راسبوتين والبرتقالة الفاسدة : لقاء بوتين ومبارك في مارس الماضي

08:02 صباحًا الأربعاء 10 يونيو 2015
أحمد صلاح الدين

أحمد صلاح الدين

كاتب من مصر، مترجم عن اللغة الروسية، مدير تحرير سلسلة الجوائز ، القاهرة

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
هل استضافت سفارة فرسان مالطة لقاء بوتين ـ مبارك؟

هل استضافت سفارة دولة فرسان مالطة لقاء بوتين ـ مبارك؟

اتصل بي صديق صحفي روسي، ديميتري كارالينكا، الذي يعمل بقسم أخبار الشرق الأوسط بجريدة ني برافدا الشهيرة، أخبرني أنه وصل القاهرة لتوه ويريد مقابلتي في الحال لأساعده في أمر ما، تعجبت من الطلب حقيقة، خاصة أنه جاء في وقت متأخر من إحدى ليالي مارس الماضي، قبيل زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمصر، كما أني أعرف أن ديميتري مغرم بالمغامرات ويبحث عن السبق الصحفي أينما كان، وأحيانا يورط نفسه في مشاكل. حددت له اسم مقهى بمصر الجديدة، بالقرب من مقر إقامته، وفي غضون ساعة وصلت إلى المقهى، وجدته منهمكا في تقليب بعض الأوراق أمامه، نهض من مقعده وصافحني بحرارة زائدة عن المعتاد، طلب مني الجلوس، ترك أوراقه واعتدل في جلسته. ورغم جلسته التي تبدو هادئة، كان التوتر باديا على وجهه وحركة يديه، عيناه تجوبان المكان بقلق. أطال النظر إلى ولم يقل شيئا، فضلت أن أختصر المسافة وأقطع جدار الصمت، قلت متسائلا: ما الأمر؟ رد ديما: فرسان م الطة، هل تعرف عن هذه الدولة شيئا، وأين يقع مقر سفارتها؟ فاجأني السؤال، لكني أجبته بالإيجاب موضحا أني أعرف هذه الدولة منذ فترة، لكن اسمها تردد كثيرا أثناء الثورة المصرية، حتى أنه ورد في تحقيقات النيابة في قضية قتل المتظاهرين، مقرها يقع في شارع هدى شعراوي في وسط المدينة. أشار ديما بيديه طالبا مني أن أواصل، لكني قلت له: لماذا لم تبحث في جوجل؟ يمكنك أن تصل من خلاله لمعلومات كثيرة عنها. قال:لم يسغفني الوقت لذلك، فقررت الاستعانة بك، لم أرد حتى الاستعانة بأحد غيرك لسرية الأمر، خاصة مع ارتباط اسم هذه الدولة بأحداث هامة في أكثر من دولة عربية، بالإضافة إلى أني أريد الوصول لمقرها لأمر سأطلعك عليه، وأعطاني صورة لوثيقة مكتوب عليها (ني برافدا فابشيه – خالاوة ايه 55/2011/ سري للغاية)، حصل عليها من الأميرة أناستاسيا نيكالايفنا، زوجة جمال مبارك الروسية، على ظهر الوثيقة رقم تليفون، طلب مني ديما أن أتصل بصاحبة الرقم جوليا البيطار وأعطيها الورقة، كما طلب مني أن أفتح صندوق بريدي الاليكتروني عند عودتي للمنزل، هناك رسالة تنتظرني، وضعت الوثيقة في جيبي، استاذنت لدخول الحمام، عدت بعدها لأكتشف اختفاء ديميتري، سألت الجارسون فأخبرني أن رجالا غامضين أخذوه في سيارة دفع رباعي سوداء.

عدت للمنزل قلقا مرتابا، لكني آثرت الهدوء حتى أتبين الأمر. فتحت البريد الاليكتروني، رسالة طويلة من ديميتري يحكي فيها عن تفاصيل أكثر. يقول ديميتري أن شاهد عيان رفض ذكر اسمه رآه يتجول في حديقة الكرملين، مما أسال لعاب الصحفيين الروس والمراسلين الغربيين، ورغم نفي الكرملين هذه المزاعم جملة وتفصيلا، إلا أن ارتباكا أصاب مسئول الكرملين إثر سؤال وجهه له أحد الصحفيين في أحد المؤتمرات الصحفية عن ظهور حسني مبارك وبوتين في حديقة الكرملين، وفي صحبتهما عجوزان، تبين فيما بعد أن الأول هو رجل الأعمال حسين سالم، أما الثاني فكان جريجوري راسبوتين، الذي عاد للحياة مرة أخرى، رغم مزاعم موته، وتبين أن جثته التي وجدوها طافيه على مياه نهر نيافا تحت جسر بتروفسكي كانت لفلاح قتله راسبوتين، إثر عراك دار بينهما لثورة الأول من علاقة غير شرعية لرسبوتين مع زوجته. حدث هذا خلال شهر فبراير من عام 2011، وقد قيل أن مبارك غادر لروسيا قبل إلقاء بيان التنحي بعدة ساعات. كان هذا الصحفي هو ديميتري كارالينكا، صديقي الذي صار هدفا للمخابرات الروسية والمصرية، حتى لحظة اختطافة في مارس الماضي. وقد حصل ديميتري على هذه الأخبار من خلال اناستاسيا نيكالايفنا، زوجة جمال مبارك الروسية. تقول الوثيقة، التي تركها لي ديميتري، أن السبب الرئيسي لزيارة بوتين للقاهرة هو لقاء مبارك، والذي سيتم في مقر سفارة دولة فرسان مالطة بالقاهرة.

يذكر كارالينكا أن ظهور راسبوتين ارتبط ببوتين، فقد ظهر منذ سنوات حكم بوتين الأولى، وأن بوتين اتخذه مستشارا له منذ ذلك الحين، لكنه لا يغادر الكرملين إلا فيما ندر، يستخدم الطائرة الرئاسية، وله علاقات وطيدة مع اليهود. مبارك هو الحاكم العربي الوحيد الذي يحبه راسبوتين، استعان به مبارك في العديد من المواقف، منها قرار التنحي. يقال أن راسبوتين وضع خطة اسمها “الدائرة الجهنمية” لمواجهة الثورة المصرية وسلمها للمخابرات المصرية في لقاء تم في سوتشي يوم التاسع من فبراير 2011. قضت هذه الخطة باستسلام مبارك لرغبات الثورا بالتخلي عن الحكم، مع تمكين التيار الإسلامي من الظهور والفوز في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. لراسبوتين موقف واضح من الغرب، يراهن على صعود التيارات اليمينية في أوروبا وأمريكا. رفض العديد من المناصب لأنه لا يحب القيود، يعمل بالنهار، وبالليل يقضي وقته في حفلات ماجنة حتى الصباح. له صداقات عديدة، أشهرها تلك الصداقة الحميمة التي جمعته بالفرنسي ماكسميليان دو روبسبير، سفاح الثورة الفرنسية، السفاح الألماني بيتر كيورتين، واليهوديين جرينوفسكي، وشيمون بيريز.

ولراسبوتين يد في كثير من القرارات التي اتخذها بوتين على مدار سنوات حكمه، ولم يكن تدخل روسيا العسكري في اوكرانيا إلا جزء من مسلسل تدخل راسبوتين السافر في سياسة روسيا وقرارات قيصرها الجديد، فلاديمير بوتين. إنه يكره الغرب ويحث بوتين على إقامة امبراطورية روسية جديدة، وأن عليه السيطرة على أفريقيا والشرق الأوسط كنقطة انطلاق لهذه الامبراطورية. يعشق موسوليني، الفاشي الإيطالي، وتعتبره الخارجية الأمريكية “عقل بوتين”، كما قالت مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركيل: “إذا أردنا أن نقتل طموح راوسيا، علينا القضاء أولا على راسبوتين”. وعندما حدثت مشكلة بين روسيا وجورجيا عام 2008، صرخ راسبوتين في وجه فلاديمير بوتين قائلا: “فلتقصي ضفائرك أيتها الفتاة الرقيقة، كن رجلا واذهب إلى هناك ولا تنظر وراءك حتى تعود لي بجورجيا، الامبراطورية يا فلاد … الامبراطورية”. وقد ألح على بوتين مرارا أن يستعيد روسيا البيضاء وأوكرانيا، وفي أحد المرات ثار ثورة هائلة لتأخر بوتين في التحرك نحو أوكرانيا، ثم جلس مع بوتين جلسه مطولة، خرجا بعدها بخطة محكمة لاسترداد أوكرانيا أطلقوا عليها “البرتقالة الفاسدة”. ارتكزت الخطة على حث الشعب الأوكراني على القيام بما سمي بــ “الثورة البرتقالية”، حدث هذا عام 2004، فخرجت المظاهرات إلى ميدان الاستقلال، كإجراء استباقي للسيطرة على الشارع الأوكراني وتوجيه غضبه نحو تحقيق المصالح الروسية، كما ضغطت روسيا على أوكرانيا عام 2013 للحيلولة دون اتفاقها مع الاتحاد الأوروبي تمهيدا لدخولها كدولة عضوة في الاتحاد. بعدها خرج المحتجون مرة أخرى لميدان الاستقلال شعارهم المعلن التخلص من هيمنة روسيا، لكن الغرض الحقيقي هو تبخير آمال الشعب الأوكراني وتثبيط عزيمة الثوار الحقيقيين. وقد أدرك الكثيرون أن الثورة البرتقالية لم تكن سوى “كابوسا مؤرقا وخيبة أمل”، التحيات لراسبوتين.

وصلت في الموعد المحدد إلى البيت الكائن في شارع محمد مظهر بالزمالك، استقبلتني بابتسامة مرحبة، زال عني استغرابي لعربيتها المكسورة عندما تحدثنا في الهاتف، فقد رأيت سيدة بملامح روسية تماما. دعتني للجلوس، أعطيتها الوثيقة، قرأتها بعناية ثم وضعتها على طاولة صغيرة أمامها. سألتني عن علاقتي بديميتري، أخبرتها أننا تعرفنا في الجامعة منذ سنوات، حضر حينها ديما لتغطية حادث مات فيه عدد كبير من الطلبة الأجانب، حين احترق المبنى الخاص بهم، قيل حينها أن النازيون الجدد هم من فعلوها. اقترب مني ديميتري مستفسرا عما حدث وما إن كان لدي معلومات قد تفيده في الإلمام بما حدث. تصادقنا من يومها، نتواصل من حين لآخر، نتقابل كلما سنحت الظروف. قدمت لي الشاي على الطريقة الروسية، وفاجأتني بقولها أن بوتين في القاهرة منذ أول أمس، وقد تم اللقاء بينه وبين مبارك في مقر سفارة فرسان مالطة. كاد فنجان الشاي يسقط من يدي، قلت متسائلا: كيف عرفت؟ كيف هذا وميعاد وصول بوتين غدا؟ هزت رأسها نافية، قالت أنه وصل بالفعل، أما بخصوص علمها فالأمر بسيط، حضرت بصفتها مترجمة نجل الرئيس السابق… ثم أكدت لي كل كلام ديميتري، لقاء الكرملين، علاقة مبارك الوثيقة براسبوتين، لكن الشيء الوحيد الذي لا تفهمه حتى الآن هو سر اللقاء في مقر سفارة فرسان مالطة، التي لم تسمع اسمها سوى من يومين. وعن اللقاء، قالت أنه كان ودودا وباسما للغاية، حضرته زوجة نجل الرئيس السابق، الروسية أناستاسيا نيكالايفنا، التي ترى زوجها لأول مرة منذ سنوات، إثر خلافهما الحاد بعد أن عقد قرانه بأخرى. تحدث بوتين وراسبوتين ومبارك طويلا، بدا مبارك في صحة وثقة، واستمع الإثنان بحرص وتركيز كبير لكلام راسبوتين، وفي نهاية اللقاء تصافح الجميع، وشد بوتين على يد مبارك بحرارة، وقال له بثقة “اطمئن… ستعود يا عزيزي، ستعود“.

خطر ببالي غاندي وأنا في طريق عودتي للمنزل، أكن له تقديرا خاصا، هل كان محقا في فلسفة اللاعنف التي تبناها، هل فعلا اللاعنف يقضي على الكراهية ويزرع المحبة. في محاضرة له عن غاندي، قال جان ماري مولر أن غاندي كان يؤمن بأن العنف يدمر حقيقة الإنسان، وعندما يعتقد الإنسان أنه يملك الحقيقة، سيهب للدفاع عنها ضد من يرفضها، وهنا يكمن الخطر. وفي نفس السياق قال ماوتسي تونج: “أن تقتل إنسانا من أجل خير العالم أمر يتناقض مع خير العالم”. وليس في التاريخ مثالا أوضح من ماكسميليان دو روبسبير، صديق راسبوتين المخلص، ذلك المفكر الراديكالي المثالي، الذي تحول إلى سفاح قاتل، يحصد رقاب معارضيه باسم الثورة، وصل به الأمر أن قتل في تسعة أشهر فقط ما يقرب من ستة عشر ألف شخص، أشهرهم على الإطلاق ماري أنطوانيت، وزعماء الثورة ديمولان ودانتون. انتهى به الحال أن نال نفس المصير الذي أذاقه للأبرياء من ضحاياه. وفي أمر الثورات في الدول الفقيرة التي تعاني الاستبداد، قال أحد الباحثين: “عادة ما تثور الشعوب لأنها تعاني من وضع سيء، لكنها غالبا لا تخرج من هذا المأزق بثورتها، من النادر أن تنجح ثورة في دول استبدادية، تقوم الثورات، قد تطيح بحاكم أو رؤوس نظام، لكن تبقى الدول في النهاية على حالها، فقيرة واستبدادية.” نجحت “الدائرة الجهنمية” لراسبوتين، ونجح غيرها في دول كثيرة، دوائر تدور، لها نقاط سقوط ونقاط صعود، ليست جميعها جهنمية، انها دوائر حياة، وهي حتمية بالضرورة. وعلى أرض حضارة الغروب، وفي غيرها، التاريخ يتململ، يستعد، فقد طال أمد الاستقرار في القاع، لكن أوان البعث لم يأت بعد، الغد دائما قريب. وكما قال مانديلا… الحلم دوما يبدو مستحيلا حتى يتحقق.

قمت من نومي فزعا، هل ما رأيت حلما أم كابوسا؟ مددت يدي لكوب الماء بجواري وشربت. وقعت عيني على فقرة كتبها بيتر ناداس عن رواية له، يقول: ” إن صادف أحد شخصا، لا سمح الله، أو تشابه حدث، اسم، أو موقف مع نظير له في الواقع، فهذه محض مصادفة مروعة، وفي هذا الصدد، إذا لم يكن في أي شيء آخر، مضطر أن أعلن عدم مسئوليتي.”

……………………………………………………

– يعاد نشر المقال بإذن خاص من كاتبه الأستاذ أحمد صلاح الدين

ـ نشر المقsalahال في جريدة القاهرة هذا الأسبوع تحت عناوين: راسبوتين والبرتقالة الفاسدة … لقاء بوتين ومبارك السري في مارس الماضي   …لماذا صافح بوتين مبارك بحرارة، وقال له بثقة “اطمئن… يا عزيزي، ستعود“…

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات