رواية (مولانا ) للكاتب محمد العون

06:20 مساءً الثلاثاء 21 يناير 2014
محمد العون

محمد العون

كاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الروائي محمد العون مع غلاف روايته (مولانا ) الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية فى الرواية لعام 2013

الفصل الأول من رواية (مولانا ) الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية فى الرواية لعام 2013  

 كانوا يعرفون أنه يبكى ، ظلوا فى أماكنهم يرقبونه من بعيد وهو يقف وحيداً عند شاطىء البحر، بينما تسود حولهم حالة من الارتباك والحركة السريعة لإعداد المكان ، كل رجل يعرف مهمته ويؤديها وفق نظام صارم وبخفوت دون أن تصدر كلمة واحدة ، مجرد همسات مصحوبة بإشارات الأيدى التى لا تخلو من عصبية تعبر عما يجيش فى صدور أصحابها من قلق لمجيئه المفاجئ ، فهم يعلمون جميعاً أنه لا يجوز مجرد الهفوة مهما كانت تافهة فيما يتعلق بطعامه وشرابه وإعداد مائدته  ، مع علمهم أنه قد لا يمس الطعام ويكتفى بنظرة عابرة إلى المائدة من بعيد وهو يمر ، وقد يجلس ليأكل بشهية تكفى ثلاثة أو أربعة رجال ، لا يمكن التنبوء بما سيفعله ، يعرفون أن طبيعته متقلبة ، لكنه سواءً جلس إلى المائدة أم لا فيجب أن يؤدوا عملهم على أكمل وجه ثم يظلون جميعاً فى انتظار ما سيقرره ، فهو من هذا النوع من الرجال الذين يدققون فى الأشياء الصغيرة ويهتمون بها إلى حد بعيد.

على الرغم من الأسوار العالية المحيطة بالمكان جميعه بما فيه من مبان وحدائق شاسعة تمرح فيها غزلان صغيرة رشيقة الحركة ، ووحدات الحراسة الدائمة التى ينتشر رجالها بتوزيع مُحكم فى الداخل والخارج والبوابات الخارجية الضخمة المدججة بالسلاح الثقيل ، والبوابات الداخلية التى يحرسها جنود مزودون بالأسلحة الخفيفة ، بالإضافة إلى جو الأمان الذى يخيم على المكان المطل على شاطئ البحر مباشرة فى هذه الساعة المبكرة من الصباح ، السابعة تقريباً ، لكن الرجال الثلاثة الذين حضروا معه ظلوا واقفين لا يرفعون أعينهم عنه ، برغم حالة الأرهاق الواضحة عليهم ، فهم تقريباً لم يناموا طوال الليل إلا خطفاً داخل السيارة أثناء الرحلة الطويلة التى قطعوها خلف سيارته ، لكن ولائهم الكامل له جعلهم متيقظين لأى حركة تصدر عنه ، خاصة عندما يسير مبتعداً عن الشاطئ ، هم فقط يعرفون أنه يبكى الآن وهو يقف وحيداً عند البحر الذى يعشقه خاصة عند هذه المنطقة.

فى الفترة الأخيرة ، منذ عام تقريباً ، عرفوا عنه هذا الأمر ، وهو ما زلزلهم وكان له وقع مفاجئ شديد القسوة على نفوسهم ، ليس هؤلاء الثلاثة تحديداً ولكن رجال الحرس الخاص جميعهم ، باغتهم صوت نهنهة البكاء القادم من المقعد الخلفى حيث يجلس ، كان الجالس منهم فى المقعد الأمامى بجوار السائق ، كثيراً ما يصله هذا الصوت الخافت المكتوم بمجرد أن تنطلق السيارة فى ليل القاهرة الهادئ وتقطع الشوارع والميادين الواسعة ، المزدانة بالأشجار والنباتات وتسير وسط العمارات الأنيقة والحدائق المنتشرة وفق نظام راعى إلى أبعد حد مقاييس الجمال والذوق ، وهو ما أدى إلى اختيارها قبل سنوات قليلة كأجمل عاصمة فى العالم.

هذا الجمال المحيط ربما كان يُزيد الأسى فى نفسه ، الليل الذى أصبح يخشاه ويحاول مغالبته بالسهر واللهو حتى مطلع الفجر ، لكنه ما أن يخلو إلى نفسه بعد انقضاء السهرة وانفضاض الصحبة حتى تعاوده أحزانه ، فتسيل دموعه رغماً عنه فى ظلام السيارة ، وهو ما جعل رجاله يشعرون نحوه بالشفقة ويغفرون له نزواته ويكتمون فى أنفسهم أمر هذه الحالات التى تعتريه كسر مقدس لا يبوحون به.

مرت نصف ساعة وهو واقف على الشاطئ ينظر إلى البحر ، يتأمله بعشق ويسرح بأفكاره بعيداً ، زواجه الذى وصل إلى منطقة اللاعودة ، لا يعلم برغم الأجهزة البوليسية العديدة التى تحوطه لتحميه وتوفر له الأمن إن كانت زوجته وفية له أم لا ، إشاعات كثيرة تدور مست سمعتها ، لكنه لا يعرف .. لا يستطيع التأكد، المشكلة أنه لم يعد قادراً على التفاهم معها… مجرد الحوار ناهيك عن الحب ، الذى بدأ كبيراً وجميلاً وظل يتناقص مع الأيام ، أقل من عشر سنوات ، مضت ومعها كل المشاعر ، يعرف الآن فقط أنها كان يجب أن تتزوج رجلاً عادياً وليس هو ، إن حياته المحاصرة قاسية وجافة من الصعب تحملها ، هو نفسه أصبح يمل منها ، يبحث عن الحرية بلا جدوى ، لم يعد يطيق الغرف المغلقة ، لهذا السبب تحديداً اتخذ هذا القرار المفاجئ بالحضور إلى الإسكندرية فى الوقت الذى كان يجب أن يذهب فيه إلى سريره لينام ، لكن أين النوم …! إنه لا يقترب منه أثناء الليل مهما بلغ به التعب والإرهاق ، لم يعد يستطيع النوم ليلاً ، هذه المقدرة الطبيعية التى يمتلكها أبسط الناس ، فقدها هو نهائياً ، إنه يجبر الرجال على السهر معه حتى يتساقطوا من الإرهاق ، هذا ما حدث ليلة أمس ، جلس على مائدة اللعب فى العاشرة مساءً ، البوكر يلتهم الوقت ، تمضى الساعات سريعاً ، يستغرقه اللعب وينغمس فيه ، ينحصر تفكيره فى أوراق اللعب .. الكوتشينة ، ينشغل بها تماماً فيتوقف عقله عن التفكير فى أى شئ آخر ، ساعتها فقط يخرج من همومه وينساها ولو إلى حين ، انتهى اللعب قبل الفجر بقليل ، بمجرد جمع الأوراق والنقود انتبه مجدداً ، كمن يفيق بعد غيبوبة ، على الرغم من الإرهاق الشديد لم يشعر بالرغبة فى القيام عن كرسيه ومغادرة قاعة النادى ، وضع كفيه على وجهه واستند بمرفقيه على المائدة ، ظل على هذا الوضع الذى جعل الصمت التام يطبق على جميع الرجال ، ظلوا جالسين فى أماكنهم دون أن يجرؤ واحد منهم على مجرد الهمس ، منذ لحظات كان يضحك معهم ويداعبهم بقفشاته اللاذعة ، يعرف الجميع ، من اقتربوا منه بالطبع ونالوا شرف الكلام معه ، إنه ابن نكتة سريع البديهة يجيد القفش فى الكلام ، وهى خاصية لا يعرفها إلا أولاد البلد من المصريين ويستمتعون بها فى التندر والضحك ، ولا يستطيعها إلا من كان خفيف الظل حقيقة ويحذق العامية المصرية ويفهم أسرارها ، تقريباً هو الوحيد من سلسال أسرته الذى جلس على عرش البلاد وتكلم لغة شعبها بطلاقة أبناء الشعب.

لمدة عشر دقائق ظل على هذا الوضع، إلى أن تحرك ضابط من حرسه الخاص ، الأكبر رتبة وربما أقربهم إلى نفسه ، اقترب منه وقال.

– يا مولانا .. الضيوف يريدون الانصراف .. ولم يبق على شروق الشمس إلا عدة دقائق.

نظر إلى حارسه بعينين محمرتين من أثر الأرهاق الشديد وقلة النوم ، ثم قام عن مقعده وقال للجميع.

– تصبحوا على خير.

نهض الرجال .. أخيراً وهم يردون التحية وينحنون مودعين ، بينما خرج هو على الفور من النادى وهبط درجات السلم بتثاقل متجهاً إلى سيارته “الميركيرى” الرمادية.

لكنه مثيراً لدهشة الجميع قال لسائقه.

– اطلع بينا على الإسكندرية.

كان فجر ليلة شتائية باردة وهو ما يدعو أى إنسان بعد قضاء سهرة طويلة إلى التفكير فى دفء الفراش ، لكن شعوره بالزهق جعله لا يطيق العودة إلى “البيت” كما يحلو له أن يسمى قصره ، الأربع حيطان التى تضم حجرة نومه الفسيحة داخل جناحه الملكى تُطبق عليه.

هرع رجال الحرس الخاص الذين كانوا برفقته فى الداخل وضباط الحرس الملكى بزيهم العسكرى الذين كانوا ينتظرونه فى الخارج إلى سياراتهم ، لكنه أشار بعودة الحراسة الرسمية ، فأطاعوا الأمر وركبوا سيارتهم متجهين بها صوب القصر.

انطلقت سيارته عبر شوارع وسط القاهرة ، التى عاد إليها الأمان منذ شهور بعد انسحاب جيوش الحلفاء بانتهاء الحرب العالمية الثانية ، لفترة طويلة ظلت منطقة وسط القاهرة فى حالة فوضى مرتعاً للجنود السكارى ، يهبطون عليها من معسكراتهم فى اجازاتهم العسكرية القصيرة ليغرقوا خوفهم من الموت القادم مع المعارك فى بارات القاهرة الكثيرة ، يعربدون بعد أن ينال منهم السكر فى الشوارع ، وبلغ هذا الأمر من الخطورة إلى الحد الذى دفع محافظة القاهرة إلى تعيين حراسة خاصة من البوليس ، لتصحب سيارة أم كلثوم فى طريق عودتها إلى منزلها بعد انتهاء حفلتها الغنائية الشهرية فى ساعة متأخرة من الليل ، خوفاً من تعرضها لأى أذى على أيدى الجنود المخمورين.

أغمض عينيه وهو مسترخ على مقعد السيارة الخلفى الوثير وهى تقطع شارع الهرم بسرعة ثابتة وإن كانت عالية ، ربما غفا للحظات قبل أن يفتح عينيه ليجد الصحراء تمتد إلى ما لانهاية على جانبى الطريق ، وألوان الشروق تغطى الأفق أمامه ، ارتاحت نفسه لرحابة الصحراء فهو من عشاقها ، أرسل بصره ليتجول فيها عبر زجاج النافذة المغلق ، شرد لفترة ثم لم تلبث أن هاجمته ذكرى ما حدث قبل عدة أيام فاغرورقت عيناه.

كان يسهر فى النادى كعادته فى الفترة الأخيرة ، عندما تلقى ياوره المرافق له اتصالاً هاتفيا من الضابط النوبتجى بسراى عابدين يطلب فيه الإذن بطلاء أحد جوانب سور القصر على وجه السرعة قبل أن تشرق الشمس ، لأنهم اكتشفوا وجود عبارات بذيئة تسب الملك وأمه قد كتبت أثناء الليل ، وأنهم يخشون أن يراها أهالى المنطقة فى الصباح.

اقترب الياور وهو فى حرج شديد وأبلغه هامساً ، أن شرطة الحراسة بقصر عابدين تطلب الإذن بطلاء جانب سور القصر من ناحية السيدة زينب ، فنظر اليه ثم ضحك مستغرباً لهذا الطلب غير الطبيعى فى مثل هذا الوقت ، لكن الياور سرعان ما أكمل موضحاً السبب ، فظهر الغم على وجهه وصمت للحظات قبل أن يقول.

– لابد أن أراها بنفسى أولاً.

وقفت السيارة بجانب السور مباشرة ، ونزل منها ليفاجئ بقاموس الشتائم المصرية مكتوباً أمامه بلون أسود وبخط واضح ، يسب أمه ويصفها بكل صفات العهر والفجور وينال من شرفها بقسوة ، تمعن فى القراءة وهو يضغط على أعصابه ويُظهر اللامبالاة ، لكنه كره نفسه فى هذه اللحظة ، وكره الإحساس بالخجل الذى شعر به يُخيم على الرجال المحيطين به فوق الرصيف العريض ، وقد أطبق عليهم الصمت حياءً منه أو إشفاقاً عليه .. لا يدرى ؟

إنه الملك ، صاحب الجلالة ، مولى الجميع .. وسيدهم ، الحاكم الشرعى للبلاد ، يقف هذا الموقف الذى لا يرضاه أحقر رعاياه وأقلهم شأناً ، يصفونه بالقواد ، هل هو فعلاً كذلك ؟ يسقط ابن العاهرة .. هكذا ! ملك وابن عاهرة فى نفس الوقت ، يا له من قدر عجيب أحاط به ..

وضع يديه فى جيبى البالطو وضحك ، ضحكة عالية ، كأن الأمر لا يعنيه ، ثم قال مستهزئاً.

– عندهم حق.

وأمر بطلاء السور على الفور.

فى هذه الليلة بكى حتى أجهش من حجم الإهانة ومن إحساسه بالعار والقهر ، كرامته تتهاوى شيئاً فشيئاً حتى أصبح يُعير بأمه ، هذه النمرة الشرسة لا تتوقف عند حد ، إنها مصدر الغم الأكبر فى حياته بطيشها وشراهتها للسلطة والمال والرجال … الشبان منهم على وجه التحديد ، التقارير البوليسية تنقل له التفاصيل الخاصة بها ، يعلم أنها تنتقى من ضباط سلاح اليخوت الملكية أكثرهم وسامة وشباباً لتصحبهم معها فى رحلاتها إلى أوروبا وموانىء البحر المتوسط ، كان يعرف أسماء هؤلاء الضباط وينتقم منهم بعد ذلك ، لكن هذا لم يعد يكفى.

فتح زجاج النافذة برغم برودة الجو ليتنفس هواء البحر بعمق والسيارة تدخل الإسكندرية ، تطلع متلهفاً لرؤية البحر ، كأن مياهه الزرقاء المغطاة فى هذا الوقت المبكر بالضباب الكثيف ، سوف تغسل همومه.

* *

بعد الفجر بقليل تلقى أمناء قصر المنتزه اتصالاً هاتفياً يبلغهم بأن الملك فى الطريق إليهم …الآن ، مما أحدث حالة من التوتر والهرج لكنهم سرعان ما بدأوا الأستعدادات اللازمة لاستقباله.

مرت السيارتان من البوابة الرئيسية ، أدى الحرس التحية العسكرية وهم مصطفون على جانبى البوابة ، رد التحية رافعاً يده بشكل شبه عسكرى وهو يتفحصهم بعينيه ممتناً من انضباطهم وعسكريتهم الصارمة.

يفتخر بأن جده الأكبر هو مؤسس الجيش والعسكرية المصرية الحديثة وفق نظم الجيوش الأوربية وتقاليدها العريقة التى تمتاز بالانضباط والصرامة.

كان أحد أحلامه  أن يُطور الجيش ويزوده بالأسلحة الحديثة ، لكن الأنجليز سدوا عليه جميع الطرق ، ضيقوا حوله الخناق وحاصروه بحيلهم حتى أبعد عزيز باشا عن رئاسة أركان حرب الجيش ، معلمه ورجله المخلص والعسكرى الكفء الذى كان يعتمد عليه تماماً فى قيادة الجيش وتنظيم أموره ، وهو الذى لفت نظره إلى ضرورة تطوير الجيش وتزويده بالأسلحة الحديثة ، أكد عليه أن هذا واجب أى حاكم وطنى ، حدث هذا منذ سنوات … ، ليست بعيدة لكنها كانت كافية لتتدهور فيها أحوال كثيرة ، وبسرعة فاقت كل تصور ، أكثر قليلاً من عشر سنوات !

اخترقت السيارتان حدائق القصر الملكى البديعة ، فى وسط هذه الحدائق الشاسعة يقع مبنيان كبيران باذخا البناء يسبحان فى بحر من الخضرة الزمردية ، الأول هو القصر القديم الذى بناه ابن عمه الخديوى ويسمى “السلاملك” ، والثانى هو القصر الجديد الذى بناه أبوه الملك ويسمى “الحرملك” ، توقفت السيارة أمام السراى الجديدة وأسرع أحمد دهب سائق الملك الخاص بالنزول وفتح الباب الخلفى له ، إذ لم يكن هناك أحد من الشماشرجية الذين يجلسون فى المقعد المجاور للسائق ويتولون فتح الباب وغلقه ، يحدث ذلك فى المناسبات الرسمية ، أما الآن فلم يكن فى السيارة سوى الملك وسائقه.

نزل متثاقلاً من السيارة ولم يمش لأكثر من خطوتين ثم توقف ليسمح لأمناء القصر باستقباله وتقبيل يده تباعاً وهم يحمدون الله على سلامة وصوله ، كان الجميع بمن فيهم حرسه الخاص الذين حضروا معه من القاهرة ، ينتظرون ليروا ما سوف يفعله ليعرفوا بدورهم ما سيفعلونه ، اتجه ببساطة إلى شاطئ البحر دون أن يتكلم ، وهو ما يعنى أنهم جميعاً سيظلون فى أماكنهم بلا نوم أو أكل حتى يعود.

من الصعب أن يصدق أحد أن هذا الرجل الضخم الذى يمشى متمهلاً نحو الشاطئ ، شاب فى السابعة والعشرين من عمره .. فقط ، شاربه الكثيف وصلعته الخفيفة فى مقدمة الرأس وملامح وجهه تعطى جميعها الانطباع بأنه تجاوز الأربعين ، غير أن دم الشباب وحيويته ما زالت تغلب عليه رغماً عن المظهر الوقور والسمت الملكى وقيود البروتوكول المعقدة التى تحيط بكل حركاته وسكناته ، مما يدفعه إلى التمرد على نظام حياته التقليدى ، فيبحث عن الجديد والمختلف ، من المؤكد أنه ورث هذه الصفة عن أمه ، وبقدر ما كره هذه الخصلة فيها  بل وعانى منها لم يحاول أن يغيرها فى نفسه ، لم يبذل جهداً صادقاً فى ذلك على الأقل ، وترك نفسه على سجيتها …

ظل رجال الحرس الخاص يرقبونه وهم يعرفون أن الدموع تترقرق فى عينيه ، كانوا جميعاً يشعرون نحوه بالحب ويدينون له بالولاء الكامل ، بعد أن اقتربوا منه وعرفوه ، كل ضابط منهم سواء كان فى الجيش أو البوليس ، قد سمع قبل انضمامه إلى الحرس الملكى بالإشاعات التى تروج بين الناس كحقائق مؤكدة عن فساده وانحلاله الأخلاقى وقلة حياؤه ، إلى الحد الذى كاد يدفع بعضهم إلى رفض ترشيحه للحرس والاعتذار لولا الخوف من عاقبة ذلك على مستقبله ، كيف لضابط شاب وطنى أن يحرس ملك خليع يكرهه الناس ويسبونه علناً فى الشوارع والمظاهرات ، لكنهم وجدوا أنفسهم فى النهاية أمام هذا  الرجل الشاب الحزين دوماً برغم ضحكته العالية ومرحه الظاهرى ، مما أبدل نظرتهم له إلى النقيض .. إلى حد الشفقة عليه والتماس العذر له فى كل ما يفعله ، كان جلياً لكل منهم مدى بؤسه وتعاسته على الرغم من مظاهر الملك والسلطة والوجاهة التى تحيط به وتطوقه إلى حد الاختناق ، وأدركوا بخبرتهم البوليسية كم الدسائس والمؤامرات والوشايات التى تنسج من حوله بدهاء ويقف أمامها عاجزاً … لضعف الخبرة وقلة الحيلة !

رياح البحر الشمالية تأتى محملة ببرد الشتاء ، لكن شمس مصر ترسل أشعتها الدافئة عبر السحب ، يغمره الهواء البارد فينتعش منتشياً بمنظر البحر وزرقته الرمادية ، تصفو نفسه وتجف دموعه فيستدير عائداً ، وما أن يصل حتى يأمر بإعداد الإفطار.

من المعتاد أن طعام الإفطار الخاص به يأتى من محل بسطرودس للحلويات بالإسكندرية ، وقد قام موظفو القصر بالأستعداد لهذا الأمر ، فحضر الطعام بعد وصوله بدقائق.

جلس وقد فتح هواء البحر شهيته فشعر بالجوع ، لكنه قبل أن يبدأ فى تناول إفطاره ، أخطأ بعض جنود الحرس ، لاعتيادهم عدم وجوده خلال الشتاء ، فمروا من أمامه ،على مسافة بعيدة لكنها كانت كافية ليراهم وهم خارجين من المطبخ بطعام إفطارهم متجهين به إلى سكنهم.

ارتبك الجنود عندما لمحوه جالساً ، فوقفوا فى أماكنهم للحظات مترددين ما بين الرجوع أومواصلة السير فى المساحة المفتوحة أمام ناظرى الملك ، لكنهم حاولوا إخفاء الطعام خلف ظهورهم وانحنى الذى يحمل قروانة العدس ليخفيها خلف شجيرة ، كانوا فى حالة هلع ، فهذه الهفوة تعد إخلالاً بالانضباط العسكرى وهو ما يعنى عقابهم بالحبس ثم الطرد من نعيم القصور الملكية إلى وحدات الجيش العاملة فى الصحراء.

ابتسم وهو يلمح ارتباكهم ، بخلاف جميع من جلسوا على العرش من أفراد أسرته ، بمن فيهم أبوه وأعمامه وابناء أعمامه وأجداده ، لم تكن القسوة وغلظة القلب من صفاته ، خاصة تجاه البسطاء من عامة الشعب ، ربما يرجع ذلك إلى نصفه المصرى الذى ورثه عن أمه …

اعتدل تاركاً الطعام أمامه على المائدة ، ثم أشار لضابط من حرسه أن يقترب.

– استدعى هؤلاء الجنود.

قال مشيراً ناحيتهم بطرف أصبعه.

أسرع الضابط بتنفيذ الأمر وهو يدرك من معرفته بطباعه ونبرة صوته أنه يريد ممازحة الجنود قليلاً ليتسلى وهو يأكل.

حضر الجنود بالخطوة السريعة واصطفوا أمامه مؤدين التحية العسكرية قبل أن يقفوا فى وضع الانتباه وفرائصهم ترتعد من خوفهم ومن هيبته الطاغية.

قال لهم بجدية.

– ماذا كنتم تفعلون ؟

رد عليه أحدهم بلهجته الريفية.

– كنا نتجه لاتخاذ مواقعنا يا مولانا.

لم يتمالك نفسه فقهقه ضاحكاً ، ثم خاطبهم وهو مازال يضحك.

– طيب هاتوا فطاركم وقروانة العدس !

وقف الجنود واجمين كأنهم لم يفهموا ما يعنيه ، لكنه شخط فيهم قائلاً.

– هاتوا القروانة !

فجروا مسرعين إلى صينية إفطارهم بما عليها من أطباق فول وجبن وأرغفة عيش ، فحملوها مع قروانة العدس إليه.

أشار إلى مائدته العامرة بالفطائر والزبد والمربى والقشدة ، قائلاً للجنود.

– خذوا هذا الأكل لكم ، وضعوا إفطاركم مكانه !

فى الحال نفذ السفرجية المحيطين به الأمر ، رفعوا طعامه بسرعة خاطفة وسلموه للجنود الذين ازدادت حيرتهم وبدوا غير مصدقين أنهم سيأكلون طعام الملك ذات نفسه ، ثم وضعوا إفطار الجنود على المائدة ، ورجعوا إلى أماكنهم حوله.

أمسك بقروانة العدس التى تكفى أربعة جنود ورفعها إلى فمه مباشرة وبدأ يشرب ببطء متلذذاً حتى أتى عليها ، ثم أكل بشهية من الفول والخبز وسط استغراب الجميع ودهشتهم.

سيظل الجنود الأربعة يذكرونه بكل خير إلى آخر يوم فى حياتهم ، سيترحمون عليه وعلى أيامه التى لن تُعوض عندما يتقدم بهم العمر ، وسيدافعون عن سيرته أمام الجميع حتى أولادهم وأحفادهم الذين سيولدون فى زمن آخر لا يكاد يمت بصلة للزمن الذى نشأ فيه الأجداد.

الملامح الثابتة لم تظهر أى أثر للاستنكار على وجه مدحت بيك ، موظف القصر القديم ، الذى عمل منذ بداية عهد الملك الأب ، وتشرب قواعد وتقاليد القصور حتى باتت تجرى فى دمه ، امتعض واستنكر فى نفسه هذه الفعلة ، التى رأى أنها تخالف الأصول ، وعيب لا يليق أبداً بملك البلاد ، حتى التواضع والتبسط مع الناس له أصول لا يصح مخالفتها ، أما هذا الذى رأه فهو استهتاراً وخفة لا تواضعاً ، إن مولانا له مظهر الملوك وهيبتهم من الخارج فقط ، أما داخله..  فيعلم الله ، فالصو على الآخر زى أمه .. الله يخرب بيتها ؟!

قام عن مقعده بعد انتهاء الإفطار ، وقال مخاطباً حراسه.

– نهاركم سعيد.

و صعد مباشرة إلى جناحه.

كان هذا يعنى أن نوبة عملهم التى طالت كثيراً قد انتهت .. أخيراً ، وأنهم يستطيعون أن يذهبوا إلى غرفهم ليريحوا أجسادهم.

*  *

كانت الساعة تقترب من التاسعة ، وبرغم ما يشعر به من إرهاق فإنه لم يذهب إلى سريره مباشرة ، طلب وهو يخلع ملابسه أن يعدوا له الشاى فى الشرفة ويأتوه بعلبة السيجار كذلك ، خرج من الحمام مرتدياً اللباس الأبيض “الكالسون” والقميص القطنى والعباءة السكروتة ، فهو لا يطيق البيجامات صيفاً أو شتاءً ، يشعر أنها تقيد جسده ، كما أنه لا يتأثر كثيراً بالبرد ، يتحمل برودة الجو مهما اشتدت ، أما الحر فيضايقه ولا يكاد يتحمله ، جسده غزير العرق بطبيعته.

دخل إلى الشرفة المطلة على البحر بملابسه الخفيفة ، بينما الخدم الذين هرعوا خلفه يرتجفون من شدة البرد برغم ملابسهم الشتوية الثقيلة.

أكلة العدس والفول جعلته يرغب فى فنجان شاى وسيجار ، خاصة فى هذه الشرفة التى ترى أحد أجمل المناظر التى تطل عليها شرفات قصوره جميعها ، وربما أجمل منظر فى مصر كلها ، هذه الحدائق المتدرجة الخضرة بما تحتويه من ألوان الزهور المختلفة والمنسقة فيما بينها كأبدع ما يمكن ، وهى تعانق البحر بزرقته الرائعة …

نظر إلى المنظر الجميل وتنهد بحسرة ، وكادت الدموع أن تلمع فى عينيه ، لكنه سيطر على نفسه ، تناول سيجاره المفضل الموضوع على طبق فضى ، ماركة ” بارتاجاس ” هافانا وأشعله بولاعته البلاستيك الرخيصة التى لا يزيد ثمنها على بضعة قروش ويستعملها عامة الناس ، وهى أحد المخترعات الحديثة التى ظهرت فى الأسواق بعد الحرب ، أعجبته عندما رآها وقرر أن يستعملها ويستغنى عن مجموعة ولاعاته الثمينة متعددة الأحجام والطرز ، من الذهب الخالص المطعم بالماس أو بأنواع أخرى من الأحجار الكريمة ، ومن الذهب والبلاتين أو من الفضة المزخرفة ، يحتفظ بها فى خزائن خاصة ولا يستعملها ، وإنما يحلو له أن يمتع نظره بها بين الحين والآخر ويجلس ليفحصها مع سائر التحف التى يجمعها من مصر ومن جميع أنحاء العالم ، مئات الساعات والعملات النادرة ، ومجموعة الطوابع التى تعد ثانى أهم مجموعة فى العالم بعد مجموعة ملك إنجلترا ، وتحفته الأثيرة اللؤلؤة الأكبر فى العالم التى يعتز بها بشكل خاص ويضعها فى علبة من الذهب ، يشرف بنفسه على تقسيم هذه المقتنيات إلى مجموعات ورصها بعناية فى علب أو حقائب مخصصة لهذا الغرض ، ويتولى أحد موظفى القصر ترقيمها وتسجيلها فى دفاتر ، ثم حفظها فى الخزائن الخاصة بها.

رشف من فنجان الشاى واسترخى فى مقعده العريض المريح لظهره من الآلام التى تعاوده بين الحين والآخر منذ حادثة السيارة التى نجا منها بمعجزة ، كان القدر رحيماً به فلم يمت فى ذلك اليوم ، لا يعرف إن كان العسكرى الإنجليزى الحمار الذى قطع عليه الطريق فجأة قد تعمد ذلك طبقاً لمؤامرة أعدت لاغتياله أم أن الحادث كان مصادفة كما يؤكدون ، إحساسه ينفى شبهة المؤامرة ، فى نفسه يعلم أن الحادث تم بفعل  المصادفة وحدها ، ببساطة لأن أحداً لم يكن يعلم وجهة سيره حتى يدبروا خطة لاغتياله ، بل إنه هو نفسه لم يكن يعلم فى صباح ذلك اليوم ، فقد خطرت على عقله الفكرة بعد الإفطار صباحاً ، أن يذهب إلى الإسماعيلية ليعاين الإصلاحات فى يخته هناك ، فقام من فوره وتأهب للرحلة ، واختار بعد دخوله الجراج أن يذهب بسيارة صغيرة اشتراها حديثاً أحب أن يجربها فى الطريق على سبيل التغيير.

عند وصوله إلى أنشاص كان قد تعب من قيادة السيارة ، لم يرتح فى جلسته على مقعدها غير المريح بالنسبة لحجمه الضخم ، كما أنه وجدها خفيفة على الطريق ولا تناسب أسلوبه فى القيادة السريعة ، لذلك عرج على مزرعته هناك وأمر بمجرد دخوله جراج قصره أن يجهزوا له السيارة المرسيدس التى أهداها له هتلر ، كان قد احتفظ بها فى المزرعة حتى لا تستعمل وتُستهلك فى شوارع القاهرة ، اعتبرها إحدى تحفه النادرة التى يجب أن تصان بعيداً عن أعين الناس ، فقد صنعت خصيصاً لأجله وبمواصفات قياسية فى المتانة وقوة المحرك ، كان يشاع بين العامة أنها مصفحة ضد الرصاص ولكن هذا غير صحيح.

انطلق بالمرسيدس مستمتعاً بفخامتها وقوتها ضاغطاً على دواسة السرعة إلى نهايتها ، كما يفعل شاب فى بداية العشرينيات من عمره يريد أن يستمتع بما تقدمه له الدنيا ، ويفرغ ما فى نفسه من توتر وضغوط بغض النظر عما يمكن أن يسببه لنفسه أو للآخرين ، لمح كلباً يمشى على جانب الطريق فانحرف نحوه دون أن يبطئ ودهسه بالعجلتين تباعاً ؟!

 صوت الارتطام بالجسد الحى وصرخة العواء الخاطفة التى تزعق لثوان ممزقة سكون الريف الخامل ، واهتزاز السيارة وهى ترتجف لحظة سحق الجسد وتمزيقه ، يشعره بنشوة يطرب لها وتريح أعصابه فيبتسم ضاحكاً.

أشجار الظل الضخمة المزروعة على جانبى الشارع الأسفلتى الناعم ، تمتد فروعها فى الأعلى وتتشابك أغصانها لتظلل الطريق وتحمى المسافرين من أشعة الشمس القوية التى تتخلل الفراغات الصغيرة ما بين أوراق الشجر وتسقط كقطع متناثرة من الضوء تلمع على سطح ترعة الإسماعيلية وهى تعكس ألوان قوس قزح ، مما يعطى الريف فى هذه المنطقة من إقليم الشرقية العامرة بالحقول النضرة طابعاً فردوسياً أخاذاً.

فجأة ظهر لورى الجيش الإنجليزى أمامه على بعد أمتار يسحب من خلفه مقطورة ، برز من طريق جانبى وهو يسير ببطء ليعتدل على الطريق الرئيسى فسد عرض الشارع.

لم تسعفه براعته فى القيادة ، انحرف إلى أقصى الطريق ضاغطاً على الفرامل بكل قوته ، لكن المقطورة لم تدع له فرصة للافلات ، اصطدم بها صدمة هائلة ، متانة السيارة وطول مقدمتها التى تحطمت تماماً حمته إلى حد كبير بل أنقذت حياته بشكل مؤكد.

تجمع الأهالى من الحقول والزراعات ، خرجوا منها مهرولين جماعات وفرادى ليستطلعوا  خبر الحادثة المروعة ، تأسفوا على شبابه الغض وأشفقوا عليه وهم يسحبونه خارج السيارة برفق والدماء تنزف من رجليه بفعل الجروح وقد تمزق بنطاله وصُبغ بلون الدم القانى ، تناقلوا فيما بينهم همساً أنه كان يسير بسرعة جنونية على الطريق.

– مش كنت تمشى بالراحة شوية ياسعادة البيه ؟

ابتسم برغم الألم على اللقب الذى أنعموا به عليه ، وتحامل عليهم حتى أجلسوه على جانب الطريق.

– ده لازم ابن باشا من الكبار !

سمع همساتهم وهى تدور من حوله وهم يحضرون له كوز ماء ليشرب ، تناول منهم الكوز وشرب حتى ارتوى ثم شكرهم ، فى هذه الأثناء كان العسكرى الإنجليزى قد نزل من كابينة القيادة مترنحاً بفعل الاصطدام ، تفقد أثر الحادث على مقطورته التى انقلبت وتحطمت وأخذ يبرطم غاضباً وهو يتجه إلى السائق المتهور الذى صدمه.

بادره بمجرد أن اقترب ، وقد أغضبه سيل الشتائم الذى سمعه.

– اخرس .. وأرسل إلى قيادتك بخبر الحادث فى الحال.

قالها بإنجليزيته القوية الأرستقراطية المترفعة التى تعلمها من مربيتيه ، الأنجليزية الصارمة والأيرلندية الحنون.

استغرق العسكرى الإنجليزى لحظات ليدرك شخصية محدثه .. لم يصدق عيناه ، حدق فيه ثانية ليتأكد أن الحادث لم يؤثر على حواسه وأنه بالفعل أمام الملك … يا إلهى هذا غير معقول !

– اذهب.

– نعم يا سيدى .. أقصد يا صاحب الجلالة .. اعذرنى.

– كم تبعد عن مقر قيادتك ؟

– حوالى كيلو مترين يا صاحب الجلالة.

– إذن أسرع فأنى أنزف كما ترى.

فك العسكرى المقطورة المحطمة بمساعدة الأهالى ثم انطلق بعربته الضخمة ليبلغ قادته بالحادث الجلل الذى وقع قرب معسكرهم ، وهو يردد فى نفسه .. يا إلهى هذا غير معقول !

سرعان ما امتلأ موقع الحادث بالضباط والجنود الإنجليز وتم غلق الطريق بعد أن اكتشف طبيب المعسكر خطورة الإصابة فى الساقين وعظام الحوض والظهر ، لم تلبث عربة الإسعاف أن حضرت من المستشفى العسكرى الأقرب لمكان الحادث.

كان الأهالى يتابعون ما يجرى أمام أعينهم وهم فى حالة ذهول ، أدركوا شيئاً فشيئاً شخصية الشاب الذى حملوه من السيارة وكان يكلمهم منذ قليل ، لاذوا بالصمت وهم يتراجعون من حوله لعدة أمتار مفسحين الطريق لأطباء وممرضى الجيش الإنجليزى وهم يجرون له الإسعافات الأولية ، قبل أن يضعوه على النقالة ليحملوه إلى عربة الإسعاف وحولها حراسة مشددة ، ظلوا يحملقون فيه وشعر بعضهم بالرغبة فى البكاء من أجله ، وتمنى آخرون لو أنهم افتدوه بأنفسهم.

– يا خبر أسود يا ولاد ، ده مولانا الملك !

– ده كان بيتكلم معانا !

– ده زى الملاك.

ظلوا واقفين فى أماكنهم وسيارة الإسعاف تبتعد به ، والعساكر الإنجليز يرفعون سيارته بالجنازير الحديدية ليقطروها بعيداً عن الطريق.

شعر بالألم الحاد يسرى فى ساقيه وأسفل ظهره وفى منطقة مابين الفخذين ، قبل أن يصل إلى المستشفى التابع للجيش الإنجليزى كان يتأوه من الألم بفعل الكسور التى أصيب بها ، لكن قلقه كان منصباً على إصابته فى هذه المنطقة الحساسة التى كان يتألم منها بشدة …

بعد أيام طويلة من العلاج ، تأكد أنه لن يعود كما كان .. أبداً ، وأن فحولة جده الذى كان معروفاً بولعه بالنساء وامتلاكه لعدد هائل من الجوارى ، هذه الفحولة التى طالما تباهى بأنها أهم ما ورثه عنه ، قد ضاعت الآن ..، لم يتبق منها إلا النذر اليسير الذى يكفى بالكاد لقضاء واجباته الزوجية .. وعلى استحياء.

نفث دخان السيجار وهو ينظر إلى البحر الواسع ويعدل من جلسته ليريح ظهره ، هذا العجز نكد عليه حياته ، وأثر إلى حد كبير على شخصيته وطباعه ، لم يخفت ولعه بالنساء بل زاد ، ومازال يحب مجالستهن والكلام معهن ، هذه الثرثرة والأحاديث الخفيفة الروح يميل إليها ، ويجد لذة فيها ، لو كان له أن يختار لفضل أن يعيش فى جزيرة محاطاً بالفتيات الجميلات ، يلاعبهن ويلاعبنه على مدى النهار والليل أيضاً.

انتهى من فنجان الشاى ، فأطفأ نصف السيجار بحرص ووضعه فى علبته الأنبوبية ليكمل تدخينه بعد ذلك ! يرى أن رمى السيجار قبل إكمال تدخينه بطر للنعمة وإسراف ، فمن طباعه التدقيق فى إنفاق الجنيهات المعدودة التى يلمسها بيديه ، أما المئات والآلاف فلا تعنى له سوى أرقام يسُهل عليه صرفها ببساطة وبلا أدنى اهتمام …

قام إلى غرفته ، وأسرع الخدم بإسدال الستائر فأعتمت الغرفة تماماً ، دخل إلى سريره وقد تجاوزت الساعة العاشرة صباحاً ، استغرق فى النوم مباشرة ، ولم يلبث أن علا شخيره الهادر بعد لحظات.

*  *

كانت الساعة تقترب من الرابعة عصراً عندما استيقظ من نومه ، دق الجرس للخدم المناوبين على خدمته ثم دخل الحمام ، استحم واستبدل ملابسه الداخلية وخرج ليجد الخدم ماثلين أمامه ومعهم حلاق القصر الخاص به ، لم تستغرق حلاقة ذقنه وتسوية شعره سوى ربع ساعة أمر خلالها أن يعدوا له الغداء فى جناحه لأنه لن ينزل الآن.

وجد الصحف والمجلات فى مكانها المعتاد فجلس يتفحصها بلا اهتمام ، يحب قراءة الموضوعات الخفيفة ، الطرائف والنوادر وما يجد فيه تسلية له ، مع الأيام أخذ يفقد اهتمامه بكثير من الأشياء ، على رأسها العلم والثقافة ، لم يفقد اهتمامه فقط وإنما صبره أيضاً على كل ما يضجره ويبعث فى نفسه الملل ، فى بداية عهده أراد وكان صادقاً تماماً أن يتفرغ للدراسة والعلم لمدة خمس سنوات ، يترك خلالها شئون الحكم والدولة لحزب الأغلبية ، تخيل صورته كملك ديمقراطى ، يجلس على عرشه بعيداً عن صراعات الأحزاب والسياسة ، لكنهم لم يُمكنوه من ذلك ، الرجال الكبار الذين وجدهم يحيطون به والذين ورثهم بمشاكلهم وصراعاتهم ودسائسهم وأطماعهم ضمن ما ورث عن أبيه ، لم يكن أمامه خيار ، جميعهم إلا قلة لا تذكر انحنوا أمامه ، كان يمد يده ليصافحهم فيجد الرجل الكبير منهم يستبقى كفه بعد المصافحة وينحنى مقبلاً إياها ، فى أول الأمر كان يشعر بالحرج ويحاول سحب يده ، برفق طبعاً حتى لا يضطر هو الآخر أن ينحنى أو يميل بجسمه للأمام أو يهتز فى وقفته التى لابد أن تكون ثابتة راسخة ، لكنه تعود بعد ذلك أن يتركهم يقبلونها كما يشاءون ويسحبونه إلى عالمهم دون أن يتركوا له فرصة لالتقاط الأنفاس.

الوشايات والدسائس المغرضة الرخيصة تُصب فى أذنيه طوال الوقت ومن جميع الجهات ، يطعنون فى بعضهم البعض كالذئاب ، بأصوات كفحيح الثعابين ، وبأساليب ناعمة فى غاية التحضر والرقى يدسون السم لبعضهم فى أذنيه ، اللتين لم تتعودا على سماع تلك الوشايات فقط ولكنهما أحبتا ذلك ، حتى أصبح تدريجياً من محبى النميمة واكتسب موهبة خاصة فى فرز الواشين وتصنيفهم حسب قدراتهم على الكذب والاختلاق ، وأيضاً على معرفة الشرفاء الذين يصدقونه ويتعاملون باستقامة وهم قلة بالطبع ، كان على حداثة سنه يتعمد إبلاغ الرجل الذى يريد اختباره بمعلومة خاطئة ويخبره أنها سر يرجوه الاحتفاظ به ، وذلك فى المقابلات الفردية بمكتبه ، ثم يرى بعد ذلك إن كان الرجل قد أذاع ذلك السر أم حافظ على وعده بالكتمان ، معظم الذين اختبرهم سقطوا فى هذا الامتحان البسيط ، كانت المعلومة المزيفة التى اخترعها تصل إلى مكتبه بعد يومين أو ثلاثة أو يجدها قد شاعت بين الناس وانتشرت كحقيقة مؤكدة عن مصدر موثوق به.

دخل أحد خدمه وهو جالس يحتسى قهوة ما بعد الغداء وأخبره أن مكتب جلالته فى القاهرة اتصل بأمناء القصر ، وأنهم هناك يطمئنون على سلامته ويودون معرفة موعد عودة جلالته ، أخبر الخادم أن يُبلغ مكتب الأمناء إنه سيعود غداً أو بعد الغد ، سيقرر ذلك غداً صباحاً ، انحنى الخادم وخرج.

ليل الشتاء يهبط على الإسكندرية ، السحب الرمادية الكثيفة تغطى الأفق ، زرقة البحر تتحول إلى السواد ، رائحة البحر الندية المنعشة التى تظل معلقة فى الجو وتزداد كثافتها فى هذا الوقت من اليوم ، تصل إليه مع صوت الأمواج معطرة بالحنين ، كان يقضى فترة الصيف فى طفولته بالإسكندرية أمام هذا البحر ، متنقلاً ما بين المنتزه ورأس التين حيث القصر القديم المهيب ، الذى بناه جده الأكبر محمد باشا ، والذى كان والده يفضل الأقامة فيه صيفاً باعتباره القصر الرسمى للحكم ، أما هو فيفضل المنتزه حيث الحدائق أكثر رحابة والبحر أجمل وألطف أثراً على النفس ، يحب الكبائن التى تواجه الشاطئ تحت القصر ، كان يقضى يوم الصيف الطويل فيها حافى القدمين بلباس البحر ، عندما كبر قليلاً وسُمح له بالنزول إلى البحر ، أما قبل ذلك فكان يسبح فى بحيرة صناعية داخل الحدائق تطل على البحر ، وطالما تنزه فيها بالمراكب الصغيرة مع شقيقاته …

يُذكره بحر المنتزه بتلك الأيام السعيدة فى طفولته ، سعادة لم تدم طويلاً ، على الرغم من قسوة أبيه وشدته كان يشعر بالأمان فى وجوده ولا يحمل هماً من الهموم التى انقضت عليه وحاصرته بوفاته المبكرة ، وأول هذه الهموم وأشدها على نفسه ، أمه التى تمردت وخرجت عن كل حد حتى حولت حياته إلى شقاء ، الآن لم يعد يسمح لها بذلك ، أصبح يقيد حركتها ويحجم جموحها ولا يستجيب لصراخها وعصبيتها واحتجاجها على ابسط الأمور التى ترى أنها تمس مكانتها كملكة ، وهو ما لم يكن يستطيعه قبل عشر سنوات عندما تولى الحكم ، لكنها تهرب منه ومن البلاد كلها إلى أوربا وترسل له بفضائحها ومصائبها عبر الصحف ووكالات الأنباء.

قتامة الشتاء وبرودته تبعث فيه النشاط والرغبة فى الخروج والتجول بعكس أغلبية الناس ، يضغط الجرس فيأتى الشماشرجى بعد ثوان ، يأمره أن يتصل بالحرس الخاص وبالجراج لأنه سيخرج بعد نصف ساعة.

*  *

سارت سيارته فى طريق الكورنيش ومن خلفها سيارة الحرس الخاص دون وجهة محددة ، رجاله يعرفون عنه ذلك ولا يستغربونه ، أحياناً يتجول فى شوارع القاهرة ، يذرعها طولاً وعرضاً لمجرد التجوال ، يقضى عدة ساعات قبل أن يقرر العودة إلى البيت أو الذهاب إلى مكان ما ، عند حى بحرى الشعبى رأى مقهى يقع على ناصية شارع جانبى متفرع من شارع الكورنيش ، “مقهى بلدى” واسع ونظيف ، تلح عليه أحياناً فكرة أنه ملك ديمقراطى لا يضع حواجز بينه وبين شعبه ، تداعبه هذه الفكرة كنزوة يخضع أحياناً لها ، قرر أن يدخل المقهى ليشرب قهوة ويدخن الشيشة أيضاً مثلما يفعل أى رجل من عامة الشعب.

دائماً ما كانت هذه الفكرة تؤرقه وتشغل حيزاً من تفكيره ، كيف لا يستطيع أن يفعل ما يفعله سائر الناس ، لماذا يُحرم هو من المشى فى الشارع على قدميه ، لماذا لا يستطيع ارتياد الأماكن العامة والجلوس فيها وتناول الطعام والشراب ، بينما أى رجل من رعيته يستطيع ذلك ، لماذا يُقيد هو إلى هذا الحد بين الجدران والأسوار ، كل حركة بحساب ، كل كلمة بحساب ، بينما سائر خلق الله أحرار يتمتعون بحياتهم، إنه تقريباً لم يحظ بالحرية طوال حياته ، قيده أبوه فى طفولته بصرامة ، لم يخرج من أسوار القصور إلا مرات معدودة حتى أنه لم ير الأهرام والمتحف إلا وهو فى الخامسة عشر من عمره وفى زيارة سريعة خاطفة ، منعه من الاختلاط برفاق وأصدقاء يماثلونه فى العمر والمستوى الأجتماعى سواء من أبناء كبار رجال الدولة أو من ابناء أسرته ذاتها من الأمراء والنبلاء ، مرارة الوحدة الدائمة وقيود الحبس تركت فى نفسه أثاراً لا تريد أن تمحى ، من حسن حظه ،هكذا يعتقد، أنه وجد من بين عمال القصور وخدمه شباباً يستطيع أن يتخذ منهم أصدقاءً ، كانوا يحيطون به طوال الوقت ، لم يجد غيرهم ليتحدث معه ، وفى المقابل كان يشاكس معلميه ويشفى رغبته فى التمرد بعدم الانتباه لهم ، أما المذاكرة فلم يلق لها بالاً من الأصل ، فالمعلمون كانوا يرفعون التقارير إلى أبيه المتجهم المشغول دائماً مشفوعة بآيات من التزوير عن نجابة تلميذهم الملكى وتفوقه فى جميع العلوم ، على الرغم من حرص الأب على تأديبه وتربيته تربية تليق بالملك القادم ، وأمره الحازم للمعلمين أن يتشددوا مع ابنه ويعاملونه كأى تلميذ آخر من تلاميذهم حتى أنه حرم عليهم أن ينادوه بأى لقب سوى اسمه المجرد فقط ، لكنه كان واهماً فى كل هذا ، مخدوعاً فيما يتعلق بتربية ابنه الملكى وتعليمه ومستوى تحصيله الدراسى الذى كان أقل بكثير مما ينبغى ، كما قيل عنه فى بداية عهده ، البنت ماشية من زمان تتمخطر ، والغفلة زارع فى الديوان قرع أخضر.

– يا دهب أركن على الرصيف ده.

أطاع السائق الأمر ، وأدار السيارة بمهارة بالغة بحيث جعل الرصيف على يمينه ثم صف السيارة لصقه تماماً.

نزل ضباط الحرس الخاص ببدلهم الداكنة من سيارتهم وتقدموا بخطوات سريعة وأحاطوا بسيارته وهم فى حيرة ، لا يعرفون السبب فى توقفه عند هذا المكان الشعبى العامر بالمطاعم والمقاهى  البلدية ، يعرفون أنه فى خلال السنتين الماضيتين قد كسر الكثير من الحواجز ، وأصبح يرتاد النوادى والمطاعم بشكل شبه يومى ، لم يعد يطيق البقاء بين أربعة جدران كما يقول دائماً ، لكنه بطبيعة الحال يذهب إلى أرقى النوادى ، تلك التى يرتادها الأمراء وكبار الأثرياء وأفراد الطبقة الأرستقراطية ، أما هذا الحى فما الذى يريده فيه ؟

أسرع السائق بفتح الباب الخلفى ، فنزل من السيارة وعلى وجهه ابتسامة تنبىء عن سعادته بهذه التجربة الجديدة التى يوشك أن يخوضها.

مشى على الرصيف سعيداً وهو يتأمل الشارع والمحال المتراصة على جانبيه وزحام الناس فى أول الليل ، خطوات صغيرة مشاها لكنها كانت كافية لتغير إيقاع حركة الناس فى الشارع ، ارتبك السير لتوقف البعض والتفاتهم نحوه مما أدى لحدوث تجمعات تتطلع إليه فى دهشة بينما الأيدى تشير ناحيته فى حركة سريعة لتلفت نظر من لم ينتبه منهم والكلمات تردد أسمه بصوت هامس لا يخفى الفرحة ، خفت ضجيج الشارع إلا من الهمسات ، عدة لحظات لم تلبث أن قطعتها زغرودة مدوية شقت سماء الحى ، أطلقتها امرأة بملاية لف ، كأنها إشارة الافتتاح إذ أعقبتها الهتافات الحماسية ، يعيش جلالة الملك ، هادرة تزلزل جوانب الشارع ، توقف للحظة وهو يرفع يده محيياً جموع الناس وقد اسعده استقبالهم له وغسل همومه فكاد يرتفع عن الأرض محلقاً ، علت الهتافات من جديد ترد تحيته بأحسن منها.

ما أجمل أن تحكم الشعب المصرى ! فين ولاد الكلب الذين يقولون إن شعبيته انخفضت وإن الناس أصبحت تكرهه !

سار نحو هدفه مباشرة ودخل من باب المقهى الواسع ثم توقف بعد خطوتين ليسمح لهم باستقباله ، سادت موجة من الاضطراب جميع الموجودين بالمقهى ، سببها ظهوره المفاجئ أمامهم ومن خلفه رجال الحرس بأجسادهم القوية وقاماتهم الفارعة ، لكن مظهره الملكى المهيب كان أشد أثراً فى نفوس الجالسين ، هبوا واقفين احتراماً وقد تراجعوا بظهورهم مُفسحين له المكان ، بعضهم وقف وهو يمسك بيده كوب الشاى أو فنجان القهوة ولا يدرى ماذا عليه أن يفعل فى حضور الملك.

انتفض المعلم أحمد صاحب المقهى بجلبابه البلدى ومعطفه الصوف تاركاً مقعده خلف البنك وأسرع لملاقاته ، بينما تجمد صبيانه فى أماكنهم ، انحنى المعلم أحمد وهو يردد بصوت مبهور الأنفاس.

– أهلاً وسهلاً يا مولانا .. أهلاً وسهلاً ، إتفضل ، إتفضل يا مولانا.

ابتسم منشرحاً وهو يتأمل أرجاء المقهى الواسعة ، كان المقهى العريق بجدرانه العالية المغطاة حتى النصف بالمرايا الصقيلة وكراسيه الخشبية ومناضده الرخامية البيضاء الموزعة توزيعاً لطيفاً ، يشع بالنظافة ويعطى هذا الأنطباع الشعبى بالألفة.

– أنا قلت أجى أشرب قهوة عندكم.

قال ضاحكاً ببساطته المعهودة فى التعامل مع عامة الناس وهو يتقدم إلى صدارة المقهى الذى خلا من شاغليه ، وأسرع صبيان المقهى الذين دبت فيهم الحماسة برفع الأكواب والفناجيل والناراجيل وتنظيف المائدة الرخامية والكرسى.

جهز المعلم أحمد الشيشة التنباك بنفسه ، وضع خمس ثمرات من الكريز فى الماء ليعطر الدخان ، وأتى من غرفة المخزن بمبسم جديد ثم حمل الشيشة ووضعها أمامه.

– شكراً يا معلم أحمد.

كان قد سأله عن اسمه بعد أن جلس ، كعادته فى التعرف على الناس.

– خدامك يا مولانا.

جلس ضباط الحرس بجوار الباب من الداخل يرقبون المارة فى الشارع وعلى الرصيف وفى نفس الوقت يرصدون بعيونهم الجالسين داخل المقهى حتى لا يتجرأ أحد ويقترب منه بأكثر مما ينبغى أو يتهور فيحاول أن يكلمه مباشرة ، لكن الناس التزموا حدود الأدب وتركوه يستمتع بجلسته فى مقهاهم دون أن يزعجوه حتى بأصواتهم ، صمتوا تماماً فى أول الأمر ثم لم يلبثوا أن عادوا إلى أحاديثهم بصوت خافت أقرب إلى الهمس وهم يرقبونه خلسة بين الحين والآخر.

زحام الشارع على أشده فى هذه الساعة المبكرة من الليل والناس يقضون حوائجهم من المحلات المكدسة بالبضائع والسلع ، يسرعون بالشراء قبل اشتداد البرد وتقدم الليل القارص ، كان تعداد السكان قد زاد زيادة عظيمة فى المملكة المصرية حتى كاد يصل إلى ثمانى عشر مليون نسمة.

* *

عندما خرج موكب أبوه السلطان من سراى رأس التين ليمر فى شوارع الإسكندرية عند زيارته الأولى لها بعد جلوسه على العرش ، وهو يركب عربة مكشوفة تجرها ستة جياد وحوله ضباط السوارى والحرس السلطانى ، لم يشعر أهل الأسكندرية بالسرور لمرءاه وتشائموا من سحنته المتجهمة وشنباته المسنونة ، كانت سمعته السيئة قد سبقته وانتشرت بين عامة الناس كالحريق ، الأمير المفلس المقامر الذى قضى صباه وشبابه المبكر بصحبة أبيه الخديوى المنفى إلى أوربا بعد أن صادر الإنجليز والفرنسيون أملاكه وأمواله لتسديد ديونه الطائلة وعاش بعد ذلك على الإعانة ، وهو ما جعل الأمير الصغير يعانى الفقر بعد أن فقد ميراثه بالرغم من أن أخاه الأكبر كان يحكم ولاية مصر الغنية وقتها.

لم يكن يوماً عاطلاً عن العمل ، لكنه اضطر أن يعيش سنوات طويلة على راتبه المتواضع بالنسبة إلى مكانته كأمير ، فبعد أن تخرج فى المدرسة الحربية الإيطالية حصل على رتبة ملازم مدفعية فى الجيش الإيطالى ، ثم رحل إلى استانبول بصحبة أبيه وعمل ضابط ياوران فى قصر السلطان العثمانى ، وبعد سنوات تم تعينه ملحقاً حربياً فى سفارة الدولة العلية فى فيينا عاصمة الإمبراطورية النمساوية ، فى تلك الفترة من شبابه اتجه إلى القمار والخمر ليغرق فيهما إحباطه وشعوره بالفقر ، مقارنة بثراء أقاربه الهائل من أمراء وأميرات عائلته الذين كانوا يحضرون من مصر ليقضوا إجازاتهم الصيفية فى أوروبا ويزورون فيينا حيث يلتقون به.

انتعشت أحواله بعد ذلك إلى حد ما عندما قبلت إحدى أميرات العائلة أن تتزوجه ، لكن افتقارها إلى الجمال وحدة طباعها وتعاليها عليه ، نغص حياته معها وجعلها سلسلة من الخلافات الحادة والمشاجرات العنيفة ، إلى أن انتهت بالطلاق.

عاد إلى مصر فى عهد ابن أخيه الخديوى عودة الغريب الذى لا يعرف لغتها ولا عاداتها ، لكنه سرعان ما تأقلم واستوعب أحوالها وطبائع أهلها ، وكذلك ما يدور فى عالم السياسة من خلال عمله فى القصر ككبير للياوران ، ولم يعُقه قصور لغته العربية التى لم يستطع أن يتقنها ولا أن يقرأ بها مع ما بذله من جهد فى تعلمها ، وظل يتكلمها برطانة الأتراك والطليان إلى آخر يوم فى حياته.

أشبعه أهل الأسكندرية تريقة وتندروا عليه وعلى هيئته التى لم تعجبهم ، عامل زى فتوات مينا البصل ، ده أصله شيخ منسر ، شنباته زى شنكل الجزار… وهو ما تأثر به بيرم شاعر الإسكندرية الشاب فهجاه بقصيدتين متتابعتين من أقذع ما يمكن.

لكن وبرغم كل شىء كان الأمير المفلس قد وصل إلى العرش بعد أن تجاوز منتصف الأربعينيات من عمره ، وبلغ سن النضج وعرك الحياة وعركته بما لم يحدث لأى فرد من أفراد أسرته الحاكمة ، فاحتشم وأقلع عن القمار وارتياد أماكن اللهو والتزم إلى حد التزمت بوقار الحُكم ومظاهره ، فكان نادر الخروج من قصره ، يقضى وقته فى العمل والقراءة ومتابعة شئون أملاكه التى أخذت تنمو وتتسع بعد توليه السلطنة ، كان يحلو له أن يتمشى فى ردهات القصر أو حدائقه أحياناً بصحبة زواره من رجال الدولة ، أصبحت هذه الجولات هى نزهته الوحيدة ، فقد كان لا يخرج من القصر إلا فى موكبه ولعمل رسمى ، كثيراً ما أخبر بعضهم من خلصائه أن البقاء خلف هذه الأسوار هو ضريبة الحُكم وأن عليه أن يدفعها راضياً فهو لم يعد مِلك نفسه حر الحركة كما كان سابقاً ، والحق أنه حافظ على وضعه الجديد كحاكم كما ينبغى أن يكون ، مترفعاً متعالياً مع شىء من غطرسة السلطة واستبدادها ، وساعده على ذلك أن الله حباه بثقل ظل طبيعى جعل تلك الصفات المكتسبة كأنها طبيعية تماماً وأصيلة فيه.

* *

بعدما يقرب من الساعة وضع المبسم على طبق الشيشة النحاسى وتناول قفازه الموضوع على المنضدة وأمسكه بيده ، وهى حركة يعرفها المقربون منه وتعنى أنه يتهيأ للنهوض عن مقعده ومغادرة المكان ، بالطبع لاحظ ضباط الحرس ذلك فاعتدلوا فى جلستهم متأهبين حتى يسبقونه فى الوقوف ، إذ لا يصح أن يظلوا جالسين ولو لثانية واحدة بعد وقوفه ،  كما أنه لا يتهاون فى مثل هذه الأمور الصغيرة المتعلقة بهيبته الملكية ويلتزم بقواعد البروتوكول التى تربى عليها بشكل شديد الصرامة ، وهم يعرفون الواقعة التى حدثت مع أحد رجال الدولة والذى كان قد قرر أن ينعم عليه برتبة الباشوية ، وتصادف أن حضر الرجل مأدبة رسمية وجلس على المائدة الملكية تكريماً له ، ولأن الرجل غير معتاد على هذه المناسبات ولا يعرف العادات فقد سرح ولم ينتبه لحظة قيام الملك وظل جالساً لثانيتين أو ثلاث ، وبالرغم من أنه عند مغادرة الملك بالغ فى الانحناء وهو يؤدى تحية “التمنى” العثمانية القديمة والتى ظلت من طقوس التعامل فى القصور الملكية المصرية ، منفذاً ما علمه إياه رجال التشريفات ، إلا أن الملك لم يصافحه وأكتفى بأن يحييه برفع يده إلى رأسه ، وقال بعد ذلك.

– ده راجل قليل الأدب ، ما ينفعش يبقى باشا.

بمجرد وقوفه سرت حركة فى المقهى قام على أثرها الجميع عن مقاعدهم وأسرع إليه المعلم أحمد الذى ظل واقفاً طوال فترة وجوده بالمقهى ولم يجلس فى حضرته ، فانحنى بين يديه وهو يدعو له ، لكنه وقد سُر بجلسته مد يده فصافح الرجل الذى ظل منحنياً أمامه ، ثم وضع فى كفه بضعة جنيهات ذهبية قبل أن يخرج مغادراً المقهى.

بقيت هذه الزيارة هى الحدث الأهم فى حياة المعلم أحمد ، ليس فقط لأن الملك جلس فى مقهاه وسلم عليه باليد ، ولكن لأن شهرة المقهى ذاعت فى أرجاء الإسكندرية كلها بعد هذه الزيارة ، وتوافد الناس ليروا المقهى الذى أعجب الملك وجلس فيه ليدخن الشيشة ويشرب القهوة وسط الزبائن ، كان المعلم أحمد بذكاء أولاد البلد قد وضع الشيشة التى دخنها الملك وفنجان القهوة الذى شرب فيه  والكرسى الذى جلس عليه فى صدارة المقهى ، وأحاط الموضع بحبل من القطيفة الحمراء معلق على قوائم من النحاس ، مما تسبب فى رواج المقهى لسنوات طويلة بعدها ، اشتهر فيها بين الناس بقهوة الملك.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات