شيوخ وقساوسة: الخطاب الدينى فى السينما المصرية

02:51 مساءً الأربعاء 18 سبتمبر 2013
محمود قاسم

محمود قاسم

ناقد وروائي من مصر، رائد في أدب الأطفال، تولى مسئوليات صحفية عديدة في مؤسسة دار الهلال، كتب عشرات الموسوعات السينمائية والأدبية، فضلا عن ترجمته لعدد من روائع الأدب الفرنسي.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

تتعدد صور الخطاب الدينى فى السينما المصرية، من خلال عدة أوجه تتباين أو تتشابه فى التعامل معها من خلال موضوعات الأفلام التى شاهدناها.. ورغم تعدد هذه الصور، فإنها تتجمع فى بؤرة واحدة، تتمثل فى الايمان بالله، واليوم الآخر، وتتجمع كل هذه الصور، كى تثبت أن الانسان بشكل عام، والعربى بوجه خاص، مؤمن بطبعه، يألف إلى العقيدة، ويتجه إليها فى كل حالاته، وان العقيدة دوما هى أقرب شىء إلى وجدان الناس، ينطر إليها ويرجع فى كل ما يفعله منذ أن يعى بها وحتى ساعات رحيله، وهذه الأمور ثابتة، متجددة. وعليه فإننا يمكننا أن نجد صور الخطاب الدينى فى الأفلام المصرية، تتمثل فى عدة نقاط، وان ما نذكره هنا ليست الصور كلها، كما أن الترتيب الذى نذكره تم اختياره عشوائيا، وهو لا يمثل الترتيب الطبيعى لدى الناس.. وعليه فسوف نفسر ونشرح صور هذا الخطاب ببعض التفاصيل حيث أن الموضوع نفسه يحتاج إلى دراسة ضخمة، سبق أن أصدرنا مثيلا لها فى عام 1996، تحت عنوان “صورة الأديان فى السينما المصرية”، والمقصود بالأديان هنا، هى كافة العقائد السماوية الثلاثة التى وجدت فى مصر ابان القرن العشرين، وهو القرن الذى ازدهرت فيها السينما فى وجدان الناس بشكل ملحوظ.
– بيوت العبادة (المساجد والكنائس)
– الله
– رجال الدين (شيوخ وقساوسة)
– الرمز الدينى
– الفيلم الدينى
– المسلمون والأقباط
– المناسبات الدينية
– التنظيمات الدينية
– التطرف
– الإرهاب
– الدين هو الحل (نهايات الأفلام)
وسوف نتوقف عندها أيضا بدون ترتيب حسب الأهمية.
اولا: الدين هو الحل”
تتوافق رسالة الدين مع رسالة السينما، بشكل خاص، فى أن كل منهما يسعيان إلى حدوث التطهر لدى الناس، وهو المصطلح الذى يطلق عليه فى الدين بالتوبة، أو الرجوع إلى الحقيقة، فالفيلم، رغم تعدد الفنون التى تدخل فيه، فهو فى الحصيلة “قصة” الهدف منها المعايشة والتعليم والحياة.
حسب الخطاب الدينى، فإن الله سبحانه وتعالى غفور رحيم، وهو يغفر الذنوب جميعا عدا الشرك به، فإن الفن الجماهيرى لا يغفر قط، ولا يسامح هؤلاء الذين ارتكبوا الجرائم والفحشاء الذين ينالون عقابا صارما فى الأفلام، ايا كانت هويتها، ولا تسامح، أو مغفرة لأشخاص ارتكبوا الخيانة، او قاموا بارتكاب جرائم، خاصة القتل، ودائما ما تتشدد الفنون فى خطابها ضد النساء الخاطئات، أو الخارجات عن القانون.
وترى الفنون دوما إن الدين هو الحل، التوبة، والعودة إلى الطريق المستقيم، وهذه الفنون هى أشد حزماً من بنود القانون نفسه، وعليه فلابد للمتفرج أن يرى تفاصيل ما ارتكبه الخارج عن القانون، حتى إذا نال عقابه فإن الشفقة لا تأخذ بعقل وقلب المشاهد.
وبالتالى فإن السينما تبدو أكثر تمسكاً بالاخلاق من الدين نفسه، خاصة فيم يخص موضوع ارتكاب الفعل السيىء، وقد أشار المخرج الفريد هيتشكوك أن 12% من الجرائم فقط هى التى يتم اكتشاف فاعلها، لذا فإن 88% من مجرمى الواقع يفلتون بجرائمهم، لكن فى السينما فإن العقاب يكون أشد من الواقع، السينما تقتل المجرم، أو تدخله السجن، والمرأة الخائنة مآلها الموت فى نهايات الأفلام، لكن هذا لا يحدث فى الواقع.
الاخلاق هى الخطاب السائد فى الافلام، بشكل عام وسوف نتوقف عند بعض الافلام المأخوذة عن نصوص أخرى، وعولجت أكثر من مرة، ويبدو ذلك واضحا فى المسرحيات السويسرية “زيارة السيدة العجوز”، لفردريك درينمات التى تحولت إلى فيلم ألمانى أمريكى عام 1964،× تحت عنوان “الزيارة” لبرنارد فيكى، كما تحولت إلى مسرحية مصرية بطولة محمود ياسين وشويكار، وتحولت الى فيلم مصرى عام 1981 من اخراج تيسير عبود باسم “سأعود بلا دموع”.
كل هذه الاعمال اتفقت على معاقبة الرجل الذى غرر بفتاة من قريته، لقد مر على حدوث الجريمة سنوات طويلة سقط بمرورها الحكم، وكم فى الحياة من رجال غرروا بفتيات ولم ينالوا العقاب، إلا أن الفتاة تعود إلى قريتها بعد هذه السنوات، لقد تزوجت من رجل ثرى، ورثت أمواله، وصار فى مقدورها أن تعيد محاكمة حبيبها القديم، وفى امكانها أن تجدد المحاكمة، فتظره جرائم لا يعاقب عليها القانون ولا الأديان فالناس توافق على تجديد القانون لحاكمة الحبيب القديم، مقابل حفنة من المال.. الدين لا يعاقب هؤلاء الذين أخذوا لامال، ولكنه يعاقب الحبيب القديم.. فى المسرحية فإن المرأة العجوز تأخذ جثمان حبيبها بعد أن قتلته رصاصة طائشة مجهولة المصدر، وتضعه فى التابوت، وتذهب دون أن يسألها أحد ماذا فعلت، السينما هنا اقتصت بقسوة شديدة من رجل لعب بمشاعر حبيبته، التى حلمت منه وهربت، ولا أتصور أن القانون أو العقائد تنص على أن هذا الرجل يجب أن يموت مقتولاً.. لكن النص المسرحى قتل سيرج، وفى الفيلم الألمانى، فإن المرأة أصدرت أمرها بالعفور عن سيرج، بعد ادانته، وتركته يعيش فى مجتمع ووسط أناس باعوا روحه مقابل حفنة قليلة من المال، أما فى الفيلم المصرى “سأعود بلا دموع” فإن الخطاب كان بالغ القسوة أيضا، حيث أن هند تهرب حاملة خطيئتها، وتتعرف على قواد وتكون ثروة، ثم تعود إلى القرية كى تنتقم من حبيبها محمود وأبيه للانتقام، وتنتهى الأحداث بموت الحبيب، واصابة هند بالجنون أى أن السماء عاقبت كل الأطراف الخاطئة معا.
يعنى هذا أن الفنون بالغة الحدة، بشأن مصائر الذين يخالفون تعاليم الدين، الخارجين عن الدين، أو عن القانون، وإذا كانت نصوص دينية عديدة تتحدث عن تنظيم العلاقات الاجتماعية، خاصة العلاقة بين المرأة والرجل، والعدالة فى مواجهة الظلم، لذا، فإن قصص الأفلام، يجب أن نتتهى بعقاب صارم للغاية، قد لا يحدث فى الواقع، وقد رأينا هذا بتفصيل ملحوظ فى مصائر أسرة واحدة، اضطر الأبناء إلى تمويل عملية تهريب، بدأها أبوهم الورع، ومات قبل أن تكتمل العملية، وذلك فى فيلم “العار” لعلى عبدالخالق عام 1982، حيث بدا الخطاب الأخلاقى، والدينى بالغ القسوة فى مصائر الأبناء الذكور الثلاثة، فأحدهم راح يصرخ عندما اكتشف أن الشحنة قد ذابت فى مياه الملاحات، والثانى أطلق على نفسه الرصاص، والثالث أصابته هلوسة الجنون.. قد لا يحدث هذا فى الواقع، وقد تبدو العقيدة متساهلة مع هذه النماذج فى الواقع، إلا أن المصير بالغ القسوة فى نهاية الفيلم، ويبدو الخطاب الأخلاقى واضحاً للغاية، يوجهه الفيلم إلى المتفرج الا تفعل مثل هؤلاء والا كان مصيرك كمصيرهم.
الدين لا يقر الاعوجاج ابدا، وقصص الافلام تتصرف بصرامة مع ذكور الاسرة، فالأب النقى الذى يتاجر فى المخدرات دون أن يعرف أحد من أسرته إلا واحدة من أبنائه، يموت فى حادث سيارة بعد أن اتفق مع بنود آخر صفقة فى حياته.. أى أن السينما هنا تحذر من عقاب السماء.. فلم تلبث الأسرة أن فضحت وشرخت العلاقات بين الأبناءب، وفسخت خطبة الاخت الوحيدة.. وبذلك فإن السينما تبدو بالغة الأخلاقية، إلى جوار الدور الاجتماعى للنص الدينى.. وتبدو أطروحة أن الدين هو الحل فى النهايات التقليدية لأغلب الأفلام، والمسرحيات فى السينما المصرية والعربية.
ثانيا: الله:
بحثت الفنون فى خطابها الدينى دوما عن الله عز وجل، من خلال بعض أبطالها، ويبدو هذا واضحاً للغاية فى الكثير من الأفلام التى تتناول فكرة البحث عن الله، والوصول إليه.. وأغلب هذه الافلام مأخوذة عن نصوص ادبية، مثل “لقاء هناك” لأحمد ضياء الدين عام 1976، المأخوذ عن رواية لثروت أباظة، وأيضا “الاخوة الأعداء” لحسام الدين مصطفى 1975، المأخوذ عن رواية “الاخوة كارمازوف” لدوستويسفكى، و”قاهر الزمن” لكمال الشيخ 1981، عن رواية لنهاد شريف، وهناك أمثلة عديدة فى السينما، وايضا المسرح، ويبدو ذلك فى كل من “غرباء” لسعد عرفة 1972، و”الملائكة لا تسكن الأرض” للمخرج نفسه عام 1995، وقد بدا الخطاب الدينى من خلال التحول الحاد للباحث عن الله من الالحاد والمادية، إلى التوصل عن طريق الخبرة، والتجربة إلى وجود الله، وسوف نتوقف عند أشهر نموذج من هذه الأعمال وهو “لقاء هناك”.
الرجل الذى لا يعترف بالسماء، ثم هو باحث عن الله هو “عباس”، ملىء بالشك، فى حياته فتاتان الأولى ايتوتن حبيبة الطفولة، القبطية، والثانية ليلى الطالبة الجامعية التى تجيد الجدل معه، وهذه العلاقة المزدوجة تزيد من قدرته على الشك، فهو يحاول اثبات أن العقيدة لا تتنافى مع الحب، بل هو يحاول الاقتراب من ايفون، ويبعد تماماً الحاجز الدينى، أما ليلى فهى تدرس الفلسفة ورغم ذلك فهى مؤمنة، وتناقش ابن عمها فى معنى الوجود، ويبدو الخطاب الدينى هنا من خلال الحوار الذى يتجدد بين الطرفين، تناقشه فى معنى الوجود، والايمان، ولكنها لا تصل معه إلى اليقين، فهو يتأمل الوجود باحثاً عن الله، وينتهى به تأمله أن الكون تسيره الطبيعة، وان للانسان قلب يتحرك فإذا توقف، توقفت الحياة بالتالى.
تزداد علاقة عباس بابنة عمه، دراسة الفلسفة، عقب هروبه من بيت أبيه حين اكتشف هذا الأخير علاقة ابنه بايفون، وفى منزل العمل يبدأ الجدل.. وعندما تدخل ايفون الدير، عقب احساسها بالاحباط، فإن عباس يلجأ بشكل تلقائى ودون تفكير إلى البديل، إلى ليلى التى تكون آلامها أثناء الولادة سببا لتحول مفاجىء، فهو يلجأ إلى الله، ويسأله أن ينقذ زوجته من الخطر، ويبدأ فى الاحساس بأهمية وجود الله فى الحياة.
لقد نمت بذور الشك فى طفولة عباس من خلال أسلوب التربية التى تربى فيها، فباعتبار أننا أمام شخص يميل منذ طفولته إلى الاستقلال بذاته، فانه يصطدم مع اب متعجرف يتسم بالقسوة، ينفره من الاشياء اكثر مما يجذبه اليها، فالأب حمزة حريص تماما على تربية ابنه تربية دينية، فيحفظه القرآن الكريم، ويدفعه إلى تأدية الصلوات فى مواعيدها، ويجبره أن يذهب معه إلى المسجد عملا بالحديث الشريف الذى يطلب من المؤمنين أن يضربوا الاولاد من أجل الصلاة “علموهم لسبع واضربوهم عليها لعشر” ويشب عباس وسط الظروف، حيث يثور الأب بشدة عندما يعلم أن ابنه مغرم بجارته المسيحية.
والبحث عن الله فى هذا الفيلم، كما فى بقية الافلام التى تصور أمثال هؤلاء الباحثين، يمثل حالة عابرة ولابد من الوصول إلى اليقين فى النهاية، وذلك من خلال أزمة انسانية يمر بها كل شخص يجد نفسه فى حاجة إلى قوى أعلى للوقوف إلى جواره، مثل حاجة عباس أن يقف الله الى جواره وييسر ولادتها العسيرة.
وكما أشرنا فإن أغلب الافلام التى تحدثت حول البحث عن الله.. تم انتاجها فى السبعينيات والغريب أن هذه الأدوار أسندت الى نور الشريف فى كل من “الاخوة الاعداء” و”لقاء هناك” و”قاهر الزمن”.
ثالثا: الأذان _(نداء الله):
لا يشترط اننا حين نسمع صوت المؤذن، أن يكون المسجد قريبا منا، فقد لعبت مكبرات الصوت أو أصوات المؤذنين القوية الدور فى التبليغ، وفى فيلم “العزيمة” لكمال سليم 1939، بدأت الأحداث بالاذان الذى كان بمثابة تعريف واف لهذه المنطقة المتدينة، فهناك رجل يمسك مسبحة، يخرج إلى المسجد فى الصباح، صحيح أن موعد الاذان لا يتفق مع خروج المواطنين إلى أعمالهم، لكن كمال سليم أراد أن يعطى للمتفرج صورة عن هذا الحى الشعبى الذى ستدور فيه الأحداث، فاختار أن يبدأ فيلمه بالاذان ووعلى ايقاعه رأينا الجزاء يفتح حانوته، والفكهانى، ومحمد افندى يخرج من منزله فى طريقه لمعرفة النتيجة، وأبوه يفتح محله، وبائع فول….
مثل هذا المشهد يتكرر كثيرا فى السينما، الاذان يرتفع وسط الأحياء السكنية مناديا باسم الله، وهو فى أغلب ما قدمته الأفلام فى خطابها لم يكن فقط نداء إلى المسلمين أن يهبوا الى المسجد وأن يؤدوا الصوات، ولكنه لعب دورا كبيرا فى حياة البشر المتزاحمين بالنوايا، فعندما يرتفع الاذان فى سماء المدينة، فإن هذا الهاتف يجىء إلى الناس بمثابة تنبيه، ان الله يرقب ويرى، وانه أكبر موجود فى كل مكان.
وقد بدا الاذان بمثابة خطاب للتحذير والتنبيه والمراجعة، ولعل أبرزها هو ما سمعناه فى نهاية أحداث فيلم “جعلونى مجرما” لعاطف سالم 1954، فنحن أمام مجموعة من المتناقضات، والقوى المتصارعة التى يلعب فيها المسجد دوراً كمكان. والاذان صوت بمثابة الفيصل النهائى للأحداث، يمثل هذه القوى سلطان الذى عانى طيلة عمره من قسوة عمه، فدخل الاصلاحية صغيرا، ونافسه العم علىق لب المغنية عندما كبر فى السن، وصار شابا ضائعا، وقد سلب عمه حقوقه وميراثه.
هذا العم أدخل سلطان السجن ظلما، متهما فى جريمة قتل، وتحاول المطربة الحصول على دليل براءته، وحين تحصل على هذا الدليل يكون سلطان قد تمكن من الفرار، وذهب إلى عمه ليقتله فى الكباريه الذى يتردد عليه.
أما الشخص الثانى، فهو الشيخ حسن صديق سلطان منذ الطفولة، والذى يتعرض لاهانات أهل منطقته حين يستضيف المغنية فى بيته، باعتبارها قد تابت إلى الله، وهجرت البيت الذى منحه إياها عشيقها، فيظن أهل الحى أن هنا اثما بين الشيخ حسن والمطربة، فيقذفونه بالطوب، ويفقد مكانته كرجل ورع متدين يؤم الناس فى المسجد، ولا يتمكن من الدفاع عن نفسه، وحين يهرب سلطان بعد أن قتل عمه، يكون الشيخ حسن فى قمة ازمته، ولذا، فإن دخول سلطان عليه المنزل يزيد من تعقيد الأحداث، فالشرطة تطارده، وهاهى أصواتهم تجىء اليه وهم يحاصرون المنطقة، يحاول سلطان الهروب فلا يجد أمامه بابا مقترحا سوى باب المسجد، انه المسجد نفسه الذى يعمل فيه الشيخ حسن إماما، وفى هذا المكان يحدث التطهر داخل سلطان، فهو المأزوم الذى لا يمكنه الافلات من مصيره، يجد نفسه وسط اضاءة مبهرة تأتيه من الخارج تتمثل فى مصابيح المسجد المضاء، وتنقصه الاضاءة الداخلية المتمثلة فى الهداية، ولأن الوقت يشير غلى الفترة بين العشاء والفجر، حيث المسجد خاليا من المصلين فإن سلطان يجد نفسه وحيدا أمام مصيره، فيهتف مناجيا ربه “يارب” أنا برىء.. أنا مظلوم.
هنا يدخل الشيخ حسن باعتباره سيقوم بدوره كرجل دين يسعى لهداية صديقه من ناحية، وايضا كصديق يفتح له باب التوبة، ويحس أن سلطان هو رمز لنداءاته الداخلية والخارجية لما يطلبه من ربه، فيهتب به أن يبتعد عنه بصوت ملىء بالقلق، والخوف ويردد: كفاية اللى أنا فيه، علماب أن الشيخ حسن قد ناله الكثير من المتاعب مما سببه صديقه هذا وفى هذه اللحظة ينطلق أذان الفجر، ودخول الشيخ حسن هنا هو بديل لدخول الشرطة، فالقوات لا يمكنها اقتحام المسجد للقبض على القاتل، والوحيد الذى يمكنه أن يلعب دوراً حاسماً هو الشيخ حسن، امام المسجد.
ورغم أنه لا يتمكن من تهدئته، فان الأذان يبدو العامل الحاسم لامتثال سلطان وخضوعه ثم موافقته على الاستسلام، فما ان ينطلق الاذان من أعلى المسجد حتى يجهش سلطان بالبكاء ويرتمى فى أحضان صديقه، ويبدو الاذان كأنه برد وسلام على قلب سلطان الذى أعلن توبته.
هذه صورة واضحة لدور نداء الله، أو الاذان فى تغير سلوك الاشخاص، ويبدو الاذان هنا مليئا بالايقاع والقوة لتحريك قلب سلطان، ودفعه إلى البكاء.
مثل هذه المشاهد تكررت كثيرا فى أفلام قديمة وحديثة حيث تحول الاذان إلى صدى حقيقى وجرس لتنبيه الناس، وتطهرهم، مثلما حدث للص فى فيلم “طاهرة” لمحمود اسماعيل 1957، وايضا فى لحظات التوبة فى فيلم “كهرمان” للسيد بدير 1959، والاذان هو الذى نبه الابن الشاب الى انه قد يرتكب الخطيئة وسرعان ما تراجع فى فيلم “رنة الخلخال” لمحمود ذو الفقار
1955، وغيرها، وقد بدت مكانة الاذان بالغة السحر فى هذه الافلام، واذكر أننا فى قاعات السينما كأطفال فى نهاية الخمسينيات من القرن الماضى، فإن القاعة كانت تمتلىء بالتصفيق حين يتردد الأذان، الذى يحل فى وقته، ويجىء بمثابة حل حقيقى لمشاكل معقدة تراكمت طوال أحداث الفيلم، بما يعنى أن الاذان اصبح بطلا حيا مثل أى بطولة يتسم بها شخص طيب يمثل الخير ويسعى إلى قهر الشر، اذن فالاذان هنا رمز للخير وتنبيه وانذار ويبدو خطاب الاذان هنا دينيا ذا دلالة مهمة، بأهمية الرجوع إلى الجد، والامتثال له، وهذا هو عماد الدين.

هناك فيلم آخر تم عرضه عام 1991، هو “شمس الزناتى” لسمير سيف، حيث يقف أطفال فوق التلال يتبادلون التلويح بالمناديل فيما بينهم من أجل توصيل الاشارة والفيلم تدور أحداثه فى صحراء مصر الغربية، فى أجواء بدوية، استخدم ايضا الاذان كوسيلة للتنبيه، فسرعان ما يتردد صوت المؤذن فى القرية الصغيرة المتأهبة لمواجهة عصابة الخارجين وذلك من أجل دخول المعركة، ولم يكن هناك خير من الاذان، رغم أن الأمر يثير دهشة زعيم العصابة الذى ينظر إلى لاسماء، ويتساءل: رغم ان وقت اذان الظهر، وقد ساعد الاذان بالفعل فى زيادة حالات الاستعداد، رغم أننا لم نرى شكل المسجد فى هذا المنظر أو غيره من الافلام، فالمفروض أن الجوامع بعيدة عن الانظار لكنها ليست بعيدة عن السماع.
رابعا: بيوت الله..
بدا الخطاب الدينى بارزا من خلال علاقة الناس بالمساجد، خاصة التى تضم الاضرحة التى يتبرك بها الكثير من الناس، انها بيوت الله فى الأرض، وحينما يذهب إليها المؤمنون يشعرون أنهم أكثر قرباً من الله سبحانه وتعالى وهو الموجود فى كل مكان بالأرض والسماء، كما أن الخطاب الدينى يحث على الذهاب إلى المساجد، فهى ملتقى المؤمنين من المسلمين، كما أن الكنائس تلعب دورا مشابهة بالنسبة للمسيحيين، وفى الملتقى تحت هذا اللواء المقدس، كثيرا ما يحدث التىلف، وتذوب الخلافات، وتتجدد مشاعر الألفة بين الناس.
والمسلمون يذهبون إلى المسجد خمس مرات يوميا للالتقاء بالله سبحانه وتعالى من خلال الصلاة، كما يتقابلون مع أقرانهم من المؤمنين سواء بشكل عابر، أو متواصل، ولذا سميت بيوت الله، وفى هذه البيوت تحدث أيضاً قصص كثيرة، ومن هذه الحكايات عاش الناس كثيرا من القصص الانسانية فى الأفلام.
ظهرت المساجد فى السينما المصرية بأشكال عديدة، سواء من حيث شكلها المعمارى الخارجى، او تبعا لأهميتها الاجتماعية والدينية لدى الناس، ثم من حيث هوية المترددين عليها، أو تببعا لأهميتها الاجتماعية والدينية لدى الناس.
والموضوع بالغ الاتساع، لذا اخترنا ان نقدمه من خلال قسمين رئيسيين، وفى داخل كل قسم يمكن أن نرى عدة تقسيمات حتية، هذان القسمان هما المساجد والاضرحة التى تكتسب شهرتها من أولياء الله الصالحين والمدفونين فيها، سواء كانت هذه المساجد واسعة المساحة والمكانة، مثل السيدة زينب، والمسجد الحسينى، ومسجد السيدة نفيسة، ومسجد السيد أحمد البدوى، أو المرسى أبو العباس وغيرها بالمدن المصرية، ثم مساجد أقل مساحة، موجودة فى القرى تحمل أسماء بعض الأولياء، وأغلب هذه المساجد اما جامع يؤمه الناس للصلاة أو زاوية صغيرة يتبرك بها الناس، ويترددون عليها من الخارج فقط للدعاء والبحث عن حل لمتاعبهم.
ويتمثل القسم الثانى فى مكانة المسجد لدى الناس بشكل عام، وما ارتبط من حكايات أبطال الكثير من السينما المصرية بالمسجد بشتى الصور، وبشكل عام، وبعيدا عن اداء الصلوات والفروض، فان الناس يتجهون إلى المسجد لاسباب اجتماعية متصورين أن هذه الأضرحة مباركة، وان الضريح هو وسيلة للتقرب الى الله، من خلال رمز لشخص له مكانة دينية، وكم كان مؤمنا مثاليا، لقد جاء الناس من أماكن عديدة ليرموا بمتاعبهم، ويبحثون عن وسيلة للنجاة من كوارث حلت بهم، وقد شاهدنا هذه القصص فى افلام عديدة منها “الزوجة الثانية” لصلاح أبو سيف 1967، و”قنديل أم هاشم” لكمال عطية 1968، و”المولد” لسمير سيف 1989، وأيضا “بين القصرين” لحسن الامام 1964، و”سارق الفرح” لداوود عبدالسيد” 1995، و”الارض الطيبة” لمحمود ذو الفقار 1954، وأسماء الافلام كثيرة فى هذه القائمة.
فى فيلم “الزوجة الثانية” قرر الزوجان المنكوبان أن يذهبا إلى ضريح السيد البدوى والدعاء لله، والتشفع باسم هذا المتصوف الزاهد من أجل ان يروا الله عنهما شرور العمدة عتمان الذى قرر فجأة أن يفصل بين الزوجين، كى يتزوج من رقية، باعتبار أن الزوجة الأولى عاقر ولن تنجب له الوريث.
ويلجأ الاثنان إلى الخطاب الدينى، فهما منكوبان، الزوج فلاح لا حول له ولا قوى، عليه مغادرة القرية بعد أن سلبه العمدة بيته، ولذا، فإنه ليس هناك شخصا كبيرا يلجأ إليه للفصل ما بينه وبين العمدة، انه ظلم بائن ونهائى، ولذا فان اللجوء الى المسجد هنا للتضرع الى الله من خلال الضريح، والشخصية المبروكة بالنسبة له المدفونة هناك وعلى جانب آخر فإن الزوجة تقف فى مشهد آخر تفعل الشىء نفسه.
ومن الواضح أن الدعاء فى هذه الاماكن المقدسة مستجاب، لأن الله سوف ينصر الزوجين ولكن بعد حين، بعد أن تتزوج الزوجة شرعيا من العمدة، بعد أن تم فصل الزوجين، اى ان الظلم هنا قد طال وتكشف لنا السينما كيف استجاب الله للدعاء الذى انطلق من حناجر يتألم أصحابها بشدة، فأقعد المرض العمدة، وكانت شديدة الوطأة على لارجل، واشتدت الكوابيس من حوله، ثم دفع حياته أمام عينى الزوجة الشابة التى عادت مرة أخرى إلى زوجها بعد وفاة العمدة.
السينما تتبنى هذا النوع من السلوك، والرجوع إلى بيت الله، وقد تكررت تلبية دعاء المظلومين فى الأفلام التى ذكرناها، حتى وان كان الابتهال من أجل الآخرين، فإن هناك استجابة للدعوة وبشكل سريع.. طالما أن الناس تذهب الى الضريح، بسبب ازمة ما يمرون بها، بالاضافة إلى اللجوء للضريح حبا وتبركا، وتصبح لدى الناس عادة دون أن يعرفوا ماذا هناك بالضبط، ولا من هى الشخصية التى يتبركون بها، فالناس تذهب إلى ضريح سيد التلاوى، فى فيلم “للحب قصة أخيرة” لرأفت الميهى 1986، تبركا به، وخاصة أثناء المولد الذى يقام باسمه، ويلجأ اليه الزوج المريض، ويتوهم فى البداية أنه شفى بفضل بركات صاحب الضريح، كما أنه هناك فلاحة طيبة فى فيلم “الارض الطيبة” تذهب إلى ضريح الدكرورى من أجل الصلاة والتعبد، ولم نرها تدعو الله داخل مبنى الضريح أن يهدى حبيبها الا بعد ان وقعت فى الحب فعلا، حتى ولو من طرف واحد باعتبار أن الشاب الذى تدعو له كان يحاول خداعها من أجل الاستيلاء على ما تبقى لها من ميراث بعد أن وزعت منه على الفلاحين، ايمانا بمبدأ تقسيم الثروة على الفقراء والمحتاجين.
هذه الاضرحة موجودة اكثر فى المناطق الشعبية وفى القرى الصغيرة، ويؤمها كل الناس وعلى رأسهم أبناء الحى، وهؤلاء السكان غالبا ما يتبعون قلوبهم دون أن تكون هناك قوى مؤثرة لأصحاب الأضرحة فى كل الحالات، فالتلاوى الذى صار باسمه ضريحا فى فيلم رأفت الميهى، كان قاطع طريق، ورغم ذلك فإن الزوجة سلوى، التى تذهب للدعاء من أجل زوجها المريض، تردد فى أسى، مش ممكن ربنا يحكم على حبنا بالبساطة دى.. جايز التلاوى ده دجال ونصاب لكن ربنا اكيد حاجة تانية.. وقد تولد مثل هذا الاحساس بعد أن ثبت أن الدعاء واللجوء إلى الضريح لم يكشفا عن معجزات صاحب الضريح بما يعنى ان الناس تذهب إلى حيث يحسون أن الله أقرب، إلى المساجد، بصرف النظر عمن هناك.
خامسا: المناسبات الدينية
يميل إلى المسلمون فى كل أنحاء العالم إلى تحويل شعائرهم والمناسبات الدينية الى اطار من الاحتفاليات الجماعية، تجمع فيما بينهم، وما اكثر هذه المناسبات وما اكثر عدد ايامها ولياليها، وعلى رأسها شهر رمضان المعظم، ومن خلال هذه الاحتفاليات، والشعائر يبدو الخطاب الدينى واضحا، فهو مرتبط بالحيوية، والحركة، والسلوك الجماعى.
ارتبطت المناسبات الدينية لدى البشر باحتفاليات يصنعون من خلالها البهجة وأسباب السعادة، وقد حدث ذلك فى كافة الأديان، وعندما انتشر الاسلام فى ربوع الارض احتفل المسلمون بمناسبات سعيدة، وكانت الاحتفاليات بأعياد الفطر، والاضحى، بالاضافة إلى شهر رمضان، الذى سنتحدث حوله لاحقا.
لو نظرنا إلى عالمنا المسلم فسوف نجد أن هناك مئات الاحتفالات الدينية فى العالم وقد ارتبطت احتفالياتنا الدينية بأشكال مختلفة تبدو فى تجهيز أطعمة العيد، مثل الكعك وشراء الملابس الجديدة خاصة للصغار، والابتهاج بليلة العيد، والخروج صباحا جماعات لأداء الصلاة ثم زيارة القبور، وقد زادت مساحة الاحتفال بالمناسبات الدينية فى مصر، فشملت الاحتفال بالمناسبات الخاصة بآل بيت النبى صلى الله عليه وسلم مثل الموالد المنتشرة فى أنحاء مصر، هناك احتفاليات خاصة بالمسلمين، وأخرى بالأقباط، وايضا باليهود الذين عاشو ا فى بلادنا فترات طويلة.
ولسنا هنا بصدد نقاش المناسبات الدينية، من ناحية الشرعية والبدعة، ولكننا نحاول الوقوف عند الجانب الاجتماعى من الدين، وكيف صور الخطاب الدينى هذه الاحتفاليات باعتبار أن هذه المناسبات اصبحت تمزج يبن التراث الشعبى بالاضافة إلى معناها الدينى، فقد تعاظمت هذه الاحتفاليات واحتفظ بتقاليدها الأولية، رغم التطور الحضارى الذى عرفه الناس، فقد هل الأعياد على الكثير من الناس، دون أن يكون العيد سعيدا، ولعل من أبرز المشاهد التى يذكرها مشاهد السينما، منظر الأب المأزوم الذى يقف وراء واجهة زجاجية يتطلع إلى ملابس الاطفال، دون أن يملك مالا يشترى به فستان العيد لابنته الوحيدة فى فيلم “حياة أو موت” لكمال الشيخ 1954.
ونحن نعرف أن العيد اقترب من خلال تعليق “اقبل العيد” وارتفع ضجيج المدينة الضخمة وبدا سكانها وكأنهم خرجوا جميعا إلى الطرقات فيمضون إلى المتاجر يبتاعون منها الثياب والهدايا..
ونكتشف أن العيد ليس سعيدا على كافة البشر فهذا الرجل الواقف وراء الفاترينة فى عوز مادى بعد أن تم الاستغناء من وظيفته، كما أنه مريض ينتظر أن تجرى له عملية جراحية، ويتقدم هذا الموظف واسمه أحمد ابراهيم (عماد حمدى) نحو مبنى الشركة التى كان يعمل بها، ويقابل المدير من أجل صرف مستحقاته المالية التى هو فى أشد الحاجة إليها ويصور هنا الفيلم انه من المستحيل صرف المستحقات الا بعد العيد، وعندما تأتى مكالمة هاتفية للمدير ويتحدث إلى حفيدته الصغيرة، يبلغها انه سوف يأتى لها بأغلى الهدايا، التى يروح يحددها لها وعقب المكالمة فان المدير يمد يده بمبلغ الى الموظف المفصول باعتباره عيدية لصغيرته ولكن الرجل المعوز يرفض بشده، ويخرج الى الشارع كى يقف من جديد أمام واجهات المحلات، ويقرر أن يبيع ساعته لشراء فستان العيد لابنته دون أن يتمكن من شراء الحذاء أو الشنطة.
ويمر العيد قاسياً على الأسرة، فالأم تذهب إلى بيت أهلها بعد مشادة مع زوجها، وتجد الطفلة نفسها تجوب شوارع العاصمة من أجل البحث عن دواء ضرورى لمعالجة الأزمة الحادة التى اصابته، اى ان المناسبة الدينية التى ينتظرها الناس مرتين فى العام، والمفروض أن الناس يكونون سعداء لم تكن كذلك بالنسبة لهذه الرجل واسرته، وقد رأينا العدي فى افلام عديدة، خاصة فى افلام من اخراج حلمى رفلة مثل “ليلة العيد” 1949، و”لحن السعادة” 1960.
على جانب آخر، فإن المواليد تكتسب دائما خلفيات اجتماعية ودينية، والى هذه المناسبات يأتى أكبر عدد من الناس، من المدن الأخرى، والكفور ليكونوا فى محراب ضريح أحد الأولياء حيث تبدو الموالد أكثر وضوحا فى الأحياء الشعبية، او داخل الاركان العتيقة من الدينة، ولعل أبرز الموالد كان فى “قنديل ام هاشم” لكمال عطية، حيث اكتسى المولد بشكله المألوف فالناس تتجمع فى داخل صحن المسجد من أجل اقامة الحضرة، ويجتمعون خارجها من اجل احياء ليلة المولد، وفى هذه الليلة يشعر الدكتور اسماعيل، العائد من سنوات الدراسة بأوروبا، يشعر بمدى التناقض بين ما يأمر به الدين، وما يؤمن به الناس، ولذا فهو فى مواجهة حقيقية على الناس وخاصة خادم المقام الذى يستفيد ماديا من كل هذه الجموع منالناس.
وما أكثر الافلام التى صورت مراسيم مولد السيدة زينب ومنها “بنات الليل” لحسن الامام 1955 و”المولد” لسمير سيف 1990، كما صورت افلام اخرى منطقة الحسين، ومنها “ايام الرعب” لسعيد مرزوق 1988، و”واحد من الناس” لأحمد جلال 2006، وانقاذ ما يمكن انقاذه لسعيد مرزوق عام 1986.
أما شهر رمضان، فانه ظهر قبل القرن الحالى فى افلام قليلة العدد، دون ان نرى احتفاليات بعينها، ومنها مشهد السحور فى فيلم “العزيمة” 1939، وايضا “فى بيتنا رجل” لبركات 1961، و”الفانوس السحرى” لفطين عبدالوهاب ، و”ضربة معلم” لعاطف الطيب 1987 وايضا افلام أخرى مثل “اضراب الشحاتين” لحسن الامام 1960، الا ان معنى الاحتفال قد تغير واكتسب عمقا ملحوظا فى افلام تم انتاجها خلال العقد الماضى من القرن الحالى، ومن هذه الافلام “اولاد ادم” و”اكس لارج” و”عسل اسود” لاحمد جلال، الذى اكتسب الشهر الكريم معنى وخطابا اجتماعيا ودينيا بشكل ملحوظ، وفى هذا الفيلم وصل الشاب مصرى إلى القاهرة قادما من الولايات المتحدة اثناء شهر رمضان لقد غاب عن بلده وماضيه عشرين عاما، وهو قادم للزيارة، يحمل جواز السفر الأمريكى، وفى هذا الشهر رغم قدسيته فان الناس لا تتطهر كما هو مطلوب، فسائق التاكسى الذى يرافق مصرى الى الفندق، يتفنن فى النصب عليه، واستغلاله، يشترى له الاشياء بأسعار عالية، ويأخذ منه المال بمغالاة واضحة، وقد كسا الفيلم هذه الشخصية بظرف ملحوظ، بحيث ان علينا ان نكتشف أنه لم يأخذ عقابه، وانه قد ألف مثل هذا السلوك فى الشهر الكريم او غيره، وفى الفيلم اشارة الى كيف تكون الحياة الاجتماعية فى الشهر الكريم، فالاسر تتكاتف وتجتمع معا، حول المائدة نفسها، والقاهرة مزدحمة بموائد الرحمن، وعندما يسأل مصرى صاحب المائدة عن سعر الوجبة، يخبره هذا الاخير ان ما يفعله نوع من الزكاة، والهبة، وانه لو أخذ مقابال، فان ذلك سوف يضيع حسناته، ولعل هذا الفيلم هو الاوحد من نوعه الذى رأينا الاسرة كلها تجتمع فى نهاية الشهر الكريم من أجل عمل الكعك، وهى العادة المصرية التى لايزال المصريون يحتفلون بها، ويرونها من ضمن مراسيم الشهر، بالاضافة ان الاطفال فى الفيلم يقومون بأداء الصلاة أى ان الفيلم قدم صورة حقيقية عن الجانبين الاجتماعى والدينى لشهر رمضان.
كما ان عدد الافلام التى صورت عن الحج فهو قليل اسوة بالافلام التى صورت شهر رمضان فالحج فى الافلام المصرية هو حدث عابر، او الحل النهائى لقصص معقدة، ومن هذه الافلام مثلا “أفراح” لنيازى مصطفى 1950، “بنت الأكابر” لأنور وجدى 1953، “دهب” لأنور وجدى ايضا فى العام نفسه و”المصرى أفندى” لحسين صدقى 1949، و”توحة” لحسن الصيفى 1958، و”المرأة التى غلبت الشيطان” ليحيى العلمى عام 1973، ثم “أين تخبئون الشمس” للمخرج المغربى عبدالله المصباحى عام 1981، حيث ارتبط الحج فى اغلب هذه الافلام انه حالة من التوبة، بالاضافة الى انه فريضة اختيارية من فرائض الله، ولعل أبرز شخصية يمكن الوقوف عندها هى فيلم “أين تخبئون الشمس” الذى تدور أحداثه فى معسكرات الطلاب فى سبعينيات القرن الماضى، يدور جدل فكرى بين تيارين رئيسيين الاول مؤمن يمثله رجل الدين الشيخ محمود والثانى الحاوى تمثله صوفيا التى مات زوجها فى احدى المذابح الاسرائيلية فى لبنان، ثم هناك بوب وهما اللذان سيمران بمرحلة تحول عقائدى، بوب الذى ستكون توبته بسبب جذرى، هى وفاة اخيه الاصغر يوسف، اثر حادثة يتعرض لها، وهو يستعرض قدراته فى قيادة دراجة بخارية، هذا الحدث سيكوون بمثابة تنبيه لبوب إلى نهاية الانسان الماساوية وان الموت قادم لا محالة ولذا فان بوب يتحول الى نائب نادم على كل ما فعله ويقرر السفر الى الاراضى الحجازية، بهدف الانتقام من الشيخ محمود الذى تصور أنه وراء تحول شقيقه.
بوب هو الطرف الآخر للصراع بين الالحاد والايمان، وكما كتب صلاح سرمينى فى نشرة نادى السينما انه “الملحد المتحلل فنحن نتعرف عليه فى المعسكر لاول مرة يقول: أنا: “من هو ربنا، لا اعرف غير واحد فقط هو الشيطان”، وهو أول من قال: ومن خلال جملته الحوراية هذه تتضح ابعاد فلسفة بوب الفوضوية، انه يمارس الحب ويشرب الخمر ويدمن المخدرات، ويستعرض قوته أمام الآخرين وكل هذا السلوك يتضح لنا بشكل ساذج ومتخلف مما أجزم معه انه من صنع الخيال.
ويرتبط بوب بصوفيا المسيحية القادم من جحيم حرب لبنان، كما أن علاقته بأخيه يوسف بالغة القوة، ومن هنا تأتى شدة الصدمة، ويوسف هذا مؤمن بدور الشيخ محمود الايجابى، ولذا فبعد رحيل يوسف، فغن بوب يقرر قتل الشيخ محمود والسفر للبحث عنه فى الأراضى الحجازية ولم يستطع المخرج أن يصور وقائع الحج ولأن السيناريو الذى كتبه المخرج يستدعى ان تحدث التوبة أثناء موسم الحج، فانه يستعين بلقطات فيلمية تصور الحج بشكل عام، ثم يؤكد على جزئية تصوير بوب وسط مجموعة ضمن الحجاج تمثيلا، ويمزج بين الشاشة الخلفية والممثل بشكل واضح يبدو أمام عين الرائى بأن المشاهد تركيبة، وهناك يبحث بوب عن الشيخ محمود، ويكتشف أن فى الحج ملايين من مثل هذا الشيخ، وسرعان ما ينخرط معهم ويجد نفسه يتطهر بأداء شعائر الحج، ليصير بعد ذلك الحاج ابراهيم.
لقد كان وجود ابراهيم فى مناطق شعائر الحج سببا فى التوبة، والتحول من الشك الى الايمان من خلال اداء مناسك الحج، فقد اختلفت بواعث الذهاب الى الحج هنا بدافع الانتقام، وهناك وسط الحجيج يبدأ فى البكاء، والابتهال الى الله الذى تشكك فى وجوده طيلة احداث الفيلم.
والحج فى بقية الافلام هو ايضا اعلان توبة وتحول والناس تذهب الى مكة المكرمة من اجل التطهر والتوبة، ولعل هناك نموذجا بارزا فى فيلم “المرأة التى غلبت الشيطان” ليحيى العلمى عام 1972فهناك امرأة دميمة تحالفت مع الشيطان كى تصبح جميلة، تلفت انتباه صحفى وقعت فى غرامه، وهناك اتفاق مع الشيطان مدته عشرة سنوات، حتى اذا انتهت المدة، أسلمت روحها إلى الشيطان الا انه عندما يحين الموعد فان ابليس يجد المرأة، وقد تابت الى الله، وأدت فريضة الحج طائعة، وذلك بناء على نصيحة الجناينى العجوز، وحين يأتى ابليس لاستلام روحها، يجدها تؤدى الصلاة ومن خلال تقواها يحترق حفيد الشيطان، وتموت وهى فى أقصى حالات التوبة بدلا من أن تذهب الى سكة الشيطان.
وقد غنت السينما للحج فى العديد من الافلام، مثلما فعلت نور الهدى فى فيلم “افراح” 1950 حين تشدو:
مبروك يا حاج وعقبالنا تحجها ويرتاح بالنا
مبروك يا حاج وعقبالنا
يا مسعدك زرت الكعبة وطفت بالصفا والمروة
ياريتنا كنا معاك صحبة ومن عيون زمزم نروى
وقفت فوق عرفات يا حاج بيت الله
وفزت بالبركات يا حاج بيت الله
سادسا: أهل التقوى:
خلق الله عز وجل البشر متدينين فى كل بقاع الارض، ولو لم ينزل الله دينه على العباد فإن هؤلاء البشر سيخلقون لانفسهم العقائد، وتاريخ البشر فى كافة الازمنة والاماكن تعكس علاقة الناس بآلهتهم من الميثولوجيا اليونانية، والديانات الفرعونية، حتى الأديان غير السماوية فى شرق آسيا كالبوذية والمجوسية والكنفوشية وقبل ذلك عبادة الطواطم، ثم بعد ذلك الاوثان الضخمة الحجم.
اذن، فالايمان اصل فى الانسان، والخروج عنه حالات شاذة، ويجب على هؤلاء الخارجين التوبة والرجوع إلى الله، كما أن الخير والشر اصل الصراع الدرامى فى تلك الاعمال، ومن هنا جاءت أهمية الافلام التى تصور المتدينين، أو أهل التقوى والورع، وقد اثبتت السينما المصرية من خلال هذه التجارب كم هى سينما مؤمنة، وان خطابها الدينى خطاب كائن مؤمن، لم تعاصر الخارجين على نواميس العقائد، وكانت مصائر الخارجين عليها دائما مأساوية سواء الذين يرتكبون الفواحش، أو الذين يبتعدون عن طريق الهداية.. وهناك أمثلة عديدة على هذا، وهؤلاء الفاسدين نراهم فى أحضان اللهو والخطايا، وتصورهم الافلام تائهين، فهم يعيشون بين بنات الليل، والمرحمات، ومصائرهم دائما معروفة، ولم يحدث قط أن وقفت السينما الى جوار احد من هؤلاء وناصرتهم.
وقد ظهرت شخصية المؤمن التقى الورع فى السينما بما يليق بها، كما تصدت فى افلام اخرى لهؤلاء الذين يتسترون وراء الاديان، ويستغلون الشكل الخارجى للتدين لتحقيق اهداف تتنافى مع الدين، وفى الوقت نفسه فان السينما المصرية، لم يكن دورها هو الاصلاح الاجتماعى بقدر ما هو كشف نماذج المجتمع، وهى التى لم تصنع هؤلاء المتسترين بالاديان، او الذين لديهم ازدواجية سلوكية بين الدين والخروج عن الدين، والقانون الاجتماعى، ولذا فانها فى مجموع افلامها قدمت كافة النماذج التى عرفناها فى المجتمع، والمتدينون هنا يختلفون عن الازهريين الذين يعملون ويكتسبون حيواتهم من العمل بالدعوة وسوف نتحدث عنهم لاحقا.
المؤمن هنا، المواطن العادى، متدين بطبعه، يمشى على هدى الناموس السماوى، فليس كل المجتمع خريج المدارس الأزهرية، أو جامعة الازهر، أو المدارس الكهنوتية المسيحية، ولكن هؤلاء المتدينون يمارسون كافة شعائر دينهم عن حب، واقتناع.
وامامنا نموذجان واضحان تماما لهذا الامر، هما عبدالرحمن فى فيلم “سلامة” لتوجو مزراحى 1945، وابراهيم فى فيلم “ابن النيل” ليوسف شاهين عام 1952، الأول عابد ناسك متطهر، يعيش وحده فى غرفته، يمارس شعائر دينه، وكما نراه فهو يستيقظ ساعة الفجر كما يؤدى الفريضة حاضرا، ولأنه ورع ونقى فهو محط احترام الجميع، ويسبب وجوده فى أى مكان هيبة، وارتباكا، خاصة حين يحضر الى قصر ابن سهيل الماجن، فتتوقف الموسيقى ومظاهر الخلاعة، وهو فى البداية لا يبالى بمشاعر الجارية سلامة، المغنية التى اشتراها أبو الوفا، ثم باعها الى ابن سهيل، الذى يبدأ فى الانتباه اليها، وهو يحاول انتشال سلامة من عالم الموبقات الذى تعيش فيه باعتبارها جارية، ورغم ان الخليفة قد اشترى سلامة فيما بعد، فان عبدالرحمن يحاول استعادتها وشرائها، بل انه يدخل فى معركة من أجلها، وفى النهاية يموت حبا فيها.
اما ابراهيم فى “ابن النيل” فهو ايضا عابد ناسك، نسمعه يتلو آيات القرآن الكريم، وهو الوجه النقيض لشقيقه الأصغر حميده الذى يسهل عليه السقوط فى الرذيلة، ويطمح فى السفر الى العاصمة من أجل تحقيق حلم طوبوى، وقد تولى ابراهيم تربية اخيه الاصغر، فى غياب الاب المتوفى، وظل يسانده الى ان صار ششابا يافعا، يحلم بالرحيل عن مسقط رأسه، وهو يحاول تلقين اخيه الآيات القرآنية ويفسرها له، خاصة الأيات التى تحذر من الخطيئة الزنا، وايضا الايات الخاصة بالوفاء بالعهد، وبعد أن يرحل حميدة الى القاهرة، تاركا وراءه ثقلا كبيرا يتمثل فى زوجته زبيده “فاتن حمامة” التى اعتقد حميدة انها ماتت بينما هى حامل، وهو مثلما وقف الى جوار اخيه وتولى تربيته، فانه يقف الى جوار زوجة الاخ، ويتولى تربية ابنه، ثم هو يذهب الى القاهرة بحثا عن حميدة حين يجد انه من الضرورى ان يعود الاخ الى داره والتعرف على ابنه ويضطر وهو الشخصية المتزنة التى لا تقرب المحرمات إلى دخول البارات التى يؤمها أخوه من أجل استعارته. ويفعل ما بوسعه من أجل اقناع الاخ بالعودة، وفى البداية يفكر حميدة نفسه عن أخيه خشية المواجهة حتى اذا به يلقاه فانه يتأثر كثيرا ويقرر العودة الى حيث توجد امه وزوجته.
ومثلما جسد يحيى شاهين هاتين الشخصيتين لمؤمن لم يتخرج فى الأزهر، فان الممثل نفسه جسد شخصية الشيخ الازهرى فى افلام عديدة، منهم الشيخ حسن فى “جعلونى مجرما” و”كهرمان” للسيد بدير والشيخ فى “الأرض” ليوسف شاهين، و”شىء من الخوف” لحسين كمال.. ويمكن أن نطلق عليهم اسم “المعممين” وهو اسم كان يطلق على رجال الدين منذ نهاية القرن التاسع عشر، على غرار الشيخ محمد عبده وآخرين.
يتمتع هؤلاء بمكانة اجتماعية عالية، لعلو مكانتهم وثقافتهم الدينية حسبما صورتهم افلام عديدة فهم فى منظور المجتمع قد أفنوا شبابهم فى تلقى العلوم، الدينية، وهم مرجع للناس لمعرفة الكثير من أصول الدين، كما أنهم رمز للفضيلة والنبل، وفى الكثير من الافلام التى شاهدناها سنراهم يمثلون الضمير البشرى النقى، أو الجانب الآخر من العصاة، أى الجانب المضاد للخطاة، يلجأ غليهم من أخطأوا كى ينالوا التوبة، والهداية على أيديهم، وقد رأينا مثل هذه النماذج فى “الشيخ حسن” لحسين صدقى 1952، واللص والكلاب، لكمال الشيخ 1962، “بين القصرين” لحسن الامام 1964، و”كهرمان” و”الحدق يفهم” لأحمد فؤاد عام 1986.
جابر فى هذا الفيلم هو قاطع طريق التقى بالشيخ عاشور، فى الطرق الجبلية، فنزع عنه ملابسه الازهرية، واتجه إلى نحو القرية، وقد انتحل صفة الشيخ لقد كان من قبل أحد المطاريد ويوضح هذا الفيلم منظور الناس تجاه رجل الدين من خلال ما يرتىدى من ملابس وتلعب المصادفة مع جابر أن يجعل الغازية “ورد” تتوب عن الرقص، كما أنه يبدو لدى أهل القرية، رمزا فى سلوكه حتى بعد أن يبدأ البعض فى ان يشكو فى أمره، ويكتشفوا انه من المطاريد.
هذا الشيخ ليس سوى واحدا من رجال الدين النمطيين فى السينما، فهو رجل صاحب دور اجتماعى فى القرية، وهو لا يكتفى بأعمال الوعظ، بل يتجه لمد القرية بالمعونة عندما تحل عليها الكارثة، هذا الشيخ يستطيع أن يغير سلوك القرية، والناس تنظر اليه باحترام سواء كان الشيخ عاشور او جابر.
مثل هذا الشيخ المعمم يعيش فى قصص الأفلام حياة خاصة، اشبه بالناسك، فهو لا يقرب النساء، ولا يتزوج، ويحيا من أجل الدعوة، والهداية، ولعل دوره الاجتماعى والروحى، حسب السينما يحول دون حاجته الانسانية كزوج، او مالو الى النساء، ولذا فان حياة المعمممون الخاصة تكاد تكون ملغاة او هامشية، قياسا الى الاشخاص العاديين، مثل شخصية الشيخ حسن فى فيلم “جعلونى مجرما” الذى قدمناه فى نموذج سابقن لكن هناك شيخا عاش حياة اسرية فى فيلم “شىء من الخوف” فهو متزوج، وله ابنه، يدفع حياته بسبب توقف الاب النضالى، دور هذا الرجل هو الاتصال بالناس، والاحتكاك بسلوكهم، وقيادتهم فى مواجهة الظلم، ولذا فليس هناك رجل دين يعمل فى فراغ، ويبدو تاثيره قويا كلما اشتدت الازمات خاصة فى القرى، فالشيخ ابراهيم هو الذى يحث أهل القرية على الوقوف فى مواجهة طغيان عتريس، وهو رجل قوى الشكيمة شديد المراس، لا يخاف أمام الحق اى شخص، حتى رجال الطاغية وبنادقهم الغشيمة، وهو هنا رجل متمرد ثورى، تزداد قوته، من خلال تأثيره فى الناس، فهو ينادى بضرورة تغيير الناس من السلبية إلى الايجابية، لأن هذه المواقف تساعد فى صناعة الطاغية وتضخيمه، وعندما ينجح الشيخ ابراهيم فى لم الناس من حوله فإنه يتمكن من صد الطاغية وانهاء مملكته.
سابعا: المسلمون والاقباط
فى أغلب الافلام السينما المصرية ظهر الاقباط بمثابة طائفة من طوائف الشعب، وبدا الخطاب واضحا فى هذا المضمار، للاقباط نفس حقوق وواجبات المسلمين الاجتماعية، وقد اشترك هؤلاء الاقباط فى الحروب، والاحداث الكبرى التى شهدتها مصر فى العصور المختلفة، ابتداء من عيسى العوام فى “الناصر صلاح الدين” ليوسف شاهين 1963 الى الكثير من الافلام التى تصور الحياة فى القرن العشرين، وفى قصص الافلام هناك قصص حب تنمو بين شباب من الديانتين، مثلما حدث فى “الشيخ حسن” لحسين صدقى، 1952، ثم “لقاء هناك” لاحمد ضياء الدين عام 1975.
اغلب هذه الافلام تعتمد على اساس ان الفتاة قبطية وان الحبيب مسلم، ولعل ذلك يرجع الى حساسية العلاقة فحسب الشريعة الاسلامية فانه يمكن للرجل المسلم ان يتزوج من امرأة مسيحية وان تبقى على دينها، وذلك كى يكون الابناء مسلمين، على الا يحدث العكس، وقد راعت الافلام التى رأيناها هذه النقطة، فكان الحبيب دائما هو الرجل، وتبعا للحساسية فان النص المكتوب يتعمد الا تنتهى القصة بزواج من هذا النوع، ففى “لقاء هناك” اذعن كل من الشابين لضغوط الاسرة، فدخلت ايفون الدير، وتزوج عباس من ابنة عمه ليلى.
وكان المنطق ان الحب بين البشر لا يعرف اى عائق، وان العلاقات الانسانية كثيرا ما تبرز من خلال منطق الآية القرآنية الكريمة “لكم دينكم ولى دين”، لكن الآباء يلعبون دورا حاسما فى عدم استمرار العلاقة باعتبار ان الشباب غير قادرين على اتخاذ قرار يحدد مصائرهم، ولذا فهم فاقدوا الأهلية، ولم يكن اللجوء الى الدير من طرف ايفون سوى ضعف شديد على تحديد المصير، ولكن قد يكون ذلك مبررا باعتبارها فتاة صغيرة فى مجتمع لا يرحم من حاول ان يخرج عن ناموسه.
ثامنيا: العنف باسم الدين
مصطلحات كثيرة وجد الناس انفسهم أمامها مع العقد الثامن فى القرن العشرين، عندما بدأت عجلة الاحداث تتحرك بسرعة، فاصبح رجل الشارع العادى الذى يمارس شعائره بتلقائية: يصلى وصوم ويؤدى الزكاة، وينطق بالشهادتين. واذا استطاع ان يحج يفعل، اصبح يسمع تعبيرات مثل “الاسلام السياسى” والتطرف، والسلفية، والمتشددون، والسنيون، ثم سمع عن تكوين منظمات سياسية، دينية تنادى بتطبيق الشريعة الاسلامية دون اجتهاد، وبدأت المواجهة بين هذه الجامعات والدولة، شهدت تطورا بلغ اقصى صوره بعد قيام ثورة يناير، وايضا بعد ان وصل الاخوان المسلمون الى سدة الحكم عام 2012، وما تلى ذلك من أحداث.
لقد شهدت مؤسسات المجتمع كلها انقلابا ملحوظا فى صورة الدين، حين وصل الاسلام السياسى الى النقابات المهنية، واتحادات الطلاب، وتم استخدام السلاح، والاستيلاء على ثروات المحلات الكبرى، وخاصة محللات الذهب، لقد تم قتل رئيس الدولة، انور السادات على يدى تلك الجمعات وظهر فى الافق مصطلح ارهاب ويعنى فى ابسط معانيه ان الارهاب هو لاشخص لاذى يسعى لارغامك على الايمان بفكره حتى ولو بالسلاح، رغم ان العقيدة تدعو الى “جادلوهم باللتى هى احسن” فى البداية تحدثت السينما عن المتطرفين الذين يتصرفون بحزم شديد داخل محيط الاسرة مثلما فعل الاخ الاكبر مع شقيتقه فى فيلم “غرباء” لسعد عرفة 1972، حيث اضطر الى ان يصفع اخته من اجل ان تنصاع لافكاره.
وفى التسعينيات من القرن الماضى دخلت السينما المواجهة مع الارهاب من خلال مجموعة من الافلام وقفت ضد العنف المسلح، او الاسلام السياسى، ومن أبرز هذه الافلام “الارهابى” لنادر جلال 1995، و”طيور الظلام” لشريف عرفة 1995، و”الناجون من النار” لعلى عبدالخالق الذى لم يعرض تجاريا قط منذ انتاجه عام 1995.
هذه الأفلام جمعت بين كشف التطرف وعلاقته بالارهاب والمواجهة الاجتماعية والكفرية بين التيار المعتدل، والمتطرفين، بدا ذلك واضحا فى فيلم الارهابى لعادل امام حيث ان مصطلح الارهاب فيما قبل فى السينما مرن، باعتبار ان الارهاب فى فيلم من اخراج نادر جلال يعنى قيام شخص بذرع قنابل ومتفجرات فى أماكن بعينها، مثل الطائرات على طريقة ما كان يفعله كارلوس فى الثمانينيات، اما معنى “الارهاب والكباب” فى الفيلم الذى أخرجه شريف عرفة 1992، فهو مجازى، حيث اننا لم نر من يمارسون الارهاب فعلا، وكل ما جرى ان مواطنا جاء الى مجمع التحرير من اجل اجراء نقل ابنه من مدرسة الى اخرى، واصطدم بموظف ملتح كثير الصلاة اثناء العمل، وتعقدت الاحداث، وتصورت الشرطة ان ارهابين قد سيطروا على المجمع، وبدأت المفاوضات حول موضوع وهمى، لكن فيلم الارهابى يتناول جماعات دينية مسلحة داخل العاصمة، يقومون بتصفية خصومهم سياسيا وبالسلاح، ويجندون الشاب الفقير المحبط على عبدالظاهر، كى يقوم بتنفيذ تعليمات امير الجماعة، دون تفكير، معتقدا انه يعيش فى مجتمع فاسق، ويقتل وفدا سياحيا ثم يكلف على قبتل كاتب معروف، ولكن محاولته تفشل، واثناء هروبه تصدمه سيارة تقودها فتاة من اسرة ميسورة مثقفة.
يصور الفيلم حالة التطهر التى يمر بها الشاب الذى تضطره الاصابة الى ان يقيم فى بيت الاسرة ويفاجأ انها اسرة متدينة، معتدلة، وان هؤلاء ليسوا ابدا ضد العقيدة، وشيئا فشيئا يتحول ويقاوم زملائه الذين يحثونه على قتل المفكر الا انه يصاب برصاص زملائه.
لا شك كما اشرنا ان موضوع الخطاب الدينى كما صورته السينما المصرية اكثر اتساعا من ان تحتويه مثل هذه الصفحات، ولا شك ان الرجوع الى كتابى عن “صورة الاديان فى السينما المصرية” الصادر 1997، قد يفى بالموضوع، لكن من المهم ايضا اضافة العديد من الفصول تصور ما حدث فى مصر والعالم العربى فى هذه الفترة حول الموضوع نفسه، وكيف وقفت السينما تناقش هذه الموضوعات مجددا فى افلام عديدة منها “دم الغزال” وغيره..

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات