سَيْرُ اللّيل … سِرٌّ

12:23 مساءً الثلاثاء 14 فبراير 2023
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

بقلم: فاطمة حامدي

كانت الحافلة تشقّ عباب الظّلام تتّبع مسلكا ألفته وكانت خريطة بدت على لوحة القيادة كأنّها شرايين جسد ممدّد وكانت الحركة لا تهدأ على كلّ الطّرقات المؤدّية إلى تونس العاصمة . كان أغلبيّة الركّاب يغطّون في نوم عميق لقد أسلموا أجسادهم إلى أحلام تلهيهم عن أتعاب السّفر .وكان الضّوء خافتا داخل الحافلة ، واختار السّائق أغاني المطربة التّونسيّة “صليحة” ،فكانت الموسيقى تهدهد من نام وتؤنس من اختار السّهر.فالمسافة طويلة، تستغرق الليلة بساعاتها الطّويلة ..

أسندت رأسي إلى نافذة الحافلة فغالبا ما أختار أن أجلس محاذية النافدة وكنت أرقب على امتداد البصر المنازل المتناثرة هنا وهناك تنبعث منها أضواء خافتة تنبئ بالعَمار.ودارت في خلدي أنّنا ولئن اختلفنا في الاسم والعنوان فإنّ اللّيل يأوينا ويردّنا إلى أوكارنا ….. في ساعات الليل الأخيرة سطع النّصف الأيسر من القمر معلنا آوخر الشّهر القمريّ فيُظهر بنوره السّاطع وجه الأرض الّذي كسته أشجار الزّيتون المترامي ويلوح من بعيد “جبل بوقرنين” معلنا اقترابنا من العاصمة تونس ، وبدأت حركات المسافرين تظهر استعدادهم للنزول فتكثر الاتصالات عبر الهواتف وتنتشر رواح عطر تنعش ….. ونحطّ الرّحال في محطّة الوصول :محطّة” باب علِيوة “.ففي ساعات الصبح الأولى تفوح رائحة القهوة وتشدو فيروز للصّباح وينبلج الصّبح فتشرق الشمس من وراء مقام سيدي” بلحسن الشاذلي” ذلك الوليّ الصّالح الّذي يشرف مقامه على مدينة تونس الكبرى وباسمه يسمّى الذكور والإناث من التّونسيّين على اختلاف المدن والأرياف ، فالاسم- الشاذلي وشاذليّة – هي أسماء لها قصص مع العالم و الوليّ الصّالح أبي الحسن الشّاذلي يرويها أصحابها .فللعلماء منزلة مقدّســةعند العامّة وبذلك تخلّد أسماء العلماء وتستمرّ ذكراهم وما قدّموه من علم ونفع للنّاس .

وهذا العالم أبو الحسن الشّاذلي ،يذكر اسمه التّونسيّون كلّما أرادوا تأكيد كلامهم في المجالس فتسمع أحدهم يقول لمحدّثه ” بحقّ هذه الشّاذليّة “وتراه يمسك كاس شاي أو كأس قهوة فكلامه الّذّي يشبه القسم يراد به تصديق قوله و الخبر الذي يرويه .

إذ يُروى أنّ أبا الحسن الشاذلي كان عالما يبيت الليل مستغرقا في القراءة والكتابة وأحيانا يغلبه النعاس دون أن ينهي ماهو عازم على إنجازه وكان غير بعيد عنه قطيع من الماعز يبيت اللّيل كلّة وهو يصيح فتعجّب العالم أبو الحسن الشاذلي في أمر هذا القطيع الذّي لايـنام فجعل يتتبعها وقت رعْيها فرآى ذلك القطيع برعى أغصان شجرة فتنشط بأكلها وتمرح، وجدها تاكل في شجرة معيّنة فاقتطع منها وريقات وثمرات وحين عاد إلى مغارته جعل منها شايا، فلم ينعَس ولم يكحّل النوم له جفنا في تلك الليلة وتبيّن فيما بعد أن تلك النبتة هي نبتة القهوة .

انبلج الصّبح وأسرع النّاس نحو سيّارات الأجرة الّتي لئن اتّحدت في لونها الأصفر قد اختلفت في تسعيرتها .من سيارات الأجرة التّي يناديك صاحبها ويقترح عليك مبلغا ليوصلك إلى مكانك المقصود ويقول لك ” وفقة ” فبدت لي الجملة غريبة وكذلك لفت انتباهي عدم وجود لافتة” التاكسي” تركتها

وواصلت انتظاري اذ بسيارة تقف الي جواري ويسالني

  -الي اين ؟ هيّا تفضلي ؟ قال لي لعلمك أن ّالعداد معطب ،فانسجبت وانا افكّر مستغربة، فأنا لم أتعوّد على مثل ما يحدث معي اليوم لم أألف مثل هذه السيارات ولا هِؤلاء السّواق ،فغالبا ما نأتمن سائق سيارة الأجرة كما نأتمن رجال الأمن فما الامر ؟”

 تقدّم منّي كهل جسمه ممتلئ ،يلفّ راسه بمنديل وقال لي وقد أبحّ الصّياح صوته ” لقد استوقفت لك سيارة أجرة تفضلي ومدّ يده وقال “أعطني حقّ أتعابي ” – قلت :عن أي أتعاب تتحدّث؟ المعذرة أنا لم اطلب منك خدمة”  أدار لي ظهره مغطاضا ….    

   توقفت بجانبي سيارة أجرة نزل منها شابّ وبقي ينتظر حتّى يرجع له السّائق الباقي فنظرت إلى العدّاد إنّه  يشتغل فقلت :”واخيرا .””

 نزل السّائق ووضع حقيبة السّفرفي صندوق السيّارة

 . شكرت السّائق وركبت في الكرسي الخلفي بعد أن حدّدت وجهتي.

كانت شوارع العاصمة فاضية فكانت لي فرصة أن اتفرّس في وجوه الشّوارع فلي حنين لايهدأ الى شارع 9 أفريل و باب سعدون وباب الأقواس وباب الخضراء وساحة باستور وحديقة البلفديرو شارع محمّد الخامس .. تلك الأمكنة لها معزّة في وجداني أمكنة عاشرتها أيام كنت طالبة بكليّة الآداب منوبة ومبيت الفتيات باردو ثلاثة. سرحت مع الذكريات الجميلة التي تعودني كلّما سلكت المسلك نفسه وكان صوت فيروز منبعثا من أثير إحدى الإذاعات يستقبل الصبح الجديد…كان السّائق كلّ مرّة يقطع شرودي بشكواه ممن هم دخلاء على مهنته وقال لي :”

  “كلّ تلك السيّارات الصّفراء الّتي تزاحمنا لا تتمتع بتأشيرة العمل هي سيارات عاديّة تعمّد أصحابها طلاءها بالأصفر وكما ترين فإنّ المواطن البسيط والذّي لا ينتبه تنطلي عليه عمليّة التحيّل ويتكبّد بدفع أضعاف المبلغ “

وقريبا أصل إلى نهج قرطبة هذا النهج طويل وبه تعاريج متعدّدة وعليّ أن أنتبه حتّي لا أضللّ السّائق . وعندما وصلت الجامع قلت للسّائق :”محطّتي

عند المنعرج الثاني “.

 وأمام باب الدّار توقفت السيّارة ونزل السّائق وأنزل لي حقيبتي وسلّمته أجرته وتبادلنا عبارات الشّكر والدّعاء بان يكون يوم كلّ منّا أسعد الأيّام ،فكم يعجبني تبادل تحيّا الصّباح في بلدي فغالبا ما يكون بشهد الكلام ،’

“صباح الخير ، نهارك زين، نهارك مبروك ،نهارك أسعد الأيام، نهارك دقلة وحليب.

  تونس  في 4 أوت 2019

One Response to سَيْرُ اللّيل … سِرٌّ

  1. د/ عبدالرحمن البنا رد

    16 فبراير, 2023 at 4:48 م

    نهارك زين، نهارك سعيد، نهارك مبروك، نهارك دقلة وحليب، نهارك احلى الايام، 🌹 على نغمات صوت فيروز، نقلتنا الكاتبة ( فاطمة حامدي)، الي تونس الخضراء، 🌹 نستمع الي صوت ( صويلحة)، ونحن نمر بمسجد سيدي العارف بالله بالحسن الشاذلي، وكأننا نحتسي مع القهوة، ونرى اللون الأصفر، يغطي الوان بعض السيارات، فنظنها سيارات أجرة، ثم نكتشف اننا وقعنا ضحية الغش والخداع، ونتذكر كم في حياتنا من لون اصفر، يخدعنا، فيمن حولنا من أفراد، وأشياء، ودول وحكومات ومنظمات، وادعاءات كاذبه هنا وهناك، فالتخلف يسمى تقدم، والعهر يسمى فنا، والنهب والسرقة يسمى استثمارا، وهكذا، فقديما ، كان لون البقرة الصفراء، تسر الناظرين، والان لقد تشابه البقر علينا، فليس ما لونه اصفر، نظنه ( ذهبا) ، 🌹 وذاك هو السر.. الذي عرفناه من خلال أحداث ( سير الليل… سر)، للاديبة التونسية ( فاطمة حامدي)

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات