موسم الهجرة إلى السودان (3) مدينة القرآن

01:21 مساءً الخميس 1 مايو 2014
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

في الرحلة السودانية كنت أبحث عن خيط رفيع، يربط كل المشاهدات معًا، بين الساكنين على الشظف بالرغم من كونهم جيران آثار البجراوية الثرية، البسطاء بروحهم السمحة، والباحثين عن الرخاء في مشروعات المستقبل بين الطموح والطمع، والمترنمين بأغاني الفنون ذات الثقافات المتنوعة. أبحث عن سمات الشخصية السودانية التي تمتلك مفاتيح التحول في الغد، بين الزهد والسكينة من ناحية، والقوة والإصرار من ناحية أخرى، ولعل الرحلة التي ستأخذنا خارج الخرطوم إلى مدينة أم ضُبان كانت تضع أمامي الإجابات، وأن ليس القادمون في موسم الهجرة إلى السودان من بين طلاب الدنيا وحسب، بل إن الآلاف منهم طلاب دين.

استأذن لنا صديقنا شمس الدين ـ ابن أم ضبان ـ في لقاء الشيخ الطيب، خليفة الطريقة القادرية، والحفيد السادس لمؤسس الخلوة القرآنية؛ الشيخ المجاهد العبيد ود بدر، وهي الخلوة التي تؤهل طلابها منذ 162 سنة لحفظ القرآن الكريم ودراسة علومه. في حضرة الشيخ المتصوف أسأله عن المريدين فيطمئنني بأنهم في ازدياد، وأنه بالرغم من انقطاع الصلة بين جُل الطرق الصوفية في داخل السودان وخارجه، فإن المد الإلهي لا ينقطع. تتوالى مراسم الترحيب بنا، ويتوافد على الخليفة طالبو نصح ومشورة، دينية ودنيوية، ولا يقطع تواترهم سوى إقامة الصلاة.

يشرح لي الشيخ عمر العبيد صالح بدر سر تسمية أم ضبان: (في ذلك الزمان لم يكن هنالك كهرباء، وكان الطلاب يأتون بالحطب فيشعلونه ليقرأوا على ضوئه ليلا، فكان من يلمح من الساعين إلى الخلوة القرآنية نور النار، يقول (الضوء بان)، وهي ما تحرفت إلى الاسم الحالي). هذا تفسير من تفاسير كثيرة للاسم، منها أن الضوبان من النحل، الذي كان يسكن شجرة ضخمة في صحن الخلوة. وهكذا سواء من (أم ذوبان) أو (ضوء بان) فإن المدرسة القرآنية ظلت تحتفظ بنارها لا تنطفيء 162 عامًا.

نختتم صلاة المغرب ثم نتجول في المكان، حيث يُعد الطعام، وتتوزع فصول الدرس، وبين ركن وآخر نلتقي الطلاب الذين يتراوح عددهم بين خمسمائة وألف وخمسمائة طالب، ليسوا من السودان وحدها (مرة أخرى يلتقي شمال السودان وجنوبه)، بل من بلدان إفريقية أخرى. يدرس الطالب القرآن حتى يتم حفظه من ثلاث إلى خمس سنوات مجانا على نفقة الشيخ الخليفة القائم على أمر الخلوة (سكنا ومأكلا وملبسًا)، والقبول مفتوح من سن السابعة الى السبعين. وتمتد أجازاتهم خلال الأعياد إلى بضعة أيام إلى أهليهم. ويكفل للطالب تعليمه من الخلوة إلى الجامعة، حيث يدرس في معهد علمي ست سنوات، منها سنتان للتجويد، وهناك خطة لإنشاء جامعة لعلوم القرآن الكريم.

يستيقظ الطلاب قبل صلاة الفجر بثلاث ساعات، يدرسون القرآن حتى صلاة الفجر، ويستكملون دروسهم حتى طعام الفطور، ثم ينامون فلا يستيقظون إلا لصلاة الظهر، فيتابعون دروسهم التي عليهم أن يستظهروها مساء أمام شيوخهم. ينادي المؤذن لصلاة المغرب، تتهادى الجموع من بين أركان المكان ذي العمارة الخضراء، في غرفه وخلواته ومبانيه وقبابه. على الرمال تقف الصفوف كالبنيان المرصوص، وما أن تنتهي الصلاة حتى يتحلق الجميع حول الشيخ، يقرأون بصوت يسمعه الساكنة قلوبهم حتى النساء اللائي يستمعن من وراء جدار، وهؤلاء اللاتي احتمين بزوايا بعيدة غادرها الضوء.

في المكتبة الإسلامية التي جمع بها الشيخ عمر العبيد صالح بدر ثروته الورقية رأينا الأعداد الأولى من مجلة العربي. يتذكر بعيون تلمع بحديث الشباب: (بعد سنوات خدمتي في التدريس، فكرت أن أفيد أبناء هذه الخلوة مما أفدت، فكان أن أعددت هذه المكتبة ـ بما بها من مراجع، وما ضممت إليها من دوريات، وما صممت فيها من خرائط تاريخية لشرح جهاد الشيخ العبيد ود بدر الذي دحر الإنجليز في أكثر من معركة ـ لتكون مرجعًا لطلاب المعهد والخلوة وأبناء البلدة. وهذه الدوريات هي ما كنا نجمعه ونحن طلاب من المجلة، عبر الاشتراكات، وأذكر أن الأديب الطيب صالح الذي كان يدرس لي في المرحلة المتوسطة، كتب في أول حصة لنا على السبورة (كيف تصبح أديبا?) وأوصانا بقراءة (العربي) وكتاب الهلال. بذكر الطيب صالح قلت له إنه نال جائزة الرواية العربية في القاهرة قبل أسابيع، وإنني سأستعير في مقالي هذا عنوان روايته (موسم الهجرة إلى الشمال)، خاصة إن الطيب نفسه يعود إلى السودان بعد نحو 14 عاما لم يزرها.

طاب لي أن أستمع لأحد طلاب مدينة القرآن فناديت على أحدهم. بدأ الفتى يتلو آيات من الكتاب الكريم. كان محمد ـ وهذا اسمه ـ يرسم ملمحا أساسيا من ملامح السودان، الحافظ للثقافة الإسلامية في إفريقيا بالأمس والغد معًا. فالخصوصية التي تمنحها هذه الخلوات لأبناء السودان، تجعلها تمثل دعما للتنمية، والسلام، والسماحة، ودرءا من الجهل والتعصب والفقر. ومثلما يحتاج السودان إلى التعليم النظامي، والمؤتمرات العلمية، والمشاريع الضخمة، والمبادرات الثقافية الفردية، والأحلام القومية، يمكن لمدن القرآن أن تدعم النهضة في أطرافه المترامية بعيدا عن ظل التنمية، وأن ينصهر التنوع الثقافي بخبز القرآن وملحه، الداعي إلى المساواة والسلام. وليحدث ذلك داخل السودان، ذلك البلد الذي يحاول كالعنقاء أن ينفض الرماد، ويطاول بجناحيه جيرانه وأقرانه، لتظل عروبته حية، كالنار التي لا تنطفئ في أم ضبان.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات