حديقة اللغة العربية، من البذرة إلى الثمرة

12:36 مساءً السبت 19 ديسمبر 2020
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

كلمة الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية كلية (آيْدِيَلْ للدراسات المتقدمة)، كدكشيري،كيرالا، الهند، 18 ديسمبر 2020

كدكشيري،كيرالا، الهند، 18 ديسمبر 2020

حديقة اللغة العربية، من البذرة إلى الثمرة

بدايةً، أنا ممتنٌ لدعوة الأخ أنيس محسن الأستاذ المساعد بكلية (آيْدِيَلْ للدراسات المتقدمة، في كدكشيري،كيرالا، الهند، للاحتفال باليوم العالمي للغة العربية عبر هذه الندوة الافتراضية.

في بداية حياتي قرأتُ مثلا شعبيا، وآمنت به، وهو أن أشجار البلوط العملاقة، تبدأ حياتها كبذرة صغيرة، وهو الأمر نفسه مع كل كائن حي، سواء كان نباتا، طيرا، حيوانا أو إنسانا، وهذه فرصة لأضيف اللغة العربية إلى الكائنات الحية التي نعرفها ونعيش معها.

وحياة اللغة العربية لها مسيرتان، مسيرة تتعلق بتاريخ نشأتها وتطورها، ومسيرةأخرى تعلق بما احتوته من كنوز، بعد أن أصبحت للمتعلمين بمثابة الحكيم الذي يحتفظ بآثار الأسلاف، من شعر ونثر، ولذلك يتابع علماء اللغة ذلك التاريخ ويتابعون تطور اللغة، بينما يعكف محبو اللغة العربية وأنتم منهم على الاستفادة من تلك الكنوز.

لكننا لا نغفل أو ننسى أن هذه الاستفادة تعتمد على تمكننا من اللغة، وفهمنا لها، وقدرتنا على استخدام القراءة والكتابة والاستماع والنطق بأفضل السبل، فهي جميعا متحدة تؤهلنا للتعامل مع هذا الكائن الحي بأفضل طريقة.

ولا يؤهلنا للتعامل مع اللغة أفضل من القرآن الكريم، فهو أفضل معلم، وأنا أحب اللغة العربية بفضل سنة دراسية أمضيتها في بداية اتصالي باللغة بمدرسة أزهرية، حفظت بها وأنا بين سن الخامسة والسادسة من عمري أجزاء من القرآن الكريم الذي قوّم لساني، وحسّن لغتي، وظلت اللغة العربية صديقتي،حتى وأنا أدرس الأدب الإنجليزي في الجامعة.

فبفضل تلك البذور المبكرة في أرض القراءة، والفهم، والاستماع والنطق، بدأت أكتب الشعر، حتى أنني كنت أنظم موضوعات التعبير والإنشاء بأبيات شعرية، وهو الحب الذي امتد حتى اليوم، بعد نشر خمسة دواوين، وأربع روايات، وأكثر من 20 كتابا آخر في النقد والسيرة وأدب الرحلات، وأدب الأطفال.

هذه الحديقة التي اعتز بها، نبتت كلها من بذور التعلم التي وضعت في تلك السن المبكرة. لهذا أدعوكم أن ترعوها اليوم قبل الغد، وأن تمتد وتتنوع تلك البذور، فتقرأون الشعر والرواية وأدب الرسائل والتاريخ والعلوم والفنون، وتسمعون القصائد مغناة، وتشاهدون المسلسلات باللغة العربية الفصحى، وتحرصون على التدوين، سواء كان مذكرات يومية أو سيرة لرحلاتكم، أو توثيقا للشخصيات التي التقيتم بها.

ومن طرائف التراث أننا نقرأ دومًا عن شخصية أو أكثر ممن كانوا لا ينطقون في حواراهم إلا بما جاء في القرآن من آيات؛ فقد روى ابن عدي في “الكامل” (5/ 400)، وأبو نعيم في “الحلية” (12/ 182) عن عَبد اللَّهِ بْنَ دَاوُدَ الْوَاسِطِيُّ قال:

” بَيْنَمَا أَنَا وَاقِفٌ بِعَرَفَاتٍ، وَإذا بِامْرَأَةٍ وَهِيَ تَقُولُ (مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلُ فَلا هَادِيَ لَهُ) قَالَ فَقُلْتُ: امْرَأَةٌ ضَالَّةٌ فَنَزَلْتُ عَنْ بَعِيرِي فَقُلْتُ لَهَا: يَا هَذِهِ مَا قِصَّتُكِ؟

 فَقَرَأَتْ: (ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كان عنه مسؤولا) قالَ: قُلتُ فِي نَفْسِي حَرُورِيَّةٌ، لا تَرَى كَلامَنَا، قَالَ فَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أَيْنَ أَنْتِ؟

 فَقَرَأْتُ: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقصى) فَأَرْكَبَتُهَا بَعِيرِي وَقُدْتُ بِهَا أُرِيدُ بِهَا رِجَالَ الْمَقْدِسَيْينِ، فَلَمَّا تَوَسَّطْتُ الرِّجَالَ قُلْتُ يَا هَذِهِ بِمَنْ أُصَوِّتُ؟

 فَقَرَأَتْ (يَا دَاوُدُ إِنَّا جعلناك خليفة في الأرض) (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) (يَا يَحْيى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) فَنَادَيْتُ: يَا زَكَرِيَّا، يَا يَحْيى، يَا دَاوُدُ، فَخَرَجَ إِلَيَّ ثَلاثَةُ فِتْيَانٍ مِنْ بَيْنِ الرِّجَالِ، فَقَالُوا: أُمُّنَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، ضَلَّتْ مُنْذُ ثَلاثٍ…

فَأَنْزَلُوهَا فَقَرَأَتْ: (اذْهَبُوا بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) فَعَدَوْا فَاشْتَرَوْا ثَمَرًا وَقُسْبًا وَجُوزًا، وَسَأَلُونِي قُبُولَهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ مَا لَهَا لا تتكلم، قَالُوا هَذِهِ أُمُّنَا لَمْ تَتَكَلَّمْ مُنْذُ ثَلاثِينَ سَنَةً إلاَّ بِالْقُرْآنِ؛ مَخَافَةَ أَنْ تَزَلَّ “.

وعَبد اللَّهِ بْن دَاوُدَ الْوَاسِطِيُّ هذا: قال البخاري: فيه نظر، وقال أبو حاتم: ليس بقوي، في حديثه مناكير، وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا يروي المناكير عن المشاهير لا يجوز الاحتجاج بروايته، وقال الدارقطني: ضعيف.

وبغض النظر عن صحة هذه الحكاية من عدمه، فإن الغرض من تكرارها ومثيلاتها من حكايات هو أن بلاغة القرآن الكريم تجعل المقتبس من آياته عن فهم لا يخطيء.

وإذا رجعت إلى شعراء معاصرين، وأعد نفسي منهم، يؤمنون بهذه الطاقة البلاغية القرآنية، لوجدت من المفردات والتراكيب ما يستلهم، فيؤثر في كتاباتهم الشعرية.

وإن أفضل ما كنا نتدرب عليه لنرعى حديقة اللغة هو المختارات التي ندونها، فحين نقرأ ونقع على اقتباس لا نريد تركه للنسيان نأتي به إلى كراسة تكبر مثل شجرة،يوما بعد آخر، فنجد فيها مختارات مرتبطة بوقائع يومية، وشخصيات حية، وأمور أعجتنا، سواء كان  ذلكبيتا من الشعر، أو رباعية أو حكمة، أو مثلا شعبيا، أو تعبيرا بلاغيا مدهشا. هذه الكراسات بقراءتها نستعيد كل ذلك معا.

لا تدعوا الشمس تغرب عن حديقتكم أبدا، اكتبوا رحلاتكم، دوّنوا مختاراتكم، ألفوا قصائدكم وقصصكم، وفي كل سطر تأكدوا أنكم ترعون البذور، وأنها يوما ستطرح ثمرا وظلا، تجنون منه ما تحبون، وتستريحون تحت ظله يوما ما.

كل عام وأنتم بخير، كل عام واللغة العربية بخير.

وشكرا لاستماعكم

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات