الفنانة سما المصري : نموذجا لفن الشرشحة في الفيديو كليب!

07:57 صباحًا الأربعاء 28 أغسطس 2013
شريف صالح

شريف صالح

قاص وروائي وكاتب صحفي، مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
في  العربية لا يوجد فعل «شرشح» بل فعل «شرّح» بتشديد الراء، بمعنى قسم اللحم وقطعه الى رقائق أو «ارباً ارباً»، والاستعمال الدارج لا يبعد عن هذا المعنى كثيراً، فالشرشحة، هي اجمالاً «تقطيع» شخص ما، و«بعثرة كرامته».

وهي تستند الى تراث مصري شعبي، يطلق عليه البعض «فرش الملاية» جرياً على عادة المرأة المصرية قديماً في ارتداء «ملاءة» سوداء فوق ملابسها، لاخفاء تضاريس جسدها عن الآخرين، وحتى اخفاء وجهها أحياناً، من باب الحياء.. لكن قد يحدث في أسواق النساء أو الشارع ان تتصادم امرأتان لأي سبب، فيتحول الأمر الى وصلة «شرشحة» بينهما و«ردح» و«فرش ملاية»، فكل منهما تفرد ذراعيها لتسقط الملاءة أمام عيون الجميع، أو المارة، وتبدأ في كيل السباب. والى هنا، لا يصل الأمر الى عراك بالأيدي، فالغالب ان «الشرشحة» فن لفظي، يعتمد على براعة كل امرأة وما تملكه من معجم السباب، وكذلك مهارتها في انتقاء المفحم من الشتائم، وسرعة البديهة في الرد، واسقاط شتائمها على صفات المرأة الخصم وما تعرفه عنها من أسرار ونقاط ضعف اذا كانت ثمة معرفة مسبقة وقد يحدث ان تكون «الشرشحة» ضد رجل، ليس من الوارد ان تنازله في عراك جسدي، فتلجأ المرأة الى لسانها الذي قد يكون أشد فتكاً من مدافع نابليون.

أي ان هذا الفن «نسائي» بامتياز، ومن يشاهد أفلام الأبيض والأسود المصرية، سيرى عشرات المشاهد التي تعبر عنه، وله بالطبع طقوسه، وحيله ومكائده. ورغم حدته، فان مهاراته اللغوية، تشبه ما يسمى «القافية» وهو فن قائم على السخرية وسرعة البديهة والزجل الشعري، وكان له مشاهيره من الرجال في مقاهي مصر.

وطالما لدينا طرفان في صراع، ومعجم لغوي سخي، فنحن أمام طقس أقرب الى الطقس المسرحي، والذي رغم بذاءته قد يكون مثيراً للضحك ومشهياً للفرجة، فيتعمد الجمهور اطالة الصراع أطول وقت ممكن، طلباً للمتعة.

وان ظلت النظرة الأخلاقية للمجتمع صارمة بشأنه، فأقل ما توصف به المرأة التي تلجأ اليه أنها من «بيئة واطية» ولا يجوز لبنات الناس والأسر الكريمة، ان يتصرفن هكذا.. ومن ثم كان يجري الاحتيال على هذا الوضع باستئجار نساء من بيئات مهمشة، لـ «الشرشحة» لحساب نساء من طبقات أعلى، أشبه بما حدث في فيلم «خالتي فرنسا» لمنى زكي وعبلة كامل.

ولان مكائد النساء ضد بعضهن البعض، لا تنتهي، فمن المؤكد ان «الشرشحة» كسلوك، وطقس، وفن.. لن تنتهي.. بل كثيراً، ما تنتقل الى برامج «التوك شو» و«المؤتمرات» السياسية و «المقالات» مع بعض التهذيب بالطبع، وقد تنتقل عدواها الى الرجال أنفسهم، لكن تظل الأمور تحت السيطرة وأقرب الى ما يسميه الأخوة الشوام «فشة خلق» خوفاً من العقاب القانوني.

المسألة المهمة هنا، ليست دراسة وتحليل الظاهرة من منظور اجتماعي أو نفسي أو اقتصادي أو أخلاقي، بل قراءة تجليها كفن، ففيلم مثل «خالتي فرنسا» عرضها كنموذج سوقي فج لابتزاز الجمهور في شباك التذاكر، ولم يعالجها ضمن نظرية «تحويل القبح الى نموذج جمالي»، بمعنى ان القبح مثل الخيانة، أو القتل، قد يصبح موضوعاً جمالياً للرسم والسينما والروايات، وليس مجرد استغلال تجاري له، كما يحدث في أفلام السبكي، واستغلالها البصري للشرشحة!

المشكلة الأخرى، ان هذا النمط السلوكي، وهو غير سائد، واستثنائي في التعامل اليومي، يتحول عبر اعادة انتاجه في الأفلام التجارية، الى «مرجع» يقاس عليه، لبنت البلد أو «الولد المجدع»، فالناس تتعلم من الفن أكثر مما تتعلم من الواقع نفسه أو من الخطب الدينية.

ليس معنى ذلك تبني الرقابة الأخلاقية على الفن، بل فقط التأكيد على القيمة الجمالية، التي لو فقدها، لم يعد فناً.. بل شيئاً مبتذلاً رخيصاً يتنكر في صورة فيلم أو أغنية.. فثمة شعرة بين تمثال فني، ونسخة تجارية منه تباع في «بازار».. كذلك ثمة شعرة بين معالجة «القبح» جمالياً كموضوع فني، واستغلاله تجارياً. فالفن يرتقي بذائقة الناس وقيمهم، ويساعدهم للتفكير في حياتهم على نحو أفضل، ومن ثم فهو تلقائياً لا يتعارض مع القيم الأخلاقية العامة.. وما لم يؤد الى ذلك، ويكتفي باللعب على غرائز الناس، وطقوس الشرشحة التي يمارسونها، لجني الأرباح، فهو ليس فناً. ومعظم الأعمال تكون متهافتة ولا حاجة لرؤيتها مرة أخرى، أو بعد عشرين سنة، أشبه بمناديل الحمام، لاستعمال مرة واحدة. على عكس القيمة الجمالية التي تزداد مع الزمن مثل لوحات الرسامين العظام، والروايات العظيمة والأفلام الراقية، فبعد أكثر من 80 سنة مازال فيلم «ذهب مع الريح» جميلاً وملهماً، لكن ما الذي يحصل عليه المتفرج من بذاءات «خالتي فرنسا» بعد مشاهدة وصلات الردح والشرشحة وفرش الملاية، من باب الفضول؟

للأسف البعض يستغل ان قواعد الفن ليس بصرامة قواعد الطب، ويستطيع ان يقدم أي شيء باعتباره فناً، والجمهور المتلقي نفسه مستعد لدفع نقوده لتمضية الوقت، بغض النظر عن توافق ما يراه مع قيمه الجمالية والأخلاقية.

ومع تدهور نظم التعليم، وتفشي سلوكيات كثيرة في مجتمعاتنا تجنح الى العنف والبلطجة وقلة الذوق، وتراجع القيم الجمالية في حياتنا، انعكس ذلك على مستوى ما يتم انتاجه بوصفه فناً.. فأصبح «شعبولا» «مطرباً» مثل أم كلثوم، ومصطفى كامل «ملحناً» مثل عبدالوهاب، وتوفيق عكاشة «مذيعاً» مثل طارق حبيب!

وكل يوم نشاهد نتاجات لا حصر لها، تضع لافتة تعريفية، بأنها فن، سينما ومسرح وأغنيات.. وهي في جوهرها لا علاقة لها بقواعد الفن ولا قيم الجمال، وأصحابها خلو من أي موهبة عدا موهبة الاحتيال على الناس.

ولا يبعد عن ذلك ما تقدمه سما المصري من كليبات، تمزج ما بين «الأفيهات» اللاذعة، واستغلال اللحظة السياسة، والتوظيف البذيء للجسد، على حساب التصوير الجيد، والموسيقى، والكلام الذكي المبدع. وللأسف يقارن البعض ما تقدمه بفن «المونولوج» الذي انتشر في الأربعينيات من القرن الماضي ومن رواده الراحل اسماعيل يس، وثريا حلمي.

وتكفي نظرة سريعة على أي مونولوج لاسماعيل يس مثل: ارتحت يا باشا، ميمي وفيفي، أو أصلي مؤدب.. وبين ما تقدمه سما، لنكتشف ان المقارنة ليست ظالمة فقط، بل وهي مغالطة فجة لاستمرار تداول القبح وتغييب الفن والجمال.. فاسماعيل يس كان مؤدياً بصوت غنائي سليم وموهوب، وهناك جهد واضح في اللحن، وكلمات شعرية لاذعة ومبدعة ولماحة، ولا تتعرض لشتم أشخاص أو دول أو أحزاب، لا تلميحاً ولا تصريحاً. لكن ما تقدمه سما يخلو تماماً من كل هذا، ويفتقر الى أدنى مقومات الغناء على المستوى السمعي، وأدنى جماليات الصورة على المستوى البصري. أشبه ببث مقطع فيديو ل «شرشحة» نسائية على ناصية حارة. لكن وبسبب تنوع شبكات الميديا، وقدرتها على نقل ملايين الكليبات، لم تسقط الرقابة فقط، بل سقطت معايير وقيم الفن.. فعلى الأقل، لا ننسب هذا المنتج اليه.. ونسمي الأشياء بأسمائها.. القبح قبح، والجمال جمال. في انتظار ان يكون هناك قانون يعاقب من يقوم بتنفيذ مثل هذه الكليبات وتسويقها ، بتهمة افساد الذوق العام، وتكدير السلم الاجتماعي، والتأثير السلبي على عقول أولادنا، وانتحال شخصيات لصفات غير صفاتهم الحقيقية.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات