وادي الحيرة الصعب: الفصل الأول من رواية الكاتب عبد الحميد عبّود (سبعة أودية)

09:03 مساءً الأحد 22 ديسمبر 2013
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الوادي الأول

وادي الحيرة الصعب، تنبكتو

العيادة أو مصبّ النيل والفرات والعاصي

 

غلاف الرواية، الناشر: الغاوون، بيروت

في البدء كانت إهراء حبوب يخزنها فيها مالكها سيدي الوافي، ثم آلت إلى خان للغرباء الذين رمتهم الأقدار الغريبة في هذه الدشرة الغريبة، فقبل سنتَين ظهر في شوارع تنبكتو رجلان أجنبيان : غجري سوري يحمل حقيبة سمسونايت وشاب عراقي، جاءا من نيامي من طريق نهر النيجر، وانقطعت بهما السبل بعدما تعطل محرك المركب عند مرفأ “الكابارا “، تعرف إليهما الوافي واندهش حين اكتشف ان صندوق السمسونايت هو عيادة أسنان متحركة، فأثناهما عن الهبوط إلى بلاد بِنْبارا وأقنعهما بالإستقرار وأجَّرهما المخزن المجاور لدكانه فحوّلاه إلى عيادة ثابتة، فيما بعد انضمّ إليهما ساكن ثالث هو المصري سرحان، مدرّس التَاريخ والدين واللغة العربية في المدرسة الليبية

من بعيد، لا شيء يميزها عن بقيّة دكاكين السوق الصغير : تخشيبة لا تتعدى مساحتها العشرين متراً مربعاً، حيطانها من الطوب الأحمر، وسقفها من جذوع الشّجر وألواح الزنك، عن كثب تبدو لأعيننا يافطةٌ صدئة كُتب عليها بخط يدٍ مرتعش “عيادة دكتور عصري، جرّاح وطبيب أسنان، خْروج جامعة حمص، طبيب بيطري ختانة وحجامة وتجبير، وشريكه الدختور حاتم عبد الصاحب، خريج جامعات بغداد، رقية وحجب ومندل “وبما أن اليافطة لم تعُد تتسع لمواهب أكثر فقد أُضيف على الحائط تحتها :”نعالج الصرع والبلهارسيا والإسهال والإمساك والغنغرينا والسعال الديكي والفلاونزة والعنوسة والعقر ومكر الحماة وعرق النساء وحبّ الشباب والطحال والحمى المالطية والزائدة ةالدودية والدّودة الشريطية ”

إذا ما اقتربنا اكثر نقف أمام مصطبة وعتبة تمنع الرمال من الزحف، وبابٍ منجور عن خشب البلبال، إذا ما ولجنا إلى الداخل نجد أنفسنا في وكر للسَّحرة والحواة،بين أربع حيطان مزيّنة بحذوة حصان، ويد فاطمة والعين الكاشفة في مثلّث وسورة الفلق و”رأس الحكمة مخافة الله ” و “عين الحسود تُبلى بالعمى”، لو تمعّنا النّظرَ في الغجري يطالعنا رجلٌ ستّيني يجمع من الشيب وقارَه ومن الشبيبة نزقَها، فيه ملامح هندية على إيرانية على عربية على قفقاسية، فوق رأسه يفاجئنا ملصق يتنافر بفظاظة من ماهيّة العيادة الروحانية : مارلين مونرو ممسكةً بحواشي تنورتها المتطايرة، ولو حانت منا التفاتة إلى العراقي لرأينا شاباً ثلاثينيّاً، في وجهه المجدور أنف معقوف وعينان مكحلتان وكل أمائر القلق والهم، لو رفعنا بصرنا قليلاً لرأينا فوق مكان نومه ملصق سبط الرسول الحسين معلّقا في الجدار، ولو تأملنا المصري نرى شابا ينمّ وجهه عن بشاعة واضحة، إذا تفرّسنا فيه بشكلٍ أعمق تكتشف أنه أقرب إلى بشاعة الجمال، من زاويته تلفت نظرنا صورةٌ ضخمة للقذافي جلبها من المدرسة الليبية، ولو حرّكنا أنوفنا فإننا سنشم رائحة غريبة هي خليط بخور كندر وجاوي وتتن مورتاني وروثمان وجبص وعقاقير بنج ومرهم أبو فأس وبعر ماعز، على الأرضية نرى حصيرة من ألياف الحلفا وطبقاً نحاسياً هو في الوقت عينه سماط للغداء وطاولة شغل لتحضير الاسنان وميدان للتبصير ولعب الشدة، ونرى كذلك حقيبة السمسونايت ومسجلة وكاسيتات وحجر جلخ ومجمراً ومصحفاً ومبخرة وطاسة رعبة وعصاً مطلسمة وثلاث أطقم كوتشينة وقطرميزاً يحوي ثعبانا مخللا وكتاب ” تعلم السحر في خمس أيام” وكتب أخرى مُسجَّعة العناوين مثل ” حل الرموز لفتح الكنوز” و ” أصول المراسم في فك الطلاسم ” و “الصارم البتّار في التصدي للسحرة الأشرار” و “خير المواقيت لرؤية العفاريت ” و “تسخير الشياطين في وصال العاشقين” و”الافصاح في فنون النكاح” … نلحظ بإحدى الزوايا شنط ثياب موضّبة عاموديا وعليها ثلاث فُرُشْ إسفنجية محزومة فوق بعضها ومستورة ببطانية، في الزاوية الأخرى التي تُسمّى “ركن المطبخ” نتبيّن بعض الأدباش والمواعين وبابور بريموس وقصعة وطنجرة ألمنيوم ومحقنا، وجرّة من فخار يحفظ فيها ماء الشرب، وطشت للغسيل والاغتسال، وقصرية … نعم قصرية، فعصري غالباً ما تنزرك مبولته ليلاً ويتكاسل عن السير نحو المرحاض العمومي، إذا ما اقتربنا من النملية نجدصحوناً وإبريق شاي وكؤوساً، إذا ما قرّبنا أعيننا اكثر نكتشف بطحةَ عرقْ مخبئة بعناية، آنئذاك لا يخامّرنا شك بازدواج شخصية التخشيبة : عيادة نهارا، خمارة ليلا

 

مريض حقيقي في عيادة مزيّفة

 

ُسمعت طرقات على الباب، خبّأ عصري ورق الشدّة تحت المصلّاة، نزع البرنيطة الغجرية عن رأسه ووضع الطاقيّة البيضاء المخرّمة، تحولت شقلبة حبّات السبحة بين أصابعه إلى تسبيح، مهّد البصّار العراقي لحيته وحاجبَيه المقوّسين وتنحنح في لبوس جدِّ لاستقبال الزبائن .

دخل رجلٌ ملثم يحمل جبيرة، ، قال وهو يتحاشى النظر إلى البصّار : ” اتْحَلْ ألمعقود يا شَيْخْ ؟

سدّد العراقي نظرةً عميقة للزبون، عرف من عينَيه اللامعتَين تحت التملغوست أنه طارقيّ، قال مصطنعا المهابة : ” أجَلْ، آني فتّاح فال، طلسم شكستن، طبابت روحاني كردن كل مشكلة آكو إلها حل بقدرة من القداير ، شسمك عيني ؟

صعر الزبون التارقي خده ككل التوارق حين يُسئلون عن إسمهم : ” بوبكر أق عثمان أق عمر أق ساموري أق سني من زعزاع أق تيمنل أق سدور أق مزلان أق مسير أق مكسليت أق ديقوش أق جاجال أق الغوث، من مسّوفة من صنهاجة حِمْيَر من ولد تبّع …

احتد العراقي : ” بَسْ كافي حجّي باقر، ضوجتني، ماكو لزوم لشجرة العيلة،أريد إسمك واسم والدتك الحجّية ”

” بوبكر ود عيشه ”

ازاداد غيظ البصّار العراقي ( من الأسماء) تفرّس في هيئة المريض، رمقه بنظرة تسعى إلى فحص إمكاناته المادية، نوّس ضوء الفانوس في الكوّة وأشعل أعواد النّد والصندل في المجمر، وبخَّر أركان العياده، ثم تناول عصاه المطلسمة، وتربّع فارداً يديه على فخذَيه، فلمعت في أصابعه سبع خواتم عليها فصوص من الأحجار الكريمة المنسوبة إلى الكواكب السبعة : العقيق اليماني الرّامز إلى القمر، الحيّة الملتفّة الرّامزة إلى المشتري، الياقوت الأزرق الرامز إلى التوباز، النّسر القابض على نجمة خماسية، الشمس والزبرجد، وأخيراً الزمرد وعطارد، حرك يدَيه وأصابعه العشر، وبرقت عيناه المكحّلتان بوهرة راسبوتينية صارمة، قال متلاعباً بأوتاره الصوتية وهو ينظر إلى صورة الحسين : ” يا بن بنت رسول الله خذ بيدي، يا مَدَدْعلى والشافعات، يا قوى المملكة كوني تحت قدمي اليمنى، سبحان من لا ُيخفى عنه شيء في الأرض أو في السماء، أحضر يا نصير فنون الشفاء، أيها الجني الصالح “وَهَبْ ” بموجب العهود السليمانية التي بيني وبينك ”

ضرب الرمل بالعصا ثم حرّر الأشكال، رسم خطوطاً وكتب الفاتحة معكوسة، أضاف بأبهة العرّاف العالم دون أن يرفع عينَيه عن الطلسم : ” الرمل إتكول إنّو العطب موجود في أهلك، معمول لها سحر لا تحبل ولا تجيب، أكو فد جنّي كافر يقتل الجنين في الأحشاء .

شدّ التارقي لثامه على وجهه خشية تسلّل الأرواح الشريرة إلى فمه وأنفه :”يستر مُلانا ! كُلْ آسُوفْ ألْمَسْتَترين فْ عفنة مَنْت عمّي !

طمأنه البصّار بقوله أن “مشكلة العقم بسيطة كالزكام ودواها يرهم” وأخرج قلماً أحمرَ، كتب بعض أبيات مهزوزة الوزن من الجلجلوتية، وكتب على ورقة أخرى آيات من “سورة الجن “، حذف منها الآية 20 ووضع مكانها الآية 101 من “سورة البقرة “، ثم بخّر الورقتَين بالمجمر، طوى إحداهما وقال بصوت الكهّان العميق : “هذا دواك وعند الله شفاك حجّي، وأريدك تقرأ الفاتحة سبع مرّات في اليوم لمدّة سبع أيام، وتسمع سورة البقرة مرّتَين ويُفضَّل أن تكون بصوت عبد الباسط، تأكل سبع تمرات عجوةً على الريق ويستحسن أن تكون من تمر المدينة المنوّرة، في ليلة الجمعة تجامع أهلَك وهي مبطوحة على سيفها وبطنها للقبلة فإنها بالقدرة والقداير تحبل ويجيها ولاد على الميعاد (ناوله الورقة الثانية ) هذا دوا الحجيّة،حجاب حصن الحصين ضد أعين العائنين، تشيله تحت سرتها فإنه يثبّت الجنين في بطنها، ويكون لها أمان من جميع العكوسات ونشالله ينطيك مرادك صبي،ونفرح وياك بطهور المحروس .

حفّ إصبعيْه بوجه الزبون : ” هات بيِّض فالك، الكشفية الفيزيتا بالعجل،ناوشني بياضك حجّي، ميتين درهم، وابوك الله يرحمه .

نظر التارقي للحجابَين نظرةً يشوبها الشّك، فنهره العراقي :” امصخّم انته ما تصدق كلام الله ! الله الذي وهب الولد لإبراهيم وسارّه بعمر 150 سنة

ابتسم الزبون فظهر سنٌ ذهبي في فمه، أخرج من صرة جلدية بصدره ورقة نقدية ونقده، ثم همّ بالانصراف إلى دكّان الوافي الملاصقة، فاستوقفه البصّار : ” حجّي باقر وين رايح، لسّه عندك حمى مالطية بفمك، ألا تدري أن كل رجل معافى هو مريض بالكمون !

التفت إلى شريكه المتظاهر بقراءة القرآن : ” دورك دختور عصري، آني أخرجت شمفروش من بطن الحجيّة، بس آكو فد جنّي شمروخ لابِد بين أسنان الحجي .

قبَّل عصري المصحف ثم وضعه جانباً وعبث بأرقام السمسونايت، أخرج كماشة وميبرة، طالباً من الزبون أن يزيح الشاشية ويفتح فمه، فشدّ الطارقي اللثام على أنفه وفمه، وصرصر أسنانه قال باستحياء مبالغ فيه: “ولاه ولاه مانِ منحيه أُلانِ فاتح فمي، شَيْن ذَ عند أتارقي”.

أصر الغجري :” إذا لم تفتح تمّك فإن شمروخ رح يسبّبلك فلوزنة وكنكرينا، ولن سوف يجيك ولاد على الميعاد، يعني مرتك لم حبلت مْنوب، لَمْ مِمْكِنْ تجيب.

راوغ التارقي كي يُفلت، سدّ فمه، ثم انضبع بنظرات الطبيب، أزاح طرف الشاشيّة عن فمه، عاين عصري السنّ الّذهبي وأدخل الكلّابة نكش أسّه بالميبر، وفكّ القلاووز الغارز في اللّثة، اقتلعه، أمسكه بين أصبعَيه عاينه بعين خبيرة : ” يا لطيف جنّي كافر، عيار أرباوعشرين قيراط، يا ستّار يا حفيظ يا رزّاق يا كريم .

تثاءب التارقي، هز العراقي رأسه بدهشة مصطنعة : ” اعوذ بالله من سوء منقلبْ،ومن شر غاسق إذا وقب، هالجنّي خرج من فم الحجّي وكام ختل بالجنطة، إلزموه .

رفس الطبيبان جبيرة التاسفرا المملوءة بالتّتن، ارتبك الزبون، وتشبث بالحجب والتعاويذ المتدلية من رقبته، نط كأرنبٍ مذعور، شهر سيف التاكوبا لصد الروح الخبيثة، بقفزة واحدة قفز من المدّ الخشبي إلى الباب، أزاح الدرباس وخرج تاركا جرابه ونعاله، واندفع كطلقةِ في اتجاه السوق الصغير . ضحك الطبيبان وتقاسما كيس التّتن، أشعلا سيجارتَين، عاين عصري سنّ الذهب : ” طلّعت لقمتي من تِمْ السبع .

قبّل حاتم ورقة المائتي درهم: ” استفتاحه مباركه .

ثم التفت لشريكه : ” هاي ينرادلها حضرة، عيني أبو ميلاد، لا بد من سكرية .

 

“أنا الخمّار للخمرة عَصِرها”

 

بدا عصري خلف طاولة الشرب مُدجّجاً بالرعونة والطيش والهمشرية الرفاقية ،أمالَ البرنيطة الغجرية، وفرد ذراعَين موشمتَين بالكحل والسقبان، فظهرت على زنده رسمة الغزالة الملتفتة وصورة زوجته “سفرجلة”، صبّ لنديمه كأساً طافحاً،بلع محتواه دفعةً واحدة وبعطشٍ كربلائي . سأله هل يريد كأساً أخرى فقالالعراقي وهو يلف سيجارة من تنباك التارقي : ” مَيِنْراد لها سؤال ! أسكب يا مْعَوَّد، أحسن خمس أشياء بالدنيه ثلاثه، التِّتن والعَرَقْ .

صبّ عصري من البطحة وأضاف ماءً فتحلب المشروب وقال لنديمه : ” تدلل أبودلال، عيش شبابك ، فَرْفِشْ ، ساعة البسط لا تفوّتها .

بدا حاتم من جيل عصري الذي بعمر أبيه، وهو يسترجع ذكريات الحرب والخدمة العسكرية والرجل الضرورة والحطامات والخراب وحلبجة، اختلط في وجهه المُنهك إنكسار عراقيّ، بذلّ الطريد، بآثار تطعيم ضد الجدري، نفث الدخان ودمدم : ” يا شباب ! خرا بحظي، عيشة كلاب عايشينها، صرت بشيخوخة الشباب .

زهزه عصري، شدّ شيّال البروتيل: ” محسوبك مبصوط زماني، صار عمري ستّين سنة، لِسَّاني بشباب الشيخوخة .

جرع حاتم كأسه دفعةً واحدة، ثم مدّها فارغةً : ” لخاطر الله، خلِّ دنشرب على حب النبي العدنان، أيوباه إشكد صارلي ما شربت، من مْبَارح .

امتعض عصري :” يواش يواش، هذا حليب سباع مو ماي، العرَقْ دَسّاسْ، الشرب إلو أصول .

احمرّ أنف حاتم، وبظّت عيناه ونتأت تفاحة آدمه، برقت عيناه بإشعاع مخيف، رمى القدح بعدوانية، خلع حذائه، أفرغ كل نبرات التحدي بوجه الغجري: ” صبّبالقندره ولَكْ أبو العيوره “.

ارتجت القنينة بيد الغجري تطلع اليه باستغراب :” شه شه شه ، شوبك أبو الغضبهسترت شو الظاهر اليوم إربعا ، جدبتها حمصية ؟

قرب العراقي الحذاء وقال بلهجة أشد حزما : ” صب لو أنيش ربك .

انضبع عصري دلق بالحذاء وزَوَر نديمه كأنه يراه لأول مرة : ” يا أهل الشقاق والنفاق ، بتزودها بكلشي حتى بالمنكر .

لغوص حاتم شاربيه بجوف الحذاء شرب حتى آخر نقطة ، أحّ أحة طويلة ارتخى والتفت لصاحبه : “سامحني بابا تره مو قصدي ، بس انته لو تدري بالوجعالعراقي، الذات العراقية الجريحة، الإنسان العراقي مقهور.

ثمل الغجري ودخل في هلوسة الانتشاء والمشاركة، صبّ في حذائه وحذاء شريكه ،رشفا من الحذائين في صحّة حمص والناصرية ونهرَي الفرات والعاصي والكندرجييه والبويجيه، ضحك عصري حتى بانت أسنانه الذهبية، امتلأت عينا حاتم بأسى عراقي ارتعشت مقدّمة موّال حزين بين شفتَيه  : ” يا يوم يا يوم يا يووم …

ُسمعت دقَات على الباب فنزع عصري البرنيطة الغجرية ولبس الطاقية المخرّمة وتربّع قرب سجادة الصلاة : ” يِهْ زبون تجرّصنا، هات مصحف أوام ، خبّي البطحة، بخِّر، وبسرعه دوّر المسجلة على عبد الباسط .

انتبه حاتم إلى النقرات الثلاث المُتَّفق عليها بين سكّان العيادة ففتح الباب، دخلسرحان المصري، وقف هادئا كالنيل، في وجهه كل أكسسوارات المثقف الريفي،الغليون المعقوف والقوة الشاعرة وأعراض داء التفكير والسّرَحان، تربس حاتم الباب ورائه ابتدره مرحِّباً : ” هلا مليون هلا عدد نخلات العراق، بك يحلو السمر،الجدر يتركب على ثلث مناصب .

حرك سرحان خيشومَيه :” أنا شامم ريحة وحشة .

” إي دانشرب على صحة باقر وِدْ عفنة، زوج عيشة مَنْت آكلة الأكباد .

” الله ! وإيه ده البصطار على الطاولة “؟

” هذا جرن المعمودية استاذي “.

” والحليب الأبيض اللي جواها ! ده دموع العدره “؟

ضحك عصري وهو يداعب أصابع رجلَيه : ” على شوفة عينك إستاز، حضرةقندريّة بيناتنا أنْتيمْ، اشلح من رجلك ومالحنا بشي قندره (للعراقي ) صبّلأخوك سرحانوف كاس .

” لاء وحياتك، بكرة عندي دوام بدري، يعني ما ينفعشي أروح الصفّ سكران .

قال عصري وهو يشقلب حبّات السبحة : “إي لِفَّا بأى، إلك تلتين الخاطر، إذا ربعك سكروا عقلك ما بينفعك، يا ضيعان علمك خايف من كاس ! شحّو المْعَوَّد أبدلال ما فات جامعه طِلِعْ سكرجي من كعب الدست، بالقندره .

تناول العراقي كأساً فارغا وصبّ وناوله : ” هاك كيَّف عيني، عرك بلاش قاضي يشرب،تاليها موتة وكومة عظام، والله وداعتك، فاضية ماكو بيها غير كاس وكيس وكس، آخر إنته إلويش كابضها جد ومضيّع شبابك بكتب وناموس ؟

قال سرحان :” لاء والنبي بلاش فضايح، تمبكتو إنتو عارفينها، بتاعة كلام ”

أصر العراقي وهو يمد الكأس ” إش علينا منهم خلّ يحجون، زين آني ما أفتهم اشلون هاي تمبكتو جابت ثلاثميه وثلاثين ولي ما يصير بيها تْلَت سكرجيه “!

ورفع عصري صوته من الطرف الآخر: ” بدّك تشرب غصباً عنك، وحق قبور الأجداد لو ما شربت مالك نومة بالعيادة (وخفض صوته) سايرني لك إبني، سكرة والسّلام، ذاتن السكر جماعتن حسناته أكتر “.

صعّد العراقي لهجته :” مَيصير لو يجي الله لازم تشرب، لَعَدْ شلون شاعر عدمي وما تسكر، أشو نفع طاعه مع إلحاد “؟

نزع المصري الغليون من فمه ووضعه في جيب القميص، مزمز الكأس الأولى ببطء،وأخذ يفكّر بحجج يلقيها في وجه مدير المدرسة، فهو يعرف بحكم التجربة أن السهرة ستمتد حتى الصّباح، وأنه سيحرق دوام اليوم التالي، أفرغ الكأس الثانية في جوفه كعتاة السكارى، تلاشت رصانة المدرّس عن ملامحه وغمغم : ” لو كان النيل كلّه خمر لما أسكرني، صب يا معلمين، أنا عاوز أخمر ف موعد الصلاة،عاوز أفسق ف ساعة الجهاد، عاوز أكسر كل حد م الحدود .

وصُبَّت له الكأس الثالثة، جرعها بشربة واحدة أطاحت به فعتَّب : ” وقلّي عَ لولد اللي شرب تسعة وتسعين كاس ولما سألوه قال انا لسّه عطشان .

ضحك عصري وقال وهو يملأ له الكأس الرابعة : ” حيوو على هالصوت، بينزّل الطير من السما، داوودي بالطرب مالو متيل، خاصة لمن بيفوت بهالنغم حجاز كار الصبا، وبيطلع من هنيك بقى سيدي على فرح دار .

سرّح سرحان عينيه بين المصحف وصورة الحسين ويد فاطمة والعين الكاشفة و”سورة الفلق” انفجر في زخّة جُمَل جاهزة : ” إفلاس لا مثيل له، منتهى السّلبية ،طاعون أخضر، إله بائس قهّار جبّار منتقم، خازوق ممتد من طنجة إلى جعكرته،مليار، شي عبيد وشي بترودولار وشي خاضع للإستعمار .

ضرب عصري كفاً بكف : “خلص، اشتغل مفعول الفول وحليب السباع، كل إرْبَعاوإنتو بخير …. مِنْحَقه سرحان بيك إنت إستاز تاريخ “؟

” أستاذ، حقيقة ومجاز، أستاذ تاريخ وفي التاريخ أستاذ، أنا، سرحان الكافر الحادي عشر، الروح التي تنكر كل شيء، لألعن أبو شيخ الأزهر، لأبزق في وشه أولاً، وأنتف له دقنه تانياً ”

رأى حاتم أن المصري قد أتى وحده على ثلاث أرباع البطحه فقال له : ” عجبا مُلّا سرحان، ما داخ راسك، الساعة بالتناعش، إنته مو عليك دوام باكر ؟

رمى سرحان حقيبة التدريس على ملصق الزعيم الليبي : ” طز في القدافي، اليوم خمر وغداً أمر، إسهروا يا جدعان، لا نامت أعين الصاحين، إسكر باسم ربّك الأعور ( للقنينة) لعن الله ديناً يفرق بيني وبينك يا ويسكاية (لعصري ) أسكب تاني وبحبحيبو العم، أغثنا يا أبا الصعاليك، صب من طيبات ما رزقناكم وحيّ على المدام، من الأحسن ان تكون أوّل الذاهبين إلى الجحيم من أن تكون آخر الذاهبين إلى الجنة .

صفن حاتم : ” ما دا أصدّق نفسي إشلون صعيدي يصير دينسز في زمن صارت تتحجّب فيه الرقّاصات ” !

جاوبه المصري :” أنا خط الوعي، لم أتهافت على خطب العجالة والإجماع التي فرضوها على الغوغاء بل اجتهدت لأتعرف إلى الخطب التي أغمطوها، الله هو الفكرة الوحيدة التي لا أسامح بني البشر على اختراعها، الدين هو المحطّم الأخطرلإرادة الحياة وقد ظهر عندما التقى أول نصّاب بأول أحمق .

تضايق عصري من التجذيف فنَكّت ليغيّر الموضوع : ” هلّق فهمت ليش الصعيدي الزغير أذكي من الكبير … لأنو ماصار لو كتير صعيدي “.

عقّب العراقي : ” اكو واحد صعيدي كلّش غشيم سياسة، راح يشتغل بالسعوديه،في المطار جاتله صحفية قالتله هلو هريدي، شدقول في فهد، قاللها خوش حيوان سريع، انمسك راح بيها خمس سنوات سجن، راح إلسوريا كالوله “هلو شدقول في الأسد ؟ قال غير حيوان متوحش، هَمْ أكل بيها خمس سنين، قام رجع مصر كالوله شنو رأيك فى مبارك ؟ قال أنا حرّمت أجيب سيرة أي حيوان “.

شخط سرحان بصوته الأنفيّ :” قديمة وبايخه، ويكون في علمك إنو الصعايده طلع منهم أنبغ الشعراء، طه حسين والعقّاد وأمل دنقل والأبنودي والبارودي والطهطاوي .

” لكان ليش إنت وحدك طالع حماررر ؟ قاطعه عصري

هز حاتم راسه بإتقان مسرحي : ” يا ليت شعري، أستاذي، تسمعنا فد قصيدة من المشعلقات السبع .

وضع سرحان الغليون في طرف فمه الأيمن وأمسك جرنه بيسراه أسند، علت وجهه معاناة الشعراء الذين لم يتحققوا بعد، تناول كرّاس الاشعار، فتحه عشوائيا فوقع على قصيدة “الانتحار”، نقل الغليون إلى طرف فمه الأيسر وأمسك جرنه بيمناه،رتّل :

” كلما انتحرنا بوهم الباب، كي نصدق أنه موصدٌ كجدار، نعود فنتذكر بأن ثمة أشياء جميلة تُغري بالمغامرة كان علينا ان ننجزها قبل ذلك، فينتابنا بعض الندم ونحاول ان نتراجع متداركين أمراً يكاد يكون تداركه مستحيلا، وحالما نعود عن انتحارنا نكتشف ان أحداً غيرنا قد بادر في تولي ذلك عنّا، عندها لا يعود لوجودنا مثل انتحارنا معنى ”

وضع عصري يدَيه على فمه وعفط له : ” هشع ، يقطش اللي معك ويخلّي اللي معنا، والله الشعير والشعيرية أحب لبطني من شعرك، تلحس طيزي “.

هب حاتم يهنئ الشاعر : ” أحسنتْ، لا فضّ فوك، عاشت إيدك، خوش شعر من بحر قفشتا، آني أهنيك، إن أهم ما تتميّز به قصيدتك هو إنك تقرأها من اليمين أو من اليسار نفس الشي، تقرأها من الأعلى أو من الأسفل نفس الشي، ما تقرأها على الإطلاق هَمْ نفس الشي، وآني أهنّيك “.

عوجَ عصري البرنيطة وعوج فم بابتسامة ساخرة : ” مِنحَقَه إستاز، إنّو الإنسان المُسَكَّفْ يُمارِسْ الغرامَ بِرَأسِه ؟”

” بيقولوا كده “.

” وأنا كده شايف، تضرب بهالبوز متل عقال الدّروز، حاق من وجهي وْلا، طانْطْ،محسوب عالرجال بالغلط، من عَمْنّوَّلْ صارلك بالمدرسة ما ظبطتلَّك شي معلمة حلوة ؟ أي عليم بالله لو أنا محلّك لأعمل عمايل ما عملها عنتر “.

رمشت عينا المصري بطريقة تفضح غشوميّتِه في أمور النساء ( كلّ النواقص التي يحاول إخفاءها تطفو أثناء السكر رغماً عنه )طأطأ راسه كتلميذ لم يحفظ درسهودمدم :” كلهن محجّبات وهّابيات”

انبرى له حاتم: ” أشبيهن الوهّابيات ما يشتهين العير، ولاّ الماينوش العنقود يقول حامض “!

شقلب عصري بسرعة حبّات السبحة، منتفضاً في وصلة ردح طويلة : ” شهاداتك بتشهد عليك، الله يعدّمني ايّاك، أنا بعمرك كنت جد، بقى شو ناقصك يمخ ؟ اشمعنى صار عمرك تلاتاوتلاتين سنه ولِسّاكْ عازب، لا تزوجت ولا خلّفت !

مطّ حاتم كلماته في وجه الغجري : ” كلمن ودوره بالحياة، مو لازم يخلّف ولاد،يكفي أنه شاعر جاب قصيده، والّلي ألَّفْ ما مات (للمصري ) لا تزعل أستاذي، تره هذا كاولي جاهل بحياته ما خشّ مدرسة، وعنده إحساس نقص تجاه أصحابالشهادات.”

سألهما الغجريُّ ” دخلك ، إنت وهو شو معكو شهادات ؟

فأجاب المصريَّ ” ماجستير آداب، باكالوريا زائد اربع سنوات ”

وعقّبَ حاتم : ” آنه أوقفت دراستي عند الثانوية ، يعني بكالوريا ناقص اثنين ”

شد عصري على خصيتَيه : ” خمسة بعيونكو، أنا معي بكاروليا زائد سبعة وعشرين، زيد عليه بيضتين وأربع شهايد، شهادة تطعيم ضدّ الجدري، شهادة فقر حال، شهادة محكوم عليه، وشهادة لا إله إلاّ الله “.

عاد ينظر إلى سرحان بريبة :” المسألة فيها إنَّ، لتكون عندك ميول يا بُشْتْ ّ! تره القرقور الزّغير اللي جابته نعجة سيدي الوافي فيه مخايلك “.

بلع حاتم رشفة بيرة وقال للمصري : ” هات هات، إحجيلنا عن مغامراتك بالصعيد،اشلون جنت تضرب جُلُقْ، ما تستحي عيني، ولست وحدك . “الجلق”، “الإستمناء”، “العادة السرية”، ” العادة اليومية” أسماء مختلفة لرياضة قومية واحدة، تره هاي هي قضيتنا المركزية، مو فلسطين “.

تناول عصري حقيبة السمسونايت، عبث بأرقامها فانفتحت، أخرج مجلّة بورنو،قلّب صفحاتها على لقطات مهيّجة : امرأتان تتساحقان، رجلان وامرأة، امرأتان ورجل، نساء ورجال في نكاح جماعي … توقّف عند صبية وحيدة تداعب فرجها ،شنّق شرابية السبحة : ” أحلى كدلوغ سكس، تبارك الله أحسن الخالقين، لحم هبر أمريكاني مال تكساس “.

مدّ حاتم عنقه وصفّر لحنا بين أسنانه : ” ويلاخ شنو هالمناظر المحترمة، أيُباه ،فد شي منتوف لا شعرة ولا صوف، باوِعْ باوِعْ عيني، عنبر مبارك يتوهج كالنحاس، نضيف مو وهابي متزمت، الله يطعمنه زيارته قولوا :آمين “.

قرّب عصري الصورة من عينَي سرحان : ” شوف بِلْ ريقك، بُخُشْ نظر عَ السريع،إسحب سحبه من كس قحبة، شَعرة منه بتسوى كل شِعرَك .

حدّق الصعيدي بحيادية فلسفية ثم بشهوة، وأرجع رأسه ليتأمله بانورامياً، ابتسم عصري ولمعت أسنانه الذهبية بطريقة توحي أن السباب في قاموسه نوع من المزاحتناول علبة سجائر “روثمان” واضعاً سيجارةً في فمه والثانية في فم المصري، لفّ ذراعه حول عنقه في تضامن أبويّ : ” سامحني أبو شكيب، قلبٍ حبّ ما بغض،منشان مصلحتك، بِدّي ايّاك تكون زكرتي متل عمّك عصرييف، تعيش حياتك وبعدين تتفلسف (نكع العراقي ) قوم أبو الغضب إعتزِر من الإستاز شنَّك جرحت شعوره،هادا شاعر كتير حسّاس وبياخد على خاطرو “.

ومجّ عصري من قنينة العرق مباشرة، فاختلطت في وجهه بهرجة الغجر ودروشة الحماصنة وفنطزية السكارى، طابت له همشرة الصحبة الأبيقورية، سرّع حبات السبحة بين أصابعه (يُستدلّ على مزاجه من وتيرتها : حين تدور منتظمة يكون لا مبالياً، حين تُسرع فهو منفعل، وحين يشنّك الشرابية فإن خاطراً جنسياً قد خطر في باله) تمترس خلف طاولة الشرب كسيّد القعده ومدبّر طقوسها، رفع القنينة ورفع صوته : ” انبسطوا شباب، وحق من جمعنا سوى عهالنعمة، السهرة للصبح،أنا الخمّار للخمرة عَصِرها “.

غمز حاتم المصريَّ ثم خاطب الغجريَّ : ” أحلى عالم أبو ميلاد، هات بابه احجيلنا عن مغامراتك العاطفية ابحمص “.

شَنَّكَ عصري شرابّية السبحة، قال بصوت رنّان منسجم مع سمنته : ” سقالله هديك الأيام، كنت شب شبابليك، صبايا مدرسة القلبين الأقدسين كانو يتوحّمو على شوفتي، بزماني صاحبت شاديه وفايزة أحمد وسميرة دوفيق ووردة، بَعِجْبَكْ حَبّيبْ حياة سَهِّير، في ليلة واحدة كنت أبلع خمس قناني عرق، أفوت على أربع أبكار، وألحِّن تلات أغاني وآكل خروفين (تحسّس خصيَتيه) ألا ليت الشباب يعود يوما لأخبره بما فعل الآر بي جي “.

طبطب حاتم على كرش عصري : ” يا آر بي جي ! قلاوجي، إنت أبو كوليسترول ما تقدر تشوف عيرك من كبر كرشك، خربان كلش ما بيك حيل “.

” فشرَ، سِكتِرْ، النيك كاري وصنعتي، حشاة الدّكر كنت أحرق الأخضرين، أنا أبو ميلاد الجضم قبضاي جومرت، عليم بالله كنت شدّ سيارة الميكب بشَعري من حمص لحماة “.

” عجايب ! كنت وحدك تشيل هالأثقال وعشرين مليون سوري ما يقدرون يشيلون بشّار أبو ستّين كيلو عن كرسي، دالغجي، هات إحكيلنا اشلون كنت تطبل بالأعراس !

احتد الغجري :” ضبّ لسانك أبو حلموس، إخص عليك أدَبْسِزْ مخ ديوس ” (التفتنحو المصري ) بيرجع مرجوعنا أبشكيب، وين حطنا الجمّال؟”

” كنت بتحرق الأخضرين يعمعتريس “.أجابه المصري وهو يقلب صفحات الكاتالوغ

” لكان، محسوبك زَلَمة اشكدار، كنت أفرض خاوه ع َتجّار خان الزهراوي، خُشْ هيك على الشّبَنْدَر حامل ميزان بكفته صابونة وكفن : زكاتك يا بيك، حرمة مقطوعه عطتك عمرها، عيلة مستورة … حاصلو آخد ساحتو يقوم يتبرع بورقة أم خمسمية بكفة الميزان التانية، بقى سيدي عمّك عصري عوض ما يطلع طلوع على جبّانة باب هود، ينزل نزول لوين ؟ عَ الميماس …

أسدل الغجري خصلة شعر فوق جبينه، سرّح وجهه في تطليعة لبعيد وأكمل : “رزق الله عمْنَوَّل، كنت زنكيل إلعب لعب بالبشالك، هالأرض البَعْل من التكية لباب السباع للرستن إلي مِلك طابو، كنت وّقّفْ بالجامع النوري أوِر هالمجيديات على أمة لا إله الا الله، خلي الشعب الحمصي ياكل، لَكَان خيّو عصري زادة قشر البصل،شيخ شباب حارة البيّاضه، ابن ريّس الريّاس، عيلة اكابر .

” يا أكابر ! قشمرجي، أنتم معدان كاولية زط مكدين سرسرية، مهراجا هندي راد يتخلص من شركم ودزّكم للأهوار مع طبولكم .

” كول خرأ وْلا كاجو عراقي متعجرف.” صرخ عصري ثم التفت إلى سرحان ماداً ساقه، مشيراً إلى ندبة بسيطة عند الركبة :” شايف هالجرح إستاز “؟

” يا بوووي ! ده جرح خطير، ربنا ستر!، قول يا أبيض الوجه قول . قال سرحان دون أن يرفع عينَيه عن صور السكس

” الله يبيّض وجهك ابن أخي، هاد يا سيدي بحرب تشرين لمّوني باللّمة الجبرية،تسلحت بالتفك وصفّ الفشك وفردين بَرَبِلّلو قلّاب، تقول جبخانة بحالي، وصلت خط النار، ما شوف إلا طابور عسكر ألف نفر، افتكرتن ولاد عرب أتاري دشمن،وعينك تشوف عمك عصري ماسك الجبهة وَحْدُو، الله أكبر، طاب الموت يا غجر طاخ طاخ طاخ بووم، احراج علّلي بيكذب عملت مدبحه، قتلت اللي قتلت وأسرت اللي أسرت، بالعشرات بالميّات، وانقطعت بالجولان مع هاليسارى، لك صفينا بلا أكل،اخترت يسير بالقرعة شويته وطعميتون، تاني يوم شرحو، يشهد الله أسبوع كامل على إشوي وكول حتى وصلنا القشلة سالمين، يومها الموشيرية عطت أمر بترفيعي من أونباشي بشريطتين ليوظباشي بنجمتين، علقتلي نيشان همايون ورفعتلي المعاش ليرتين دهب “.

قهقه العراقي :” بابا حنّا نريد نسمع بطولاتك إنتَ مو بطولات جدودك بحرب عصمنلي ومسكوب، هات احكيلنا اشلون كنت تقلع أسنان ذهب من أفواه الجنود المقتولين “؟

” ورصاص اللي يخلع رقبتك، اضْحَك يا فاش كيري، السبع إذا شاب بتضحك عليه الواوية، الكاس ما بينشرب مع مين ما كان ..” .

تغير مزاج عصري وتقلص لأبعاده الانسانية، تلاشت البهرحة والفخفخة الشطط الفنتازي في غوران العينين، وغضونٍ كثيفة على الجبين، في صفنة عميقة بالغربة وانكسارات الشيخوخة وعاهة إبنه حوشب وخيانات زوجته، مد يده إلى جيب الصداري أخرج ثلاث صور مهترئة بالأسود والأبيض، في الأولى حنتور يجره بغل ناتئ الضلوع مهدّل الخصيتَين على خلفية خربوش النَّوَرْ، في الثانية أبناؤهيتوسطهم ابنه المعوّق حوشب الذي يغرق رأسه بين منكبَيه، وطفرت دمعته في انتفاضة شوق، سحب الصورة الثالثة، زوجته سفرجلة، تخيل ردفيها يتمايلان تحت تنورة مزركشة فاقعة الألوان، ثم وهي تشمّر عن ذراعيها وتبقّل خبيزة على ضفاف العاصي، ثم وهي تشمّر عن فخذيها بسوق الفيصل وتختلي مع أحد التّجار في المستودع الجوّاني، اهتز شاربه القوقازي بوخزة زوج مخدوع فيصميم رجولته : ” شو بدي استفكر منّك يا سفرجله، كل لقمة بغصّة، فات وقتي خَتْيَرِتْ “.

ُسمعت من مكبّر صوت الأوردةُ الممهّدة لأذان الفجر آتيهً من صوب مسجد “سيدي يحيى”، فوضع عصري الكأس من يده احتراماً، قام مدردخاً وأفرغ مثانته في الزاوية، ثم لاحظ أن قصرية البول تبدو أكبر من العادة، وانتبه إلى أنه يبوّل في جرّة الشرب، ابتسم وأفرغ مثانته حتى آخر قطرة، ثم تمدد في زاويته على فرشة اسفنج ،

وتمدد المصري في الزاوية الاخرى، بعد أن شحنته الصور المهيجة بِتوَتّرٍ شبقي لم يعرف كيف يتحرر منه، اندس تحت لحافه ودس يده تحت السروال وبدأ يتعامل مع”قضية العرب المركزية” بيده اليمنى وعينه على فخذي مارلين، وتخيل الممثلة الشقراء بين يديه وأسرف في التخيل، ثم تراخى وأسبل رموشه وبدأ يشخر

بقي حاتم صاحياً يستفرد بما تبقى في قناني الخمرة في سكرة سولو.

العينان الزبيبتان بين الرصافة والجسر ونهر النيجر

 

أحس حاتم بعينين تتلصصان عليه من الملصق المعلق بالجدار ، عينان زبيبتَان تشع منهما قوى غامضة، اهتزّ قدح العرق في يده وتحسس حجاب البازبند في زنده، تعوّذ من القرائن والتوابع، تلا شيئاً من سورة الدخّان التي تقرأ في الأزمات والكوارث، أطفأ الفانوس فتحولت العينان إلى جمرتين شريرتين، إنحرف قليلاً لليمين فلاحقتاه، إنحرف للجهة الأخرى وما انفكتا تحملقان به، فرك عينيه ولبث صامتا ريثما ينجلي الصبح … إنها هي الأيقونه، أيقونة الرجل الضّرورة، فرعون العراق، لا ينام، درجة انشغاله بالعراق وبه تمنعه من إغماض عينَيه، الوجه مليء بالصرامة، بين الأنف والذقن شامة، الصفنة المحتقنة تشفّ عن دماء وفيرة، في انقباض العين نوازع خداعه تخلط أمجاداً زائفة بعقد حقيقية، وبما يوحي أن الإسراف في القتل ليس إلا تشفّياً من طفولة شقيّة، لقد حفط تفاصيله كنشيدٍ وطني، كان يتلصّص عليه في شوارع الناصرية، رافعاً يده اليمنى على ضفاف الغرّاف والفرات والساحات العمومية، في الصف كان ينظر إليه من أيقونة معلّقة فوق اللّوح، كان يزور الجبهة بعد كل معركة، يحملق فيه هو من بين المجنّدين، يوسمه بنوط الشجاعة، يطبطب على كتفه ويقول له بنبرة نابليونية: ” عسكريتك لسّه ما خلصت أبو خليل ” ثم يرسم إشارة الثلاثة بثلاث أصابع، يكمل بصلافة اللّهجة التكريتية: “العراق بيه صبطاعش مليون، خلِّ يبقى فيه ثلث ملايين، ميخالف”. أي رجل هذا الرجل ! إمبراطور روماني أعتى من قياصرة المسقوبوشاهنشاه القاجار، أرخى عينَيه الزبيبتَين في أثره حين فرّ من الجبهة إلىكردستان، وأرخى له الحبل من أربيل إلى عمّان حتى نيامي ليشدّه على رقبته في تمبكتو، هل يهوّس له ويؤدي التحية العسكرية ؟ أم يفر منه ؟ أين يفر منه ؟جواسيسه كثر ووشائجه القومية قوية مع التمبكتيين، علاقاته الدبلوماسية متينة مع المورتان والسودان وكل الدول المصنّعة للأسلحة وخصوصاً تلك التي تدافع عن حقوق الإنسان، وهي كذلك وطيدة بالعالم السفلي وخصوصاً مع خدّامه الجنّي وهب، له عينان في قفاه يبصر بهما إلى الوراء ، عينان تخترقان الجدران والسجف، مجالهما البصري يمتد من الرصافة إلى الجسر إلى نهر النيجر، هل يشهر السكين ويفقأهما ؟ لا يضمن النتائج، كثيرون قبله حاولوا وفشلوا، سيخوزقه ومعه كل حمولة عبد الصاحب وعشيرة بني ركاب، هل يدير له ظهره ويتظاهر بأنه لا يراه ؟ ولكنه موجود على الجدار المقابل وفي كلّ الجدران،يراقبه من العين الشّاعة من المثلث من سورة الفلق، ينظر إليه من عيون مرلين، وخاصة من ملصق الوجه الملثم، ومن ثقب الباب، ومن دكان الوافي ومن عيون مُصَلّي الفجر، العين لا تقاوم المخرز، وبالأحرى أن يجتر خوفَه العصابي ويتصالح معه ،فهو على دمويته ليس ضاراً لهذا الحد، ويسيء إليه بنيّة حسنة، مدّد خدمته العسكرية إلى سبع سنوات ذوداً عن الوطن، وزج بالألوف المؤلّفة من الشباب في الجبهة كيْ يتيح لهم فرصة الإستشهاد في سبيل الله، ثم أنه جاء ضمن إرهاصات زمنه لحسم تناقضات العراق، كرده وعربه، شيعته وسنته، معدانه ومثقفيه، قسوته تتناسب مع جلافة العراقيين، وجلودهم تنسجم مع كرباجه، الأيدي المصفّقة له هي أيديهم، الوجوه الموشومة على أذرعهم هي وجوهه، في كل بيت له ضحايا وشركاء وأشباه ومريدون، وهو على ساديّته رحيمٌ إذا قِيسَ بالحجّاج وزياد بن أبيه، وقد يكون صحيحا زعمه بأنه من سلالة حيدر الكرّار وثالثعشر الأئمة المعصومين ! ولا يعقل أن تغلط في حبه كل تلك الجماهير الغفورة في أقاليم العروبةٍ كلها وفي أنطاكية وسائر المشرق، الصحافيون المستكتبون بالقطعه في بيروت ، المتسابقون في ماراتون القاهرة ، رجال الطرق الصوفيه في موريتانيه، كلهم يهللون له،يبايعون ضرورته لولاية خامسة وهو في منتصف الولاية الرابعة، الممثلون كذلك لم يسلموا من لوثته، بوسي ونجلاء فتحي وسولاف وحمدي غيث، يوقّعون له بالدم،وحتّى هذا المصريّ المتشدّق بالحرية الوجودية كان يربد له في المربد، ثم يا لعتمه ذاكرته، كيف نسي، كيف تناسى أنه هو ذاته حاتم عبد الصّاحب، ضحيته طريده وعدوه الطبقي والتاريخي والوجداني، اضطر مرّة أن يذب له جنجلوتيه بعيد ميلاده في مسابقة الخطابة التي نُظّمت على مستوى المدارس الثانوية للمحافظات الجنوبية، صحيح أنه فعلها عن “جَفَيان شَرْ” أكثر منه عن “قناعة” لكنه فعلها وأدبيات البعثية الصّفراء تشهد عليه، في يوم 28 نيسان وقف على المنصّة، تحت الأيقونه، أمام جموع المدرَّسين المحشودة ،قال له وبعالي الصوت :

أيْ يَرَبْنَه مِنْ عُمرْنَه لِعُمْره زِيدْ أُوبارِكْ بِيهْ بارِكْ بِيهْ يَرَبْنَهْ

يَلِّ إمْشارِجْنَه حُزِنَّهْ وفَرَحْنَه يَلِّ إمْشارِجْنَه أجِلْنَهْ وشُرِبْنَه

يَلِّ إمْشارجنه كْعودْنَهَ ونومْنَهْ يل مشارجنه همومْنَهَ وأَهِنَّهَ

والله لو انْتَه يا حيدَرْ الكَرّارْ جَانْ ريح الفُرْسْ كَشَّتْ عَرْبْنَهْ

إنْتَه ما عِشِتْ إبْكَصِر جمهوري إنْتَه أبونَهْ عِشِتْ بْنُصْ بيتْنَهْ …..

وقف حاتم على رؤوس أصابع رجليه، فشخ فشخةً واحدة من زاوية المنامة إلىزاوية ” ركن المطبخ” تناول طاس الرعبة وعبئها ماءا من الجرة وشرب فوجد طعمها مراً كطعم الرّصاص الثقيل، نظر إلى صفحة الماء فرأى العينين الزبيبتّينتحملقان فيه من القاع، انقلب إلى فأر مذعور، داهمه الكابوس عنوة، كمش عصاه المطلسمة وانهال على الجرّة، سال الماء وبلّل الفرشتين، استيقظ صديقاه ، سألهالغجري عما حدث فتمتم :”العياده مسكونه” .

” يووه، معلوم مسكونه ! مو احنا التلاته ساكنينها “!

” قصدي ساكنينها الجان يا معوّد، الجان، أبو ضروروة قاعد يِصَّنَّط هالصوب،يندار من ذاك الصوب

وصفن سرحان في أرجاء العيادة : “هو فين الجنّي الضرورة بتاعك ؟

” ذاك هو بالملصق، هرب من الجرّة، دايباوع بيا .

نظر المصري إلى قناني البيرة الفارغة، ثم إلى العراقي والصورة ” إنت شربت كتير، ضرورة إيه وجني إيه، ده القدّافي بتاع ليبيا جبته معايا من المدرسة الليبية.

شخط المصري وهو يشير إلى الألقاب الكثيرة تحت الصورة : ” ده ولي النّعمة،البتاع الكبير، الثائر الأممي، أمين القومية العربية، الأخ القائد المفكر والمعلم العقيد أبو منيار، قائد ثورة الفاتح والثورة العربية الإسلامية العالمية، واضع الكتاب الأخضر والنظرية الثالثة، مفجّر عصر الجماهير، إمام المسلمين، مؤسس الإتحاد الافريقي، مهندس النهر الصناعي، قائد النصر والتحدي، فارس الصحراء …

غمغم العراقي : ” خوب هلگواد أخ الگحبة عامل حاله الله، ليش ما يكملهم عالتسعة وتسعين .

واستعد في وضعية قتالية، صرصر أسنانه وانهال على الملصق بضربات متلاحقة : ” أخرج يا مُهين العراق، أخرج يا صانع أحزان العراقيين .

ولْوَلَ عصري : “هستر دكتور داهش إجته النوبة، الكريزة، دخيلك إستاز إقره عَ راسه ياسين وقُلْهُوَلْ والجنجلوتية .

” بلاش جنجلوتيه وبتنجان، الواد سكران، إدّيله حتّة عرق يصحصح على طول .

فتح عصري الشبّاك واطمئن برؤية نور الصباح، أقحم شريط عبد الباسط في المسجلة، رش الملح في الزوايا، فوق الخابية المهشمة وشقوق الحيطان وأواني الطبخ وهو يتمتم : ” أشتاتاً أشتاتاً، دستور يا ملايكة الله لا بتأذونا ولا منأذيكم .

اقتلع سرحان بقايا القذافي في الملصق وجعلكه ورماه في القمامة، سدد على حاتم نظرة شكاكة : ” أتحداك، أتحدى أي واحد شايف جن، ده خزعبلات “.

“مو خزعبلات، رد حاتم : ماورائيات، تره الجن يراكم ولا ترونه، يتكون من 77 قبيلة وكل قبيلة تتكون من سبع أرهاط، خوب هاروت وماروت قبيلتي الجن إبّبابل،هذا كلام الله مو لعبة بكيفك، خلق الجان من مارج من نار، خوش لَعَدْ إنت ما تصدق سورة الرحمن بالقرآن !

” فبأي آلاء ربكما تصدقان، أنا لا أصدق ولا أي سورة من القرآن، أنا لا أصدق إلا ما أشوفه بعيني ”

بدا الذهول على عصري المُصَدّق بالأرواح والجن، تناول من النملية بطحة العرقالفارغ نصفها، هزهز رأسه: ” عم قول وين عم يختفوا العرَقات ! آمنت بالله العياده مسكونة، صارت وكر لإياهم، دستور من خاطرن .

ومد حاتم قدحه فارغا نحو الغجري : ” هاليوم معنوياتي موزينه، وداعتكصبّللي كاكا عصري، آكو شوية عرق” ؟

” طويلة على رقبتك، ماكو “.

” ليش ماكو لك أبو مزيقه طبّال زمّار “؟

” شِنّك ما بتعرف أصول الكاس، كل ما تسكر بتسبب لنا مشكل مع الجماعه إياهمدستور من خاطرون ”

” أنا اللي دفعت حق المشروب ولك كاولي، أساساً إنت ذاتك داتشرب ع حسابي .

” روح تضبضب أبو حلموس، ما بيكفي آويتك بالعيادة بلاش ! ”

” اشلون آويتني بلاش ولك نمرود أبو العيوره، آنه أدفع تُلْتْ الكراء، سرحان يدفع الثلث، إنت تدفع الثلث، خرة بربك، العيادة قشمر مال أبوك “!

ابتسم عصري :” دخلك بدّي إسألك قديش تلت التلاتة، وإذا ديك سيدي الوافي باض عِنّا بالعيادة لمين بتكون البيضة ؟(عبس وعوج البرنيطة السوداء) أنا ريّس العيادة غصباً عن راسك، مو عاجبك روح شوف لك وكر تاني، بلا مطرود .

” صب عرك لك أبوسوريا لو أبلّغ عنكم سيدي الوافي ، جيب البوطل جيبه، كس إمها بنتي دلال لو تريد تورثني .

” فنّيص، لا عندك بنت تورثك ولا عندك شي ينورث، نوري اندبوري، مافي عرق يعني ما في عرق .

” الشغلة بيها كسران رقبة يعني بيها كسران رقبة، صب ولك دليمي مصلاوي وصخ . قال العراقي وانتصب مهدّدا بالعصا المطلسمة، ارتاع عصري فدلق على مضض :” تبلعس سم الهاري، عراقي مخشخش عَ السكين .

أفرغ حاتم محتوى القدح في جوفه، ثم خطف القنينة من يد الغجري : ” آني عراقي وأقلع عين اللي ما يعجبه، العراق يسيل بعروقي، آني حاتم أبودلال، آني دولة بنفسي، وحق الله والمصطفى المختار لأسقط سبع حكومات .

تفحّص جيوبه باحثا عن سيجارة جاهزة ثم خفض صوته بنبرة حسرة : ” بس شيفيد لو نام البخت، جنص ماكو، تتن مابقالي

استدار نحو الغجري خاطبه باستكانة : ” برخصتك كاكا عصري آكو فد شكاره روثنام، نشربها وْيَه الكاس غير “.

قال الغجري وهو يخبّئ العلبة في جيب الصديري: “ماكو، خسارة فيك الروسمان، تَوتِن من زبل أبو طارق”.

مدّ حاتم يده خلسةً واختلس من دخان المصري سيجارتين وضع إحداهما خلف أذنه والثانية في فمه، نظر للمسروق بازدراء: ” شعّار مال نهود وقدود وجوارب مهترئة، إذا إنت مصري من ستلاف عام فأنا عراقي من ثناعشر ألف عام،

مج من السيجارة وجرع جرعة ثم هب في صاحبيه معاً: “خوش نكتة، صعيدي وحمصي، وِلكم ما تستحون عَ دمكم، تكتبون عني تقارير للسفاره !

حدجه عصري بنظرة مائلة : ” ليش مين حضرتك ! شقفة بصّار أونطجي طالعة ريحتك ما بتسوى فرنكين ”

علّق سرحان وهو يعض على الغليون : ” الواد أكيد عنده شزوفرينيا، مصاب بعقدة جنون عظمة او بعقدة اضطهاد او بالعقدتين معا .

” انضب لك أبومصر، حزبي عفلقي بغيض بعثي جبان، عربان كلكم عك عك،عربجة وصخين، أنعل موتاه داير حبل شبلي عيسمي وساطع أبوحصيري، هدوله ليش ما يجربون الوحدة مالتهم على فئران المختبرات قبل ما يجربوها على العراقيين، حسافة على ثورة العشرين، يا ثورة أعقبتها ندامة الثوار، كان أحسن إلنا تحكمنا مسز بيل ولا تحكمونا إنتو، سرسريه لصوص موجهنين، تحبون العراق وتكرهون العراقيين، دانعل أبوكم على أبو ضروره مالكم، خل يعجلون شوية هذوله المارينز، يخلصونا من شره .

ظل المصري هادئاً وهو يناكفه : ” على حد علمي الطاغية منزلش من السما، لكنما نبت من الارض بين الجهلة والمتزلفين، يحكم بأسم الله الضرورة، من مخلفات القبائل الضرورة !

” انطم أبو مربد، شاعر فاشل تغرف من كل المعالف، يوم تمدح يوم تسب حسب الدفع بالجنيه لو بالدولار، بمصر إنت من شعراء الرفض إببغداد تصير من شعراء البلاط، ولي نعمتكم هو، كان يبقششكم كل شاعر بمية دولار ،إتفو عليك وعللي اخترع الشعر .

تأفف عصري : ” حاجي عاد خيّو، أستر علينا الناس نايمة، صوتك أعلى من طبل النَّوّر، بهدلتنا، يعني بتريد الوافي يزعبنا من العياده ؟

” أي بلي أريدها من الله، آني هسّع بنفسي رح أبلِّغ عنكم سيدي الوافي، تريدتسوي خباثة ع َالناصرية ! إحنا أسياد القصب، الحضارة اللي اخترعت أول ملحمة فلسفيه، آني سومري بابلي آشوري ساساني كردي فيلي ، آنه بلقاري أرميني كرجي عجمي ، كلمن تريد، بس آنه مو عربي، يا عرب !يا طنبورة !

عض سرحان الغليون ليكتم غيظه، تمدد السوري على جنبه متكئاً على راحة يدهشقلب حبات السبحة، رأى حاتم أن صاحبيه قد سكتا فرفع عينه إلى صورة الحسين، رتّل بصوت رخيم يشبه نحيباً مكتوما : ” نعل الله من قتلك وظلمك وحال بينك وبين ماء الفرات، ألا نعلة الله على حمص والصعيد وآل سعود وشبيلاتوالفلسطينيين والجزائريين والتوانسة وأهل العوجة والأنبار والتكارته والمصالوة،تسقط الوحدة العربية، لا للحرية لا للإشتراكية، أمة عربية فاجرة، ذات رسالة عاهرة ”

ثنى إبهامه ومد اصابعه في وجه الغجري : ” أنتم الكاوليه إشجابكم تسكنون مع هاي المعدان الحقيرة، ما كان أحسن تبقون هناك بالهند والسند” ؟

قال عصري : ” خيّو إحنا الغجر كمالة عدد، ما منتدخل بسياسة، عتبك علّي بيعرف لون العلم السوري، الحيز الأحمر فوق أو تحت ”

رمق العراقيُ شريكَه وفكر بالقدر الغريب الذي جمعه به في النيجر وساقهما إلىتمبكتو ونسيهما فيها منذ عامَين وزجره : ” لو الله ما مْشَوّفني ايّاك يا أبو سنان،كان آني هسّه واصل كفرهاغن، مْكّيّف ويّا العلجيات الشُّقر

ضرب رأسه تشوشٌ مباغت فقذف كأسه صارخاً : ” بعد ما أسكر وياكم، لو يجيالله، ماريد هاي آخر نوبة، زهقت من صخامكم ومن عرق ابو الكلبجة، أريد أشرب ويسكي مع ناس محترمه بفندق الكولمب .

تحسس ذقنه النابتة، وما بقي في جيبه من مال، خاطب الغجري بنبرة مسالمة :” آنا غريق إحسانك، كاكا عصري، آكو يلتقى بجيبك ألف درهم سلف.” ؟

أجابه الغجري بهزةٍ سلبية من رأسه فشال حاتم خاتمَ التارقي وعرض عليه شرائه فعاجله الغجري : ـ خليه بصوابيعك ، أصلا أنا ما بشتري مال حرام .

التفت العراقي نحو المصري : ” أقول … عيني أستاذي تقدر تسلف أخوك حاتم قرشين، والعبّاس أبو راس الحار رح أسدّك ياها حين ميسرة .

تردّد سرحان بحكم تجربته معه ومعرفته بوعوده الكاذبة، لكنه فكر أنها مناسبة سانحة للتخلص منه فأخرج من محفظته ورقة نقديه ودسّها في جيبه .

سائح مزيّف في فندق حقيقي

 

شعر بالرهبة وهو يرى الفندق من الداخل، قطعةً من أوروبا بقلب الصحراء، انتحى مكاناً قصيّاً عند المشرب وانبهر بالسائحات السافرات والأضواء المنخلية الساطعة من السقف والموسيقى الأجنبية، مزمز البيرة على مهل وبدأ يتغلّب على عراقيته وخجله، أخرج كيس التّتن لفّ سيجارة ودسّها في فمه، تحلّب ريقه كحلق العندليب وهو يرى قناني ويسكي ونبيذ ومارتيني وروم وكونياك وفودكا وجين تونيك، رفع عينَيه فوق البار فوقع على صورة زنجي منتفخ الشدقَين ينفخ في سكسفون، أحسّ بوخزة في قلبه ( يمقت الصور حيث تختبئ العينان الزبيبتان ) هبط بصره، تأمل وجهه في المرآة العاكسة رأى ألا بأس بشكله (كان أمضى وقتاًطويلاً في العيادة يتأنق، تحمم بليفة قرع، حلق ذقنه مرتَين ونتف الشعيرات الزائدة في أنفه وأذنَيه وحفّ شاربيه، ثم صفف شعره بالسُشوار، وبخّ كثيراً من العطور المزوّرة ) تحسّس تسريحة شعره، مَيّل خدود وجهه الراسبوتيني بزهوًّوخيلاء وقال لنفسه …خوش شخصية أبو دلال، كل ما لا يُؤنَّث لا يُعَوَّل عليه …انتبه إلى وجود سائحتين ترميان عليه نظراتاً كثيفة، شقراء شكلها بوهيمي،أخرى فارعة متلفعة بساري بلون الزعفران، ظن أنهما تسخران من هندامه النشاز،ارتد طرف عينه لاشعورياً إلى قميصه اللاكوست المزوّر، رأى أن التمساح الأخضر يبدو أكبر من العادة ويفتح شدقَيه بشكل مبالغ فيه، شدّ أطراف سترته إلىصدره حتى أخفاه، رشف البيرة بعصبية، استدار مع الكرسي الدوّار وأعطاهما ظهره، ثم لمحهما في المرآة تنظران له بحنان مضبوط كما ينظر صيّادان إلىطريدة، بنظرات اشتهاء لا سخرية، استدار نصف دورة وبادلهما النظرات، ركزبصره على الشقراء وهي تمرر إصبع أحمر الشفاه على شفتَيها، رأى لها ردفين كردفَي فرس مدلّلة، وعليها رداء كوكو شانيل قصير لا يستر اللحم وإنما يضفي عليه غموضا وعبقرية، من نضارتها حسب أنها أربعينيه، ومن عروق يدها أنهاخمسينية، لكنه بقرار حاسم قرر أنها تُشتَهى، شد على أسنانه وعلك ليبدّد اهتياجه، ابتسم ليُخفي خجله فابتسمت الشقراء أيضاً، عرَّض بسمته فضحكت،ضحك فقهقهت، قال في سرّه … خوش بداية مشجعه … نقر بخواتمه على زنك المشرب قال للنادل من دون أن ينظر اليه :”ويسكي بليز ”

تساءل لماذا اختارته، وهو العراقي الأصلع من دون السياح ؟ ثم أقنع نفسه أنالأوروبيات يخترن فحولهنّ من بين ذوي العاهات العور والكتعان والمعطوبين، هكذا من أجل ان تأخذ الشهوة أبعاداً غير حسية (حاتم خبير في الحريم، له تجارب عاطفية مع أرامل الشهداء ومع الكاوليات في كرخانة “الفوّار” حيث كان يَتَوَنّسْفي كل إجازة عسكرية ) تحرك شيء بين فخذَيه، فتيلة اللحم التي كانت في العراق رخوة وزائدة، مجّ نَفَساً عميقا وسرح مع دوائر الدخان وهو يفكر بتكتيك الهجوم…. هل يبدأ بطرق باب الأحزان فيلعب دور بطل مهزوم ومأزوم ؟ أم يلج قلبَيهما بحديث عن المنفى والذات العراقية الجريحة، ويبهرج أيام محنته الشديدة بقليل من الدموع والأكاذيب ؟ أم يعترف أنه روحاني من أنصار الطب البديل يفتح للبائرات، ويعالج العنوسة والعقر ومكر الحماة ؟ أم يقول أيّ شيء يسير على لسانه : سلامات الله بلخير يمه، هاوْ آر يُو، شلونچ ، خوش طقس تمبكتو، الحرارة ربيعية بفصل الشتاء، الدشرة هذه أسطورة، أسطورة أنجبت 330 ولياً، كلهم عرب ماكو بينهم زنجي واحد، أرجوا ألا تكونّن عنصريات مع العرب كما هم العرب مع الزنوج، مرحباَ بكن على أي حال، أيلزم بوي فرند يا مدام، آني رهن الإشارة…

انما لا ينبغي أن ينفرهن فوراً، والأفضل أن يترك مسافة كافية معهن فيقول … إني هَلْبْ يا مِسِزْ، أيَم أنْدَر يور ريكويست، برسم الخدمة، أيلزم آمنير لجولة سياحيةفي مسجد “سنكوري” و”جنجربير” ومكتبة “أحمد بابه”، فلو خرجتن وحدكن فسوف يجرّصكن صبيان الزنوج تيبابو تيبابو ..

رأى أنه بالغ في المراوغة وأطال مطال التخمين، عنّت له فكرة أقلّ كلفة من المواجهة المباشرة : طلب من النادل أن يقدّم لهما مشروباً على حسابه . وامتثل الأخير وقام بالمهمة فابتسمتا وهزتا رأسّيهما شاكرتين، فرك يديه تنحنح في قعدته، تجدّبليفرّغ فائض الطّاقة اللاسعة، مرر أصابع يده بما تبقى من شعره تهيئ للمواجهة،ربط أزرار سترته السفلى ليُخفى قضيبه المنتفخ، زرّر العليا ليخفي تمساح اللاكوست، حمل الكأس ومشى إلى الطرف الآخر من المشرب، دعم معنوياته بجرعة ويسكي وتقدّم بجرأة فلسفية تقارب الإستفزاز، خطى أحرج خطوات في حياته،وفي اختبار الحرّية الأول ( لم يسبق له أن اّتخذ قراراً بمحض إرادته، في الجبهة كان يسير خلف الضابط مأموراً، في الناصرية كان يمشي مع القطيع بغريزة القطيع، في كردستان كان يمشي مع الكرد في اتجاه الريح، في العيادة تمشّيه أوامر عصري بحسب ردود الأفعال ) رأى نفسه واقفاً أمامهما بحياء أخرق، خرج صوته كنقيق ضفدعه : ” هالو، مي حا حاخا، دكتر هاتم ”

استقبلته الشقراء بابتسامة هوليودية، أفسحت له مكانا، عرفت بنفسها ” مادلين”. وأشارت إلى صديقتها “فيوليت ” .

رفعت الطويلة نظارة سوداء إلى صدغها، صفنت في وجهه : “خا ها هاتيم خاتيمآتيم مهامتيم … قل لي بالله كيف يلفظ اسمك ؟

” دكتر هاتم، هاء مثل كاميرون دياز، ألف مثل جينيفار لوبيظ، تاء متل تينا لولوبريجيدا، ماء متل …

” مثل موميا لورين، أوكي أوكي سافا … وير آر يو فروم ؟

” دكتر هاتم … هاتم إيراكيان … فروم إيراك “.

” قريتك إيراك أين تقع من تنبكتو ؟ ”

” لاع، إيراك…. ميزابوتاميا، أشور بنينعال، بابل، جلجامش ونبوخذ نصر . قال ثمبلع كلّ ما في الكأس، شعر أنه ارتكب غلطة، ما دام أنه يكذب فلماذا لم يُكبِّر الكذبة ويدّعي أنه إيطالي وأن اسمه جوفاني أو عنطونيو، جرع جرعة ويسكي معتبرة ذوّبت جليده النفسي، تشجع وسألهما ماذا تفعلان بتنبكتو؟ أسندت الطويلة حنكها إلى راحة يدها، أنزلت النظّارات إلى عينيها وقالت أنهما مختصتان في ال”بيجو إتْنيكْ” وجاءتا للتعرّف إلى زينة الطارقيات، سألته عن اختصاصه فيالطب فأجاب وهو يفرد أصابعه المزورقة بالخواتم السبعة : “سبريتشوال ميديوم،سوثساير، أسترلوغ، أسرار طبيعت ونفس عارف أست، أعالج بسر الرقم سبعة “.

ضحكتا وسايرهما في الضحك، وقرر أن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم، طلب من الطويلة أن تُضمر رقماً في خاطرها فضمرت، وطلب منها أن تضرب العدد المضمر باثنَين فضربت، طلب منها أن تزيد ستّة على حاصل الضرب فزادت، طلب منها أن تقسم حاصل الجمع على إثنَين فقسمت، ثم طلب منها أن تطرح من ناتج القسمة الرقم المضمرَ فطرحت، ثم طلب منها أن تزيد أربعة إلى بقيّة الطرح ففعلت، سألها عن النتيجة فانفرجت أساريرها : ” سَفِِن سَفِن مادجيك نمبر passez muscade، سِتْاكزاكتمان، يا للمصادفه العجيبة أنا نفسي ولدت يوم السابع من شهر يوليو، لعام سبعة وسبعين في مدينة Séte .

زاودت الشقراء : ” أولالا … وأنا ايضاً ولدت في مدينة Troyes لو تروا مارس ترانت تروا .

قال بصوت الكهان العميق : ” ومن عجائب هذا الرقم أن الأودية سبعة، والكواكب سبعة والبحور سبعه، …

نادت الطويلة على النادل وطلبت قنينة “جوني ووكر” مقترحةً الإنتقال إلى البهو الداخلي للفندق، حملتا أغراضهما ومشت مادلين أمامه متعمّدةً أن تحرّك مؤخّرتها في حركة خليعة مموسقة، راقبها بعيونٍ جائعة وقال لنفسه “خوش قفّة” جلسوا عند منضدة بامبو تتحلقها كراسي خيزران، رفعت الشقراء كأسها : ” نخبك دكتر خايتن، خا ها كا مهاتما مهاتيم هاتيم خاتيم هايدن …. ما رأيك أن نسمّيك طومي”؟

هز رأسه موافقاً (في أربيل كان حاتم، في العيادة صار أبو دلال، أسماء مستعارة تقوم حجاباً بينه وبين عيني “الرجل الضرورة” الزبيبَتين) أفرغ قدحه في بطنة دفعة واحدة وسألهما كيف صارتا صديقتين ؟ قالت مادلين :” بالصدفة، التقينافي “بايروت”، فنحن الاثنتان من عشّاق المعلم ريشار، ريشار فاغنر .

قالت الطويلة :” نحن نتفق موسيقياً، لكننا نختلف فلسفياً، فأنا نيتشوية ومادلين روسويّة

ثم سألته بالفرنسية : ” On donne du Wagner à Bagdad ?

مسح فمه بكمّه أجاب وقد خدرته الخمرة : ” شنو رشاد ! شنو فاخنر ! نفاخ نار !خره بربّ بغداد، بصحتكن يا معوّدات دوستكام “.

عدّلت مادلين موقع كرسيها، قرعت كأسها بكأسه اقتربت منه، حرّكت خياشيمها وأحست نفحات جسده نفّاذة رغم العطور المزوّرة، تأملته بولهٍ حقيقيّ مستشِفّةًفي وجهه أسرار الشرق ونزواته، انقلب في عينها إلى رجل بداءة متوحش، جسّت عضلاته وقالت بصوت به بحّة النساء الشبقات : ” لوبون سوفاج، فونتين دو جوفانس،جيغولو

وناولته يداً طرية طالبةً منه قراءة طالعها . نظر إلى خطوط راحتها، شعّت عيناه بوهرة الكهّان، وراقب اختلاجات الوجه والخدّين في محاولة لاستشفاف إمكاناتها العاطفية، حملق فيها حملقة ذئب شرس في نعجة ضائعة، تحاشى النظر إلىفخذَيها (كي لا تتوتر اعصابه أكثر ) رأى أن رقبتها رخامية، بشرتها تتجاوب مع حمرة شفتَيها ومع الشبق الظاهر في عينَيها، لمح اللسان القرمزي يتسلّل بين شفتين صاديتين … وتخيَّله انطلاقاً من الفم الشهواني والشفتَين مجرّدا من اللانجري ومن غشاء البكارة (الفرنسي يستثقل هذا الشيء ويتخفّف منه مع أول عابر سبيل ) تعمّد أن يقول بالفارسية : ” زن خوش طبعى وطينت وطالع، عاشق معشوق هست، عاقبت بخير بودن .

أرخت الطويلة أهداب الشال الكشميري، سحبته من حضن صاحبتها، ناولته يدها وطلبت منه أن يبصّر لها، أخافته شخصيتها القوية، قال لها : ” فووليط إنتِخوش مرا، لكن فيك سرّ يقهر الرجال، قلبك مثل الباستيل “.

” نو طومي، قلبي بالأحرى مثل خط ماجينو تراه منيعاً من بعيد ولكن بمجرد الاقتراب منه يسقط بلا مقاومة “.

أحسّ بقلبه يسقط، اشتدّت نزوته عليها، عليهما، تخيّل المشهد الفظيع : رجل بداءة سومري مع سيّدتين متحضّرتَين، فأدار يدها على ظاهرها وقبّلها بطقوسية،وشعر بتراخيها وثقل ذراعها، ارتسمت في عينَيها رغائب صامتة، ارتفع صدرهاوهبط، انضبعت بنظراته الجائعة وعيَنيه المكحلتَين انقادت له انقياد النهر للبحر، رجحت رغبتها على حيائها، فرمت ذراعيها فوق كتفه ضمته بقوة وهي ترى السعادة شاعّة من عينيه :

Quel regard engageant, vient la chair est faible le désir est ardent : tant pis pour mon mari :

انزوى في حضنها متل كنغر صغير، تلوي بين أضلاعها صامتا خاشعا كطفل ضاع دهرا وآب لاحضان أمه، لزّت به الشقراء من الخلف وحشرتاه بين صدرين وأربع نهود، أحس بقطيعة مع ماضيه وأن ذاك الحاتم الذي سبقه بتسعة وعشرين عاما ليس إلا قريناً مأساويا وأخذته غبطة إشراقية أعنف من كل الملذات، أربكه الحنان المفاجئ والصيدُ السهل والإنسانية والنظرات المعبرة والضمة الحانية، وانسلّت يده إلى حمالة صدر الشقراء وما تحمله ثم تحسست قفتها، هابطةً نحو السّرةقبل ان تسحل إلى الثمرة المحرّمه، سحب يده مصّ أصابعه، خرج من بين أيديهما بشعر منفوش وعينَين زائغَتين، لم يتسع قلبه لكلّ هذا الحنان بعد عيشة ضنك أمضاها في الخوف والتخفي والحرمان … لكن لماذا تأتي الأفراح متأخّرة دائما وبعد أن تتكلّس الروح ؟، لماذا لم تأتيا قبل عشرين عاماً لتخلصاه من ذاك الكوكب الآسن ؟ لماذا لا تدعانه يطلب لجوءاً عاطفيا إلى صدريهما فينسى العراق و”الرجل الضرورة “والأيقونة .؟…

شدّ عضلات وجهه ليكتم رغبةً بالنشيج، تسلل الانفعال إلى أهداب العينَينفارتخت، هطلت الدموع حقيقية حارقة،

ضمته مادلين إلى صدرها قالت بحنان حقيقي: ” وفّر دموعك لمناسبات أجمل،لايف إز شورت، إمرح، إغتبط، بي هابي .

داعبت الطويلة عقدا برقبتها من حجر السبتنيس قالت بنبرة نرجسية مستهلكة: “أفهمُ حزنك، العدوان وشيك على بلدك، ليس التعذيب ما يخيفني ولا سقوط الجسد النهائي إنما هي اللامبالاة العمياء لعالم فاقد الإحساس ” .

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات