هِيَ وَالدّرْوِيش

02:30 مساءً الإثنين 20 مايو 2019
عزة أبو العز

عزة أبو العز

كاتبة وناقدة من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
بقلَم/ عَزَّة أبُو الْعِزّ

بقلَم/ عَزَّة أبُو الْعِزّ

ظلَّتْ طوَالَ سنواتِ طفولتها وصبَاها تُفكّر فى نموذج (الدرويش (بكل ما يُمثله داخِل مجتمع القرية الصغيرة من نظرة البعض إليه بنظرة “تبجيلٍ وإجْلالٍ”، ونظرةِ البعضِ الآخر إليه على أنه شخصٌ “مُغيّب العقل”، دائمُ السياحة بالروح والوجدان، فى ملكوتِ ربّ العالمين على الدّوام، كما ظلّت تتأمَّلُ تلك العلاقةَ الغريبةَ التى تربطها بهذه النماذج الفريدة الْمُدهشة من البشَر، مِمَّنْ ترَكُوا ملذّات الحياة وهامُوا وسط بحور من التجَليَّات الرُّوحيّة فى ذاتِ الحبيب.

60670930_672213439881144_2936425125450350592_nعادت بالذاكرة لسنواتِ طفولتها الباكرة؛ فتذكّرت ذاكَ الدّرويشَ الغريبَ، صاحبَ الشخصية الفريدة، ببِنْيَتِه الجسْمانيّة الضعيفةِ، وصَمْتِهِ الطّوِيلِ، وعصَاه التي كانَ يتَوكَّأ عليْها، وصوْمه شبْه الدائم عن الطعام… والكلام.

وكان أمْيَزَ ما لفَتَ نظرَها أنه رغْم صمتِه الطَويل بدَا لها إنسانًا فى حالَة حوارٍ صامتٍ يصِل ما بين النفْسِ والسّماء بْمُفرداته اللُّغَوِيّة الْخَاصّةِ، وإشَارَاتٍ يعجَزُ عن فهْمِهَا الأذْكِيَاءُ، كانتْ تَحتارُ فى علمِه ببواطِنِ الأمُور، وتتعَجّبُ من نظرةِ أهل القرية له، وما يصِفونه به من صفاتٍ تصبغ عليه هالةً من الوَقَارِ الشّديد ، كان يعاملُها بوُدٍّ ولُطْفٍ شدِيدَيْن، ورغم خوْفِها من الاقتِرَابِ منه عند رُؤْيَتِه، كانت دائمةَ النّظَرِ إليْه تستَمِعُ لكلماتِه القليلةِ لحظةً، وتُفَكّر فى صمْته الكثِير لَحَظاتٍ.

وكانت تتعجّب من كـوْنه وافدًا غريبًا عن بلْدَتِهَا ومع ذلك استطاع أن يستوطِنَ القلوبَ قبل الدِّيَار وتزوج من إحدَى جاراتِها فصار قريبًا محبوبًا من الْجميع، كانت تتأمَّله فى صمْتٍ إذا خرج عن صمْتِه وتكلّم؛ فهو دائم الذكْر بكلمةِ التّوحيدِ، رأتْ فيه حالةً من الوصْل الجميلِ (غريبة فريدة وحيدة)؛وكأنه فى حضرة ذكْر منفردة مع الله رغم حضُور الجميع.

وكان يوصي أمها بها، ويختصّها بالدعاء مُعَقِّبًا: “ستكون ذاتَ شأنٍ كبيرٍ”. مما يُشعرها بثقةٍ وأملٍ ممتدّ، وتزدادُ دهشتُها وتساؤلاتُها مصحوبةً بغبْطَتِها لرأي الدرويش فيها، وعند موته حزنت لرحيله، كما حزن أهالي القرية بعد أن صار واحدًا منهم، ولم يعاملوه كغريبٍ وافدٍ على الْمَكانِ.

___\\\___\\\___

ظنت أن كل درويش هو هذا المثال فى -الشكل والحال- مثل الشيخ الغريب، وتَمُرّ السنواتُ… وفى المرحلة الثانوية، يَمُر على البيت درويشٌ آخر بشكلٍ وسَمْتٍ جديدٍ، وكانت عادةُ أهل البيت التعامل مع مَنْ هو على باب الله بلُطْفٍ وكَرمٍ كبيريْن إكرامًا لحقّ السائل والمحروم، لفَت نظرها أنّ (الدرويش الجديد) قويّ البِنْيَة، صاحب صوتٍ جَُهوريّ، لديه من الْهَيْبَة ما يُفْزِعُ الكِبَارَ قبلَ الصّغارِ، رغم أنه مُتعثِّر فى نُطِقِ الكَلامِ -ولاحظَتْ كما لاحظَ الجميعُ- أنه يَخْتصّها بالسؤال، فبادرتْه الأمّ : ادْعُ لها فهى على أبواب الامتحان… ابتسم ابتسامةً بريئةً تعكس قلبَ طفلٍ يسكن جسَده الفارِع، الذي يجوب الأماكن كما الرحال، ولا يفعل شيئًا سِوَى الابتسام لها، مُلوِّحًا بيديْه، وفى عينيْه نظرةَ رضا وامتنانٍ جميلين، حتى أصبحت مثَارَ ضَحِكٍ وغمْزٍ ولَمْزٍ من أخوَاتِهَا الصغيرات عندما يأتى لرؤيتها سائلاً عنها.. فَيَقُلْنَ لها (سَاخِراتٍ): هيا لديْك على الباب ضيفٌ حبيب.

الغريب فى الأمر أنه أصبح بالفعل كالضيف الحبيب، ترحِّب به و هو مبتسمٌ لها، وبعد انصرافه تشعرُ بفرحةٍ كبيرةٍ وكأنها رأتْ عزيزًا عليها بعد طول غياب أو انتظار… وكأنّه تركَ لها رسالةً روحيّةً من السّكينةِ والاطمِئنانِ، دُونَ تلفُّظِه بأيّ حَوار سوَى ابتسامته الْمُحبّة وهو ينطق اسمها، بشكل متلعثم كما الأطفال الصغار.

كانت تسعد أيّما سعادة -وهى فى الجامعة- عندما تعود للبيتِ وتعلَم أنه حضَر ليسألَ عنها وتتعجّب ما سِرّ هذا الوُدّ الْمُدهشِ فى شخْصٍ تركَ متاعَ الدنيا، وهامَ على وجهه فى البلدان من مدينة لِمدينة ومن مولد لمولد، شخصٌ عاجز عن النطق، زاهدٌ فى الكلام والطعام، ولا يملك من الدنيا سوى ابتسامته البريئة، ورضا نفسٍ لم ترَهُ عند كثير من البشَر الأصِحّاء فى زمن المادة والصراعات وأطماع اللئام؟!

61034893_340031620034053_8610122909681188864_nورغم رحيلِه منذ سنواتٍ عن الدنيا إلا أنها ظلّت تتذكّره، و تسأل نفسها:… تُرَى ما الذي كان يأتي بكَ للسؤال عنّي أيها الدرويش الحبيب؟!

___\\\___\\\___

وظل التساؤل الأكبر مطروحًا بداخلها للآن: ما السّر فى تلك الأرواح النقيّة؟ التى ترَى فينا أشياء قد نعجزُ عن فهَمِهَا أو حتى إدْرَاكِ وجودِها داخل أنفسنا؛ رغم ادعاءاتنا أننا نحْيا أزهى عصور العلم والمعلوماتية، ومع ذلك يفتقد الكثير منا إلى تلك البصيرة القوية، والروح الواصلة الشفافة، التى تُمكّن درْويشًا بسيطًا فى الشّكل والمظهر من أنْ يغوصَ فينَا بقُوّةِ بَصِيرتِه ليَرَى مَا لا نقدِرُ على رُؤْيَتِه؟!

كبرت الطفلةُ القرويةُ وعاشَت فى زحامِ المدينة والْمَدَنيّة، وقرأتْ وقابلَتْ وحاورت الكثيرَ من شرائح المجتمع: الثقافية، والعلمية، والفنّية، ولكن ظلّ داخلها هذا الحنينُ لذاكَ الحِوَارِ الذي لمْ يكتَملْ يومًا بلُغَةِ الكلامِ ولكنه ظلّ متصلاً بلُغَةِ الرُّوحِ الشفافة، بينها وبين الدرويش الأوّلِ… ثم الثَّاني.

 

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات