاقتصادية الطاحنة التى تعرضت لها الولايات المتحدة، ويقال ان سوبرمان قد ظهر لانقاذ البلاد من عثرتها، الا ان اول رسم لهذه الشخصية لم يظهر الا بعد ذلك بخمسة أعوام، لذا فإننا شاهدنا قناع سوبرمان يتجدد على الشاشة كل عقد من الزمن تقريبا، وعلى نجاح هذه الافلام رأينا “سوبر جيرل” أو الفتاة الخارقة، وقد وضعت قناعا احمر على وجهها، اما “المرأة القط” صديقة “بات مان” فقد وضعت قناعا اسود فى الافلام التى ظهرت بها، والطريف أن هناك شخصيات شرييرة ارتدت قناع الرجل العنكبوت وكان القناع اسود عكس الاحمر القانى الذى يضعه “الرجل العنكبوت” على وجهه.
هذه الاقنعة تجعل الابطال هى البديل العصرى للشخصيات الخارقة الموجودة فى الميثولوجيا الاغريقية، وقد تطورت الاساطير الامريكية الحديثة من خلال هذه الاقنعة التى تخفى وراءها اسرارا لا يعرفها سوى المشاهدين.
وهناك فى هذه الثقافة الرسوم ثم الافلام شخصيات اخرى، منها فلاش جورون الاقرب الى زورو وبات مان، انه لا يطير، وليس خارقا، لكنه يتمتع بشجاعة نادرة وحب المغامرة بلا حدود، وقد رمت به الاقدار فى سفينة فضاء، تنطلق به وتنقله الى رحاب الكون السرمدى. كما ان هناك شخصية، رجل له قناعه يدعى بستر كراب، ظهر عام 1938، وكان يظهر فى الافلام على فترات متقطعة.

وقد تنامت أهمية الاقناعة التى يرتديها هؤلاء الابطال مع تنامى عصر السينما الاليكترونية ورغم التطور التقنى فان قناع كل شخصية ثابتا لا يتغير، يلعب دوره فى اضفاء الغموض على الشخصيات والحكايات، وهكذا وجد الانسان نفسه محاطا بالثقافات البدائية القديمة، يضعها على وجه الاحتفالات التى تقوم على الاقنعة، ويجد نفسه مشدودا الى ان يعرف القصص الغامضة وراء كل قناع.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات