صُنْدُوق أُمّ مَحْفُوظ

01:10 مساءً الجمعة 5 مايو 2023
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية لبنانية، أستاذة جامعية متخصصة في الأدب العربي وأدب الأطفال والناشئة، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

قراءة في قصة (صُنْدُوق أُمّ مَحْفُوظ) للكاتبة اللبنانية: روز غرَيِّبْ

 الدراسة بقلم: د. إيمان بقاعي

5\5\2023

روز غريب بريشة الرسامة اللبنانية: غريد مصطفى جحا.

شَخْصِيَّة (أُمّ مَحْفُوظ) “المحتالة”، في قِصَّة (صُنْدُوق أُمّ مَحْفُوظ)  من مجموعة (صُنْدُوق أم محفوظ)، الصّادرة عن (بيت الحكمة)، الطَّبعة السّادسة: 1986.

والقصة تربويًّا ونفسيًّا: غير موجهة إلى عمر معين، مزيَّنة بلوحة كلاسيكيَّة ملونة بلون واحد بريشة: رضوان الشَّهال. تربويًّا: يجب أن ننتبه من المحتالين. فنيًّا: قِصَّة مَرِحَة سَادَتْ فيها الحوادث وحَقَّقَت حبكتُها الصُّورَة  العُضْوِيَّة المتوازنة عبر السَّرد الذّاتيّ.

تعرِّف راويةُ القصَّة (أُمَّ مَحْفُوظ)، شخصيَّةَ قِصَّة (صُنْدُوق أُمّ مَحْفُوظ) الأولى (أمّ محفوظ) من خلال الوصف البارعِ الرّشيقِ الخارجيّ والدّاخلي لكل مَن تقع عليه عيناها، ولكل ما تقعان عليه، بمجتمع القرية الذي تسيطر عليها النّساء، وتركّز فيه على نوعين من نساء القَرْيَة اللُّبْنَانِيَّة:

الأَوَّل:

هو القروياتُ العاملاتُ اللَّواتي يقضينَ نهارهنَّ في عمل متَّصل “نظير المحكوم عليهم بالأشغال الشَّاقة”، وهؤلاء، رغم أنّهنّ يحظينَ بمحبةِ السّاردة لتوقُّعٍ أظهرَت نهاية القصة سذاجَتَهُ، أنهنّ “صَّريحات كهواء أرضهنّ”، مفطوراتٌ على  الصِّدقِ، بعيداتٌ عن الأقنعَةِ، قائلاتٌ عبارات لا يقصدنَ من ورائها إلا ما يُسمَعُ، بلا “مَلَقٍ”، أو ترفُّقٍ، أو مُدارةٍ تعطينَ فيها باللّسانِ ما ليسَ في القلب، وبلا “دعايات”، وباختصار: بلا وَجَعِ اكتشافِ  المخبَّإ، ما يضعُ العائدَةَ من العاصمةِ الشّريرة التي سرقتْ من عمره ما سرقَت، يتوقعُ- كما توقعَتِ العائدةُ- الحصول على أجواء رومانسية، جمالية، تشبهُ نساؤها فيها منازلَها “القديمة المظلَّلة بعرائش الكرمة، الشَّبيهة بقلاع مرتفعة فوق الأقبية والقناطر المعقودة، تصلها بالخارج سلالمُ متينةٌ كالأبراج”. ولم تتوقع العائدةُ أصلًا وجودَ صنفٍ آخرَ في هذا المكانِ الذي استخدمَت فعلَ “فُتِنْتُ” فيها مرتينِ اعتمادًا على النّظرةِ “الصَّريحة”، البريئة التي كانتِ اللَّاجئةُ إلى القرية تتمتعُ بها أكثر بكثير من نسائها، بنوعيهما.

والثَّانِي:

هو النّساءُ الغنيَّاتُ، تمثّلهنّ (أُمّ محْفُوظ)، واللَّواتي بدا للسّاردة أن هدفهنَّ في الحياةِ إزجاء وقتِ في “لعب الورق”، والتَّحدث الذي يُظهِرْنَ فيه لطفًا يرسمنَهُ ببراعةٍ و”جاذبيّة” تكمن في “ابتساماتٍ مشِعَّةٍ” تعصر وجوههنَّ، كما عصرَتْ وجهَ (أُمّ محْفُوظ)، “وفجَّرَتْ حول فمِها وعينيها سيولًا من البسمات”، ظلَّتْ- إلى نهاية القصة- مصدرَ جاذبيةٍ و”فِتْنَةٍ”، وإن اكتشفَتِ العائدةُ برومانسيَّة  أنها مجردُ “قناع” حوَّلَ حركاتِ المفتونةِ بها من “مُتَّئِدَةٍ” إلى “ذئبيَّةٍ” عصبيّة، تريدُ التهامَ مَن يفكرُ بالرّبحِ، ولو كانَ ربحَ “لعبةِ ورقٍ”.

ولا تلبثُ “العائدةُ” أن تكتشفَ أنيابَ الذِّئبةِ من خلال “انتهارها” “خادمتها العجوز”، مستخدمَةً أسلوب السَّيْطرةِ على اللَّاعبةِ والخادمةِ كلتيهما ببشاعةٍ اكتشفتْها “العائدةُ” متأخرةً، واكتشفَت معها مجموعةً هائلةً من “الأكاذيب”، بدءًا بالبحثِ الجادّ عن عروسٍ لابنها، ولديها وثائقُ مخبأة في الصُّندوقِ الذي “فلَشَتْه” بكَرَمٍ للضَّيفةِ، وفلَشَتْ معها ذكرياتِ الماضي الذي بدأ بمولِد “العريس”، وظلَّ في قمة الكَرَمِ وقتَ أوحَتْ إليها أن اصطفَتْها لهذه المهمة التي لا تُعْطَى لأي كان، فـ (مَحفوظ)، عريسٌ مزيَّف، وطبيبٌ مزيَّفٌ، مكشوفٌ من قبلِ نساءِ القرية (سعدى) وغيرها ومسكوتٌ عنه، على أنْ لا مانعَ عندهنَّ من كشفِ أوراقِه إنْ لزمَ الأمرُ وفشلَ مشروعُ إزاحَةِ الضّيفةِ إلى “الذّئبَة” التي اعتقدَتْ أنها “حَمَل”، ولم يصحح اعتقادَها هذا أقربُ المقرّباتِ، وأعرَفَهنَّ بها. على أنَّ (سعدى) المرهقَةَ بأعباء عائلتها، يبدو أنها أشفَقَتْ على العائدةِ، فاختصرَتْ أواخرَ وقتها وكشفَتْ أوراقَ (أم محفوظ) أمام الحاملةِ معها آمالًا بُنِيَ معظمُها على توقُّعاتٍ مستلَّةٍ من ذاتِ القادمِةِ ومن ذكرياتِهِا المتعلقة بماضي الجدَّات الذي نعتقد جميعًا أنه الأنقى. 

على أن فضلَ “الاكتشاف” لا يعودُ إلى (سعدى) وحدها، فالعائدةُ اكتشفَت- وحدها- الحَمَلَ المبتسمَ الذي تحوَّل إلى ذئبٍ، وسرَّ العروسِ الذي تخلّصَت منه بوصفها بأنها “ضخمة الأصابع”، وبُخْلَ (أُمّ مَحْفُوظ) التي لم تضيِّفْها مما عندها في غرفة المؤونة قبل أن تكتشفَ أنّ ابنها مجردَ أسيرِ حربٍ يصبُّ أَسرُهُ في خانةِ بخلِها القائمِ على الاستيلاء على ثروتِهِ، لأن كل ثَرْوَة أبيه باسمها. وتنسحب العائدةُ من حياة (أُمِّ مَحْفُوظ) وقد أسمَعَتنا صوتَ صفعَةِ “التوقُّعاتِ” غير المنطقيَّة التي يمكن أن تثري “ابتساماتٌ فاتنة” أشباحَها.

ويتَجَلَّى المرح في القِصَّة في المفارقات الَّتي تحفل القِصَّة بها، وهي:

(أ) مثاليَّة الرّاوية العائدة من المَدِينَة، والَّتي تعتقد أنها ستكون بمنأى عن الاحْتِيَال والغشِّ والكذب، فإذا بها أمام شَخْصِيَّة تختصر صنوف الاحْتِيَال التي توصلها إليها قرويةٌ مشغولةٌ  اسمها (سعدى)، ليس لها متَّسَع من الوقت لتسلية (أُمّ مَحْفُوظ)؛ “وكأنّها بذاك الخطاب تأمل منّي- أنا الجارة الجديدة- أن أقوم مقامها بواجب حُسْنِ الجوار، لأنّي أقلّ منها انشغالًا”.

 (ب) اعتقاد الرّاويةِ أن (مَحْفُوظ) سيكون، من حيث الشّكل الخارجي، شابًّا “وسيمَ الطَّلعة، متين العَضَلات، من صنف أبناء الجبل الأشدَّاء”، ولكنها رأَتْ “رجلًا على عتبة الكهولة، مستدير الكتفين، مترهِّلَ الجسم، قد غزا رأسَه الصَّلَعُ فلم يبقَ فيه سوى شُعَيْرات حمراء” رابطةً بين لونِ هذه الشّعيراتِ ووصفِ أمِّه السّتينية “الطّويلة، الضَّامرة”، التي “لمع في رأسها الصَّلَع، فأخذتْ تعالج بالحِنّاء ما بقيَ فيه من شَعر. وكان لون الصِّباغ ينسجم مع البريق الكستنائيّ في عينيْها، والبياض الصَّافي في وجهها وجبينها”.

وشخصية (مَحْفُوظ) من الفئة الأُولى الَّتي تحدث عنها (أنيس فريحة)،  والَّتي يضحك النَّاس منها لغرابة في شكلها الجسماني، بينما تضحِكُ شخصية أمه لانتمائها إلى الفئة الثَّانِية الَّتي تعتمد على سرعة خاطرِها. [أنيس فريحة: الفُكاهَةُ عند العَرَب، ص 71].

(ت)اعتقاد الرّاويةِ أن (مَحْفُوظ)– لعبوسِه، وقلة كلامِهِ، وحديث أمِّه عنه وعن العروس التي تبحث له عنها سرًّا، حتى وصَلَ بها الأمرُ إلى أن توصي عليها من (بيروت) بعد أن قطَعَت الأملَ من إيجادها في القرية- “يفكّر في أمور خطيرة”، ولكنَّ (سعدى) كشفَتْ ببساطة من لا يملك الوقتَ الكافي للدّخول في أعماق الرّجل ولا الادّعاء بامتلاكِ القدرة على التّحليل النّفسي وصولًا إلى نتائج، كشفَتْ للعائدةِ أنه ليس إلا أداةً طيّعةً مطيعةً في يد أم شرسة، بخيلة، جشعة، يعرفها الجميع، وإن فتَنَت ابتساماتُها الغرباءَ، وجذبتْهُم.  

 (ث) تخطيطُ الزّواج وإنجاب الذُّكور وممارسة الطّب تخطيطًا يمكن أن ينطلي على غريبٍ أظهَرَت (أُمّ مَحْفُوظ) له أنه سرُّ الأسرار الذي لا يُمنَحُ حتى للأقاربِ والجيرانِ، بل لشخص عائدٍ يستحقُّ الثّقَةَ  التي أظهرَتْ أنها لم تجد- حتى وصول العائدة- من يحملها بصمتٍ مُطبَقٍ مدفونٍ في الصّدرِ، يشكّلُ يومًا ليس بالبعيدِ مفاجأةً للجميعِ.

(ج) نهاية القصَّةِ ممتعة، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا ببدايتها القائمة على جاذبية ابتساماتِ (أمّ مَحْفْوظ) التي أخبرَتْ ضيفَتَها مجموعةَ أكاذيبَ عن زواجِ ابنِها الذي وصفَتْه بـ”الحلم الذّهبي”، وما كانَ. وقد رسمَتِ العائدةُ انكشاف َ الحقيقةِ من خلال حوار جرى بينها وبين (سعدى) أثناء رجوعِهما “من السُّوق في صباحِ يومٍ مُشْمِسٍ”، مع ما للشَّمس من رمزٍ منيرٍ يكشفُ أهمية إضاءةِ كلِّ مُظلِمٍ، معْتِمٍ، ظلمةَ صندوقٍ عجيبٍ فيه “أسرارٌ” تُكشَفُ لكل مَن يُفْتَحُ له الصُّندوقُ، وهم كُثُرٌ، رغم ادِّعاء صاحبةِ الصّندوق أنه يُفتَحُ لشخص أهلٍ للثِّقَةِ.  نهاية القصة، يلمح القارئ ما لمَحَتْه العائدةُ من المدينة ومن السّوقِ مع كاشِفَةِ السّرِّ (سعدى)، التي لم تكنْ أقلّ احتيالًا من صاحبة الصُّندوقِ إذ خبَّأتْ سرَّ المراة وابنها “تخلًّصًا” من الضيفةِ، فسببتْ لها القلقَ لفترة. أما المضحك، فهو ثباتُ (أُمّ مَحْفُوظ) على وضعِها “جالسةً في شُرفة بيتها وقد بسطَتْ على طاولةٍ أمامَها ورقَ اللَّعب تقرأ فيه مستقبلَها أو مستقبلَ ابنِها”، و”إشارة” العائدةِ إليها بالسَّلامِ، وقد ارتاحَتْ لما علمَتْهُ للتَّوِّ، وقولها: “وحيَّتْني بابتسامَتِها المعسولةِ التي فُتِنْتُ بها يومَ لقيتُها أوّلَ مرّةٍ”!

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات