صورة الأطفال فى أفلام سبيلبرج

02:32 مساءً الجمعة 30 أغسطس 2013
محمود قاسم

محمود قاسم

ناقد وروائي من مصر، رائد في أدب الأطفال، تولى مسئوليات صحفية عديدة في مؤسسة دار الهلال، كتب عشرات الموسوعات السينمائية والأدبية، فضلا عن ترجمته لعدد من روائع الأدب الفرنسي.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

لم تعرف السينما العالمية مخرجاً مهتما بالأطفال، كأشخاص أساسيين فى أفلامهم، بنفس القدر أو الكيفية التى ظهرت فى أعمال ستيفن سبيلبرج.

ومن الواضح أن تجربة فيلم “صوت الموسيقى”، كانت فى ذهن المخرج بكل قوة، وهو يقدم على مسيرته الفنية، اذ لا يكاد يخلو فيلم من أعماله، إلا نادراً، من وجود الأطفال فى الحدث الرئيسى، وذلك ابتداء من فيلمه الروائى الثانى “شوجرلاند اكسبريس”، وحتى فيلمه قبل الأخير “حصان الحرب” 2011، وقد بدت هذه السمة فى العديد من الأفلام التى شارك فى انتاجها أيضاً من اخراج تلاميذ له، أو زملاء من نفس الجيل.

وسوف ننزع فى البداية الأفلام التى خلت من الأطفال وهى على التوالى “صراع” و”1941″ و”غزاة القوس المفقود” و”دائماً”، و”قائمة شندلر”، و”استاذ”، ثم “انقاذ الجندى ريان”.

فى الفيلم الثانى، الذى قدمه المخرج عام 1974، بدا الاهتمام الشديد لسبيلبرج بالأطفال، فبسبب طفل صغير خرجت كل هذه الأساطيل من سيارات الشرطة من أجل الطفل الصغير، الذى “خطفه” ابواه من أيدى الشرطة حتى لا يذهب إلى أسرة غريبة تتبناه، ووالداه على قيد الحياة.

الأب كلوفيس (ويليام آثرقون) خارج عن القانون، وفى طريقه إلى السجن، أما الأم جولدى هاون فهى منفصلة عن الأب، وتعمل فى علب الليل، يحاول كلوفيس أن يمنع الشرطة من توصيل ابنه إلى الأبوين الجدد، فيختطف سيارة شرطة مع راكبها ضابط البوليس، وتلحق به زوجته السابقة تؤازره، وتدور المطاردة بين سيارات الشرطة، وبين سيارة الوالدين اللذين يريدان اللحاق بابنهما قبل تسليمه الرسمى إلى الأسرة الجديدة.

إنه فيلم عن أبوين يفعلان أى شىء من أجل انقاذ مشاعر الأبوة والأمومة، حتى وإن كانا منفصلين أو خارجين عن القانون، والطفل هنا حاضر دوماً، وهو صغير لا يعى ما يحدث من حوله، لا يكاد يتكلم، لكنه بؤرة الأحداث تقريباً.

والجدير بالذكر أن الفيلم من تأليف المخرج نفسه الذى ترك كتابة السيناريو لاثنين من الكتاب مثلما سيفعل معه لاحقاً فى فيلم “الفك المفترس” الذى يعتمد على حكايات الكبار، لكن الأطفال موجودين به بقوة، فالأطفال هم الذين ينزلون إلى الشاطىء يمرحون، ويتنزهون، كما أنهم أول ضحايا لسمكة القرش على شاطىء “آمينى”.

والمشهد الذى هاجم فيه القرش البلاج، كان أغلبه من الأطفال والصبية الذين دفعهم الجزع للخروج من المياه، كما أن الأطفال هم الذين قاموا بالخدعة التى أثارت خوف الآخرين، فقاموا بارتداء قناع سمكة القرش، وسببوا هذا الهلع الشديد، والصبى الذى فى العاشرة يموت بين فكى القرش، فتذهب أمه كى تبصق فى وجه الشرطى الموكل له أمن الشاطىء مارتن برووى “روى شيدر” هذا الشرطى له ولدين صغيرين، ينزلان إلى الشاطىء، ويخاف عليهما، هما شون، ومايكل، مما يعطى الاحساس بازدواجية الأمن، فالضابط يحمى الشاطىء بسبب وظيفته، وأيضا من أجل سلامة ولديه، فأحدهما يختفى عن الأنظار، مما يصيب الأب بالهلع، ويتصور أنه ضحية للقرش.

الأطفال موجودون هنا بشكل قوى، وتتحرك الأحداث من أجل حمايتهم، رغم أن الكبار هم الذين يتولون المسئولية لحماية الشاطىء من القرش ذى الفك المفترس، والأطفال هنا أكبر سنا مما رأينا فى الفيلم السابق، أنهم قادرون على المرح، والسباحة، وتدبير المقالب الشديدة الخطورة، كما أن بعضهم يخرج إلى عرض البحر، فى زورق شراعى للتسلية، وهناك يشاهدان القرش، يحاول التربص بهم.

ولاشك أن سبيلبرج قد أحس فى تلك المرحلة بأهمية وجود الأطفال، كضحية للأحداث، مما يزيد من التأثير على مشاعر المتفرج، فكانت المشاهد التى يهاجم فيها السمك المتوحش الشاطىء بمثابة نقاط من الدم الاحمر، الممزوج بالرعب، والهروب اللاهث إلى بر الأمان.

وفى الفيلم التالى “لقاءات قريبة من النوع الثالث” 1977، زادت مساحة تواجد الأطفال، وصار هناك طفل يتحدث ويتكلم ويقوم بدور رئيسى فالبطولة الرئيسية هنا للطفل بارى جيلر “جارى جونى” الذى يستيقظ من النوم، فى إحدى المدن الأمريكية، وحين استمع إلى صوت موسيقى غريب، وفتح عينيه لدى إحدى ألعابه، وهى بصورة قرد يمسك ضابطين، وهى تتحرك تلقائياً، وتحدث الصوت، بدون أى دافع ظاهر، كما رأى الطفل ألعابه الأخرى، ومنها السيارة الصغيرة، والقطار الذى يعمل بالبطارية، تتحرك أيضاً وتدور فى الحجرة.

وعندما يغادر جارى فراشه، ويخرج إلى المطبخ، فإذا به يرى علب الكوكاكولا المعدنية تفتح وحدها، ليسأل ما بداخلها، فى حين اندفع الباب إلى الداخل، وكان يداً عملاقة قد قامت بفتحه.

وهذا الطفل يعيش وحيداً مع أمه جيليان (ميليندا ديلون)، والتى تستيقظ على هذه الظواهر الغريبة فى منزلها، فالتليفزيون يبدأ ارساله بشكل تلقائى، وعندما تبحث عن طفلها فإنها لا تجده..

لقد اختفى..

الطفل الذى يتعرض للخطر، ولأحداث مجهولة، موجود بشكل مجدد فى الفيلم، فقد بدا كأنما اختطفته قوى مجهولة لا يعرف هويتها أحد، والفيلم بمثابة رحلة من الأم الملهوفة للبحث عن ابنها الضائع، وتستعين بالعالم روى نيرى (ريتشارد دريفوس” من أجل معرفة مصير ابنها، لقد خرجت أغطية البالوعات فى منزل الأم من الأرض، رغم المسامير التى تثبتها، واختفى الصغير عبر فتحة البالوعات، وحاولت الأم أن تجذبه وتبقيه بلا جدوى.

وطوال الرحلة التى قام بها روى لكشف الظواهر الغامضة، فإن الأم تصحبه من أجل التعرف على مصير ابنها، ونكتشف أنه قد ذهب إلى هناك، إلى عالم آخر، وانه سيعود من الفضاء الخارجى فى طبق طائر يقوده مخلوقات غريبة، أطلق عليها الفيلم اسم النوع الثالث، تتميز بأنها صغيرة الحجم، قصيرة القامة، كالأطفال، فى صفاتها الطفولة التى يعزف عليها سبيلبرج دوماً فى أفلامه.

وهذه سمة أخرى فليس الأطفال فى سينما سبيلبرج هم وحدهم الصغار، بل أغلب المخلوقات الذين يتواجدون فى محيط هؤلاء الأطفال، منهم “اى تى” كما سنرى، فهو أشبه بهؤلاء المخلوقات التى جاءت فى سفينة الفضاء، حاملة الطفل بارى، هى كبيرة الرأس، بالنسبة للجسم، وواسعة الأعين، وتتسم بوداعة فى نظراتها، انها مخلوقات لغتها الموسيقى والاشارات.

ومن الواضح أن الفيلم التالى للمخرج، كان بمثابة الجزء المكمل، أو اللاحق لما رأيناه فى هذا الفيلم، فهناك طبق طائر يحوم حول الأرض، وينزل فى رحلة استكشافية غامضة، والقادم من الفضاء، والذى يتصرف بنزق كالأطفال، فيدفع الثمن أنه لا يستطيع اللحاق بالطبق الطائر عندما يحوطه الخطر، ويكون الثمن أنه يتوه فى الأرض، ويتعرض للخطر، وكأنه نفس المصير الذى سبق للطفل بارى أن مر به.

“اى تى” له نفس السمات الجسدية، والعمرية تقريبا، فبالاضافة إلى رأسه الأكبر قياساً إلى حجم جسده، فإنه يتسم بعينين واسعتين، ورقبة طويلة، وهو أقرب إلى نسخة معدلة لما كانت عليه مخلوقات الفيلم السابق.

وتكون المصادفة أن ينزل هذا المخلوق إلى مكان قريب، تسكن فيه أسرة أشبه بأسرة الأم جيليان فى الفيلم السابق، عدا أن الام هنا لها ثلاثة ابناء هم اليوت (هنرى توماس) وابنة هى جريتى (دروباريمور) ثم مايكل (روبرت ماكنفتون).

المنزل الذى نزل به المخلوق القادم من الفضاء، يعيش به الأطفال الثلاثة مع أمهم، بعد أن هجرهم أبوهم إلى المكسيك، وعاش مع أم أخرى، وهؤلاء الصغار يتصرفون كأشخاص يحسون بقيمة المسئولية، فهم قادرون على تحمل غياب الأب، وهم أطفال لا يعانون من متاعب كبرى، رغم غياب العائل.

وإلى هذه الأسرة يأتى “اى تى” يبدو فى البداية منفرا، فيصرح اليوت حين يراه لأول مرة، فم يكتشف أنه أمام طفل أقرب إليه فى الصفات، رغم الهيئة الغريبة التى شاهده عليها.

ومنذ اللقاء الأول نكتشف أننا لسنا فقط أمام ثلاثة أطفال فى أسرة واحدة، بل ان المخلوق الفضائى هو فى حقيقة الأمر طفل رابع، صار عليهم أن يحتمى بهم، وأن يدافعوا عنه، فالفيلم يركز على علاقة الصداقة التى نشأت فى البداية بين اليوت وبين المخلوق القصير، الصغير، ويحدث بين الصغيرين نوع من التوحد النفسى. حين تتلامس أطراف أصابع كل منها، ويشع من المخلوق ضوء خاص يعكس ما يتمتع به من قدرات غير عادية.

وشيئاً فشيئاً يدخل اى تى إلى حياة الأسرة، فتتعرف عليه الأخت جريتى التى تفزع فى البداية، ثم يأتى دور الأخ الأكبر مايكل، ويتفق الثلاثة أن يتكتموا خبر وجود هذا المخلوق عن الأم حتى لا تضطر إلى ابلاغ الشرطة بوجوده فى منزلها.

فى الفيلم تتكشف رؤية سبيلبرج للأطفال على أفضل ما يكون فى أفلامه، فالصغار هنا هم الاشخاص الرئيسيين، أما الأم فتنزوى عن الأحداث، ويبدو وجودها ثانويا قياسا إلى العلاقة الحميمة التى نمت بين الاطفال، والصغير القادم من كوكب بعيد.

وبعد أن تنمو العلاقة القوية بين الأشقاء الثلاثة وبين اى تى، تتسع دائرة الأطفال، فيأتى أصدقاء الحى، والمدرسة ويتكتل الصغار حوله، يتفاهمون معه، ويحاولون ان يعلمونه بعض الاشياء الصغيرة، مثل استخدام التليفون على سبيل المثال.. كما أن الأطفال يحاولون حمايته من أى أخطار، ويحرصون على عدم تسريب خبر وجوده خارج دائرتهم الصغيرة، خاصة عن الأم مارى.

ويقول رؤوف توفيق فى مقال عن الفيلم، نشره بمجلة الدوحة (أغسطس 1982) انك لا تملك كمشاهد طوال تلك الحظات سوى الضحك والدهشة من تصاريف الأطفال وخفة ظلهم، وفى نفس الوقت الاحساس بالقلق على هذا المخلوق العجيب، بعد أن تعودت على شكله الغريب، وحنينه الجارف للعودة إلى أهله وبيته.. انه يردد دائما كلمة “البيت”.

لذا، فان اليت يحاول ان يجد وسيلة اتصال بالعالم الخارجى، حتى يتمكن “اى تى” من التواصل مع عشيرته، ويتمكن اليوت ان يجمع بعض النفايا غير المفيدة فى المنزل، من أجل عمل هوائى خاص، يتمكن من تركيبه فوق التل المرتفع، ويسعى “اى تى” بالفعل للتواصل الأولى مع أهله الذين يسكنون على مسافة طولها عدة سنوات ضوئية، لكنه يفشل ويحدث توحد جديد بين الصبى اليوت، ومخلوقه، فكلاهما محروم من الأب، لكن “اى تى” أكثر غربة، لذا فإنه يصاب بالمرض، ويعجز الأطفال عن علاجه.

ويصل التوحد إلى قمته بين الاثنينن فاليوت أيضاً يصاب بمرض مشابه، ويفقد الوعى، بعد أن يتم القبض على المخلوق، وايداعه مكان سرى تحت الرعاية، والفحص الدقيق، ويبدو السيناريو الذى كتبته ميليسا مانيسون بالغ الذكاء، وهو يعزف على هذا التوحد المتولد بين الاثنين، فعندما يسترد “اى تى وعيه، فان نفس الأمر يحدث بالنسبة للصبى، ويسرع إليه مع أخويه، وبعض الأصدقاء، ويقومون باختطافه بهدف انقاذه من معاناته، والعمل على اعادته إلى أسرته.

ويعزف الفيلم على مشاعر عديدة متأججة، أهمها أن “اى تى” ابن يتوق إلى أسرته  مما يجسد من مشاعر الحب القوية بين اى تى والمشاهد نفسه، فنحن أمام ابن بار، يسعى إلى الاتصال بأبويه بأى ثمن، وإذا كان الأب قد هجر أسرته إلى المكسيك من أجل امرأة أخرى، فإن سكان الفضاء أكثر تماسكاً، وهم بالفعل سيرسلون طبقاً طائراً جديداً من أجل استعادة طفلهم وسط مطاردات، حاول سبيلبرج أن يخفف من حدتها فى الطبعة الجديدة من الفيلم التى عرضت عام 2002.

وشهد المطاردة الذى قام فيه الأطفال بالهروب من رجال الشرطة وآلياتهم، يجعل من الصغار أبطالاً حقيقيين، ويوسمهم بالشجاعة، ويجعلنا نراهم مليئين بالاقدام، والقدرة على المغامرة والدهشة، حتى يأتى الطبق الطائر، وتحين النهاية، فيودع اليوت صديقه، وكل منهما تغالبه الدموع، ويردد “اى تى” باللغة التى تعلمها من اليوت انه سيعود إلى “بيته”.

سبيلبرج يصنع فيلما اسريا فى المقام الأول، فالاطفال البشر يحمون منزلهم، والطفل “اى تى” لا يحس بقيمته الا فى منزله، فى الكوكب البعيد وتلك سمات واضحة فى أفلام المخرج، خاصة التى بها أطفال لكن هذه السمة بدت أكثر تجسيما فى اى تى.

الفيلم التالى، مباشرة كان “انديانا جونز والمعبد المعلون” عام 1984، وفيه كان الطفل “دورة قصيرة” وهذا هو اسمه (الممثل الفيتنامى الأصل كيوهو كوان” هو واحد من الأبطال الثلاثة الرئيسيين الذين قاموا بالمغامرة فى آسيا. فقد قام هذا الأخير بانقاذ الطفل من موت محقق، واصطحبه معه فى مغامراته، وشاركه مغامراته البالغة الخطورة.

وهذا الطفل الممثل الفيتنامى الأصل، هاجر مع أسرته فى قوارب اللاجئين إلى الولايات المتحدة، ومنحته الولايات المتحدة حق اللجوء لأراضيها مع عدد محدود من المهاجرين، وقبل أن يمثل الصبى الصغير فى الفيلم، لم يكن قد سمع من قبل عن السينما، ولم يكن قد شاهد فيلماً فى حياته التى قضى معظمها فى معسكرات زراعة الأرز بفيتنام.

ويقول سبيلبرج: اكتشفته فى لوس أنجلوس بعد أن فتشنا الكرة الأرضية بحثا عن طفل يقوم بدوره دون جدوى، وعندما التقيته كان لا يعرف معنى سينما، وأعتقد أن هذا كان فى صالحنا، فقد عرضنا له فيلم “غزاة القدس المفقود” لنوضح له المطلوب منه، وقد أبدى حماسة غير طبيعية وموهبة فطرية رائعة اثناء التصوير”.

وقد استعان سبيلبرج بالممثل الطفل ليقوم بدور البطولة فى الفيلم الذى أنتجه عام 1985 بعنوان “شرنقات”.

وفى الجزء الثالث من سلسلة “انديانا جونز”، تحت عنوان الحملة الصليبية الأخيرة” عام 1989 حاول المخرج أن يعود إلى طفولة بطله، واثبات أنه عرف روح المغامرة منذ صباه، فصور لنا مجموعة من مغامرات اندى الصغير الذى تعلم روح المغامرة على يدى أبيه هنرى جونز، العالم الأثرى المهتم بآثار العصور الوسطى، فقام بتوريث ابنه حب مهنته، وطلب منه البحث عن صليب ذهبى ضائع فى إحدى المقابر، وفى أثناء هروبه يجرح فى ذقنه بضربة كرباج لا يستطيع أن ينساها، حتى إذا كبر اندى، وصار عالم آثار مثل أبيه، فإنه يسافر حول العالم، ولا يعرف أن اباه اختفى فى مدينة فينسيا وأنه فى طريقه للعثور على الصليب الضائع.

كان سبيلبرج قد جعل من طفل الشخصية الرئيسية فى فيلمه “امبراطورية الشمس” عام 1987 ويبدو أنه وجود منشوده فى رواية الكاتب البريطانى ج.ج بالارد، فأسرع بدفعها إلى اثنين من كتاب السيناريو لاعدادها، وليبحث مجددا عن طفل صغير يقوم بأداء دور الصبى جيم جراهام، والذى أدى دوراً صغيراً فى فيلم “أرض البعاد” فى نفس السنة، وهو كرستيان بايل.

ومن المهم الاشارة أن جميع الاطفال الذين اكتشفهم سبيلبرج فى افلامه، كانوا شبه اكتشافه الأول، وأنهم لم يلمعوا كثيرا بعد العمل معه، عدا اسمين بارزين هما دور باريمور طفر “اى تى”، وهايل جويل أوسمونت بطل فيلم “الذكاء الصناعى”.

وجيم هو الشخصية الرئيسية فى الفيلم، فهو فى الثالثة عشر من العمر، ولد فى مدينة شنجهاى الصينية، لأبوين بريطانيين يعمل الأب دبلوماسيا فى الصين قبل الحرب، وعندما تبدأ الحرب العالمية الثانية، تقوم القوات اليابانية بغزو الصين، ويدخل جيش اليابان إلى شنغهاى، ويجد جين نفسه شريدا تائها عن عائلته وسط مدينة تهرب من قسوة الغزو، وبشاعته، ويتم اقتياد جيم أسيراً إلى أحد معسكرات الاعتقال.

وفى المعسكر يجد جيم نفسه وسط عالم جديد لم يألفه، ولم يتوقع أن يعيش فيه، فهو يعانى من الجوع، والوحدة، ويتعرف على أسير أمريكى يدعى باسى “جون مالكوفيتش” يساعده على تدبير أمور المعيش’ن ويكتشف أن هذا الأمريى رجل نفعى، وهو يتكلم اللغة الانجليزية بلهجة ونبرات مغايرة لانجليزيته، كما أن له ثقافة مختلفة.

وينتقل جيم إلى معسكر آخر أشد قسوة، ويعانى من مشاكل عديدة، ويظل على هذ1 الحال إلى أن تنتهى الحرب، ويعود إلى أبويه.

الطفل هنا مختلف بالطبع، والظروف من حوله مغايرة تماماً لكافة التى عاشها أبطال المخرج فى أفلامه الأخرى، فنحنل سنا فى عوالم وردية، ومغامرات، قدر ما نحن فى أجواء استكشافية لقسوة الحرب ومعاناة الغربة، وكل ما هناك أن البطل بعيد عن أبويه، ويعانى الأمرين، لكن الجديد هو أن جيم لا يتوقف عن اكتشاف العالم الغريب من حوله، وهو فى مرحلة تحول من الطفولة إلى الصصبا، ثم الشباب.

وفى أحد أحاديث سبيلبرج أشار إلى أن المخرج دافيد لين (أحد الشغوفين بتحويل الروايات إلى أفلام) وهو الذى دفع الرواية إليه، ونصحه أن يخرجها، وفى نفس الأحاديث الصحفية التى أدلى بها المخرج فى نفس السنة 1987، أشار أنه بصدد اعداد فيلم عن شخصية، لمغامر الصبى الفرنسى “تان تان” وأن كاتبة السيناريو ميليسا ماتيسون (اى تى) هى التى تولت هذا العمل، لكن يبدو أن سبيلبرج كان يفكر فى مغامر أمريكى هو الكابتن هوك، أحد أبطال القصص المرسومة التى يقوم ببطولتها المغامر الطائر بيتربان.. ومن هنا جاء فيلمه “هووك” عام 1991.

ورغم أن “بيتر بان” فى هذه الحكايات طفل مغامر، فإن سبيلبرج قام بانضاج بطله وجعله شابا يافعا، وربما رجلا فى عمر الممثل روبن ويليامز الذى جسد الدور.

حاول سبيلبرج أن يعيد تجسيد واحد من أبطال قصص الأطفال الذين صنعوا له أحلامه الأولى ومنهم أشرار تلك القصة الكابتن جيمس هووك، القرصان الذى تبعث كافة تصرفاته على الضحك.

ليس هنا أطفال بالمعنى المتعارف عليه، لكن سبيلبرج ينزع الطفولة من بيتربان، ويمنحه رجولة، ويبدو البطل هنا، وقد تجاوز الأربعين تقريبا، لكنه لا يتوقف عن التوغل فى عالم الأحلام وكأنما المخرج يد رؤية بطله القديم وقد صار فى نفس سنه تقريبا، كبر معه، ومرت به السنون، ولم يظل طفلا كما هون الآن فى عيون أطفال اليوم.

الآن وقع بيتربان فى الحرب، وتزوج، وأنجب الأبناء، وقد شغلته الحياة عن أسرته لأنه رجل أعمال ناجح، لكن الجنية تنكريل “الجرس الصفيح” تأتيه فى أحلامه، وتدفعه للذهاب لمقاومة الكابتن هووك، الذى قام باختطاف طفلية الصغيرين، فيعود إلى أحلامه وخيالاته، ويسعى لانقاذ أطفاله.

الاماكن تبدلت هنا، فالأطفال هنا هامشيون، اما الاب، الاكبر، فهو البطل الرئيسى، وهو يكتسب لنفسه كافة صفات بيتربان، وهو يقاتل خصمه الساخر فى سفينة.

وفى حديثه إلى مجلة “يوليس 2000” ردد سبيلبرج: “بيتربان هو واخحد من أكبر ذكريات الطفولة، وكم قامت أمى بقراءة هذه القصص عندما كنت فى الثالثة، ومنذ ذلك الحين ظل فى داخلى، قبل سوربان وقبل الرجل الوطواط، واى تى واليوت وقبل أى بطل آخر،كان بيتربان أول شخص أراه يطير فى حياته، وعندما كنت فى الحادية عشر أخرجت فيلماً عن هذه الشخصية مع مجموعة من الأصدقاء عن الكتاب الذى ألفه جيمس بارى للكبار، وقد وضعت هذا فى أول مشهد من فيلم “هووك”.

“وعندما كبرت، رأيت بيتربان فى التليفزيون بعينين مختلفتين، واشتريت حقوق انتاجه عام 1985”.

وفى ثنائية “حديقة الديناصورات” التى أخرجها سبيلبرج، كان الأطفال بمثابة الشخصيات الرئيسية، فهناك الطفل جيم، وأخته ليكس يذهبان فى صحبة العالم الدكتور الان جرانت إلى حديقة الديناصورات التى يمتلكها الجد الدكتور جون هاموند، انها حديقة تقع بعيدا عن الاعين البشرية، وقد تمكن هاموند من الاستفادة من خلية ديناصور عثر عليها حية، واستطاع اعادة تخليق ديناصور، بل وعدة ديناصورات، واعاد زمن وحيوانات ما قبل التاريخ.

والفيلم المأخوذ عن رواية لكاتب الخيال العلمى مايكل كرايتون، يصطنع مطاردات بين الديناصورات وبين الطفلين، ويطاردهم عبر الحديقة الجوراسية، ويكشف الفيلم أن هناك أنواع من مخلوقات ما قبل التاريخ كانت بالغة الشراسة والتوحش، ويعدد الفيلم أشكال الديناصورات، من صغيرة يمكنها دخول البنايات من النوافذ، إلى ديناصورات عملاقة قاتلة، وهى نفس الديناصورات التى ستظهر بقوة فى الجزء الثانى، حيث سيعود أطفال آخرون بصحبة العالم هاموند إلى نفس المكان. وتقوم الحيوانات الصغيرة التى تنتمى إلى ما قبل التاريخ بالهجوم على طفلة صغيرة، وتقتلها.

من الواضح أن سبيلبرج لم يعد يصنع عوالم وردية للأطفال، مثلما كان يفعل مسبقا، بل ان الاطفال هنا يتعرضون لأخطار حقيقية، ويكادوا أن يموتوا قتلى على أيدى الحيوانات الشديدة الافتراس، بعضهم ينجو، مثلما حدث فى الجزء الأول، والبعض الآخر يتحول إلى وجبة دسمة فى بطون الديناصورات الصغيرة، بينما يقوم المغامرن الكبار بالتجوال فى الحديقة الجوراسية، وتدور مطاردات مزدوجة بين العلماء والديناصورات، احداهما يطارد الآخر مرة، والثانى يرد المحاولة فى المرة التالية.

اذن، فالاطفال قد تغيرت أدوارهم فى الافلام الاخيرة التى قدمها سبيلبرج، ورغم ذلك صارت الديناصورات نموذجا مجديا للأطفال، وتحولت الى دميات يحتفظ الصغار بنماذج تمثلها وسط دمياتهم وألعابهم.

أما الطفل فى فيلم “الذكاء الصناعى” فهو روبوت، أى أنه شخص مختلف عم رأيناه، هو من طراز الاندرويد، والمقصود به الروبوت ذو الملامح الآدمية من الخارج، لكنه من الداخل عبارة عن آلات، وخيوط اليكترونية، لذا فليس من المستغرب أن يكون الطفل الروبوت دافيد رافضا الالتهام الطعام، مثل افراد اسرته البشرية، وعندما يدخل الطعام إلى جوفه بشكل اجبارى، فإن الأمر يستلزم أن تقام له عملية جراحية آلية.

الطفولة هنا أبدية، بمعنى أن الطفل الروبوت لن يعرف الشيخوخة، ولا الموت، وهما الأمران اللذان سوف يحدثان للأبوين، تدور الأحداث عام 2050، حول أندرويد قادر على الحب، يعيش فى أسرة بشرية أصيب وحيدها فى حادث وتم ايداعه احدى المستشفيات بين الحياة والموت، أى أن الطفل الاصطناعى هنا يقوم بدور بديل عن الطفل الطبيعى، ولكن الأسرة لا تلبث أن تستعيد ابنها فيدى بعد أن تم شفاءه، وتصبح هناك مواجهة بين الطفلين الاول اصطناعى لم يعد مرغوبا فيه، والثانى هو الابن الحقيقى البشرى، ولكن الفيلم يكتب للصغير الآلى حسا بشريا بدائيا، فهو يشعر بالغيرة من أخيه، ويتصرف حسبما هو مبرمج به، بأن يتمكن من خنقه دون أن يدرى انه يؤذيه ويشكل خطرا عليه.

نحن أمام فيلم الشخصية الرئيسية فيه هو طفل، حتى وان كان روبوت، ينشد الامومة من امه البشرية، وينتصر الفيلم للآليات فى مقابل توحش الآدميين، ويدين الفيلم المشاعر الانسانية التى أهلكت اصحابها وسببت لهم الكوارث، مثل الخوف والموت والترقب والجنس وقد واصل سبيلبرج رحلته فى عالم الاطفال، حتى فيلمه الذى قدمه عام 2011 حول “مغامرات تان تان” فهو يحول الالبوم الأول من القصص المصورة للفنان الفرنسى هيرجين الى فيلم رسوم متحركة على طريقته، هى شخصية ارتبطت بأحلام جيلنا من الأطفال تابعنا هذه القصة فى مجلة “سمير” فى أوائل الستينيات كما داعت احلام سبيبلرج تقدم لنا فيلما من عالم الأطفال، الا ان تان تان صحفى شاب له ملامح الطفولة، وهذا يعنى أن المخرج الذى بهرنا دوما بأفلامه قد قدم لطفولته وطفولة الآخرين ما لم يقدمه مخرج سينمائى له هذا التميز وتلك المكانة.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات