أدب الرحلة … إعادة اكتشاف للذات

09:00 صباحًا الأحد 29 نوفمبر 2015
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

عبر العصور، ساهمت في تدوين أدب الرحلة العربي أقلامٌ ذواتُ مشاربَ مختلفةٍ، أصحابُها سفراء وشعراء ومؤرخون وفنانون وعلماء ومعلمون، بل وتجار ومصلحون.

وبدا لنا، نحن القراء، أن طرائق تلقي نصوص هؤلاء جميعا لا يمكن أن تتماثل. فهو أدب رحلة مكتوب عبر مرشِّحات مختلفة، وهذه المرشحات هي التي تفرض أسلوب الكتابة، واختيار المفردات، وكل ما يتصل بنسق النص وبنيته ومحتواه، وتستلزم، وفقا لذلك؛ مرشحاتٍ للقراءة أيضا.

الرحلة ليست مجرد الأيام القصيرة أو الطويلة التي تشغلها زمانيا، بل هي كذلك تلك الفترات السابقة عليها واللاحقة لها. فلم يعد ممكنا للمسافر الرحالة أن يغمض عينيه ويصم أذنيه ويمسك فكره عن وجهة السفر، وأدبياتها. وأصبح من البدهي أن يختبر الرحالة وجهته قبل الوصول إليها، فهو يقرأ قبسا من التاريخ، وطرفا من الحاضر، ويأنس لبعض الصور، ويطمح للسير في دروب بعينها، والانشغال بممارسات محددة، وكأن الرحلة غاية في ذاتها، عليه ألا يضيع دقائقها. بل وكأن الرحالة يريد أن يختزل عمرا في كبسولة زمنية تبدأ في فجر السفر ولا تنتهي مع غروبه.

من الرحلات … تلك المرتبطة ببرنامج عمل، كأن تكون سفرة إلى مؤتمر، أو مشاركة في مسار مجموعة، وهنا تضيق مساحاتُ الحرية التي يطمح إليها الرحالة، ويبدأ في صنع هوامشه، فيخصص وقتا لما هو معد سلفا، وأوقاتا أخرى لما سيقرره في حينه، وكم من مرة تغلب الهامش على المتن، وهو سر الرحلة التي تدخر مفاجآتها للباحث فيها.

وإنما أردت في هذه العُجالة أن أعدد الاختلاف، اللصيق بأدب الرحلة، وهو أمر معروف لكم، ولكن كي أصل إلى أنه مجرد اختلاف ظاهري، لأن الرحلةَ في جوهرها إعادةُ اكتشافٍ للذات، وما التدوين لها إلا توثيقا لذلك الاكتشاف.

الدارس لأدب الرحلة يتأكد له أنه أمام مصادر متعددة للرحلة الواحدة، وإذا كان بها الخبرات الشخصية، ففيها كذلك النص الأدبي والوثيقة التاريخية والتماس مع الأدبيات المماثلة، وهو تماس يمكن أن يكون مجرد نقل لمعلومات وأرقام صماء تتوزع بين الأدلة الرسمية وكتيبات الإرشاد والسياحة، مثلما يمكن ـ أيضا ـ أن يكون تضمينا أو اقتباسا لنصوص الآخرين.

هنا تبرز أهمية ودور شخصنة الرحلة، أي أن تكون الرحلة ذاتية تماما، تحمل جينات كاتبها كابنته الشرعية، فتحتفظ بلغته لو كتب الرواية، وتتحدث بمفرداته لو صاغ الشعر، ولها نكهة سخريته أو جديته لو جلس مع أصدقائه وأقرانه، وفيها حس جرأته لو غامر في درب مجهول، مثلما تمتلك عمقه لو غاص بحثا عن الحقيقة.

قاريء رحلاتي في “نهر على سفر” وفي سواه سيجد غايته، سواء كان يبحث عن الشواهد المعمارية وروح الفن فيها، أو كان يريد أن يقترب من روح الشعوب وعاداتها اليومية وربما أمثالها وحكاياتها الشعبية، أو كان يتوق للربط التاريخي بين ماض وحاضر، أو كان مهتما بالأدب؛ ذلك أنني أحب ذلك كلَّه وأهتم به.

أريد أن أؤكد هنا أن أدب الرحلة الذي أسعى إليه وأحاول كتابته وأطمح في استمراره وشيوعه إنما أعده صورة من صور أدب السيرة الذاتية. وهذا ليس بجديد، فرحلات أجدادنا العظام إنما كانت سيرا ذاتية، وهم الذين أفنوا أعمارهم في التنقل، واستغرقت رحلاتهم سنين طوالا.

فقد استغرقت ـ مثالا ـ رحلة أحمد بن فضلان ثلاث سنوات ( 921-924م) وامتدت رحلة ابن جبير الأولى التي دون فيها أوراقا كانت بمثابة مذكراته اليومية، باليوم والشهر، إلى عامين (1182 – 1183م)، ودامت سفرات ابن بطوطة 27 عاما (1325 – 1352 م). وكتب المعاصرون رحلاتِهم سواء عن فترات عملهم خارج بلدانهم، أو خلال سفراتهم القصيرة والطويلة وربما عن زمن دراستهم، وهنا يختلط أدب الرحلة بأدب السيرة الذاتية كما يمتزج السمن بالعسل، لا تستطيع أن تحدد أين ينتهي الأول ومتى يبدأ الثاني.

من العادات التي أعتقد أن جميع الرحالة، سواء دونوا سفراتهم أم لم يدونوها، يحرصون عليها هي الاحتفاظ بأثر من مكان ما، قد يكون قطعة من نسيج، أو حلية من فضة، أو أسطوانة للموسيقا، أو بطاقة بريدية، أو علبة أو كوبا، وكأن تلك القطع المادية ستؤسس في الذاكرة متسعا للمكان نفسه في وقت لاحق، أو هي بالأحرى جسر بين مكانين.

ومن الأمور التي ترتبط برحلة الاكتشاف ؛ الأطباق الجديدة التي تنضم لمائدة الطعام لاحقا، وتصبح جزءا من حياتك اليومية، وكأن نكهتها ورائحتها تنقلانك لزمان الرحلة الفاني ومكانها.

في الهند، مثالا، تعرفت في أحد مطاعم مدن راجستان على سلطانية دجاج الماكني، الذي يسمى هنا في المطاعم الهندية بالدجاج بالزبدة، وهو قطع الدجاج المتبلة الغارقة في الزبدة والصلصة. اليوم نذهب إلى مطعم خاص يقدمه كما قدم إلينا في المرة الأولى، لنشعر وكأننا  هناك. هذا الأمر مرتبط بالطعام والموسيقى والأفلام والصور وغيرها من التراث (المادي) الذي يؤجج الشوق إلى تراث غير مادي، وكأنك تريد أن تقبض على الرحلة بيد من الذكريات المتجسدة في شيء لا يفنى، وهو أمر محال.

في تتارستان تعرفت إلى حلوى الشكشك، إنها المصنوعة من العجين المقطع إلى كرات بحجم المكسرات أو شرائط قصيرة من النودلز السميكة، غرقت في الزيت بعد أن أضيف لخليطها الفواكه المجففة وأغرقت في العسل الساخن لاحقا، ثم تبرّد وتجفف، وقد تزين وتقدم مع الفستق للضيوف كما يقدم الخبز المحلي الساخن. حاولت أن أجد لها شبيها في حلوى المشبك عندنا، لكن محال، واستشرى حب الشكشك في العائلة، وحينما تذكر تتارستان بالنسبة لي فهي عبد الله طوقاي ومسجد قول شريف وبحيرة كابانكاه وبلغار الفولجا، ولكنها بالنسبة لابنتي الصغيرتين حلوى الشكشك والثياب المطرزة، ولزوجتي المخرجة مهرجان قازان السينمائي، والمصنوعات الجلدية، هكذا أخذ كل منا من تتارستان شغفه واهتمامه، واكتشفنا تتارستان خاصة بكل منا عبر مرشحات اهتمامنا وحبنا للأشياء.

في الرحلة ترتكب حماقات لا يمكنك أن تمارسها في وطنك. لقد ذهبت إلى سور الصين العظيم مرتين، في المرة الأولى صعدنا عبر عربة حديدية يقال إنها تلفريك انطلقت بسرعة مذهلة وحبات المطر تأتيك كأنها رصاصات ريح من معدن، عبر الثقوب، والعربة / الصندوق/ متهالكة تهتز كأنها تتحطم في فيلم رعب، وتلمح تحتك الأرض مثل شهاب من شجر يتحرك، كانت هذه الرحلة المخيفة تجنبنا المشي لمسار طويل مرهق، في الرحلة الثانية لم أتردد في اختيار المشي الماراثوني والصعود الصعب، الجرأة تأتي مرة واحدة، والخبرة مثلما تعلمك الشجاعة قد تجعلك تفضل التراجع أيضا.

بالنسبة لي أعد الصورة / سواء كانت الفوتوغرافية أو المتحركة / جزءا من أدب الرحلة، فإذا كان أدب الرحلة جُمَّاعا بين الأدب السردي والكتابة التاريخية، فهو بالمثل شاهد ووثيقة كالصورة الحية. ربما يأتي ذلك الاهتمام بالصورة من أمرين؛ أنني كنت أنشر رحلاتي في المجلات وخاصة العربي مصحوبة بالصور، أو أنني كنت ألتقي ضيوفا من ثقافات غير عربية في برنامجي التليفزيوني الآخر، ولذلك كان حضور الصورة والصوت جزءا من أدب الرحلة بالنسبة لي، وهو ضروري لأنه يمثل وثيقة، تُعبِّر كالسرد المكتوب عن رأيي، وتنقل ببعد آخر وجها من وجوه الرحلة.

أحب أن اشير إلى ولع خاص بالهروب من أسر البرنامج الرسمي، لدى أية زيارة، وهذا يستثير حواس المغامر الكامن داخل كل منا، تستطيع أن تلتقي أناسا استثنائيين، وأن تلتقط صورا مفاجئة، وأن تعثر على أماكن مثيرة، وأن تشتري شيئا ليس على البال.

أوجز فأنهي، أن تدوين أدب الرحلة (سردا وصوتا وصورة) يأتي عبر مرشحات تتعلق بالكاتب، تعيد اكتشاف ذاته، مثلما تأتي قراءة هذا الأدب عبر مرشحات تتصل بالمتلقي، ولذا من المفيد الكتابة ذات الطبقات، التي تتيح فهما منفتحا يسمح لقراء مختلفين تلقي النصوص وفهمها وفقا لوجهات نظرهم.

ويبقى أن نحيي هذا الأدب الذي يساعدنا على تفهم أفضل للعالم، من شأنه أن يسمح بالتواصل في زمن استشرت فيه أشواك القطيعة، وامتلأت الأرض بديناصورات الدمار مثلما غطت السماوات وسحيها طيور الموت.

…………………………….

الروائي والرحالة عبد الوهاب الحمادي أثناء تقديم أشرف أبو اليزيد

الروائي والرحالة عبد الوهاب الحمادي أثناء تقديم أشرف أبو اليزيد

ألقيت ضمن محاضرات مركز دروب، معرض الكويت الدولي الأربعون للكتاب، الخميس 26 نوفمبر 2015

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات