عَلَويّة صُبْح … راوية المكان … والإنسان

08:49 صباحًا الجمعة 13 أغسطس 2021
اسماعيل فقيه

اسماعيل فقيه

شاعر وكاتب وصحافي من لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

تتمتع الروائية علوية صبح بقدرة إبداعية وافية تخولها تحويل اللغة ومفرداتها الى مناخ كامل يحتوي فصول الحياة على اختلافها. فمنذ روايتها ـــــ القصصية ــــــ الأولى “نوم الأيام” ، قبل ثلاثة عقود زمنية، وصولاً الى “مريم الحكايا” ورواياتها المتتالية وآخرها “اسمه الغرام” وهي تحافظ على خط زماني ومكاني بمفردات واعية ونصوص مفتوحة على أفق الشكل والمعنى، بما يضمن سيراً منظماً يوازي حركة الزمن الذي تعيشه. وفي روايتها الأخيرة أضاءت الكاتبة مسافة أخرى في حياة غامضة، فأزالت العتمة عن كثير من مشاهد الحياة، وقالت الأمور والمشاهد والأيام بلغة صافية وواضحة وبليغة، ودون مواربة، وهذا ما جعلها تحصد الإعجاب والمحبة من كل قاريء قارب روايتها.

رسالة بيروت – إسماعيل فقيه


حديثي مع الروائية علوية صبح يسلط الضوء أكثر على عالمها الروائي الهام، فماذا تقول الراوية وماذا ترسم بأجوبتها؟:
ـــــــــــ نبدأ من حضور المكان في روايتك الذي له وقع هام ،عليكِ وعلى قارئك ، إذ تبدو علاقتك بالمكان وناسه حميمة جداً ، ماذا عن هذه العلاقة؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــ أعتقد أنني كنت وما زلت من أكثر الناس وفاء وانتماء للمكان . هذا الإنتماء هو تعبير آخر عن الانتماء للوطن وانتماء للذات. المكان هو جزء من الوجود، ومن الماضي، ومن المستقبل، وهو الزمن حين لا يغادر الروح والذات، ولا أدري لماذا المكان يصبح عندي أليفاً، غير قادرة على خيانته وصرف معناه . بمعنى آخر ، عندما أخرج من المكان كأنني أخرج من عمري ومن حياتي، ربما لهذه الأسباب، الأمكنة التي ارتادها أو أعيشها تصبح كأنها هي خلاصي وهي بيتي ومحل إقامتي وعيشي أمّا على صعيد الكتابة وعلى الصعيد الأدبي، أعتقد أنني عبَّرت عن الأمكنة التي تنقلت فيها في حياتي بشكل واضح ومرئي الى حد كبير، جعلتني أنجح في تصويرها بالعين المجردة ، وحتى سينمائياً الى حد كبير.
منذ كنت طفلة في مناطق الأشرفية وبرج حمود، إلى المبنى الذي سكنته في شارع الحمرا، المبنى في روايتي “دنيا” سكنته لمدة ربع قرن . المكان هو الأكثر الذي يجعلالجذور والأحاسيس تثبت وتتجذر أكثر في الأمان، في الوقت ذاته فإن الأمكنة في الوطن مهددة، ولا يوجد ذاكرة مكان، وهذه ماساة كبيرة. ثم أن الحروب المتوالية في المكان اللبناني أنهكت الكيان والإنسان وجعلت الحياة مساحة قابلة للتحول الغريب.


ــــــــ هل تشعرين بخطر على الكيان من خلال ما يحدث في المكان وما يتحول فيه؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نشعر دائماً بان الأمكنة بخطر، بأنها معرضة للزوال أو الهدم أو المسح. المكان يشبه ناسهُ وحكايا الأبطال دائماً هي حكايا الأمكنة والعوالم التي تعيش فيها الأبطال.
ـــــــ اللغة السردية الجميلة في نصك الروائي هل هي شأن مطابق لجوهر القول لديك؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ربما تكون للتجربة الصحفية تأثيرها على تبسيط لغة السرد وعامل الجذب فيه أو تكوين مكونات جاذبة لطبيعية السرد، لكن أعتقد أن مفهومي للسرد هو ألاّ يسيطر الكاتب الروائي على لغة أبطاله وأن يسرد ذاته المثقّفة والمعقّدة ويتصرّف على أنه العليم بكل النفوس وله الحق في أن يصادر عوالمهم ولغاتهم.
ــــــــ ماذا تقصدين بالظبط؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أقصد بأن النص الروائي أشبه بالنص الأدبي، ليس أكثر، إنما عالم الرواية هو عالم تعدّد الأصوات، وتعدد اللغات، وتعدد السرد، من الواقعي إلى الشعري إلى البسيط إلى المعقد، تلوّنات وتدرّجات السرد الروائي هو ما يخلق حياة لهذا النص ويعكس أبعاد وعوالم مختلفة.
ــــــــ أسلوبك السرد متحرك كثيراً ، يجمع ويفرق، بهلواني التعبير؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ أعتقد أن أسلوبي الخاص في الكتابة هو السرد الذي يخترق الحياة من كل جوانبها. يحاول أن يقترب من الحياة، يقاربها ويعتريها. هذا يُعطي للسرد حيوية ويعطيه جماليةً غير ذهنيةً، بالإضافة إلى أن طريقة السرد والإخبار عندي هي طريقة أظن إنها مشرقية. أي أن تلجأ إلى الحكاية، وأن تعرف كيف تُخبر هذه الحكاية. ثم أنني أعتقد أن فن السرد هو ما يؤسس للعمل الروائي. لغة السرد أمر فائق الأهمية في النص الروائي، وعلى الراوي أن يكون رشيقاً في حركة السرد، والّا ضاع وضاعت الرواية والراوي.


ــــــــ الى أي مدى أنصفك من قال أن روايتك شعبية ولكن غير جمالية ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من ينصف من في هذا الموضوع؟ من قال بأن البيئة الشعبية أو تصوير البيئة الشعبية ليست جمالية؟! أعتقد وأجزم بأن الجمالية هي في المكاشفة وفي القدرة على التصوير وفي استنباط العوالم واستنطاقها. الجمالية هي ،ن نعرف كيف نروي وكيف نحكي الحكاية. الجمالية هي التفسير والكشف والإضاءة والحفْر والنبش والنظر الى البعيد . الجمالية أن نجعل ما هو متخيل واقعياً، وليس العكس. الجمالية هي أن يشعر القارئ أنه يتمارى بالعوالم وبالشخصيات التي يقرأُها. والجمالية هي فن الحضور المميز وسط حشد الحضور.
توجد أعمال رائعة في السينما وفي الأدب العالميين، وعلى نطاق واسع، تتحدث عن العالم الشعبي والسفلي، وأنا ، بدوري، بلغتي السردية الهادئة والواسعة أذهب أحياناً حتى إلى ما هو سفلي لأن فيه جمالية ساحرة. ليست باستطاعة كل كاتب أن يخترق الحياة وأن يخترق البيئات الشعبية.
ــــــــــ هل تجربتك غير متشابهة مع سواها من التجارب الروائية التي تذهب الى المكان وتعانقه؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ربما، وأغلب الظن ، كنت أول من ذهب إلى هذه الأمكنة في الأدب في لبنان. ذلك لأن البيئة الشعبية هي جزء من عالمي. لأني تربيت عليها ونشأت عليها وهي تشكل ذاكرتي، وكتبتُ عنها بصدق وبانتماء.
ــــــــ والسخرية التي تبرز في هذا السياق المتبع لديك؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ربما كانت سخريتي أحياناً جارحة إلا أن محركي للعمل هو الكشف، الكشف، والكشف النفسي، وكشف المجتمع، حتى ولو إلى درجة صادقة وجريئة. التمادي في الكشف لا يسيء للعمل بقدر ما يضعه على حافة كاشفة ومكشوفة، وهذه حاجة للنص الروائي المتفوق.
ــــــــــــ تمتازين باستحضار السخرية في نصك؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من الطبيعي أن تكون السخرية هي الميزة في نصي الروائي. فالسخرية خاصة ونادرة في الأدب العربي، وهي تنبع من الألم، وهي من الانتماء، من الوجع، فالأدب لا يمدح المجتمع وليس خطاباً اجتماعياً، ولا هو تعبير عن انتماء بشكل أعمى. السخرية هي عنصر أساسي في تعبيري وتصويري للعالم. إنها وسيلة تعبيرية فائقة الإبداع .


ـــــــــ الجنس في نصك الروائي خيارك الضروري؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منذ صدور روايتي “مريم الحكايا” والمفاجأة كبيرة لدى القاريء . ربما تفاجأ الناسُ بجرأتي، وربما هذا كان عاملاً لانتشارها، لا سيما الجرأة الفنية والإنسانية. الجنس في روايتي يُشكل هاجساً لدى القارئ، لكنه بشروط فنية، أعني حين أفكك الشخصية وأرسمها وأخبر عنها وأتقمص لغتها، لا بد لفهمها من أن أصطدم بالجسد. والجسد هو مخزون وأساس في هذا السياق الروائي.
ــــــــ ولماذا خيار نصك الجسد؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجسد هو تعبير لم ألجأ إليه كخطاب أو من أجل أدلجة الجسم، ولم أقاربه من موقع استدراج القارئ. الجنس له وظيفة فنية، بمعنى أنه كاشف للشخصية. ولعلاقة هذه الشخصية بالآخر، علاقتها بنفسها، أي كاشفة للعلاقة بين المرأة والرجل، كاشفة لمفاهيم ومعتقدات، وذهنيات ومجتمع ذكوري. كاشفة للعنف ضد المرأة. كاشفة، ليس فقط للتعنيف الجسدي، وإنما لتعنيف الذات، لهذا المعنى الجنسي الموظف فنياً.


ـــــــــ تكثر الكتابات عن الجسد اليوم وخصوصاً فيما اصطلح عليه (الأدب الإباحي) ، ما رأيك؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صحيح هناك اليوم الكثير من هذا . ولكنني أقول، أنا ضد كل كلام يبتذل الجنس أو يوظفه لغايات غير فنيّة، والأدب الآن مليء بهذه التفاهات، وهذا ابتذال.
ـــــــــــ كيف توظفين الجنس في خدمة نصك الروائي؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن الفنية العالية في الإخبار تجعل الجنس مادة للكشف الاجتماعي والنفسي والذهني وغير ذلك. أنا لا أفهم أن الجرأة هي فقط في مقاربة موضوع الجنس. الجرأة هي: ماذا تقولين؟ والجرأة أن تكتبي نصاً مواجهاً للخطاب الذكوري. في الكتابة، هذه هي الجرأة في مواجهة هذا الخطاب الذكوري بكل أبعاده وخفاياه.
ــــــــــ تضمرين ما هو أبعد من فكرة الجنس؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أكيد ، النص الروائي يحتمل الكثير ولكن ضمن سياق متصل. لقد كتبت الرجل الذي يحاصر المرأة ويصادر صوتها ولغتها وعالمها لأنه يعتبرها من ممتلكاته ويحق له أن يعبّر عنها فيما هي كانت صامتة لسنوات وصوتها مصادر.
ــــــــ كأنك تفتشين وتبحثين؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حاولت وأحاول التفتيش عن لغة المرأة وعن أنثويّتها في الكتابة وأحاول كشف حقيقة الأنا، والجسدُ جزء منها. وأحاول أن أفتّش عن جُملتي كأنثى. وهذا ليس أمراً سهلاً لأن التعبير عن ذاتك تكلَّسَ عبر الزمن وليس من السهل أن تجدي هذه اللغة. التفتيش هو بحثي الدائم في الذات وأغوارها..
ــــــــــــ ماذا ستكتب الروائية علوية صبح بعد ؟
ــــ الكتابة كأساس هي مسافة مفتوحة في حياتي، لا نهاية لها. وما سأكتبه هو ما أراه وأحسه وأشعره وأتمناه وأتخيله.. وما أكثر كل هذا..

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات